ـ الحلقة الثانية ـ
حيدر حبّ الله
ثانياً: حالات تعطيل مبدأ (تحسُّس البدعة وتحذُّرها)
هذه النقطة على صلةٍ بحالة الانحياز غير الموضوعي في قضيّة البِدْعة، والتي أشرنا إليها قبل قليل، وذلك أنّ من مشاكل تحسّس البِدْعة أنها استخدمت في جانب النقيصة أو احتمالها، وقلّما تستخدم في جانب الزيادة. فلو أنّ شخصاً قام بإضافة أمرٍ ما على الدين عن حُسن نيّةٍ وطيب نفسٍ فقد تجد الكثير منّا لا يعيشون مشكلةً معه؛ لأنّ هذه الإضافة تعزّز موقع الدين، وليس فيها ضررٌ، بينما لو قام شخص آخر بنقد أمرٍ ما، معتبِراً أنّه ليس من الدين، وكان هذا الأمر المنتَقَد عادةً شائعة، وجدنا أنّ المتديِّنين يثورون للدفاع عن هذه العادة، والبحث والتفتيش عن مبرِّر ولو بعيدٍ لها.
وهنا يتمّ تجميد مبدأ التحذُّر من البِدْعة بحجّة عناوين متعدّدة، مثل: رجاء المطلوبيّة، وحُسْن الاحتياط، وتقوية الدين في نفوس الناس، فإذا كان ذلك يقوّي الدين فلماذا نحاربه؟..
سيتبادر إلى ذهن القارئ الكريم أمرٌ على عجلةٍ هنا، وهو أنّ مفاهيم رجاء المطلوبيّة وحُسْن الاحتياط وغير ذلك ليست إضافةً على الدين حتّى تكون بدعةً، فمَنْ يقوم بالفعل الفلاني برجاء المطلوبيّة لا يجعل هذا الفعل من الدين، لكنّه يقوم به على أمل أن يكون من الدين، وأين هذا من البِدْعة؟!
هذا صحيحٌ، لكنْ ينبغي أن ننظر إلى ظاهرة البِدْعة في الحياة الدينيّة من ناحيتين:
من ناحية الثقافة النخبوية الواعية والمُدْرِكة لكون هذا الفعل ليس من الدين، وأنّ معنى رجاء المطلوبية أو حُسْن الاحتياط يستبطن التفكيك بين الشيء وبين نسبته إلى الدين بنحوٍ جازم.
ومن ناحية الثقافة الشعبيّة التي لا تعي كما تعي النخبة هذه الأمور، بل هي تتلقّى جيلاً بعد جيلٍ ثقافة أنّ هذا الفعل يقوم به المتديِّنون، وقد تحوّل إلى عادةٍ عامّة دينيّة، بحيث مَنْ ينظر من بعيد ينسب هذا الفعل للجوّ الديني.
إنّ جمهور الناس لا يميِّز في كثيرٍ من الأحيان بين هذه الأمور، وليس إلاّ العلماء وبعض النخبة والمتديِّنين المطَّلعين الذين يفكّكون هذه الأشياء عن بعضها. وفي هذه الحال لا أريد أن أدّعي بأنّنا تورّطنا في بدعةٍ، كلّ ما أريد قوله هو أنّ مبدأ التحذُّر من البدع يستدعي هنا مزيداً من النشاط التوعوي العامّ الذي يكشف بصراحةٍ ووضوح لجمهور المسلمين أنّ هذه الأفعال ليست من الدين، وإنّما نقوم بها بدافع رجاء المطلوبيّة..
هذا التوضيح لا يكفي وجودُه في كتابٍ هنا أو هناك، بل هو يحتاج إلى خلق ثقافةٍ عامّة تهتمّ بمثل هذه الأشياء وتكشف الأمور. ومع الأسف فنحن نسير في بعض الأحيان على العكس من هذه الثقافة، وقد نبتلي بمشكلة كتمان الدين عبر هذه العناوين. فتجد مثلاً أنّه عندما يُوَجَّه سؤالٌ عن مستحبٍّ معيَّن فإنّ المجيب لا يصرِّح بالقول بأنّه لم يثبت استحبابه، بل يكتفي بالقول بأنّه يؤتى به برجاء المطلوبيّة. والنخبة تعرف معنى هذه الجملة، لكنّ الوعي العامّ لا يعرف، مضافاً إلى أنّك بهذه الطريقة لم تكن واضحاً وصريحاً في عدم وجود مستحبّ ثابت في الدين اسمه كذا وكذا.
إنّ ما أقوله هنا يفرض عكس هذه السياسة في بيان الدين، فما أقوله يدعو إلى بيان الأشياء بصراحةٍ حتّى لو كان جمهور الناس يتلقّاها على أنّها من الدين، بل بالعكس، كلّما اشتدّ اعتقاد الجمهور بانتساب فعلٍ ما إلى الدين اشتدّت الحاجة لتقديم بياناتٍ صريحة بعدم ثبوت هذه النسبة، مع الحقّ الكامل في الدعوة لفكرة رجاء المطلوبيّة بعد ذلك.
ولعلّ ما يؤكِّد فكرتي هنا أنّه لو جاء شخصٌ ينفي استحباب هذا الفعل أو ذاك مثلاً قام أنصار (رجاء المطلوبيّة) بانتقاده، وأنا أسأل: لماذا يُنتقد هذا الإنسان ما دام يبيِّن الدين؟ ولماذا عندما يُنتقد لا يُقال بأنّ الحقَّ معه لكنَّ كلامه منقوص مثلاً؟ ولماذا عندما ينتقد تجد بعض الناقدين يردّ عليه بنصوص لبعض العلماء تثبت جواز الإتيان بالفعل برجاء المطلوبيّة؟ أليس هذا تمويهاً على الرأي العامّ؟ أليس هذا منافياً لمبادئ الصدق في بيان الدين والتحذُّر من البِدَع؟
لنحاول قليلاً أن نتصوَّر أنّنا في القرون الهجريّة الأولى، وأنّه ظهرت عادة التأمين أو التكتُّف في الصلاة مثلاً، وتمَّتْ نسبتها إلى الدين، فأهل البيت هنا أمام خيارين: أحدهما: الإعلان عن محاربة هذه العادة بوصفها بِدْعة من وجهة نظرهم، وتحريمها وقطعها من أصولها؛ وثانيهما: تصحيح القصود فقط، بأنْ يقولوا للناس: لا تفعلوها بقصد الجزئيّة، أو بقصد الورود، بل افعلوها بقصدٍ آخر. إنّنا نلاحظ أنّ الذين كانوا يحاربون البِدَع في التاريخ الإسلامي الأوّل ـ ومنهم أهل البيت^ ـ كانوا يعتبرون أنّ وجود هذه الظواهر مرفوضٌ، ولم يعمدوا إلى الاشتغال على موضوع تصحيح القصود والنوايا؛ لأنّ البِدْعة لا ترتبط فقط بموضوع قصدك حال الفعل، بل ترتبط بسنّ عادةٍ دينيّة للناس تُتَلَقّى على أنّها أمرٌ ديني.
ولهذا يميِّز بعض الفقهاء بين مسألة البِدْعة ومسألة التشريع، ومنهم ـ على ما في بالي ـ العلاّمة النراقي صاحب مستند الشيعة. فالتشريع محرَّمٌ؛ لأنّك تقوم بنسبة فعلٍ إلى شرع الله، وهو من تشريعك أنْتَ، أو تفعل فعلاً بقصد أنّه من الله مع أنّ مشرِّعه هو أنْتَ، وليس الله، فهذه الحرمة تأتي على التشريع. والتشريع يمكن أن يكون حالةً فرديّة، فأنْتَ الآن في بيتك تقوم بإضافة فعلٍ على الصلاة من عندك بقصد أنّه من الدين، فهذا تشريعٌ محرَّم، حتّى لو لم تُعْلِم أحداً بذلك أبداً، وبمجرّد تغيير القصد ينتفي التشريع المحرَّم، ولكنّه ليس بِدْعةً من وجهة النظر هذه. إنّما البِدْعة هي قيام شخصٍ بسنّ عادةٍ للآخرين يتمّ تلقّيها على أنّها أمرٌ دينيّ، مع أنّها ليست كذلك، فصاحب البِدْعة هو ذاك الذي يختلق أمراً لا وجود له في الدين، ويُلقيه ليصير بذلك سنّةً دينيّة في المجتمع.
إذا قبلنا هذا التفكيك، ويستحقّ الوقوف عنده، وأذكر أنّ أستاذنا الجليل السيد محمود الهاشمي الشاهرودي(حفظه الله) كان يقبله تقريباً كما فهمتُه منه في حوارٍ شفويّ معه قبل سنواتٍ، وكان يختار التمييز بين مسألة التشريع ومسألة البِدْعة.. أقول: إذا قبلنا هذا التفكيك ستغدو قضيّة البِدْعة أكثر حساسيّةً؛ لأنّها لا تقف عند القصود الفرديّة فقط، بل ترتبط بخلق عادةٍ اجتماعيّة منتسبة إلى الدين في الوعي العامّ، حتّى لو لم تكن أنْتَ تعتقد بنسبتها إلى الدين أحياناً.
أتمنّى أن نتوقّف قليلاً عند هذا الأمر، ونعيد فتح باب دراسة موضوع البِدْعة من زاويةٍ اجتهادية معمَّقة؛ فربما نقترب من البِدْعة عندما نخلق مجتمعاً يتلقّى الكثير من العادات على أنّها أمور دينيّة، فيما هي لم تثبت في الشريعة، وإنّما تمّ التعاطي الاجتهادي معها من موقع رجاء المطلوبيّة أو حُسْن الاحتياط أو غير ذلك.
وفي هذا السياق تأتي قضيّة شمول الفعل أو العادة من قبل العمومات والمطلقات الشرعيّة. فكثيراً ما نجد عاداتٍ دينيّة راسخة لم يرِدْ فيها نصٌّ بالخصوص أبداً، كلّ ما في الأمر أنّ الفقهاء اعتمدوا فيها على العمومات. فمثلاً: عمومات إحياء أمر الدين تشمل هذا الفعل الذي لم ينصّ عليه الدين بعنوانه الخاصّ، وإنّما ابتكرناه نحن بعقولنا البشريّة.
في هذه الحال لا أريد أن أقول بأنّ هذه بِدْعةٌ. كلا، لكنّ المسألة المركزيّة هنا هو أنّ الكثيرين ـ ومنهم بعض العلماء ـ ينسبون هذه العادة إلى الدين لمجرّد كون العمومات تشملها. وهذا خطأٌ.
ولكي أوضِّح مقصودي أكثر، وقد تحدَّثْتُ عن هذا الأمر في مناسباتٍ سابقة، عليَّ أن أفكِّك بين كون هذا الفعل مستحبّاً من باب كونه مصداقاً لعنوانٍ عامّ مستحبّ، وبين كونه مستحبّاً لأنّ هذا الفعل بعنوانه الخاصّ مستحبّ. وعلى سبيل المثال: لو أخذتُ عنوان قراءة سورة الفاتحة للمَيْت، فقد يرى الفقيه أنّه لا يوجد شيءٌ في الدين اسمه قراءة سورة الفاتحة للمَيْت، وأنّ الفاتحة ليس لها خصوصيّةٌ في باب القراءة هنا، لكنْ يوجد شيءٌ اسمه قراءة القرآن عن روح المَيْت، فقراءةُ الفاتحة مستحبّة بما هي قراءةٌ للقرآن، لا بما هي قراءة للفاتحة، وهذا يعني أنّ الناس عندما يقومون بقراءة الفاتحة يجب توعيتهم إلى أنّ الفاتحة بعنوانها ليست مستحبّة كما يتخيّلون، بل المستحبّ هو العنوان القرآنيّ. وهذا ما قد يتطلَّب من العلماء عندما يكونون في مجالس الفاتحة الدعوة إلى قراءة سورة القَدْر مثلاً؛ بغية كسر هذه العادة، وكشف الأمر للناس، كما هي طريقة الأنبياء في كسر العادات. وعلى هذا المثال قِسْ بقيّة الأمثلة، وما أكثرها في حياتنا الدينيّة.
وأجد هنا من الضروري أن نميِّز بين مصداق العنوان المستحبّ والعنوان المستحبّ. فالعنوان المستحبّ نثبت له الاستحباب، أمّا المصداق الذي قد يتغيَّر من زمانٍ إلى آخر فهذا لا استحباب فيه بعنوانه، وإنّما يلحقه الاستحباب من حيث انطباق العنوان العامّ عليه، وقد يتغيَّر الانطباق بفعل الزمن والظروف والتقاليد. وبناءً على هذا فإنّ الكثير من العادات الدينيّة التي تُتلقَّى على أنّها مستحبّاتٌ، ولم يرِدْ فيها نصٌّ، يجب توضيح أمرها للناس على أنّها ليست من الدين، ولهذا لا يُعرف مَنْ فَعَلَها في العصر النبويّ، ولا في العصر اللاحق أو السابق، من قبل أحد من الأنبياء أو الأولياء أو الصحابة أو أهل البيت أو غيرهم.
هذا التمييز مهمٌّ جدّاً في الخطّة الثقافيّة الدينيّة الاستراتيجيّة، ويعبِّر عن تفعيل مبدأ التحذُّر من البِدَع وخلط المفاهيم في الوعي الجماهيريّ، وحماية الدين من الالتباسات. ومع الأسف فهي تمييزاتٌ مُهْمَلة لا اهتمام بها أبداً، مع أنّها لا تُلغي ما يقوم به الناس بالضرورة، بقدر ما تدفعهم لتمييز وعيهم الدينيّ، بحيث لا يُسقطون التشريع الدينيّ على فعلٍ إسقاطاً مباشراً أبديّاً، ويميِّزون بين العنوان المستحبّ إلهيّاً وبين التطبيق البشريّ لهذا العنوان.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينير قلوب الجميع لوعي قضايا البِدَع في المجتمعات الدينيّة، والتنبُّه لها أكثر فأكثر، وإدارة ملفّها باعتدالٍ يبتعد عن الإفراط والتفريط؛ حمايةً للدين وصيانة له عن التلاعب البشريّ به.
ودعوتي المتواضعة للجميع أن يعيدوا النظر في مسألة البِدْعة نظريّاً وعمليّاً، ويوقظوا في الوجدان النخبويّ والشعبيّ أهمّيّة الحَذَر من البِدَع المختَلَقة تحت ذرائع متعدِّدةٍ، وكذلك أهميّة الحَذَر من التورُّط في البِدَع دون تنبيه الناس على التمييز بين الأمور.