د. علي عبد الزهرة الفحام
باحث وأكاديمي عراقي
إن المتتبع لتأريخ الرسالات السماوية يمكنه أن يحدد نوعين من التحديات التي كانت تقف أمام الأنبياء والرسل وأتباعهم، الأول خط الشرك الذي كان يجاهر بحالة العداء ومناهضة عقيدة التوحيد والإيمان بالرسالات السماوية، والثاني تيار النفاق والانحراف الذي تلبس بلباس “الموحدين” ثم انحرفت بوصلته عن جادة الحق، فأبقى على الظواهر والقشور والمسميات، واستبدل المبادئ والثوابت السماوية – فكراً وسلوكاً- بمبادئ بشرية مصطنعة تتناقض مع الأصول والأهداف التي جاءت من أجلها الأنبياء والرسل ، وهي أقرب إلى عقائد أهل الشرك والضلال، وأتباع الأوثان، منها إلى عقائد أتباع الأنبياء من المؤمنين الموحدين .
ومن أجل مواجهة هذه التحديات والمخاطر، كان لزاماً على تيار التوحيد أن يخوض صراعات ومعارك صعبة مع كلا الخطين والاتجاهين، في حرب طويلة الأمد يتوارثها الأبناء عن الآباء، جيلاً بعد جيل، وخلفاً عن سلف، وصار هذا الصراع سنة إلهية تعكس إصرار الإنسان المؤمن على بلوغ الغاية الأساس من خلقه، وهي معرفة ربه، وتكامل النفس البشرية في سيرها نحو الله تعالى، وقد تعددت أشكال هذا الصراع ، وتنوعت أساليبه، وتأرجحت شدته، بحسب طبيعة العدو، ومقدار ما كان يمتلك من أدوات وإمكانيات في ضرب المجتمع المؤمن، وتسويق نظرياته المضادة للنص السماوي .
لقد شاءت السنن الإلهية أن يكون أهل الشرك والضلال متنفذين في الأرض، متسلحين بالمال والسلطة، وقادرين على تسخير القوى البشرية إما بالترهيب والترغيب، أو بنشر الخرافات والأباطيل التي كانوا يخدعون بها البسطاء والسذج، وبالتالي شكلت “دول الباطل” عقبات كَأْداء أمام “دولة الحق” التي سعى الأنبياء إلى تحقيقها، ومارست الحكام والطغاة والفراعنة صنوفاً وألواناً من العذاب بحق الرسل وأشياعهم، من العزل الاجتماعي، إلى التضييق المعيشي والاقتصادي، إلى النفي، ثم السجن، ثم التصفية الجسدية بالاغتيال والقتل، وصولاً إلى شن حروب تصفية جماعية كما صنع فرعون مع بني إسرائيل، وكما صنع أصحاب الأخدود مع المؤمنين، وقد تدخلت الإرادة الإلهية في أكثر من مورد وموقف من أجل حفظ الرسالات، والإبقاء على الثلة القليلة من المؤمنين، وتعرض جملة من أقوام الأنبياء إلى ما يعرف ﺑ”عذاب الاستئصال”، وهي عملية تطهيرية كانت تجري بين فينة وأخرى لفك الاختناق عن الرسل وأتباعهم بعد أن يستنفذ الرسول كل أدوات الدعوة، وفنون الإقناع، وبعد أن تُستكمل الحجة عليهم بالمعاجز والبراهين، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في غير مورد من السور والآيات، منها قوله تعالى : ] وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا * فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا * وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا * وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا * وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا[[1] ، وقوله تعالى : ]وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآَخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمَ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ * وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ * فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ[[2] ، وقوله تعالى ] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ * إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ [[3] ، وكثيراً ما يُذّكر القرآن بما حصل مع الأقوام السالفة من عذاب الله تعالى، إما بهدف التسلية للمؤمنين او التحذير لخط الكفر الذي كان من أكبر التحديات التي واجهت الإسلام في بداية الدعوة النبوية المباركة، قال تعالى : ] فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ * وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ[[4] .
ولم يكن تيار النفاق، أو حركات الانحراف الداخلية، أقل خطورة على مسيرة الرسالات السماوية من خط الشرك المجاهر بالعداء، بل لعل تيار النفاق كان أخطر وأكثر ضرراً على المستوى البعيد؛ ذلك أن تيار الشرك والإلحاد كان تياراً مكشوفاً للمؤمنين، ظاهر العداوة، معروفاً في خططه وأفراده، بينما اتخذ تيار الانحراف اسلوباً انغماسياً في المجتمع الإسلامي، وكانت منهجيته تقتضي نخر الدين من الداخل، وإحداث تصدعات في بُنية المجتمع المؤمن، عن طريق تغيير البوصلة، وإحداث انحرافات في النظام الفكري والبنيوي للأديان، إذ استهدفت تنظيراته وسياساته تغيير المفاهيم العقدية والفكرية السليمة بأخرى منحرفة تتناقض مع أهداف الشرائع السماوية، وربما تؤدي في النهاية إلى تفريغ المحتوى الحقيقي للدين، وإرجاع الفكر الوثني بلباس ديني، كل ذلك يجري في ضوء حركة مخملية غير محسوسة لكثير من الناس ؛ بسبب اختلاط الحق مع الباطل، وتستر رؤوس المنافقين بلباس الزعماء الدينيين، وربما يكون هؤلاء المنحرفون هم المسيطرين على المؤسسة الدينية الحاكمة، مستغلين غيبة الأنبياء أو أوصيائهم لاحتلال كل الواجهة الاجتماعية، وإلى ذلك يشير قوله تعالى ]وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ[5][ ، فالخطورة في هذه التيارات أنها كانت تعتمد على شخصيات من داخل البيئة الموحدة أو البيئة المؤمنة، بحيث تستطيع استعمال رمزية الأشخاص في جذب الأتباع، وتكثير السواد، مما يجعل عملية التصدي لها معقدة، وتحتاج إلى بناء توعوي للمجتمع، ومنظومة فرز دقيقة تستطيع فك رموز الاختلاط والتشابك الذي يظهر في الآراء والمواقف في زمن الفتنة والانحراف، وإلى ذلك يشير أمير المؤمنين عليه السلام بقوله «أيها الناس إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع ، وأحكام تبتدع ، يخالف فيها كلام الله ، يقلد فيها رجال رجالاً ، ولو أن الباطل خلص لم يخف على ذي حجى ، ولو أن الحق خلص لم يكن اختلاف ، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان فيجيئان معاً ، فهنالك استحوذ الشيطان على أوليائه ، ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنى»[6] .
مميزات تيار الشرك
أشارت النصوص الشريفة من الآيات والروايات إلى وجود صفات عدة امتاز بها (تيار الشرك)، ومن دراسة هذه الصفات يمكننا أن نقف على حجم التحديات والمخاطر التي كان يمثلها هذا التيار في مواجهة حركة الرسل والأنبياء، وهذه الصفات هي :
أولاً : إن وجود هذا التيار كان مترافقاً مع حركة الأنبياء والرسل، كنتيجة طبيعية لقابلية البشر على الانحراف، بسبب وجود الغرائز والأهواء، وتعدد القوى المؤثرة في سلوك الإنسان، فهو جزء مهم من معركة صراع الإرادات بين الحق والباطل، وكان هذا الصراع قائماً بين آدم وأولاده المؤمنين من جهة، وإبليس وجنوده من جهة أخرى، منذ أول يوم خلق الله فيه البشر، وكان إبليس (لعنه الله) قد توعد بإغواء الناس وحرفهم عن مسيرة الأنبياء، كرد فعل لطرده من الجنة، وإخراجه من رحمة الله عزَّ وجلَّ، قال تعالى ]قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ[[7]، ولهذا صار وجود الشرك متلازماً مع المسيرة الإنسانية، قال تعالى : ]وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ[[8]، وقال جلت أسماؤه : ]وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ[[9] .
ثانياً : إن هذا التيار توسل بالقوة والقتل، والترهيب والترغيب، للوصول إلى غاياته في التمدد وكبح جماح الحركات الدينية الشرعية المتمثلة بالأنبياء وأتباعهم، وقد ذهب ضحية هذه السياسة الدموية عدد كبير من الأنبياء والرسل وأتباعهم من الموحدين والمؤمنين الذين كانوا مستضعفين في الأرض في كثير من الأحيان، قال تعالى: ]وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ[[10] ، وقال جلَّ وعلا : ]قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ[[11] .
ثالثاً : شكل تيار الشرك “خطر وجود” على الثلة المؤمنة من الرسل وأتباعهم، إذ تحدثت الآيات الشريفة عن واحد من القواسم المشتركة بين أقوام الأنبياء من كبار المشركين وأتباعهم، وهو التخطيط الماكر للقضاء على الأنبياء، وتصفية الثلة القليلة من المؤمنين الموحدين، وهذا المكر كان يهدد الوجود البشري للرسالات السماوية، وهو الذي كان يعجل بالأمم المشركة إلى (عذاب الاستئصال) ، قال تعالى ]… فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا * أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيراً[[12]، وقوله تعالى ]أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ[[13] ، ] فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ[[14] .
وبسبب ما تقدم، كانت يد الغيب الإلهية تتدخل في اللحظات الحرجة لنصرة الحق، وإبادة جحافل الشرك والضلال، وفي تاريخ الأنبياء أمثلة كثيرة على ذلك، كالطوفان في زمن نوح (عليه السلام)، وإهلاك أقوام الشرك بالصيحة والريح والرجفة، وإغراق فرعون وجنوده، وإبادة جيش إبرهة الحبشي، ونصرة النبي في بدر، وإهلاك الأحزاب في معركة الخندق، كلها شواهد على حضور النصرة بالمعجزات والخوارق من أجل الإبقاء على وجود الأنبياء وحركة الرسالات السماوية، وإلى ذلك يشير قوله تعالى : ]إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [15][ .
مميزات تيار النفاق والانحراف الداخلي
تيار النفاق هو الحركة الانحرافية التي أنتجت وابتدعت النسخ المحرفة من الرسالات السماوية، وظهرت بسبب سوء التأويل وتوظيف النصوص في تحقيق المصالح الدنيوية، وهو التحدي الثاني الذي واجه مسيرة الرسل والأنبياء، وكان خطره في كثير من الأحيان أكثر وأهم من خطر تيار الشرك الظاهري، ويمكننا أن نسجل الملاحظات أو المميزات الآتية في تيار النفاق :
أولاً : إن وجود هذا التيار كان سنة ثابتة من السنن البشرية التي رافقت مسيرة الرسالات السماوية، وفي العادة ينشأ تيار “النفاق” في بواكير حركة الرسالات بين أهل المطامع والمصالح، الذين يستغلون التأييد الجماهيري للرسالة السماوية، وما يدعو له الأنبياء من نصرة المستضعفين، وتحييد أهل الظلم والفساد، فيعمدون إلى ركوب الموجة، واستغلال الدين في كسب الأموال والسلطة والأتباع، وفي العادة يبرز تيار “الانحراف” كحركة ناشطة ومؤثرة بعد موت الأنبياء، وانقطاع الأمة عن خبر السماء، وطول المدة بين الأمة وبين نبيها، بحيث يستغل المنافقون هشاشة الوعي، وضعف الحصانة لدى المجتمع في النفوذ وضربه من الداخل، ولذلك يتحدث القرآن الكريم عن (طول الأمد) كواحد من أسباب الانحراف لدى الامة، قال تعالى ] أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ[[16]، وقد تنبأ القرآن الكريم بظهور “التيار الانقلابي” بعد موت أو قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما في قوله تعالى : ] وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ[[17] .
ثانياً : قلنا في ما سبق إن تيار النفاق كان يتحرك في المجتمع بشكل مخملي غير محسوس، مستغلاً انغماس رموزه وأفراده بين طبقات المجتمع، فهو كمرض السرطان لا يظهر إلا بعد أن يستفحل وينتشر، ولذلك وصف القرآن الكريم “المنافقين الأعراب” بأنهم أفراد غير معلومين في المجتمع، وهدد بفضحهم في غير مناسبة، قال تعالى : ]وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ[[18]، وقال جل شأنه : ]يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ[[19]، وقال جلت قدرته : ]لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا[[20] .
ثالثاً : غالباً ما يتوسل تيار النفاق بالمكر والحيلة، وحياكة المؤامرات، وتدبير الاغتيالات والانقلابات، للوصول إلى مآربه في ضرب المشروع الرسالي من الداخل، وتفريق الناس عن الأنبياء والرسل، واستجلاب الأتباع ليشكلوا عمقاً بشرياً سانداً لمشروع النخر الداخلي، وقد رأينا أن المكر عند (تيار الشرك) يتضمن التخطيط لمنهجية القتل والتصفية الجسدية، أو (الحرب الشاملة)، بينما سياسات المكر عند (تيار النفاق) كانت تقوم على أسس أخرى كبث الإشاعات والأراجيف، وتحريف النصوص الدينية، وتأويل الآيات، وإظهار البدع في الدين، وتشويه التطبيقات، وربما تجاوز الأمر إلى حدود الانقلاب السياسي والالتفاف على الحكومة الشرعية، كما حدث في (انقلاب السقيفة الأسود) بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
إن استقراءً بسيطاً للآيات القرآنية التي تحدثت عن المنافقين يكشف لنا جملة من أساليب المكر والخداع التي كان هذا التيار يتوسل بها لتنفيذ مشاريعه ومخططاته ، ومنها :
* بُغض المؤمنين، والكيد بهم، والفرح لمساءتهم، والحزن لفرحهم، قال تعالى : ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ[[21] .
* التهرب من المشاركة في القتال ضد الكافرين، وبث الفتن والإشاعات في صفوف الجيش، وتوهين عزيمة المقاتلين، ونشر الاشاعات والأخبار الكاذبة ، قال تعالى ]إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ * وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ * إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُون[[22] .
* تحريف النصوص، وتأويل الآيات ابتغاء نشر الفتنة وخداع الناس، قال تعالى : ]مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا[[23] ، وقال جل شأنه : ]يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ[ [24] .
الإسلام وتحديات الشرك
ابتليت رسالة الإسلام التي جاء بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) – كما بقية الرسالات التي جاء بها الرسل – بوجود كلا التيارين المضادين للشرائع السماوية : تيار الشرك ، وتيار النفاق والانحراف، ولذلك كان لا بد من منهجية دقيقة ومتينة تتكفل بعملية التصدي لهذه التحديات في حرب طويلة الأمد يخوض فيها المسلمون المؤمنون “صراع وجود” مع خطوط الشرك والانحراف .
ولعل أبرز من مثّل تيار الشرك في بداية دعوة الإسلام هو (الحزب القرشي)، الذي كان رأس الحربة في معاداة الإسلام، والتربص بالمؤمنين ، وكان هذا التيار مسيطراً على الموارد الاقتصادية، والسيادة الاجتماعية في مكة المكرمة والمناطق المحيطة بها، حيث صدحت الصيحات الأولى لرسالة التوحيد بين شعاب تلك المدينة المقدسة، وصار ثلة من المؤمنين يصدّرون “الدين الجديد” إلى المناطق الجغرافية الخارجة عن حدود مكة المكرمة .
استمر تهديد “تيار الشرك القرشي” قرابة العقدين من الزمان، منذ بداية الدعوة وحتى فتح مكة في سنة 8 للهجرة، وكان على صاحب الرسالة ومن معه من القلة المؤمنة، أن يتعاطوا بحكمة وحزم مع تهديدات تيارات الشرك في داخل الجزيرة العربية وخارجها، وكان لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) دور فاعل إلى جنب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في كل مراحل التصدي لتيار الشرك في مكة المكرمة وخارجها، وصار صنواً لرسول الله في كل خطوة يخطوها ، أو حركة يُقدم عليها .
الإسلام في مواجهة تيار النفاق
لم يكن تيار النفاق والانحراف فاعلاً في مكة، بسبب ضعف المسلمين، وقلة عددهم، وبسبب عدم وضوح المشهد لدى الكثير من الناس حول مصير الإسلام، ومستقبل الدعوة، لم يكن الكثير من القرشيين يفكرون باختراق المسلمين، والحصول على مكاسب متوقعة، ولكن ربما يسأل سائل : إننا نعرف أن جملة من “المنافقين” أسلموا في العهد المكي، فما الدافع الذي جعلهم يتركون دين آبائهم وأجدادهم، وينضمون لفئة المسلمين المستضعفة في مكة؟
والجواب نضعه مختصراً في نقاط :
- إن كثيراً من المنافقين الذين أسلموا في العهد المكي كانوا من أسافل الناس وأراذلهم في المجتمع القرشي، ولم يكن لهم هيبة عند الناس، أو سطوة في نفوس قومهم، إما لقلة مالهم، أو خساسة نسبهم، ومثل هذه الفئة قد تجد في الدعوة الإسلامية التي تحدت الاستكبار القرشي متنفساً عن حالة الظلم والإحباط التي كانت تكابدها، وحالة التهميش والاحتقار التي تفرضها القبائل القرشية المتنفذة .
- إن بعض هؤلاء المنافقين كانت لهم صلات وثيقة مع أحبار اليهود، وقد تلقفوا تنبؤاتهم حول الدين الجديد، واكتساحه جزيرة العرب، ومنّوا أنفسهم بالحصول على مواقع متقدمة في الدولة الموعودة، بما يضمن لهم الخروج من حالة البؤس والشقاء، وإشباع رغبات نفوسهم المريضة التواقة للحكم والتسلط على رقاب الناس [25] .
- إن بعض هؤلاء المنافقين كانوا أول أمرهم مستقيمي العقيدة، دخلوا عن قناعة بدعوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلا أنهم ما لبثوا أن أخذتهم بوارق هذه الدنيا وزخارفها، فانحرفوا عن جادة الصراط، وتبعوا أهواءهم، وانقلبوا على أهل البيت (عليهم السلام)، ومن الأمثلة على هذه الفئة الزبير بن العوام القرشي، فقد روى الشيخ الصدوق عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال : «ما زال الزبير منا أهل البيت حتى أدرك فرخه فنهاه عن رأيه»[26] .
إن بروز تيار النفاق وظهور طبعاته المتعددة كان واضحاً بمجرد انتقال المسلمين إلى المدينة، وتنفسهم الصُعداء من الظلم القرشي، وبداية تأسيس الدولة الإسلامية الفتية، وتزايد الناس على قبول الدعوة، والدخول في الدين الإسلامي، وهذا البروز الكبير والسريع قرع ناقوس الخطر حول التهديدات التي تواجه النظام البنيوي للإسلام، وما يمكن أن ينتج عنها من انتشار ظاهرة الانحراف، وعملية النخر الذاتي، وتغيير بوصلة الفكر والسلوك المجتمعي للمسلمين، وهي مشاريع بدأ بها “تيار النفاق الصامت” بشكل مبكر، وعمل على توسعتها بشكل أفقي في المجتمع المدني، مستغلاً هشاشة الوعي، وحداثة التجربة، وعدم الفهم الكامل لعقيدة الإسلام، وتشوه الصورة لدى الكثير من الداخلين الجدد في الإسلام .
الهوامش
[1] الفرقان : 35-40 .
[2] العنكبوت : 36-40 .
[3] ص : 12-14 .
[4] فصلت : 13-18 .
[5] التوبة 30-32 .
[6] المحاسن 1\208 ؛ الكافي 1\54 ؛ بحار الأنوار 2\290 .
[7] الأعراف : 16-18 .
[8] الأنعام : 123 .
[9] الحجر : 11-13 .
[10] البقرة : 87 .
[11] الأعراف : 88 .
[12] فاطر : 42-44 .
[13] القصص : 45 – 47 .
[14] غافر : 45 .
[15] غافر : 51 .
[16] الحديد : 16 .
[17] آل عمران : 144 .
[18] التوبة : 101 .
[19] التوبة : 64 .
[20] الأحزاب : 60- 62 .
[21] آل عمران : 118 – 120 .
[22] التوبة : 45-50 .
[23] النساء : 46 .
[24] المائدة : 41 .
[25] لاشك أن كتب الفريقين ذكرت وجود صلات بين أحبار اليهود وبين بعض الصحابة، فقد روى ابن أبي عاصم في كتاب السنة ص27 بسند حسن عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب أتى النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) بكتاب أصابه من بعض الكتب قال : فغضب ؛ وقال : «أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب ؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية»، وثمة روايات عدة في هذا الباب أوردها الهيثمي في مجمع زوائده 1\173 .
[26] الخصال ص157 .