أ. د. عبد العزيز ساشادينا(*)
ترجمة: هادي نعمة
تسعى هذه الدراسة لتقييم مساهمة الإمام الخوئي في التركيز الحديث على القرآن الكريم كمصدر رئيس للدراسات الشرعية في النجف الأشرف. ولا تتضمّن رؤيته لإصلاح المناهج الدراسية للدراسات الفقهية في النجف معايير وشروط صارمة في التدقيق في صدق الرجال ناقلي الأحاديث (العلوم النقلية)، إضافة إلى أساليب جديدة للتعليم والتعلّم على جميع مستويات الدراسات الشرعية. وكان تدريس العلوم الأكثر إهمالاً والمتعلِّقة بالقرآن الكريم وتفسيره جوهريّاً لتدريب جيل جديد من المجتهدين. وقد حضّ طلابه على إيلاء المزيد من الاهتمام بالقرآن، وجوانبه التاريخية والسياقية.
وهذه الدراسة تمنح مساحة مهمة لإصلاح الإمام الخوئي في مجال الدراسات الشرعية، التي أقيمت على أساس بحثه عن منهجية توسعية في الفقه. كما سوف تُظهر الدراسة أن الخوئي يريد أن يقدِّم عرضاً نهائياً لتفسيرٍ للقرآن من وجهة نظر شيعية، وخصوصاً أن الكتابات الموجودة عن هذا الموضوع تأتي بشكلٍ أساس من وجهة نظر سنّية. وجميع الموضوعات قد جرَتْ معالجتها عادة في تاريخ الكتاب الإسلامي المقدَّس (القرآن). ولعل الأكثر إثارة للجدل كانت مسألة حدوث تحريف في القرآن الكريم أم لا.
وستعالج الدراسة الطبيعة الجدليّة لنصوص الأغلبية المسلمة بشأن القرآن في مقابل الشيعة، وطريقة ردّ السيد الخوئي على الاتهامات بالتحريف، التي وجدت في هذه المصادر الأوّلية، وذلك عبر استخدام المنهج النقدي الحديث في تحليل النصوص التاريخية.
الموضوع الرئيس الآخر الذي يشغل المناقشات الفكرية والدينية التي يجريها الخوئي هو امتداد القرآن وتاريخه، واللذان أدّيا إلى تقديس نهائي للنصّ المقدَّس.
وتتمثّل مساهمة الإمام الخوئي في الدراسات القرآنية في تحليله الواسع لمفهوم النسخ في كشف فهم المفسِّرين الأوائل للآيات التي اعتبرها العلماء المسلمون منسوخة.
وفي نهاية المطاف فقد تمّ التشديد على مقاربة الخوئي للقرآن الكريم كمصدر حيوي للإرشاد المعنوي والروحي، وذلك من طريق إقراره بالحاجة الدائمة لشرح السياق التاريخي للوحي؛ للكشف عن المبادئ التي طبِّقت في تنمية المجتمعات الإسلامية، وفي نطاقها القانوني والأخلاقي الآخذ في الاتّساع.
مدخل
كان السيد أبو القاسم الخوئي (المولود في تشرين الثاني العام 1899)، مؤلّف كتاب «البيان في تفسير القرآن»، أعلى سلطة دينيّة لثاني أكبر مذهبٍ للمسلمين، وهم الشيعة الإماميّة. وبالنسبة إلى أتباعه كان الخوئي، كغيره من الفقهاء الشيعة المتبصِّرين الأتقياء، نائباً عامّاً عن الإمام الأخير الغائب، مولّى سلطةً فقهيّة دينيّةً لإرشاد المذهب، إلى أنْ يظهر الإمام المخلِّص ـ المهديّ. بهذا برز السيد الخوئي كأحد أكثر الفقهاء المشهود لهم في القرن العشرين.
أكمل السيد الخوئي دراسته للعلوم الإسلاميّة في مدينة النجف إثر إنهاء دراسته الابتدائية في مسقط رأسه خوء في أذربيجان. قدَّمت النجف، حيث ضريح الإمام الأوّل عليّ بن أبي طالب (المستشهد عام 660م)، أفضل التعليم في مجال العلوم المتقدّمة في الفقه، وتلك المتعلّقة بالعلوم الإسلاميّة، على يد أكثر علماء الشيعة بروزاً.
في هجرته إلى النجف انتهج الخوئي تقليداً قديماً، متجذِّراً بين العلماء الدينيّين الإيرانيّين، في اكتساب العلوم المتقدِّمة في الفقه الإسلاميّ في حلقات الدراسة في هذه المدينة المقدَّسة. وبعد عدد من السنين أمضاها في التمرّس في الفقه على يد أبيه أكمل الخوئيّ المستويين الأوّلين من مقرَّراته الدراسيّة الفقهيّة.
ومنذ العام 1918 بدأ في حضور المحاضرات المتقدّمة في المنهج عند المجتهدين البارزين، أمثال: شيخ الشريعة، ومهدي المازندراني، ومحمد حسين الغروي، وضياء الدين العراقي، ومحمد حسين النائيني. كما قدّم الخوئي في هذه الحلقات محاضراتٍ تقنيّة في مجال علم الفقه الاستنتاجيّ (الاستدلاليّ) بحضرة أساتذته، مكتسباً بذلك الأهليّة المميّزة لتعليم العلوم الدينيّة، وتكوين آراء تشريعيّة مستقلّة ـ عبر التأويل المنطقيّ لمصادر التشريع في مجالات تطبيق التشريع الإسلاميّ كافّةً ـ.
وبأهليّة أن يمارس الاجتهاد يعتبر الفقيه الشيعيّ حائزاً الشروط اللازمة لإرشاد أتباع المذهب في شؤونهم الدينيّة ـ العقيديّة، وحتّى الدنيويّة. وعلى عكس ما هي الحال عليه عند المسلمين السنّة، من كونهم يمتلكون قدراً قليلاً من الإخلاص لقياداتهم الدينيّة، فقد نظر الشيعة إلى قياداتهم الدينيّة على أنَّهم موضع للاتّباع. وبذلك فإنّه قبل أن يموت الفقيه موضع الاتّباع يجد أتباع المذهب الشيعيّ أنفسهم قد أجمعوا بشكلٍ ما على خَلَفٍ له يعتلي مكانته المرموقة.
إنّ عمليّة الإقرار لفقيهٍ ما بهذه المنزلة بين أتباع المذهب تعرف بـ «التقليد»، بمعنى «محاكاة» أو «قبول» أحكام فقيه ما في شؤون التشريع. ويعرف مَنْ يشغل هذه المنزلة بـ «مرجع التقليد»، فيكون «سلطةً تشريعيّةً عليا مقبولةً كمصدرٍ للاتّباع».
مضافاً إلى ذلك فإنّ المؤسّسة الدينيّة ـ المرجعيّة مسؤولةٌ بدرجةٍ عالية عن تأمين اللُّحمة الحافظة للهويّة الروحيّة ـ الأخلاقيّة والاجتماعيّة ـ السياسيّة المتعلّقة بها للمذهب الشيعيّ. يدبّر مرجع التقليد شؤون المذهب الدينيّة، بتقديم الإرشاد التشريعيّ ـ الأخلاقي. وكذلك عبر الإشراف على شؤونها الماليّة، بتحصيل ثمّ توزيع التبرّعات العباديّة، كالزكاة (وهي صدقة ماليّة تمنح للفقراء)، والخمس (وهو مقدار 20% يبذل من كلّ المكتسبات المربوحة). وفي نهاية المطاف شرّعت الوظيفة الإشرافيّة والإدرايّة هذه تحت سلطة منزلة ولاية الفقيه المكوَّنة شرعيّاً، على أن تمارس حَصْراً في حيِّز حكم التشريع والروحيّة الإسلاميّين.
في القرن التاسع عشر استحدثت إصلاحاتٌ في الإجراءات المحدَّدة لمَنْ يعتبر الأكثر أهليّةً ليمارس السلطة الفقهيّة، والممحورة إيّاه وسط جموع المؤمنين، في فترة غيبة الإمام (المعصوم) الأخير؛ إذ إنّه كان من الضروريّ اعتماد آليّة تشريعيّة تحدو الشيعة ـ بأغلبيّتهم ـ على إعلان ولائهم للمجتهد إذا ما أرادت القيادة الدينيّة والمجتمع الشيعيّين النأي عن خطر الحكّام الشيعة. لذلك فقد اعتمد رسميّاً وجوب اتّباع مجتهدٍ متصدّر، من خلال إعلانٍ واضحٍ لمبدأ التقليد كجزءٍ من الواجب الدينيّ لكلّ مؤمن. وقد فُهِّم الشيعة أنّه بدون إعلانٍ كهذا تكون عباداتهم باطلة. وقد سمحت عمليّة التقليد هذه ببروز مجتهد شيعيّ قائداً دينيّاً أعلى عن طريق إقرار مجتمع الشيعة فحَسْب، وبدون تدخُّل من الحكّام الشيعة.
ومع أنّ الخوئي قد برز كسلطةٍ مستقلّةٍ وقائدةٍ في الفقه الشيعيّ في وقتٍ باكر من حياته الفقهيّة فإنّه لم تتجسّد فعليّاً صورته كمرجعٍ للتقليد حتّى كان العام 1970، الذي توفّي فيه مرجع التقليد البارز السيد محسن الحكيم. وقد انهمك القادة الدينيّون الشيعة في الستّينيّات والسبعينيّات في شرح الوظيفة الجديدة لمرجع التقليد في إطار دولة الأمّة (الإسلاميّة).
وقد كان لعصر التوقّعات المتزايدة للمنجزات الحديثة على جميع صعد الحياة الإنسانيّة عالميّاً تأثيره على كلّ قطاعٍ في المجتمع المسلم. فقد كان من ذلك التأثير أن برز بوضوحٍ نداءٌ بإصلاحٍ غائبٍ عن المؤسَّسات الدينيّة التقليديّة على مدى العالم الإسلاميّ.
فمارس المجتمع الشيعيّ ضغطاً هائلاً على قيادته لتجاوز الإرشاد المتعلِّق محضاً بالأمور العباديّة اليوميّة؛ لتقديم الإرشاد المنتظَر في المسائل السياسيّة، طالباً أحياناً من قيادة مرجع التقليد الحَذِرة سياسيّاً تارةً، والمنعَزِلة أخرى، اتّخاذ موقفٍ حاسم من الأنظمة السياسيّة القمعيّة، ومواجهتها.
كانت استجابة السيد الخوئي لهذه الحالة تقضي بإقامة بحثٍ علميّ ممنهَج في مجال المصادر التقليديّة للتشريع الإسلاميّ؛ لتقديم منهجيّةٍ تشريعيّة موسَّعة، من التي تعالج عادةً ضمن مجال «أصول الفقه» ـ المبادئ الأساسيّة للتشريع الإسلاميّ. فبدون منهجيّةٍ موسَّعة كهذه ما كان ممكناً تكوين آراء فقهيّة جديدة ضروريّة لإرشاد المذهب الذي كان يحدّث بنمطٍ مفرطٍ كمّاً.
وقد كان التأويل (التفسير السياقيّ) للقرآن، المعتمد لجوهره «الحيويّ» في إرشاد المؤمنين، المجال المهمل عادةً في التحقيق الفقهيّ، رغم محوريّته في الدراسات التشريعيّة. إلاّ أنّه بالنسبة إلى الفقهاء المتجذِّرين بعمقٍ في دراسة أصول الفقه، من أمثال: الخوئي، كان واضحاً أنّ المناقشات الفقهيّة الهادفة إلى استنباط الإرادة الإلهيّة، وفهم أهمّيّة ضمنيّتها في سياق آيات الوحي ـ في ذلك الوقت ـ، كانت قاصرةً، إلاّ أن تنخرط في نَمَط تأويلٍ جديد لتاريخ ظاهر النصّ القرآنيّ، ووظيفته الدلاليّة. فحمل الخوئي نفسه على تأليف مقدّمة له عن القرآن الكريم، غير متجاهلٍ حاجة العلوم التشريعيّة الإسلاميّة لمثل هذه المعالجة.
فكر الخوئي التشريعيّ والتفسيريّ
سمح الصمت السياسيّ الصارم للخوئي بمتابعته لبرنامجه العلميّ خلال أعنف الفترات في التاريخ الاجتماعيّ والسياسيّ لشيعة العراق. وكان موقفه في أنّه ينبغي تجنُّب تسييس الدين مهما كان الثمن؛ مستنداً إلى قناعته في أنّ الدين ينتمي إلى حيّز الوعي الشخصيّ الذي ينبغي أن يُحمى من التدخُّل الحكوميّ. وفي الوقت عينه كان يعي المخاطر التي تواجه المسلمين الذي يعيشون في ظلّ مختلف أنواع الأيديولوجيّات العلمانيّة المعادية لموروثها الدينيّ. وقد كان الانجذاب إلى الشيوعيّة بين الشباب الشيعة المستضعفين، واستغلال الاستعداد الثوريّ للتشيُّع من قبل القادة الشيوعيّين في العراق في الخمسينيّات، حاضرين في ذاكرة العديد من القادة الدينيّين في النجف. فكان تالياً الهمُّ الأكبر للخوئي في محاولاته العلميّة أنْ يعالج السِّمات المستجدّة في الحياة اليوميّة للمؤمنين العاديّين في العصر الحديث.
فإلى جانب نتاجاته الأكاديميّة العديدة في حقل الفقه الإسلاميّ كان البحث عن منهجيّةٍ موسّعة في استنباط الأحكام الفرعيّة (الفرعيّات) في التشريع الممارس، الأمر الذي حداه على بَدْء فَحْصٍ خلاّق للمصادر التقليديّة للتشريع الإسلاميّ.
الباب الأنسب إلى هذا البحث الفكريّ يكمن في مقاربة المصادر الإسلاميّة المتعلِّقة بالوحي، كالقرآن والسنّة النبويّة والمأثور عن الأئمّة، بنَمَطٍ يريد فكّ رموز الأصول والقواعد التي تُبنى عليها أحكام القضايا النموذجيّة الواردة في الأعمال الفقهيّة.
يتمتّع القرآن؛ كونه وحي الله، أوّليّةً في تراتبيّة المصادر المعتمدة لاستنباط الأحكام التشريعيّة. إذن فالقرآن ذو قابليّةٍ أكثر من المأثورات المرويّة لتقديم إنجازٍ منهجيٍّ يحقّق شرعيّة العرف الفقهيّ: أنّ «ما يقبله العقل يؤكِّده الوحي». «قاعدة الملازمة» هذه سمحَتْ للفقهاء باستنتاج حكمٍ على أساسٍ خالص من المنطق العقلانيّ. فلم يكن ثَمَّة سببٌ لنفي الدور الأساس للعقلانيّة في الكشف عن علل الشرائع.
ومن المهمّ ملاحظة أنّ تأويل القرآن، المعتمد لجوهره «الحيويّ» في إرشاد المؤمنين، كان يطغى عليه من قبل المأثورات التقليديّة المقيّدة، المنسوبة إلى النبيّ، وفيها حدٌّ لقدرة العقل الإنسانيّ على اكتشاف فلسفة التشريع، من خلال إصرارٍ على تقاليد سلطويّة من شأنها الكشف عن أهداف إلهيّة لصالح الإنسانيّة.
بالنسبة إلى فقهاء دينيّين كالسيد الخوئي، متجذِّرين بعمقٍ في دراسة أصول الدين التي يؤدِّي فيها العقل دوراً ذهنيّاً مهمّاً في تحديد «الحُسْن» و«القُبْح» العقليّين، كان واضحاً أنّ المناقشات الفقهيّة المعاصرة لتوضيح المراد الإلهيّ في التشريع تبقى قاصرةً، ما لم يتمّ اعتماد تأويلٍ خلاّقٍ لحجّيّة النصّ القرآنيّ في معناه الأكثر فوريّةً. فكان جهد الخوئي لتأليف تفسير للقرآن، من أجزاء عدّة، بما وعى ـ كأصوليّ متمرِّس ـ من حاجةٍ إلى معالجةٍ كالتي قدَّم.
وخلافاً لعملٍ فقهيّ آخر في تفسير القرآن، وضعه العلاّمة محمد حسين الطباطبائي (المعاصر للخوئي)، الذي كانت اهتماماته البائنة في كتابه «الميزان في تفسير القرآن» أشمل بأشواطٍ ـ متضمِّنةً كشوفاً ثيولوجيّةً وفلسفيّة وروحانيّة ولغويّة للقرآن، كانت اهتمامات الخوئي، كما يبدو من كتابه «البيان»، منصبّةً في أوّليّة اعتماد النصّ القرآنيّ لتكوين التفاسير التشريعيّة الدينيّة. هذا بالضبط ما كان كتاب «البيان» يرمي إلى تحقيقه.
التفسير القرآنيّ
كتاب «البيان في تفسير القرآن» هو من مساهمات الخوئي الأقلّ شهرةً بين أعماله العديدة الرائجة في مجال المنهج والتطبيق التشريعيّين. والسبب من وراء ذلك هو أنّه لوقتٍ طويل كان هذا المجلَّد الوحيد الذي طُبع من الكتاب. والتصاميم التي وُضعت لنشر المجلَّدات المتبقّية، التي كان يتولاّها ابن السيد الخوئي محمد تقي، الوافر العلم، يبدو أنّها سُرقت بعد وفاة محمد تقي غير المتوقَّع، إثر حادث سيّارة في العراق، صيف العام 1994.
كنتُ أستاذاً زائراً في كلّيّة الشريعة في جامعة الأردن، في العامين 1990 ـ 1991، عندما تلقَّيت رسالةً شخصيّة من السيد الخوئي من النجف، عن طريق ابنه محمد تقي، يطلب منّي القيام بالترجمة. كان ردّ فعلي الأوّلي أنّه يوجد الكثير من الأعمال عن تاريخ القرآن والقضايا الخاصّة بتأويله، باللغة الإنجليزيّة، وبالتالي سيضيف هذا الكتاب القليل جدّاً من المعطيات إلى الدراسات القرآنيّة الحديثة. لكنْ مع بَدْئي بقراءة مختصر الكتاب، الوارد في بداية كلّ فصلٍ منه، أدرَكْتُ أنّ الخوئي قد عالج الكثير من المواضيع الحسّاسة المتَّصلة، التي تنتظر تجميع النصّ الذي لقي القليل من الاهتمام في الأعمال التفسيريّة الإسلاميّة المعاصرة، وإيلاءه العناية.
يتَّضح من ملاحظة الخوئي الشخصيّة في «معجم رجال الحديث» أنّ الإصلاح في المنهج التعليميّ للنجف، في مجال الدراسات التشريعيّة، كان من مهمّات الخوئي البارزة الأولويّة. ففي هذا البرنامج الإصلاحيّ كان تعليم أكثر العلوم المتجاهَلة، المتعلِّقة بالقرآن وتأويله، موضع الضرورة الحتميّة لتدريب الجيل الجديد من المجتهدين؛ إلى جانب دعم مناهج وآليّات صارمة في التدقيق في هويّة الناقلين للـ «علوم النقليّة»، موازاةً مع مناهج جديدة للتعليم والتعلُّم في جميع مستويات الدراسات التشريعيّة.
لقد حثّ الخوئي تلاميذه على الانتباه مليّاً للقرآن، تاريخه ومناحيه السياقيّة. وما يؤكِّد هذا الأمر أنّ اهتمامه بالقرآن تأسَّس على سعيه لإيجاد منهجيّةٍ موسّعةٍ في ممارسة الفقه. مضافاً إلى ذلك أراد الخوئي أن يقدِّم مقدّمةً تعريفيّةً لتفسير القرآن من وجهة النظر الشيعيّة، ولا سيّما أنّ المادّة المتوفِّرة حول الموضوع كانت أساساً من وجهة النظر السنّيّة.
إنّ من المواضيع التي عولجت عادةً في تاريخ القرآن، ولعلّه أكثرها إثارةً للجدل، كان تعرُّض القرآن للتحريف.
تتجلّى طبيعة هذا الموضوع المثير للجدل في النبرة الانفعاليّة لمعظم الأعمال التي قدّّمها العلماء السنّة عن القرآن. ففي الجدالات بين مختلف المذاهب الإسلاميّة زعم المتطرّفون الشيعة أنّ الحكّام الجائرين حذفوا أشياء، أو أضافوا أشياء، إلى نصّ القرآن؛ لدحض الأدلّة على الحقيقة في ما يعتقد به الشيعة حيال خلافة النبيّ. كذلك بادل الطرف السنّيّ ذلك الشيعيّ باتِّهامه بالمثل، أنْ قد وضع في قراءاته للقرآن تعديلاتٍ تعسُّفيّةً، بحذف بعضه، والإقحام عليه، والكَشْف الخاطئ عن معناه الحقيقيّ.
إنّ تبادل الاتّهامات هذا عنى أنّ النبيّ قد ترك أكثر ممّا قد يوجد في القرآن.
هذه الجدالات بين الفِرَق أدّت إلى الاستنتاج المحتّم، والغاية في الخطورة على السلطة (الهيبة) المستقبليّة للكتاب المقدَّس، أنّ ثمّة موادّ مفتقدةً من القرآن كان ينبغي أن تحضر فيه، أو موادّ مضافةً إليه كان ينبغي أن تستثنى.
ومن الواضح أنّه إذا اعتقد أيّ مسلم بتعديلٍ ما على القرآن فإنّ الأمر يفسد حجيّته في حياةٍ إسلاميّة. ونتيجةً لهذا ردّ الشيعة على الحرب الكلاميّة من جهة السنّة بأخرى مثلها.
تبقى الاتّهامات ضدّ الشيعة جزءاً من الحرب الكلاميّة السنّيّة ـ الشيعيّة، التي تجلّت في العصر الحديث عبر الكتاب الكثير اللّجّ، «الشيعة والقرآن»، كتبه إحسان زاهر، ونشرته ووزَّعته السلطات السنّيّة؛ لرفض الشيعة كجزءٍ من الأمّة الإسلاميّة.
لقد تمّت تنحية مسألة تحريف القرآن في تاريخ تجميعه لما أرسي من خلق تقديس النصّ في عهد عثمان (المتوفّى عام 656م)، الأمر الذي يعتبره العلماء السنّة محسوماً. أمّا بالنسبة إلى الشيعة، الذين يدافعون بقوّة عن انتمائهم إلى الحيّز الإسلاميّ الأوسع، فأمر التحريف بعيدٌ عن كونه محسوماً. ومهما يكن، في ظلّ حرب كلاميّة كهذه تحتفظ الأغلبيّة السنّيّة بالـ «يد العليا» في تأسيس تمييزٍ ممنهج ضدّ الشيعة.
إذن ليس أن يشهر فقيهٌ كالخوئي النقاش حول التحريف ملزماً السنّة الحجّة من مصادرهم هدفاً لتثبيت الزعم الشيعيّ لأصليّة موقفهم العقيديّ حيال القرآن فحَسْب، بل هو تحدٍّ كذلك للزعم السنّيّ حيال حيازتهم للنسخة الأصليّة للقرآن.
في هذا السياق يبرز رأيٌ في بعض المأثورات الشيعيّة حيال حجم القرآن، ما يلمّح إلى أنّ «تعديلاً بالحذف» قد تمَّ فعلاً على يد السلطات السنّيّة. فعلى سبيل المثال: يتحدّث الشيعة عن حديثٍ مأثورٍ يعود إلى أيّام الإمام محمد الباقر (المستشهد عام 728م)، إذ يروى أنّ الإمام الباقر قال لأتباعه: إنّه كاذبٌ مَنْ يدّعي أنَّه جمع نصّ القرآن كاملاً، فإنّه لا أحد غير عليّ بن أبي طالب، وبعده الأئمّة من ولده، يحتفظ بالنصّ الكامل للقرآن، كما نزل على النبيّ.
يلمِّح هذا الحديث إلى أنّه توجد نسخةٌ من القرآن أكثر اكتمالاً ودقّةً من الذي بين يَدَيْ الناس. فكيف السبيل إلى التوفيق بين حديثٍ مأثورٍ من طرق الشيعة كهذا وبين الموقف العقيديّ العامّ للفقهاء الشيعة أنّ القرآن الذي بين أيدينا تامٌّ بلا نقصان؟!
يقارب الخوئي موضوع حجم القرآن، في كتابه «البيان»، بكلّ تطوُّره التاريخيّ المعقَّد. فيقدِّم أوّلاً تأويلاً مُقنِعاً حيال الأحداث والعوامل التي أدَّتْ إلى التقديس المطلق لنصّ الوحي في الإسلام، ثمّ يدرس القرّاء الأوائل للقرآن الذين من عندهم تواتر القرآن. كان ثمّة عشرة قرّاءٍ مشهورون معترَفٌ بهم من قبل السنّة كناقلين موثوقين. إنّما بالاستحكام غير العاديّ للخوئي على موادّ في حقل «علم الرجال» استطاع طرح إشكاليّة الغموض الداخليّ في سِيَرهم الذاتيّة، وادعاءاتهم حيال طرق نقل القرآن. ثمّ يدرس الخوئي طريقة قراءة القرآن المعتمَدة لدى كلٍّ من القرّاء المشهورين، محلِّلاً بعنايةٍ الفروق لغويّاً ونطقيّاً، ليوضِّح أنّه، وبخلاف زَعْمهم لسلامة النصّ المتواتر، فإنّ قراءة النصّ قد تُوورثت عن طريق «الآحاد» والتوثيق الاحتياليّ.
وقد حدَتْ الدراسة للقراءات المتعدِّدة الخوئي على تقييم أصحّيّة المعتقَد القديم لدى المؤرِّخين السنّة بأنّ نصّ القرآن قد أُوحي في سبع أحرف (لهجاتٍ). ما هي حقيقة ما يسمّى بالأحرف (اللّهجات) السبعة؟ ألم ينقل القرآن بالـ «لسان العربيّ» لأهل شبه الجزيرة العربيّة (الذين أوحي إليهم القرآن)، كما يؤكِّد القرآن؟ يكشف الخوئي، بدراسته للطريقة التي وثّق بها نقل المعتقِد بالقراءات السبع، وللتطابق الداخليّ لسياقات هذا النقل، عن أنّ هذا النقل ضربٌ من التلفيق؛ بغية برهنة الفروق ـ في القراءات المتعدِّدة ـ، القابلة لأن تكون مترابطةً عبر نقل أحاديٍّ من قبل القرّاء العشرة.
يدرس الخوئي معاني مختلفةً من التي يوظّف بها الدأب الإسلاميّ مصطلح «تعديل»، مبرزاً شواهد من تاريخ الإشكال المنوط بالنصّ، عند كلٍّ من هذه المعاني ـ الدلالات. وبعد تحقيق دقيق في هذه الدلالات يستنتج الخوئي أنّ النصّ الحاليّ للقرآن هو النصّ الذي تمّ أخذه شخصيّاً عن النبيّ نفسه، رغم ما يشتمل عليه من قراءاتٍ متفرِّقة لا تفسد الرسالة (النصّ) الأصليّة. بهذا يميِّز الخوئي بين عمليّة النقل التي تمّت تحت إشراف النبيّ الشخصيّ وعمليّات تدوينه اللاحقة في سبع قراءات في عهد الخلفاء الأوائل.
إنّ قناعة الخوئي حيال تجميع ونقل القرآن من قبل النبيّ خلال حياته تبرز ـ في مواضع عدّة في كتابه ـ، ردّاً على المعتقَد التقليديّ عند السنّة، الذي يولي الخلفاء الأوائل الفضل في تجميع وحفظ القرآن. يبدو أنّ تحليل الخوئي لنصّ المصادر التقليديّة الإسلاميّة، في غير فصلٍ من كتاب «البيان»، قد تمَّ بأسلوب يرمي إلى فهم الحقائق الكامنة، مع عنايةٍ فائقةٍ تجاه القرآن؛ بكونه كتاباً موحًى إلهيّاً، قد تمّ التعرُّض لتاريخ تجميعه بفعل الاعتبارات الأيديولوجيّة للمغرضين.
قد تأتّى أساساً تفسير القرآن من منهجٍ تاريخيّ تدرس فيه مليّاً المصادر التي تقدِّم توثيقاً دليليّاً؛ بغية التحقّق من موثوقيّتها. فكلّ دليلٍ يحلَّل بعمق للتبيّن من رسوخه الداخليّ، قبل الإقرار بكونه حجّةً مشروعةً في دعم أطروحةٍ معيّنة. فلا ريب في أنّه في كلّ هذا النشاط الفكريّ لا بُدَّ من أن يلاحظ المرء الالتزام الفقهيّ الضمنيّ للخوئي في سبيل إعادة تأكيد المصداقيّة الفكريّة للمجتهد الشيعيّ كمفسِّرٍ موثوق به للوحي الإسلاميّ. في الدوائر الفقهيّة الإسلاميّة مسألة إعادة المصداقيّة، كالتي تقدَّمت، تفرض على المؤلِّف تفنيد التهجُّمات على سلامة وكمال الوحي الإسلاميّ، سواء من داخلٍ ومن خارج.
أمّا من داخل فكان الخوئي يردّ على التفنيد السنّيّ لموقف الشيعة حيال المعتقد بالحجم الفعليّ للوحي القرآنيّ. وفي بعض الآراء الشيعيّة النادرة أنّه تمّ تعمّد طمس مقاطع معيّنة من القرآن، تتضمّن الإشادة بعليّ بن أبي طالب، من قبل القرّاء السنّة.
وأمّا من خارج فكان الخوئي يردّ على الموقف العقيديّ المسيحيّ حيال الإسلام ـ الذي أنتجته البعثات التبشيريّة (المسيحيّة) بدرجةٍ كبيرةٍ ـ، الذي يتحدّى أصل الزعم أنّ الوحي الإسلاميّ هو من عند الإله، ويرى القرآن افتراء محمدٍ.
رأى المسلمون أنّ التفسير المبنيّ على الأحاديث التي رَوَتْ تفسيرات مقاطع من القرآن هو الأكثر قبولاً بين جميع المصادر التقليديّة المعتمَدة لتأويل القرآن؛ لأنّه قد بدا منه اعتبارٌ للمعنى الجوهريّ للنصّ المدروس. لكنْ ما كان فعلاً من تعاليم النبيّ لم يكن من السهل تحديده دائماً؛ إذ غالباً ما وُجدت تأويلاتٌ متناقضةٌ للمقطع عينه. لقد مثّل الحديث اتّجاهاتٍ سياسيّة ودينيّة متعدِّدة في الأمّة. فالسنّة قبلوا بالمنقول عن رواةٍ محدَّدين من قبل السلطة، اعتبرهم السنّة موثوقين، دون غيرهم. وعلى عكس ذلك، فقد أقرّ الشيعة بالمنقول الذي يوافق وجهة نظرهم، دون غيره. فلم يُقبَل أيُّ رأيٍ إذا لم يوافق الآليّة الأيديولوجيّة المذهبيّة، كوثيقة موثوقٍ بها رأياً تفسيريّاً محدَّداً للقرآن. ونتيجةً لذلك كان التأويل المبنيّ على الأحاديث أكثر مَيْلاً إلى الاعتبارات والعصبيّات المذهبيّة، على مدى تاريخ التفسير القرآنيّ.
ومع أنّ الخوئي يعتمد الأحاديث السنّية والشيعية؛ لإثبات وجهة نظره، فإنّه يعتمد على الأحاديث السنّيّة لإبراز المشاكل التي تحيط بنقل الأحاديث وبقيمتها الدليليّة. لذا فقد اعتمد بكثافة مثلاً على المصادر السنيّة لدحض المزاعم السنّيّة القاضية بنسخ آيةٍ معيّنة، مستشهداً بأدلّة ساقها من قلب الأحاديث السنّيّة، في طور مناقشته التفصيليّة لمشكلة تحديد الناسخ والمنسوخ من آيات القرآن.
ويتيح له موضوع النسخ كذلك فرصة تقديم الآراء الشيعيّة المساقة من المقاطع عينها التي يعتبرها السنّة منسوخةً.
إذن سعى الخوئي وراء إثبات واقع أنّ الأحكام الشرعيّة السنّيّة حيال قضايا دقيقة في مجال العلاقات الإنسانيّة، المتعلِّقة بعقوبة الإعدام، والحرب العدائيّة، وشرعيّة الطلاق ثلاثاً، وعدم شرعيّة الزواج المؤقَّت، كانت مستقاةً من أحاديث تزعم نسخ المقاطع القرآنيّة التي تتعاطى بهذه القضايا.
وما تقدّم في نقد الخوئي يشكّل همّاً منهجيّاً أساسيّاً في هذا المجال: فهل يمكن أن يصبح الحديث مصدراً للنسخ القرآنيّ؟ وقد نوقش هذا السؤال بين العلماء المسلمين؛ لما يترتّب عليه من فهم مكانة القرآن أمام الأحاديث.
مهما يكن فإنّ هدف الخوئي المبرّر من طرح السؤال النظريّ هو إيضاح شرعيّة بعض الأحكام ـ حول الزواج المؤقَّت مثلاً ـ، المستقاة ممّا يُسمّى الآيات المنسوخة، بعد إجراء تقييم فقهيّ صارم لمصادر الأحاديث المعتمدة لدى العلماء السنّة دليلاً على النقيض لما هو حقيقة الآيات (وهي أنها ليست منسوخة).
الأهمّية الفقهيّة للتفسير
كان الخوئي فقيهاً أساساً. تجلّى اهتمامه بالقرآن في اكتشاف العلاقة بين الرسالة السماويّة والتفسيرات الاجتماعيّة وحالات إنسانيّة أخرى، من خلال المعرفة التاريخيّة للغة القرآن ومَنْ تكلّم بها. وبالرغم من أنها بدرجةٍ كبيرة عملاً في مجال التاريخ فإنّه ثمّة إقراراً ضمنيّاً في كتاب «البيان» بأنّ فهم التنوّع والاختلاف بين التفسيرات الإسلاميّة يقتضي فهماً للقوى السياسيّة والاجتماعيّة التي أثَّرت في تأويلها لأسباب النزول. هذه التأويلات بدورها كانت متحرِّكةً في خطّ مواقف واضحة حيال المعتقد، للمعلّقين المنخرطين في قراءة استعلامات عقيديّةٍ وفقهيّة معيَّنة حيال معاني القرآن.
المثل الأفضل في هذا المجال مقدَّم في معالجة الخوئي لقضيّة نسخ بعض الآيات التي ثبَّتت الزواج المؤقَّت في القرآن. إنّ الطبيعة المتحيِّزة لأيّ مشروعٍ تاريخيّ مرسّخةٌ كعاملٍ أساسٍ في اهتمام الخوئي المتواصل في الكشف عن فهم المعلِّقين الأوائل للآية التي تتعلَّق بمؤسَّسة الزواج المؤقَّت، المختلف على شرعيّتها في المجتمع المسلم.
يؤكّد الخوئي خلفيّةً مهمّةً في مقاربة القرآن كمصدر حيويّ للإرشاد الخلقيّ والروحيّ، وهي أنّه ثمّة حاجةً دائمة إلى تفسير الإطار التاريخيّ للوحي؛ للكشف عن المبادئ المعمول بها في تطوير المجتمع المسلم، وحيِّزه التشريعيّ والخلقيّ الدائم الاتّساع.
يبرز كتاب «البيان» ضمن تاريخ طويل وخلاّق من تطوير التفسير القرآنيّ في الإسلام، في العمليّة الفكريّة الهادفة إلى تقديم مبادئ تفسيريّةٍ للبحث عن سوابق تاريخيّة، واستخراج المبادئ العقيديّة والفقهيّة من مصادر محدَّدة في القرآن، ذات صلةٍ بأوضاع معاصرة.
(*) مفكِّرٌ عالمي متخصِّص في الفكر الإسلامي، وأستاذ الأديان في جامعة فيرجينيا.