الشيخ علي الكوراني العاملي
1- الموضوعية في بحث حقوق الإنسان
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً). (النساء: 135).
أول ما يجب على الباحث في حقوق الإنسان ، أن يكون منصفاً صادقاً ، فلا يظلم الإنسان بتضخيم عناصر الإيجاب في مراعاة حقوقه ، والتقليل من انتهاك الظالمين لها ، كما يفعل بعض الباحثين فيصورون أن حقوق الإنسان مصانة ، عند أهل الأديان والقوانين ، أو في سياسات الدول والحكام ، في التاريخ أو الحاضر !
لذلك ، يجب علينا الإعتراف بأن مجتمعنا العالمي في الماضي والحاضر مليئ بالظلم ونقض حقوق الإنسان ، وأن (قانون الغلبة والقوة والقهر) هو المسيطر من أقدم العصور ، وأن مجتمعات الشعوب قامت على التمييز الحاد ، القومي والقبلي والطبقي !
فالظلم عند الإنسان هو الأصل ، والعدل استثناء ! وهذه الإستثناءات وإن كانت صغيرة في مساحة كل التاريخ، لكنها واحات ظليلة في هجير الظلم ، ومصابيح منيرة في ظلمات العدوان !
وحتى لا نقع في الخطأ ، لا بد أن نفصل بين النظرية والتطبيق ، سواء في الأديان والقوانين ، فننظر في حقوق الإنسان في مصادر الإسلام ثم في تطبيقات الحكام لها ، ومصادر اليهودية وتطبيقاتها، ومصادر المسحية وتطبيقاتها ، وكذلك القوانين وتطبيقاتها .
ولا بد أن نضيف الى ذلك عاملين هما: حالة المجتمع وقدرته في الرقابة على الحكومة ، ومنعها من انتهاك حقوق الإنسان ، أو الإفراط فيها . والثاني ، المقومات الفكرية والأخلاقية للحاكم ومنفذي القوانين . لذلك نفرد عناوين هذه الموضوعات .
2- نظرية الإسلام في حقوق الإنسان
إذا نظرنا الى وضع حقوق الإنسان في عصر النبي’في العالم وفي جزيرة العرب، نجد أن المجتمع العالمي كان يقوم على امتيازات القوة والمال والقبيلة والنسب واللون ، فجاء القرآن بميزان جديد لتقييم الإنسان بالعلم والعمل، وأعلن أن كرامة الانسان بالتزام القانون الإلهي ، وكفِّ عدوانه عن الآخرين ، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). (الحجرات: 13) .
وكان المجتمع يسترخص قتل الإنسان ويفتخر بسفك الدماء ، فشدد القرآن على ضمان حياة الانسان ، فقال تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً ) . (الإسراء: 33).
وقال: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ). (المائدة:32) .
وقد بلغت قسوة مجتمع الجزيرة أنهم كانوا يتشاءمون من البنت: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ ). (النحل: 58) وكان بعضهم يقتلون بناتهم خوفاً من سبيهن! فاستنكر الإسلام ذلك وحرَّمه ووبخهم عليه فقال: (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ . بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ). (التكوير: 8-9).
وفرض أداء الأمانة لجميع الناس وحرم الخيانة ، فقال: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً . (النساء: 58) .
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ). (لأنفال: 27) .
وأمر بالوفاء بالعهود والعقود وجعله من الإيمان فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ . (المائدة: 1) . وقال: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ..وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ .(المؤمنون: 8) .
وأمر أتباعه بكل حسن معروف ونهاهم عن كل منكر ، ودعا الى تكوين المدينة الفاضلة التي تقوم على القيم والفضائل ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ . (آل عمران: 110) .
وبذلك كان الإسلام بعقيدته وشريعته مداً حضارياً ، دعا الى احترام الإنسان وحقوقه ، ومساواة الجميع أمام الله والشرع ، وشدد على تحريم أنواع الإعتداء على النفس والملكية والكرامة .
الأصول الحقوقية في الإسلام
قامت حقوق الإنسان في الإسلام على أصول حقوقية متعددة:
منها: تكريم الله للإنسان وتسخير الطبيعة له ، كما في قوله تعالى:
(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) . (الاسراء: 70) .
(وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). (الجاثـية: 13) .
(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ). (لقمان: 20) .
ومنها: أن حق ملكية الأرض والحكم فيها ، يقوم على أصل أنها مخلوقة مملوكة لله تعالى وقد ملَّكها لآدم×وذريته بشرط فكري هو الإيمان ، فمن فقد هذا الشرط فلا حق له في ملكية الأرض وحتى في السكن فيها إلا بأجرة ، ومن هنا إذا بعث الله نبياً× يسمى ما يسترجعه من الآخرين ولو بالقوة (فيئاً) لأنه حق فاء الى أهله ورجع ، فإن شارك فيه المسلمون بقتال فهم شركاء فيه مع النبي’، وإلا فهو خالص للنبي’، قال الله تعالى: (وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) . (الحشر: 6-7) .
وعليه فإن الأصل الفقهي لحقوق الإنسان الطبيعية ، هو عمومات مادل على تكريمه وتسخير ما في الأرض له ، ثم ما دل على تمليك الأرض للأنبياء^والمؤمنين .
الإشكال على الإسلام بأنه شرع التمييز في حقوق الإنسان
أشكل بعضهم على الإسلام بأنه يميز بين أتباعه وغيرهم في كثير من الحقوق ، ومنها الحقوق السياسية ، حيث اشترط في الحاكم أن يكون مسلماً ، وأوجب على غير المسلم أن يعطي الجزية ، وجعل ديته أقل من دية المسلم ، كما ميز بين المرأة والرجل فجعل سهمها من الإرث وديتها أقل من الرجل..الخ.
والجواب: أولاً ، أن هذه الظاهرة لاتختص بالإسلام ، فاليهودية والمسيحية تتبنيان هذا التمييز ، تبعاً للأصل الحقوقي في عقيدتهما .
والإسلام كغيره من الأديان ميز أتباعه المسلمين عن غيرهم في بعض الحقوق ، وشدد على حقوق المسلم ، وحرم دمه وماله وعرضه ، وجعل لها قوانين حقوقية وجنائية وجزائية .
لكنه امتاز عن الأديان الأخرى بأنه جعل هذه الحقوق بدرجة كبيرة تشمل أهل الكتاب الذين يعيشون في الدولة الإسلامية ، بينما تلغي الديانة اليهودية حقوق غير أتباعها ، وتشبهها المسيحية .
وثانياً، الأصل الحقوقي لهذا التمييز ، أن خالق الأرض ومالكها هو الله تعالى ، وقد أمر نبيه’أن يدعو العالم الى الإسلام فمن أسلم فله ما للمسلمين وعليهم وما عليهم ، ومن لم يسلم فإن كان من الوثنيين والملحدين وجب قتاله حتى يسلم ، وإن كان من أهل الكتاب أي اليهود والنصارى والمجوس والصابئة ، فهو مخير بين الإسلام والجزية والحرب ، والجزية تعني اتفاقية تعايش تحت حكم الدولة الإسلامية ، أودفع ضريبة المواطنة ، أوضريبة الجندية ، أو أجرة السكن في الأرض ، كما فسرتها بعض الأحاديث .
وفي هذه المواضيع بحوث مفصلة ، ونكتفي بالإشارة الى أن الأصل العقائدي وحده يكفي جواباً عليها، فما دام ثبت أن الله تعالى خالق الخلق ومالكهم ، الحكيم بالمطلق ، والعليم بالمطلق ، الذي لايحتاج الى ظلم أحد ، ولا يأمر بشئ إلا لمصلحة الإنسان ، وقد أمر بذلك فلا بد أن يكون لمصلحة الإنسان ، ولو لم نعرف وجهه .
على أنا ندرك سبب بعض التمييزات كالإرث للمرأة حيث جعل الإسلام كل النفقة والمهر على الرجل ، ومع ذلك أعطى المرأة نصف سهم الرجل لمصارفها الإضافية .
~ ~
3- التطبيق النبوي للنظرية الإسلامية
كانت سيرة النبي’العملية تطبيقاً أميناً لهذه النظرية ، داخل المجتمع الإسلامي الذي أنشأه ومع مخالفيه وأعدائه ، حيث عاملهم بإنسانية عاليه . فكانت سيرته العملية’تطبيقاً لكلام ربه وكلامه ، فلا تجد عنده فرقاً بين النظرية والتطبيق أبداً .
ويكفي أن تعرف أن النبي’استطاع في مدة قياسية أن ينشئ مداً حضارياً إنسانياً وسياسياً عالمياً ، وخاض من أجل ذلك حروباً متعددة ، وشملت دولته الجزيرة واليمن والخليج ، الى مشارف الشام والأردن ، فكان عدد القتلى من الطرفين في كل هذه الحروب589 شخصاً فقط كما حسبه بعضضهم ، وهذا لانظير له في التاريخ !
ونلاحظ أنه’كان معنياً كل حياته بترسيخ مبادئ حقوق الإنسان في فكر أمته ووجدانها ، وقد أكد عليها في خطبه في حجة الوداع ، وأحاديثه بعدها حتى لقي ربه عز وجل . وهذه نماذج منها:
في تحف العقول لابن شعبة الحراني&/30: قال’: (أما بعد: أيها الناس، إسمعوا مني ما أبين لكم ، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا .
أيها الناس: إن دماءكم وأعراضكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد . فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها . وإن ربا الجاهلية موضوع ، وإن أول رباً أبدأ به ربا العباس بن عبد المطلب . وإن دماء الجاهلية موضوعة ، وإن أول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب . وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية ، والعمد قَوَدٌ ، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير ، فمن ازداد فهو من الجاهلية .
أيها الناس: إن لنسائكم عليكم حقاً ولكم عليهن حقاً…أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكتاب الله، فاتقوا الله في النساء ، واستوصوا بهن خيراً .
أيها الناس: إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ، كلكم لآدم وآدم من تراب ، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ . وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى ، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم . قال: فليبلغ الشاهد الغائب) .
وفي تفسير القمي: 1/171: ( فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ، إلى يوم تلقون ربكم ، فيسألكم عن أعمالكم . ألا هل بلغت أيها الناس؟ قالوا: نعم . قال: اللهم اشهد ).
وفي صحيح بخاري: 5/126: (فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ، وستلقون ربكم فسيسألكم عن أعمالكم . ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض ).
وفي مجمع الزوائد: 3/265: (أيها الناس: إن النساء عندكم عَوان ، أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله…لا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما طابت به نفسه ). انتهى.
وقد تضمنت هذه الخطب مبادئ المساواة ، والوحدة الإنسانية بين البشر ، وإلغاء التمايز القومي ، ومبدأ حسن معاملة النساء وعدم ظلمهن . كما تضمنت أساس وحدة الأمة الإسلامية في ست نقاط:
أ- إلغاء آثار الجاهلية ومآثرها وتشريعاتها المخالفة للإسلام .
ب- الأخوة والتكافؤ بين المسلمين .
ج- احترام الملكية الشخصية ، وتحريم مال المسلم على غيره .
د- احترام حياة المسلم ، وتحريم دم المسلم على غيره .
هـ- احترام أعراض المسلمين وكرامتهم ، وتحريمها على بعضهم .
ز- من قال لا إله إلا الله ، فقد عصم ماله ودمه .
وقد طبق النبي’هذه المبادئ والقوانين في حقوق الإنسان وحرياته ، وكانت أعماله تأسيساً وتعويداً للمجتمع على احترامها .
4- السلطة بعد النبي’وحقوق الإنسان
تأخذك الدهشة عندما ترى أن منظومة حقوق الإنسان وقوانينها انتهت بمجرد أن أغمض النبي’عينيه ! وأن السلطة الجديدة استعملت بعد ساعة من وفاته’قانون الغلبة والقهر في السقيفة ضد الأنصار ، وهموا بقتل سعد بن عبادة زعيم الأنصار ، فكان ذلك انتهاكاً قرشياً فظيعاً لحق الإنسان في نظام الحكم وتقرير المصير !
ثم استعملت قريش وجمهورها من الطلقاء ، نفس قانون الغلبة والقهر ضد بني هاشم ومن معهم من المهاجرين والأنصار الذين امتنعوا عن البيعة ، فهاجموهم في بيت علي وفاطمة‘ ، رغم أنهم كانوا في عزاء بوفاة النبي’وكانت جنازته مسجاة لم تدفن بعد ! وهددوهم بإحراق البيت عليهم إن لم يبايعوا ! ولما تأخروا عن الخروج جمعوا الحطب على باب الدار وأحرقوه بالفعل !
لقد تلقت حقوق الإنسان ضربة قاصمة وانقلبت مئة وثمانين درجة في مسألة الحكم ، وكان ذلك من كبار أصحاب النبي’القرشيين ضد عترته أهل بيته^! فكيف ننتظر أن تطبق منظومة حقوق الإنسان في المسائل الأصغر من الحكم ، ومع الناس الأقل مكانة؟!
تتعجب وأنت تقرأ تاريخنا الإسلامي عندما تجد أن الخلافة الإسلامية قامت من أساسها على القهر وإجبار المسلمين على بيعة من ارتضاه طلقاء قريش وسموه خليفة النبي’ ! وأنه بدأ عهده بتهديد سعد بن عبادة بالقتل ، ومهاجمة بيت النبوة لإجبارهم على بيعته بحد السيف أو إحراق بيتهم عليهم !
وقد روت ذلك مصادر الشيعة والسنة ، ومنهم ابن قتيبة السني في كتابه الإمامة والسياسة/30 ، قال: ( إن أبا بكر أُخبر بقوم تخلفوا عن بيعته عند علي فبعث إليهم عمر بن الخطاب فجاء فناداهم وهم في دار علي وأبوا أن يخرجوا ، فدعا عمر بالحطب فقال: والذي نفس عمر بيده لتخرجن أو لأحرقنها عليكم على ما فيها ! فقيل له: يا أبا حفص إن فيها فاطمة ! فقال: وإن !! فخرجوا وبايعوا إلا علياً، فزعم أنه قال: حلفت أن لا أخرج ولا أضع ثوبي عن عاتقي حتى أجمع القرآن، فوقفت فاطمة على بابها فقالت: لاعهد لي بقوم حضروا أسوأ محضراً منكم! تركتم جنازة رسول الله ’بين أيدينا، وقطعتم أمركم بينكم ، لم تستأمرونا ، ولم تروا لنا حقاً ! فأتى عمر أبا بكر فقال له: ألا تأخذ هذا المتخلف عنك بالبيعة ؟ فقال أبو بكر: ياقنفذ وهو مولى له ، إذهب فادع علياً ، قال: فذهب قنفذ إلى علي فقال: ما حاجتك؟ قال: يدعوك خليفة رسول الله . قال علي×: لسريع ما كذبتم على رسول الله !! فرجع قنفذ فأبلغ الرسالة قال فبكى أبو بكر طويلاً ! فقال عمر الثانية: لا تمهل هذا المتخلف عنك بالبيعة . فقال أبو بكر لقنفذ: عُدْ إليه فقل: أمير المؤمنين يدعوك لتبايع، فجاءه قنفذ فنادى ما أمر به، فرفع عليٌّ صوته فقال: سبحان الله لقد ادعى ما ليس له ! فرجع قنفذ فأبلغ الرسالة قال: فبكى أبوبكر طويلاً ! ثم قام عمر فمشى ومعه جماعة حتى أتوا باب فاطمة فدقوا الباب فلما سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها باكية: يا رسول الله ماذا لقينا بعد أبي من ابن الخطاب وابن أبي قحافة؟! فلما سمع القوم صوتها وبكاءها انصرفوا باكين ، فكادت قلوبهم تتصدع وأكبادهم تنفطر ، وبقي عمر معه قوم فأخرجوا علياً فمضوا به إلى أبي بكر فقالوا له: بايع ، فقال: إن لم أفعل فمَهْ ؟ قالوا: إذا والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك ! قال: إذا تقتلون عبدالله وأخا رسوله . قال عمر: أما عبد الله فنعم ، وأما أخو رسوله فلا ! وأبو بكر ساكت لا يتكلم ! فقال عمر: ألا تأمر فيه بأمرك ! فقال: لا أكرهه على شئ ما كانت فاطمة إلى جنبه . فلحق عليٌّ بقبر رسول الله (ص) يصيح ويبكي وينادي: ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي ) ! انتهى.
نعم لابد للباحث أن يعترف بأن مبادئ حقوق الإنسان في الإسلام قد ماتت بموت النبي’ ! وحكم بدلها منطق القبيلة ، بالقهر والجبر والمسارعة الى قتل صاحب الرأي الآخر ، بل صاحب التفكير الآخر ! اللهم إلا ما بقي منها بتطبيق أهل بيته^، وبفعل رقابة المجتمع ، عندما يستطيع الإطلاع على المشكلة ويفهمها ، ويكون له الجرأة على الفعل والتأثير فيها .
5- الفتوحات الإسلامية وحقوق الإنسان
طبَّلَ المستشرقون وغيرهم في انتقاد الإسلام بأنه فتح بلاد الناس بالقوة وأجبر أهلها على الإسلام ، وقد ضَعُفَ بعض المسلمين أمامهم فأجابوا بأن حروب الإسلام كانت دفاعية وليست هجومية .
والجواب الصحيح: التذكير أولاً بالأصل العقائدي في الإسلام ، فما دمنا نؤمن بأن الإسلام وحي الله تعالى العادل الحكيم ، على رسوله الصادق الأمين’ ، وما دام ثبت أنه عز وجل أمر بدعوة العالم الى الإسلام ، وأجاز للمسلمين فتح أمبراطورية الفرس والروم وإزالة نظام الحكم فيهما لفتح المجال لأهلها للدخول في الإسلام ليكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم.. فأي مانع حقوقي أو منطقي من ذلك ، ومن الذي يعترض على تصرف الله في ملكه؟!
وثانياً ، هناك عنصر لا بد من أخذه بعين الإعتبار في بحث فتوحات المسلمين للعراق وإيران وبلاد الشام ومصر وأفريقيا ، وهي معظم الفتوحات الإسلامية إن لم تكن كلها.. وهو أن موقف الشعوب المستعمرة في كثير من البلاد المفتوحة كان مشجعاً للمسلمين ، وقد وصل أحياناً الى دعوتهم لإسقاط الحكم الروماني وتسلم حكم البلاد بدلهم ، فلا ننس أن معظم أهل سوريا وفلسطين والأردن ، وقسماً من أهل العراق ومصر ، كانوا عرباً ، وكان الروم غرباء عنهم ظالمين لهم ، ولذلك انسحب الجيش الرومي بعد هزيمته في هذه البلاد ، الى بلاده بيزنظة وأوروبا .
وعنصر آخر ، أن الفاتحين المسلمين كانت فيهم صفات إيجابية جعلتهم في نظر أهل البلاد (أرحم أمة فاتحة) واتصف بعض الجنود بمناقبية إنسانية ، من أمثلتها أنهم عندما فتحوا مصر رأوا حمامة بنت عشها على خيمة من خيام معسكرهم ، ولما رحلوا تركوا لها الخيمة حتى لا يخرب عشها ، وسموا الخيمة بالفسطاط ، ثم سموا المدينة التي بنوها هناك باسم الخيمة(فسطاط مصر). (معجم البلدان: 4/264).
ومع ذلك، ومع غض النظر عن مقارنة الفتوح الإسلامية ب(فتوح) الأمم الأخرى، فلا بد أن نعترف بأن الفتوحات الإسلامية تضمنت كثيراً من التجاوزات والتعديات على حقوق الإنسان ، في الأملاك والأرواح ، الأمر الذي دعا أكثر فقهاء مذهب أهل البيت^الى القول بأن الفتوحات لم تكن شرعية ، لأنها تحتاج الى إذن الإمام المعصوم×ولم يثبت عندهم أن علياً×أجازها في زمن أبي بكر وعمر وعثمان ، ولا أجاز الأئمة^ما وقع بعدها من فتوح .
لكن بعض علماء الشيعة قالوا إن أمير المؤمنين×أجاز فتوح العراق وفارس والشام ومصر ، وأدارها ، لكنه لا يتحمل انتهاكات حقوق الإنسان فيها ، لأن إدارتها الكاملة لم تكن بيده× .
6- انتهاك الحكام بعد النبي’لحقوق الإنسان
في بلاد المسلمين والبلاد المفتوحة
قامت سياسة الحكام من غير أهل البيت النبوي^، على مصادرة حقوق الإنسان المسلم والمعاهد ، وقد أوردنا في المجلد الثاني من كتاب ألف سؤال وإشكال/455 مسألة165، فصلاً بعنوان: (صور من قسوة الحكام التي أرادوا تبريرها بنسبتهم القسوة والمُثْلة الى النبي’) ! وذكرنا فيه أن الإمام محمد الباقر×كشف أن أنس بن مالك كذب على رسول الله’ليبرِّرَ للحكام انتهاك حقوق الإنسان ، وتعذيب من خالفهم من المسلمين، فقال إن النبي’ عذب شخصاً ودقَّ مساميرَ في يده بالحائط ! روى الصدوق&في علل الشرائع: 2/541 ، قول الإمام الباقر×: ( إن أول ما استحل الأمراء العذاب لكذبة كذبها أنس بن مالك على رسول الله’أنه سمَّر يد رجل إلى الحائط ، ومن ثم استحل الأمراء العذاب) ! انتهى.
وهذا يضع يدنا على السبب في حرص رواة السلطة في مصادرهم على نسبة قسوة القلب والضرب والتعذيب والمُثْلة الى النبي’ ، فكل ذلك من مكذوباتهم لتبرير سلوك خلفائهم القرشيين !
وفيما يلي نماذج من انتهاكاتهم من عصور مختلفة:
2- أحرق أبو بكر شخصاً أو اثنين بالنار، وأفتى له أبو موسى الأشعري ومعاذ بن حبل بأن ذلك حلال ! قال ابن كثير في النهاية: 6/352: (بعث به إلى البقيع، فجمعت يداه إلى قفاه وألقي في النار ، فحرقه وهو مقموط)! وفي فتح الباري: 12/243: (وفي رواية الطبراني التي أشرت إليها: فأتى بحطب فألهب فيه النار ).وتاريخ الطبري: 2/492 ، وابن الأثير: 2/146 ، وقال اليعقوبي في تاريخه: 2/134: (وحرق أيضاً رجلاً من بني أسد يقال له شجاع بن ورقاء ).انتهى.
~ ~
وقد اشتهرت قسوة عمر بن الخطاب قبل الإسلام ، فقد كان يعذب ابن عمه لأنه أسلم (بخاري: 8/56) ، وكان يضرب جارية سوداء لبني مؤمل(حتى إذا ملَّ قال: إني أعتذر إليك ! إني لم أتركك إلا ملالة ! فتقول: كذلك فعل الله بك) ! (ابن هشام: 1/211).
4- واستمرت هذه الحالة بعد إسلامه: (فسمع نساء يبكين فزبرهن عمر ، فقال رسول الله’: يا عمر دعهن فإن العين دامعة ، والنفس مصابة، والعهد قريب). (المستدرك: 1/381 ).
5- وفي خلافته ضرب قريبات خالد بن الوليد ، وفيهن ميمونة زوجة النبي’: (فجعل يُخرجهن عليه وهو يضربهن بالدرة فسقط خمار امرأة منهن فقالوا: يا أمير المؤمنين خمارها ! فقال: دعوها فلا حرمة لها ) ! (كنز العمال:15/730) .
6- ورغم أن أبا بكر مات مسموماً فلم يفتح عمر ملف قتله ، وضرب أخته وقريباته وفيهن عائشة لأنهن أقمن مجلس نوْحٍ عليه: (لما توفي أبو بكر أقامت عليه عائشة النوح فأقبل عمر بن الخطاب حتى قام ببابها ، فنهاهن عن البكاء على أبي بكر فأبين أن ينتهين فقال عمر لهشام بن الوليد: أُدْخُل فأَخرج إليَّ ابنة أبي قحافة أخت أبي بكر! فقالت عائشة لهشام حين سمعت ذلك من عمر: إني أحرِّج عليك بيتي فقال عمر لهشام: أدخل فقد أذنت لك ، فدخل هشام فأخرج أم فروة أخت أبي بكر إلى عمر فعلاها الدرة) .(تاريخ الطبري: 2/614 ، وكنز العمال: 15/730) .
7- وكان الصحابة يخافون منه الى حد الرعب ! (بينما عمر يمشي وخلفه عدة من أصحاب رسول الله وغيرهم ، بدا له فالتفت فما بقي منهم أحداً إلا سقط إلى الأرض على ركبتيه) !(تاريخ المدينة: 2/681).
8- وكان له شاربان كبيران ، فدعا الحجام ليأخذ منهما فتنحنح: (فأحدث الحجام ، فأعطاه أربعين درهماً ). (تاريخ المدينة: 2/683)
9- (مرَّ برجل يكلم امرأة على ظهر الطريق فعلاه بالدرة فقال له الرجل: يا أمير المؤمنين إنها امرأتي! قال: فهلا حيث لايراك الناس) ! (كنز العمال: 5/462) .
10- ومزق ثياب رجل لأنها ناعمة ! ( دخل على عمر وعليه ثوب ملالاً، فأمر به عمر فمزق عليه فتطاير في أيدي الناس) ! (مصنف عبد الرزاق:11/80 ).
11- وكان رجل يصلي مقابل آخر فضربه وهو يصلي ! (رأى رجلاً يصلي إلى وجه رجل فعلاهما بالدرة ). (مبسوط السرخسي: 1/38)
12- ( أن أعرابياً شرب نبيذاً من إداوة عمر فسكر فأمر به فجلد ! فقال: إنما شربت هذا من إداوتك! فقال: إنما أجلدك على السكر ) ! ( لسان الميزان: 3/27)
13- وضرب طفله الصغير لأنه فرح بثيابه ! ( دخل ابنٌ لعمر بن الخطاب عليه وقد ترجل(مشَّط شعره) ولبس ثياباً ، فضربه عمر بالدرة حتى أبكاه ! فقالت له حفصة: لم ضربته؟ قال: رأيته قد أعجبته نفسه فأحببت أن أصغِّرها إليه) !! (مصنف عبد الرزاق: 10/ 416)
14- وبرَّر ضربه لزوجته بأن النبي’قال: إضربوا نساءكم ولا تسألون عن ذلك ! ( الأشعث بن قيس قال: ضِفْتُ عمر ليلةً ، فلما كان في جوف الليل قام إلى امرأته يضربها فحجزت بينهما . فلما أوى إلى فراشه قال لي: يا أشعث إحفظ عني شيئاً سمعته عن رسول الله: لايسأل الرجل فيمَ يضرب امرأته ) ! (ابن ماجة: 1/639).
15- وأمر عامله بتخريب مدينة ثم ضربه لأنه نفذ أمره ! (كتب لعمير بن سعد عهداً بأن يخرب عرب سوس إذا لم يستجيبوا لشروطه ، فلما خربها بعد سنة علم عمر بذلك فضربه بالدرة ، فدخل عليه عمير منفرداً وطلب منه عهده الذي كتبه اليه ! فقال عمر: رحمك الله فهلا قلت لي ذلك وأنا أضربك ؟ قال: كرهت أوبخك يا أمير المؤمنين ) ! (بغية الطلب:1/332) .
16- وضرب زعيم ربيعة لأن شخصاً قال: هذا سيد ربيعة ! (كان قاعداً وفي يده الدرة والناس عنده فأقبل الجارود ، فلما أتى عمر قال له رجل: هذا سيد ربيعة فسمعها عمر وسمعها الجارود وسمعها القوم ، فلما دنا الجارود من عمر خفقه بالدرة على رأسه ! فقال الجارود: بسم الله ، مه يا أمير المؤمنين؟ قال: ذلك ! قال: أما والله لقد سمعتَها وسمعتَ ماقال الرجل، قال: فمه؟ قال: خشيت أن يخالط قلبك منها شئ فأحببت أن أطأطئ منك) ! (تاريخ المدينة: 2/690) .
17- وضرب كبير الأنصار وشيبتهم لأن بعض الناس مشوا خلفه ! ( أتينا أبيَّ بن كعب لنحدث إليه فلما قام قمنا ونحن نمشي خلفه ، فرهقنا عمر فتبعه فضربه عمر بالدرة ! قال فاتقاه بذراعيه فقال يا أمير المؤمنين ما تصنع؟ قال: أو ما ترى ، فتنة للمتبوع مذلة للتابع) ! (سنن الدارمي: 1/132) .
18- وأرسل في إحضار امرأة فخافت وأسقطت جنينها !(بعث إلى امرأة مغيبة (زوجها غائب) كان يُدخل عليها(أي يدخل الى بيتها بعض الرجال) فقالت: يا ويلها مالها ولعمر ! فبينا هي في الطريق إذا فزعت فضربها الطلق فألقت ولداً ، فصاح الصبي صيحتين فمات ! فاستشار عمر أصحاب النبي(ص) فأشار بعضهم أن ليس عليك شئ إنما أنت وال ومؤدب ، وصَمَتَ عليٌّ فأقبل عليه عمر فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأ رأيهم ، وإن كانوا قالوا في هواك فلم ينصحوا لك ، إن ديته عليك لأنك أفزعتها فألقته) ! (المغني:9/579).
19- وكان يجبر الجواري على التهتك ويضربهن إذا تستَّرن ! (كان إذا رأي جارية متقنعة علاها بالدرة وقال: ألقي عنك الخمار يادفار، أتتشبهن بالحرائر). (المبسوط:1/212، والدفار: مُنْتنة الفرج بالدود)! (كنَّ إماء عمر يخدمننا كاشفات عن شعورهن تضرب ثديهن)! (سنن البيهقي:2/227 وابن أبي شيبة:2/82 ، والخطيب:10/303 ، وصححه الألباني في إرواء الغليل:6/203).
20- وأفرط في تعذيب صبيغ التميمي لأنه سأل عن تفسير آية ! ففي سنن الدارمي: 1/54: ( فجعل يسأل عن متشابه القرآن… فأرسل عمر الى رطائب من جريد فضربه بها حتى ترك ظهره دَبِرَة ثم تركه حتى برأ ثم عاد له ! ثم تركه حتى برأ فدعا به ليعود له ! فقال صبيغ: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً… وفي رواية: ثم أمر به فضرب مائة وجعل في بيت، فلما برأ دعاه فضربه مائة أخرى! وحمله على قتب وكتب الى أبي موسى الأشعري: إمنع الناس من مجالسته…كتب عمر بن الخطاب الى أبي موسى الأشعري أن لا يجالس صبيغاً وأن يحرمه عطاءه ورزقه… رأيت صبيغ بن عسل بالبصرة كأنه بعير أجرب… قال الشافعي في تحريم الكلام والبحث العلمي: حكمي في أهل الكلام حكم عمر في صبيغ ! أن يضربوا بالجريد ويحملوا على الإبل ويطاف بهم في العشائر والقبائل وينادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على علم الكتَّاب)! (راجع تفصيله في تدوين القرآن/243) .
~ ~
21- أجبر معاوية المسلمين على بيعة ابنه يزيد: ( فكتب إلى أهل الأمصار أن يقدموا عليه فقدم عليه قوم من أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل مكة والمدينة وأهل مصر والجزيرة ومن جميع البلاد).. وأحضر خطيباً إسمه يزيد بن المقنع الكندي فجرد سيفه وقال:
( أيها الناس إن أمير المؤمنين هذا وأشار بيده إلى معاوية ! فإذا مات فوارث الملك هذا وأشار بيده إلى يزيد ! فمن أبي فهذا ! وأشار بيده إلى السيف ! فقال له: أجلس فأنت سيد الخطباء ) ! (الكامل:3/352 ، والمستطرف:1/138 ، والعقد الفريد: /1082 ، والبيان والتبيين/ 140 ، ونهاية الإرب/4466 ، وفتوح ابن الأعثم:4/333 راجع: جواهر التاريخ:3/346).
22- أوصى ابنه يزيد أن يقطِّع ابن الزبير إرباً إرباً ! (لما مرض مرضته التي هلك فيها دعا ابنه يزيد فقال: يا بني إني قد كفيتك الرحلة والرجال، ووطأت لك الأشياء وذللت لك الأعزاء وأخضعت لك أعناق العرب ، وإني لا أتخوف أن ينازعك هذا الأمر الذي أسسته إلا أربعة نفر ، الحسين بن علي ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الرحمن بن أبي بكر… وأما الذي يجثم لك جثوم الأسد ويراوغك روغان الثعلب وإذا أمكنته فرصة وثب فذاك ابن الزبير، فإن هو فعلها بك فقدرت عليه فقطعه إرباً إرباً)! (النهاية: 8/123).
23- وفرض الأمويون التجنيد ، وإلا فالتنُّور ! ( بشر بن مروان بن الحكم كان إذا ضرب البعث على أحد من جنده ثم وجده قد أخل بمركزه أقامه على كرسي ثم سمَّر يديه في الحائط ثم انتزع الكرسي من تحت رجليه فلا يزال يتشحط حتى يموت) ! (تاريخ دمشق:10/256)
24- ويفتخر المتعصبون لخلافة الطلقاء بعصر الخليفة هارون الرشيد ويعتبرونه قمة ازدهار الحضارة الإسلامية والدولة الإسلامية التي شملت أكثر العالم المعروف يومها ! لكن عليهم أن يعرفوا الوجه الآخر له وهو (هارون الرشيد القصاب) ! روى الطبري في تاريخه:6/525 ، عن أبي جامع المروزي قال: (كنت فيمن جاء إلى الرشيد بأخ رافع (رافع حاكم منطقة خرج على الرشيد) قال: فدخل عليه وهو على سرير مرتفع عن الأرض بقدر عظم الذراع ، وعليه فرشٌ بقدر ذلك أو قال أكثر ، وفي يده مرآة ينظر إلى وجهه ، قال: فسمعته يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون . ونظر إلى أخ رافع فقال: أما والله يا ابن اللخناء (مُدَوِّدة الفرج) إني لأرجو أن لايفوتني خامل يريد رافعاً كما لم تفتني ! فقال له: يا أمير المؤمنين قد كنت لك حرباً وقد أظفرك الله بي ، فافعل ما يحب الله أكن لك سلماً ، ولعل الله أن يلين لك قلب رافع إذا علم أنك قد مننت عليَّ ، فغضب وقال: والله لو لم يبق من أجلي إلا أن أحرك شفتي بكلمة لقلت: أقتلوه ! ثم دعا بقصاب فقال: لا تشحذ مداك(لاتسن سكاكينك) أتركها على حالها، وفصِّل هذا الفاسق وعجِّل لايحضرن أجلي وعضوان من أعضائه في جسمه ! ففصله حتى جعله أشلاء ! فقال: عُدَّ أعضاءه ! فعددت له أعضاءه فإذا هي أربعة عشر عضواً ، فرفع يديه إلى السماء فقال: اللهم كما مكنتني من ثأرك وعدوك فبلغت فيه رضاك ، فمكني من أخيه ! ثم أغميَ عليه وتفرق من حضره، وفيها مات هارون الرشيد).(والنهاية:10/231)
25- وروى في شرح النهج: 18/270 ، كيف قتل قريب الخليفة المنصور عبدالله بن المقفع ، قال: ( اعتزم قتله فاستأذن عليه جماعة من أهل البصرة منهم ابن المقفع فأدخل ابن المقفع قبلهم ، وعدل به إلى حجرة في دهليزه ، وجلس غلامه بدابته ينتظره على باب سفيان ، فصادف ابن المقفع في تلك الحجرة سفيان بن معاويه وعنده غلمانه وتنور نار يسجر! فقال له سفيان: أتذكر يوم قلت لي كذا؟! أمي مغتلمة إن لم أقتلك قتلةً لم يُقتل بها أحد ! ثم قطع أعضاءه عضواً عضواً وألقاها في النار وهو ينظر إليها ! حتى أتى على جميع جسده ، ثم أطبق التنور عليه وخرج إلى الناس فكلمهم ! فلما خرجوا من عنده تخلف غلام ابن المقفع ينتظره فلم يخرج ، فمضى وأخبر عيسى بن علي وأخاه سليمان بحاله ، فخاصما سفيان بن معاوية في أمره فجحد دخوله إليه فأشخصاه إلى المنصور ، وقامت البينة العادله أن ابن المقفع دخل دار سفيان حياً سليماً ولم يخرج منها ! فقال المنصور: أنا أنظر في هذا الأمر إن شاء الله غداً ، فجاء سفيان ليلاً إلى المنصور فقال: يا أمير المؤمنين، إتق الله في صنيعتك ومتبع أمرك ، قال: لاتُرَعْ ! وأحضرهم في غد وقامت الشهادة وطلب سليمان وعيسى القصاص، فقال المنصور: أرأيتم إن قتلت سفيان بابن المقفع ، ثم خرج ابن المقفع عليكم من هذا الباب وأومأ إلى باب خلفه ، من ينصب لي نفسه حتى أقتله بسفيان ؟ فسكتوا واندفع الأمر ! وأضرب عيسى وسليمان عن ذكر ابن المقفع بعدها ، وذهب دمه هدراً ) !
26- ووصف الصفدي في الوافي: 4/26، تَنُّور وزير الخليفة المتوكل لتعذيب الأغنياء وجامعي الضرائب: (وكان ابن الزيات قد اتخذ تنوراً من حديد وفيه مسامير أطرافها المحددة إلى داخل التنور وهي قائمة مثل رؤس المسالّ ، يعذب فيه المصادرين وأرباب الدواوين المطلوبين بالأموال ، فكيفما انقلب أحدهم أو تحرك من حرارة الضرب دخلت تلك المسالُّ في جسمه فيجد لذلك ألماً عظيماً ! وكان إذا قال أحدهم أيها الوزير إرحمني فيقول: الرحمة خور في الطبيعة ) ! ووفيات الأعيان: 5/100 .
7- حاضر العالم الإسلامي نسخة عن الماضي !
ما زال العالم الإسلامي الى يومنا يُحكم بتسلط الحاكم الواحد والرأي الواحد ، وقمع الرأي المخالف واضطهاد أهله ! فقد صار ذلك ثقافة للناس لأنه موروث من نظام ديني يتصورونه (مقدساً) !
بل ترى مثقفنا يفتخر بشجاعة الحاكم الواحد في قمع معارضيه ! فيمدح الشاعر حافظ ابراهيم عمر بن الخطاب لأنه هدد علياً والزهراء‘ومن معهم بأنه يحرق بيتهم عليهم ، إذا لم يبايعوه ! قال:
وقولةٌ لعليٍّ قالها عمرٌ أكرم بسامعها أكرم بملقيها
ما كان غير أبي حفص بقائلها أمام فارس عدنان وحاميها
حرَّقتُ دارك لاأبقي على أحد إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها !
فإذا كان الإنسان نفسه يقدس السيطرة الآحادية القمعية ، فكيف تبقى له أو لمجتمعه حقوقٌ أو قيمة ؟!
~ ~
8- تطبيق أهل بيت النبي’لحقوق الإنسان
تمسَّك عليٌّ وأهل البيت^بإعادة العهد النبوي وتطبيق منظومة حقوق الإنسان بكل قيَمها وتشريعاتها ، فكان علي×الحاكم الوحيد بعد النبي’الذي احترم حرية الإنسان المسلم ، فلم يجبر أحداً على بيعته ، ومنع المسلمين من إجبار أي ممتنع !
كما لم يجبر أحداً على الحرب معه ، فكان كل من قاتل معه متطوعاً بقناعته وإرادته . ولا استعمل قانون الأحكام العرفية ، ولا أي قانون استثنائي ، حتى في حروبه التي استوعبت مدة خلافته كلها !
كما أعطى الحرية لمعارضيه والخوارج عليه، أن يتكلموا ويتحزبوا ويحملوا السلاح ، ولم يقطع رواتبهم وحقوقهم من بيت المال ، ولم يواجههم ، ما لم يشهروا السلاح على المجتمع ، أو الدولة !
كما ساوى بين المسلمين في الحقوق المالية ، وألغى الإمتيازات وقوانين التمييز التي وضعها الحكام قبله ! وبذلك أعاد العهد النبوي في احترام الإنسان والمساواة ! (راجع المجلد الثالث من جواهر التاريخ).
ولا يتسع المجال لتفصيل ذلك ، لكن يكفيك أن تنظر في أي مقطع من سيرته الغنية× ، أو تقرأ عهده الى مالك الأشتر&عندما بعثه والياً على مصر، وشرح فيه أهداف الحكومة ، ووضع فيه برنامج عمل شامل للحاكم في سياسته للناس وحياته الشخصية .
أو تقرأ رسالة الحقوق لحفيده الإمام زين العابدين×وهي رسالة من عشرين صفحة تقريباً ، في حقوق الإنسان وواجباته ، وهي برنامجٌ للمسلم في تعامله مع ربه ، ومع نفسه ، ومع الناس .
وقد اهتم بعض العلماء بهذين النصَّيْن العظيمين، لكنهما ما زالا مظلومين لم يأخذا حقهما من البحث في المجامع الدولية ، ومعاهد الحقوق العالمية . وقد شرحهما علماؤنا رضي الله عنهم شروحاً علمية ، أو وعظية ، وبقيت الحاجة الى الشرح القانوني ، والدراسة المقارنة بالتشريعات المعاصرة .
وتشمل رسالة الحقوق للإمام السجاد×خمسين حقاً على الإنسان ابتداءً من حقوق الله تعالى ، الى حق نفسه ومحيطه ومجتمعه ، ودولته وأمته ، وحقوق أهل الأديان الأخرى .
وتبدأ بإجمال كالفهرس ، ثم تفصل الحقوق واحداً واحداً . وسيأتي نصها ونص عهد أمير المؤمنين×لمالك الأشتر&.
9- أهل البيت^وشيعتهم لهم فخرها وليس عليهم وزرها !
لا بد للمنصف أن يُقرّ بأن تاريخ الحكام المسلمين مليئٌ بالظلم وانتهاك حقوق الإنسان ! سواء في سياستهم مع شعوبهم أو مع شعوب البلاد المفتوحة ، بل إن ظلمهم لشعوبهم كان أشد وأقسى !
وهذا لايعني أنا لا نرى قيمة لما حققته الفتوحات من توسيع رقعة الإسلام ودخول أمم وشعوب في هذا الدين الحنيف ، استفادت من علومه وأغنت تجربته ، وأقامت حضارة بإسم الحضارة الإسلامية .
لكن هذه الإيجابيات لا تبرر انتهاكات الحكام الصارخة لأبسط حقوق الإنسان ، ولا تغطي جرائمهم التي امتلأت بها حياتهم وضجَّ بها تاريخهم ! لذلك لا بد من تقييم نظام الخلافة الإسلامي بإيجابياته وسلبياته معاً، وقد كان أعظم سلبياته أنه تأسس من أصله على الجبرية والقهر ، وفتح الصراع على السلطة في هذه الأمة ، فسفكت فيه الدماء وأزهقت من أجله أرواح الملايين . ويلي ذلك في الدرجة ظلم الحكام وجرائمهم المتنوعة الكثيرة والكبيرة .
وقد كان هذا العاملان (الجبرية والظلم) السبب النهائي في انهيار الخلافة والأمة ودفنها في استانبول ، وتسلط الأمم الغربية عليها !
ولا يجوز تحميل أهل البيت^وشيعتهم مسؤولية انتهاك الخلفاء لحقوق الإنسان ، لأنهم أنفسهم كانوا ضحيتها ، وتحملوا من حكام الظلم والجور أكثر مما تحملته شعوب البلاد المفتوحة كلها .
ففي الوقت الذي كان علماء السلطة وأئمة مذاهبها يُنَظِّرون للحاكم ويبررون جرائمه، كان أئمتنا^يعارضون وينتقدون ويبرؤون الى تعالى من الظلم والجور ومرتكبيه ، ويقفون الى جانب المظلوم حتى لو كان غير مسلم . فكانوا أول ضحايا انتهاك حقوق الإنسان وقدموا أنفسهم الشريفة ثمناً لمواقفهم وعقيدتهم، وكذلك شيعتهم الأتقياء المرضيون . ولا يتسع المجال لسرد مفردات من ذلك عبر التاريخ .
لهذا قلنا إن إنجازات الأمة الإسلامية وإيجابياتها في فتوحها وحضارتها وعلومها يعود فخرها لأهل البيت^، لأنهم وجهوها وشاركوا في خيرها ، بينما يتحمل غيرهم ما فيها من أوزار سببت السمعة السيئة للإسلام والمسلمين ، وأدت الى انهيار الأمة !
~ ~
10- نظرية الدين اليهودي في حقوق الإنسان
الأصل الحقوقي لليهود في الديانة اليهودية أن الله تعالى اختار إبراهيم×وذريته من أبناء يعقوب×وفضلهم على العالمين:
(فالناس عند اليهود قسمان: يهود وجوييم أو أمميون أي كفرة وثنيون ، واليهود شعب الله المختار وهم أبناء الله وأحباؤه لا يتقبل العبادة إلا منهم ، ونفوسهم مخلوقة من نفس الله وعنصرهم من عنصره ، فهم وحدهم أبناؤه الأطهار وقد منحهم الله الصورة البشرية تكريماً لهم . أما الجوييم فخلقوا من طينة شيطانية ، والهدف من خلقهم خدمة اليهود، ولم يمنحوا الصورة البشرية إلا بالتبعية لليهود ليسهل التعامل بين الطائفتين إكراماً لليهود . فاليهود أصلاء في الإنسانية ، والجوييم أتباع فيها). (مقارنة الأديان للدكتور أحمد شلبي/275).
وقال في صفحة/186: (ويقول أرنولد توينبي: إن أشهر الذين يزعمون أنهم شعب مختار هم اليهود ، فالحركات الصهيونية والنازية سواء في ادعاء هذه الصفة العنصرية ).
وقال الشيخ البلاغي&في الهدى إلى دين المصطفى:1/125: (يهوه: إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب . وهم شعب الله: أنظر إلى ثالث الخروج ، وأبناء الله ، أي أولياؤه: خروج4: 23 ). انتهى.
وقد ذكر الله تعالى مقولاتهم في القرآن وردَّها فقال: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) . (المائدة: 18) .
(وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) . (البقرة: 80).
(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ). (آل عمران: 24) .
(الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) . (آل عمران: 183) .
(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ). (آل عمران: 75).
وعلى هذا، فإن حقوق الإنسان تختص في الدين اليهودي بأتباعه الذين هم محصورون في ذرية يعقوب×، وغيرهم ليس له من الحقوق إلا ما منحوه إياه ، تفضلاً منهم !
وبهذا لانحتاج الى بحث تطبيقات الحكام اليهود الى نظريتهم في حقوق الإنسان ، لأنها قائمة على التمييز وإهدار حقوق الشعوب ، بل إن المجتمع اليهودي نفسه حافل بانتهاك حقوق بعضهم البعض وشدة عداوتهم لبعضهم رغم أنهم أقلية ، قال الله تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) . (المائدة: 64) .
~ ~
11- نظرية حقوق الإنسان في الدين المسيحي
من ميزات الدين المسيحي أنه دين عالمي مفتوح ، وليس مقفلاً محصوراً بشعب دون غيره كاليهودية ، كما أنه يقوم على توجيهات أخلاقية مدونة في الأناجيل الأربعة ، منسوبة الى نبي الله المسيح× تدعو الناس الى التعايش والتسامح والشعوب على اختلاف قومياتهم ومشاربهم ، فهي تصلح لأن تكون أرضية لقوانين حقوق الإنسان والمساواة بين الناس . (وأهم ما يروى عنه عظة الجبل ، وهاك مقتطفات منها: طوبى للمساكين بالروح فإن لهم ملكوت السماوات ، طوبى للودعاء فإنهم يرثون الأرض ، طوبى للحزان فإنهم يعزون ، طوبى للجياع والعطاش إلى البر فإنهم يشبعون ، طوبى لأتقياء القلوب فإنهم يعاينون الله . ويرى المسيحيون أن عظة الجبل وما ماثلها نقلت التشريع في المسيحية إلى طور جديد). (مقارنة الأديان/197).
(الأناجيل تكاد تكون فكرة مكررة عن التسامح والحب وعدم الميل للشر ، حتى في دفع الشر ، وعن الصلة المباشرة بين الله والناس… الإنجيل كله حث على هذه الأخلاق ، فليفتح القارئ أي صفحة منه فإنه سيجد هذا الاتجاه لا محالة ، وعن الصلة المباشرة بين الله والناس ). (مقارنة الأديان/223).
(ويقول الكاتب المسيحي(583 . p 3. Encyclopaedia of Religions and Ethics Vol) : وتعاليم المسيح تجمعها الأسس التالية: 1- قيام مملكة الله حيث المساواة والعدالة 2- الله هو أبو البشر وهو الأمل الذي تهفو نحوه أرواح البشر جميعاً 3- الكمال التام والحب الشامل . تلك هي الديانة المسيحية لا أكثر ولا أقل ، أما ما سوى تلك من أسس دينية فقد اعتمدت الديانة المسيحية فيها على التوراة ). (مقارنة الأديان/224).
ومع الإشكالات الكثيرة على المسيحية ومصادرها ، لكن مضامينها الأخلاقية تصلح كما ذكرنا أن تكون أصولاً لقانون حقوق الإنسان .
~ ~
12- الحكام المسيحيون ونظرية حقوق الإنسان
لا يختلف تطبيق الحكام المسيحيين لحقوق الإنسان المسيحية ، عن تطبيقات الحكام المسلمين ! فتاريخهم مليئ بالظلم وانتهاك حقوق الإنسان ، مع شعوبهم ، وشعوب البلاد الخاضعة لحكمهم ، لافرق في ذلك بين العلمانيين والأصوليين منهم ! كما أن إيجابياتهم لا تبرر انتهاكاتهم الصارخة لأبسط حقوق الإنسان !
ذلك أن الأصل الذي قام عليه نظام الحكم عندهم نفسه عند الحكام المسلمين: الجبرية والقهر ، والحكم الفردي ، وقمع المعارضة ، والصراع على السلطة وسفك الدماء وإزهاق الأرواح من أجلها ! بل قد يكون تاريخ أوروبا والبلاد المسيحية أكثر دموية من تاريخ البلاد الإسلامية ! لذلك فإن الحكام باسم الإسلام والمسيحية نوعان متشابهان في الظلم ، والحكم فيهما: أهرقهما وتيمم !
13- العالم الغربي يحقق خطوات لمصلحة حقوق الإنسان !
لا شك في أن الفرق كبير بين حقوق الإنسان في فرنسا وبريطانيا وأمريكا اليوم ، وبينها قبل ثلاثة قرون أو أربعة !
فقد حدث تطور إيجابي في حقوق الإنسان في الغرب ، نتيجة معاناة طويلة وحروب مريرة مرت بها حكوماتهم ومجتمعاتهم ، وتوصلت بسببها الى أنه لا حل إلا بقوانين تحفظ حقوق الإنسان وحرياته الشخصية الممكنة ، في إطار حقوق المجتمع العامة .
وكان نتيجة ذلك إعلان الجمعية الوطنية الفرنسية قانون حقوق الإنسان الفرنسي في26 أغسطس1778 ثم توقيع ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في مؤتمر سان فرنسيسكو حزيران سنة 1945، ثم في سنة1948. وقد أثمرت هذه المقررات ثماراً حسنة في المجتمعات الغربية ، فصار الغربي ينشأ في بلده وهو يشعر بـأنه إنسان له حقوقه في الحياة والحرية ، وصارت الدولة تعني عنده الهيأة المنتخبة الموظفة لخدمة الناس ، وصار العمل السياسي عندهم لعبة معادلات وشطارة وشيطنة في إطار قوانين الديمقراطية .
بينما ينشأ الإنسان في بلاد الإسلام وبلاد العالم الثالث وهو يشعر بأنه (شئ) في خدمة الحاكم المفرد وتصرفه،والدولة مالك لكل شئ مسيطر متجبر ! والعمل السياسي جريمة تسبب الدواهي وتقود الى المشنقة ، إلا في خدمة الحاكم المقدس ! ثم لا ضوابط ولا قوانين إلا هوى حاكم الجَوْر ، وعليك أن تسمي هواه دستوراً وقوانين !
نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
(اعتُمد ونشر بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة
(217 ألف د-3) في10 ديسمبر1948)
الديباجة: لما كان الإقرار بما لجميع أعضاء الأسرة البشرية من كرامة أصيلة فيهم، ومن حقوق متساوية وثابتة، يشكل أساس الحرية والعدل والسلام في العالم . ولما كان تجاهل حقوق الإنسان وازدراؤها قد أفضيا إلى أعمال أثارت بربريتها الضمير الإنساني، وكان البشر قد نادوا ببزوغ عالم يتمتعون فيه بحرية القول والعقيدة وبالتحرر من الخوف والفاقة ، كأسمى ما ترنو إليه نفوسهم . ولما كان من الأساسي أن تتمتع حقوق الإنسان بحماية النظام القانوني ، إذا أريد للبشر ألا يضطروا آخر الأمر إلى اللياذ بالتمرد على الطغيان والإضطهاد . ولما كان من الجوهري العمل على تنمية علاقات ودية بين الأمم . ولما كانت شعوب الأمم المتحدة قد أعادت في الميثاق تأكيد إيمانها بحقوق الإنسان الأساسية ، وبكرامة الإنسان وقدره ، وبتساوي الرجال والنساء في الحقوق ، وحزمت أمرها على النهوض بالتقدم الإجتماعي وبتحسين مستويات الحياة في جو من الحرية أفسح . ولما كانت الدول الأعضاء قد تعهدت بالعمل، بالتعاون مع الأمم المتحدة على ضمان تعزيز الإحترام والمراعاة العالميين لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، ولما كان التقاء الجميع على فهم مشترك لهذه الحقوق والحريات أمرا بالغ الضرورة لتمام الوفاء بهذا التعهد، فإن الجمعية العامةتنشر على الملأ هذا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بوصفه المثل الأعلى المشترك الذي ينبغي أن تبلغه كافة الشعوب وكافة الأمم ، كيما يسعى جميع أفراد المجتمع وهيئاته ، واضعين هذا الإعلان نصب أعينهم على الدوام ، ومن خلال التعليم والتربية ، إلى توطيد احترام هذه الحقوق والحريات ، وكيما يكفلوا بالتدابير المطردة الوطنية والدولية ، الاعتراف العالمي بها ومراعاتها الفعلية ، فيما بين شعوب الدول الأعضاء ذاتها ، وفيما بين شعوب الأقاليم الموضوعة تحت ولايتها على السواء .
المادة 1: يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق . وهم قد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الإخاء .
المادة2: لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أي نوع ، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي، سياسياً وغير سياسي، أو الأصل الوطني أو الإجتماعي، أو الثروة ، أو المولد ، أو أي وضع آخر . وفضلاً عن ذلك لا يجوز التمييز علي أساس الوضع السياسي ، أو القانوني ، أو الدولي للبلد أو الإقليم الذي ينتمي إليه الشخص ، سواء أكان مستقلاً ، أو موضوعاً تحت الوصاية ، أو غير متمتع بالحكم الذاتي ، أم خاضعاً لأي قيد آخر على سيادته .
المادة3: لكل فرد حق في الحياة والحرية وفي الأمان على شخصه.
المادة4: لا يجوز استرقاق أحد أو استعباده ، ويحظر الرق والإتجار بالرقيق بجميع صورهما .
المادة5: لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ، ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية ، أو اللا إنسانية ، أو الحاطَّة بالكرامة .
المادة6: لكل إنسان في كل مكان، الحق بأن يعترف له بالشخصية القانونية.
المادة7: الناس جميعاً سواء أمام القانون ، وهم يتساوون في حق التمتع بحماية القانون دونما تمييز، ، كما يتساوون في حق التمتع بالحماية من أي تمييز ينتهك هذا الإعلان ومن أي تحريض على مثل هذا التمييز.
المادة8: لكل شخص حق اللجوء إلى المحاكم الوطنية المختصة ، لإنصافه الفعلي من أية أعمال تنتهك الحقوق الأساسية ، التي يمنحها إياه الدستور ، أو القانون .
المادة9: لا يجوز اعتقال أي إنسان ، أو حجزه ، أو نفيه ، تعسفاً .
المادة10: لكل إنسان، على قدم المساواة التامة مع الآخرين، الحق في أن تنظر قضيته محكمة مستقلة ومحايدة، نظراً منصفاً وعلنياً ، للفصل في حقوقه والتزاماته وفي أية تهمة جزائية توجه إليه.
المادة11: 1. كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئاً إلى أن يثبت ارتكابه لها قانوناً ، في محاكمة علنية تكون قد وفرت له فيها جميع الضمانات اللازمة للدفاع عن نفسه. 2. لايُدان أي شخص بجريمة بسبب أي عمل أو امتناع عن عمل لم يكن في حينه يشكل جرماً بمقتضى القانون الوطني أو الدولي ، كما لا توقع عليه أية عقوبة أشد من تلك التي كانت سارية في الوقت الذي ارتكب فيه الفعل الجرمي .
المادة12: لا يجوز تعريض أحد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة ، أو في شؤون أسرته ، أو مسكنه ، أو مراسلاته ، ولا لحملات تمس شرفه وسمعته . ولكل شخص حق في أن يحميه القانون من مثل ذلك التدخل ، أو تلك الحملات .
المادة13: 1. لكل فرد حق في حرية التنقل وفي اختيار محل إقامته داخل حدود الدولة. 2. لكل فرد حق في مغادرة أي بلد بما في ذلك بلده ، وفي العودة إلى بلده.
المادة14: 1. لكل فرد حق التماس ملجأ في بلدان أخرى والتمتع به خلاصاً من الإضطهاد. 2. لا يمكن التذرع بهذا الحق إذا كانت هناك ملاحقة ناشئة بالفعل عن جريمة غير سياسية ، أو عن أعمال تناقض مقاصد الأمم المتحدة ومبادئها .
المادة 15: 1. لكل فرد حق التمتع بجنسية ما. 2. لا يجوز، تعسفاً، حرمان أي شخص من جنسيته ، ولا من حقه في تغيير جنسيته.
المادة16: 1. للرجل والمرأة متى أدركا سن البلوغ حق التزوج وتأسيس أسرة، دون أي قيد بسبب العرق أو الجنسية أو الدين . وهما متساويان في الحقوق لدى التزوج وخلال قيام الزواج ولدى انحلاله. 2. لا يعقد الزواج إلا برضا الطرفين المزمع زواجهما رضاء كاملاً لا إكراه فيه . 3. الأسرة هي الخلية الطبيعية والأساسية في المجتمع ، ولها حق التمتع بحماية المجتمع والدولة .
المادة 17: 1. لكل فرد حق في التملك، بمفرده أو بالاشتراك مع غيره. 2. لا يجوز تجريد أحد من ملكه تعسفاً .
المادة 18: لكل شخص حق في حرية الفكر والوجدان والدين ، ويشمل هذا الحق حريته في تغيير دينه أو معتقده ، وحريته في إظهار دينه أو معتقده ، بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم ، بمفرده ، أو مع جماعة ، وأمام الملأ أو على حدة .
المادة 19: لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق الآراء دون مضايقة ، وفي التماس الأنباء والأفكار ، وتلقيها ، ونقلها إلى الآخرين ، بأية وسيلة ، ودونما اعتبار للحدود .
المادة20: 1. لكل شخص حق في حرية الإشتراك في الإجتماعات والجمعيات السلمية. 2. لا يجوز إرغام أحد على الإنتماء إلى جمعية ما .
المادة 21: 1. لكل شخص حق المشاركة في إدارة الشئون العامة لبلده ، إما مباشرة ، وإما بواسطة ممثلين يُختارون في حرية . 2. لكل شخص، بالتساوي مع الآخرين ، حق تقلد الوظائف العامة في بلده . 3. إرادة الشعب هي مناط سلطة الحكم ، ويجب أن تتجلى هذه الإرادة من خلال انتخابات نزيهة تجرى دورياً بالإقتراع العام وعلى قدم المساواة بين الناخبين ، وبالتصويت السري ، أو بإجراء مكافئ ، من حيث ضمان حرية التصويت .
المادة 22: لكل شخص ، بوصفه عضواً في المجتمع ، حق في الضمان الإجتماعي ، ومن حقه أن توفر له ، من خلال المجهود القومي والتعاون الدولي وبما يتفق مع هيكل كل دولة ومواردها ، الحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية التي لا غنى عنها لكرامته ، ولتنامي شخصيته في حرية.
المادة 23: 1. لكل شخص حق العمل، وفي حرية اختيار عمله ، وفي شروط عمل عادلة ومرضية ، وفي الحماية من البطالة. 2. لجميع الأفراد ، دون أي تمييز ، الحق في أجر متساو على العمل المتساوي. 3. لكل فرد يعمل حق في مكافأة عادلة ومرضية ، تكفل له ولأسرته عيشة لائقة بالكرامة البشرية ، وتستكمل ، عند الإقتضاء ، بوسائل أخرى للحماية الإجتماعية. 4. لكل شخص حق إنشاء النقابات مع آخرين والإنضمام إليها ، من أجل حماية مصالحه .
المادة24: لكل شخص حق في الراحة وأوقات الفراغ ، وخصوصاً في تحديد معقول لساعات العمل ، وفي إجازات دورية مأجورة.
المادة 25: 1. لكل شخص حق في مستوى معيشة ، يكفي لضمان الصحة والرفاهة له ولأسرته ، وخاصة على صعيد المأكل والملبس والمسكن والعناية الطبية ، وصعيد الخدمات الإجتماعية الضرورية ، وله الحق في ما يأمن به الغوائل في حالات البطالة أو المرض أو العجز أو الترمل أو الشيخوخة ، أو غير ذلك من الظروف الخارجة عن إرادته ، والتي تفقده أسباب عيشه. 2. للأمومة والطفولة حق في رعاية ومساعدة خاصتين . ولجميع الأطفال حق التمتع بذات الحماية الإجتماعية ، سواء ولدوا في إطار الزواج أو خارج هذا الإطار.
المادة26: 1. لكل شخص حق في التعليم . ويجب أن يوفر التعليم مجاناً على الأقل في مرحلتيه الإبتدائية والأساسية ، ويكون التعليم الإبتدائي إلزامياً ، ويكون التعليم الفني والمهني متاحاً للعموم ، ويكون التعليم العالي متاحاً للجميع تبعاً لكفاءتهم. 2. يجب أن يستهدف التعليم التنمية الكاملة لشخصية الإنسان وتعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية . كما يجب أن يعزز التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الأمم وجميع الفئات العنصرية أو الدينية، وأن يؤيد الأنشطة التي تضطلع بها الأمم المتحدة لحفظ السلام. 3. للآباء على سبيل الأولوية حق اختيار نوع التعليم الذي يعطى لأولادهم .
المادة 27: 1. لكل شخص حق المشاركة الحرة في حياة المجتمع الثقافية ، وفي الإستمتاع بالفنون ، والإسهام في التقدم العلمي وفي الفوائد التي تنجم عنه. 2. لكل شخص حق في حماية المصالح المعنوية والمادية المترتبة على أي إنتاج علمي أو أدبي أو فني من صنعه .
المادة 28: لكل فرد حق التمتع بنظام اجتماعي ودولي ، يمكن أن تتحقق في ظله الحقوق والحريات المنصوص عليها في هذا الإعلان ، تحققا تاماً .
المادة29: 1. على كل فرد واجبات إزاء الجماعة ، التي فيها وحدها يمكن أن تنمو شخصيته النمو الحر الكامل . 2. لايخضع أي فرد في ممارسة حقوقه وحرياته إلا للقيود التي يقررها القانون مستهدفاً منها حصراً ، ضمان الإعتراف الواجب بحقوق وحريات الآخرين واحترامها ، والوفاء بالعادل من مقتضيات الفضيلة والنظام العام ورفاه الجميع في مجتمع ديمقراطي . 3. لا يجوز في أي حال أن تمارس هذه الحقوق على نحو يناقض مقاصد الأمم المتحدة ومبادئها .
المادة 30: ليس في هذا الإعلان أي نص يجوز تأويله على نحو يفيد انطواءه على تخويل أية دولة أو جماعة أو أي فرد أي حق في القيام بأي نشاط أو بأي فعل يهدف إلى هدم أي من الحقوق والحريات المنصوص عليها فيه). انتهى.
أقول: يتكون المنشور من هذه المواد الثلاثين ، وهو خطوة هامة في إنصاف الإنسان المظلوم وتثبيت حقوقه ولو نظرياً ، بقطع النظر عن التحفظات الشرعية على بعض بنوده .
الإشكالات على حقوق الإنسان عند الغربيين
نعم ، لقد تقدمت الحكومات الغربية خطوات مهمة في تطبيق حقوق الإنسان على مجتمعاتها ، وصار الأصل فيها احترام الإنسان ورعاية حقوقه وحرياته ، لكنهم ما زالوا يعانون من مشكلات داخلية وخارجية كبيرة ، تعوقهم عن الوصول الى التطبيق العادل والشامل لحقوق الإنسان ، ومن أهم مشكلاتهم الداخلية:
التمييز في مجتمعاتهم بين الفقراء والأغنياء ، وبين البيض والسود ، ومواطني الدرجة الأولى والثانية ، وبين أهل منطقة ومنطقة !
ومنها ، أن الحكم والسلطة في مجتمعاتهم بيد أصحاب رؤوس الأموال أي (القوارين) ، فهم الذين يملكون توجيه وسائل الإعلام ورسم السياسات ، ويتفننون في خداع شعوبهم ، والحكام والسياسيون في الغالب موظفون عند هؤلاء القوارين ! ومن هنا ظهر اللوبي الصهيوني لأثرياء اليهود وأتباعهم ، حتى صاروا دولة داخل مجتمعاتهم ، وبنوا علواً يهودياً يخضع له حتى رؤساء الدول الغربية كما نرى في (سيناريوهات فضائح الرؤساء في أمريكا) !
ومن أهم مشكلاتهم الخارجية: أنهم يفقدون المصداقية ويقعون في التناقض بين احترام إنسان بلادهم وظلم إنسان العالم الثالث ، الذي يرزح تحت نفوذهم ونفوذ الحكام المنصوبين منهم !
فحكام الجوْر الذين تشكو منهم بلاد العالم الثالث ، إنما هم مفروضون على شعوبه من أولئك الغربيين أصحاب النفوذ ! ولو تخلَّوا عن مساندة الحاكم لأسابيع قليلة فقط لسقط بغضب الناس !
والنتيجة: أنه في الوقت الذي حقق الغربيون إنجازات هامة في تطبيق حقوق الإنسان في مجتمعاتهم ، فهم ما زالوا ينقضونها في بعض الشرائح عندهم ، كما يعانون في تعاملهم مع الشعوب الأخرى من أزمة كذبهم
وزيف شعاراتهم عن الديمقراطية وحقوق الإنسان !
14- تأصيل أهل البيت^لحقوق الإنسان
كما امتلأت حياة الحكام الآخرين بانتهاك حقوق الإنسان ، فقد امتلأت حياة أهل البيت^بالإلتزام بها والتأكيد عليها وتأصيلها في قولهم وعملهم . وهذه سيرتهم العطرة تحفل بمآثر سلوكهم الإنساني النبيل وآياته ، ولو أردنا أن نستعرض نماذج من مواقفهم وأقوالهم^، لطال الكلام .
وهذه ثروتهم العلمية الفريدة في تأصيل حقوق الإنسان ، لو استفاد منها المسلمون ، وأساتذة الحقوق في العالم .
وتتسع هذا الخلاصة لإيراد نصين عظيمين منها ، هما: عهد أمير المؤمنين×الى مالك الأشتر&واليه على مصر ، وهو بيانٌ يشرح أهداف الحكومة ، وبرنامجٌ عملي للحاكم في سياسته مع فئات شعبه وجهاز حكمه ، وحياته الشخصية .
ورسالة الحقوق للإمام زين العابدين×، وهي رسالة من عشرين صفحة ، في حقوق الإنسان وواجباته ، وبرنامجٌ عملي للإنسان في تعامله مع ربه ومع نفسه ومع الناس ، تقع في خمسين بنداً .
وقد اهتم بعض العلماء بهذين النصَّيْن الفريدين ، لكنهما ما زالا مظلومين لم يأخذا حقهما من البحث في المجامع الحقوقية العالمية .
ونورد نصهما مع عناوين شارحة ، تساعد على فهم مضامينهما:
~ ~
عهد الإمام أمير المؤمنين ×الى مالك الأشتر&
(نهج البلاغة:3/82)
هدف الحكم الإسلامي
(بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاه مصر: جباية خراجها ، وجهاد عدوها ، واستصلاح أهلها ، وعمارة بلادها .
أصول الفكر والسلوك للحاكم: الشريعة، نصرة الله ، اتهام النفس
أمره بتقوى الله وإيثار طاعته ، واتباع ما أمر به في كتابه: من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلا باتباعها ، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها ، وأن ينصر الله سبحانه بقلبه ويده ولسانه ، فإنه جل اسمه قد تكفل بنصر من نصره وإعزاز من أعزه .
وأمره أن يكسر نفسه من الشهوات ويزعها عند الجمحات ، فإن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم الله .
يجب على الحاكم أن يستحضر نظرة الناس اليه
ثم اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور ، وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك ، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم . وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده . فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح .
فاملك هواك ، وشح بنفسك عما لا يحل لك ، فإن الشح بالنفس الانصاف منها فيما أحبت أو كرهت .
لزوم حب الحاكم لمواطنيه وشعوره بأنه محكوم لمن هو أعلى منه
وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم ، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل ، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه ، فإنك فوقهم ، ووالي الأمر عليك فوقك ، والله فوق من ولاك . وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم . ولا تنصبن نفسك لحرب الله فإنه لا يدي لك بنقمته ، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته .
الأصل هو العفو والعقوبة استثناء ، والأصل اللين والعنف استثناء
ولا تندمن على عفو ، ولا تبجحن بعقوبة ، ولا تسرعن إلى بادرة وجدت منها مندوحة ، ولا تقولن إني مؤمر آمر فأطاع فإن ذلك إدغال في القلب ومنهكة للدين، وتقرب من الغير.
كيف يُحَصِّن الحاكم نفسه من الغرور والظلم ؟
وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة فانظر إلى عظم ملك الله فوقك وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك ، فإن ذلك يطامن إليك من طماحك ، ويكف عنك من غربك ، ويفئ إليك بما عزب عنك من عقلك إياك ومساماة الله في عظمته والتشبه به في جبروته ، فإن الله يذل كل جبار ويهين كل مختال أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوى من رعيتك ، فإنك إلا تفعل تظلم ، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته وكان لله حرباً حتى ينزع ويتوب. وليس شئ أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإن الله سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد.
القرارات يجب أن ترضي الجميع ، وإلا فالعامة دون الخاصة !
وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق ، وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية ، فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة .
وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء ، وأقل معونة له في البلاء ، وأكره للإنصاف ، وأسأل بالإلحاف ، وأقل شكرا عند الاعطاء ، وأبطأ عذرا عند المنع ، وأضعف صبرا عند ملمات الدهر ، من أهل الخاصة . وإنما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء العامة من الأمة ، فليكن صغوك لهم وميلك معهم .
موقف الحاكم من تقارير المخابرات ، والمتملقين والنمامين
وليكن أبعد رعيتك منك وأشنؤهم عندك أطلبهم لمعائب الناس ، فإن في الناس عيوبا الوالي أحق من سترها . فلا تكشفن عما غاب عنك منها فإنما عليك تطهير ما ظهر لك ، والله يحكم على ما غاب عنك . فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره من رعيتك . أطلق عن الناس عقدة كل حقد . واقطع عنك سبب كل وتر . وتغاب عن كل ما لا يضح لك ، ولا تعجلن إلى تصديق ساع فإن الساعي غاش وإن تشبه بالناصحين .
صفات المستشارين للحاكم
ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر ولا جباناً يضعفك عن الأمور، ولا حريصاً يزين لك الشره بالجور ، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله .
صفات الوزراء ، وتفضيل استيزار الوجوه الجديدة
إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً ، ومن شركهم في الآثام ! فلا يكونن لك بطانة ، فإنهم أعوان الأثمة وإخوان الظلمة ، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم ، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم ، ممن لم يعاون ظالماً على ظلمه ولا آثما على إثمه . أولئك أخف عليك مؤونة ، وأحسن لك معونة ، وأحنى عليك عطفا ، وأقل لغيرك إلفاً ، فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك .
صفات الوزراء المفضلين
ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمر الحق لك ، وأقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه ، واقعاً ذلك من هواك حيث وقع ، والصقْ بأهل الورع والصدق ، ثم رُضْهُم على أن لايطروك ، ولا يَبْجَحُوك بباطل لم تفعله ، فإن كثرة الإطراء تُحدث الزهوة ، وتدني من الغِرَّة .
محاسبة الوزراء
ولا يكون المحسن والمسئ عندك بمنزلة سواء ، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان ، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة ، وألزم كلاً منهم ما ألزم نفسه .
فوائد إعطاء الحرية للمواطنين وحسن الظن بهم
واعلم أنه ليس شئ بأدعى إلى حسن ظن راع برعيته من إحسانه إليهم ، وتخفيفه المؤونات عليهم ، وترك استكراهه إياهم على ما ليس قبلهم ، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك ، فإن حسن الظن يقطع عنك نصباً طويلاً ، وإن أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده ، وإن أحق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده .
احترام العادات الإجتماعية وتحسينها
ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة ، واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعية . ولا تحدثن سنة تضر بشئ من ماضي تلك السنن فيكون الأجر لمن سنها . والوزر عليك بما نقضت منها.
المشاورون الكبار في القضايا الإستراتيجية
وأكثر مدارسة العلماء ومنافثة الحكماء ، في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك ، وإقامة ما استقام به الناس قبلك .
تكوَّن كل مجتمع في العالم من فئات وطبقات
واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض ، ولا غنى ببعضها عن بعض . فمنها جنود الله ، ومنها كتاب العامة والخاصة ، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الانصاف والرفق ، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس ، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة وكلا قد سمى الله سهمه ، ووضع على حده فريضته في كتابه أو سنة نبيه’ ، عهداً منه عندنا محفوظاً !
فالجنود بإذن الله حصون الرعية ، وزين الولاة ، وعز الدين ، وسبل الأمن ، وليس تقوم الرعية إلا بهم . ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به في جهاد عدوهم ، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم ، ويكون من وراء حاجتهم .
ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب لما يحكمون من المعاقد ، ويجمعون من المنافع ، ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها . ولا قوام لهم جميعاً إلا بالتجار وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم ، ويقيمونه من أسواقهم ، ويكفونهم من الترفق بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم .
ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم ، وفي الله لكل سعة، ولكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه . وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه الله من ذلك إلا بالاهتمام والاستعانة بالله ، وتوطين نفسه على لزوم الحق ، والصبر عليه فيما خف عليه أو ثقل .
سياسة الحاكم مع القوات المسلحة
فول من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك ، وأنقاهم جيباً ، وأفضلهم حلماً ، ممن يبطئ عن الغضب ، ويستريح إلى العذر ، ويرأف بالضعفاء وينبو على الأقوياء . وممن لا يثيره العنف ولا يقعد به الضعف . ثم الصق بذوي الأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة ، ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة ، فإنهم جماع من الكرم ، وشعب من العرف .
ثم تفقد من أمورهم ما يتفقده الوالدان من ولدهما ، ولا يتفاقمن في نفسك شئ قويتهم به . ولا تحقرن لطفا تعاهدتهم به وإن قل فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك وحسن الظن بك . ولا تدع تفقد لطيف أمورهم اتكالاً على جسيمها فإن لليسير من لطفك موضعاً ينتفعون به ، وللجسيم موقعاً لا يستغنون عنه . وليكن آثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته ، وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم ، حتى يكون همهم هماً واحداً في جهاد العدو . فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك .
سياسة الحاكم مع قادة الجيش الحكام
وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد ، وظهور مودة الرعية . وإنه لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم ، ولا تصح نصيحتهم إلا بحيطتهم على ولاة أمورهم ، وقلة استثقال دولهم ، وترك استبطاء انقطاع مدتهم . فافسح في آمالهم ، وواصل في حسن الثناء عليهم ، وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم . فإن كثرة الذكر لحسن أفعالهم تهز الشجاع وتحرض الناكل إن شاء الله .
ثم أعرف لكل امرئ منهم ما أبلى ، ولا تضيفن بلاء امرئ إلى غيره ، ولا تقصرن به دون غاية بلائه ، ولا يدعونك شرف امرئ إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيراً ، ولا ضعة امرئ إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيماً .
سياسة الوزراء والولاة في القضايا المشتبهة
واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ويشتبه عليك من الأمور فقد قال الله تعالى لقوم أحب إرشادهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ.. فالرد إلى الله الأخذ بمحكم كتابه، والرد إلى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة .
سياسة الحاكم مع القوة القضائية
ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ، ولا تمحكه الخصوم ، ولا يتمادى في الزلة ، ولا يحصر من الفئ إلى الحق إذا عرفه ، ولا تشرف نفسه على طمع ، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه ، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج ، وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم ، وأصبرهم على تكشف الأمور ، وأصرمهم عند اتضاح الحكم . ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء . وأولئك قليل .
ثم أكثر تعاهد قضائه ، وافسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس ، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك . فانظر في ذلك نظراً بليغاً ، فإن هذا الدين قد كان أسيراً في أيدي الأشرار يُعمل فيه بالهوى ، وتُطلب به الدنيا !
سياسة الحاكم مع ولاة المحافظات وكبار الموظفين
ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً ، ولا تولهم محاباة وأثرة ، فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة ، وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدمة ، فإنهم أكرم أخلاقا ، وأصح أعراضا ، وأقل في المطامع إشرافا ، وأبلغ في عواقب الأمور نظرا . ثم أسبغ عليهم الأرزاق فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم ، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم ، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك .
جهاز المخابرات الخاص برئيس الدولة
ثم تفقد أعمالهم ، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم ، فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية . وتحفظ من الأعوان ، فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا ، فبسطت عليه العقوبة في بدنه وأخذته بما أصاب من عمله ، ثم نصبته بمقام المذلة ووسمته بالخيانة ، وقلدته عار التهمة
السياسة المالية والضرائبية
وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم ، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم ، لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله . وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج ، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة ، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ، ولم يستقم أمره إلا قليلاً ، فإن شكوا ثقلاً أو علة أو انقطاع شرب أو بالة أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش ، خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم ، ولا يثقلن عليك شئ خففت به المؤونة عنهم ، فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك ، مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجحك باستفاضة العدل فيهم معتمداً فضل قوتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم في رفقك بهم ، فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة أنفسهم به ، فإن العمران محتمل ما حملته ، وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها ، وإنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع ، وسوء ظنهم بالبقاء ، وقلة انتفاعهم بالعبر .
ديوان الحاكم أو الجهاز الخاص به
ثم انظر في حال كتابك فول على أمورك خيرهم ، واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك وأسرارك بأجمعهم لوجود صالح الأخلاق ، ممن لا تبطره الكرامة فيجترئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملأ ، ولا تقصر به الغفلة عن إيراد مكاتبات عمالك عليك ، وإصدار جواباتها على الصواب عنك وفيما يأخذ لك ويعطي منك . ولا يُضعف عقداً اعتقده لك ، ولا يَعجز عن إطلاق ما عقد عليك ، ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور ، فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل . ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك واستنامتك وحسن الظن منك ، فإن الرجال يتعرفون لفراسات الولاة بتصنعهم وحسن خدمتهم ، وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شئ . ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك ، فاعمد لأحسنهم كان في العامة أثراً ، وأعرفهم بالأمانة وجهاً ، فإن ذلك دليل على نصيحتك لله ولمن وليت أمره . واجعل لرأس كل أمر من أمورك رأساً منهم لا يقهره كبيرها ، ولا يتشتت عليه كثيرها ، ومهما كان في كتابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته .
سياسة الدولة مع التجار والكسبة
ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيراً ، المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفق ببدنه ، فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق ، وجلابها من المباعد والمطارح ، في برك وبحرك ، وسهلك وجبلك ، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ، ولا يجترئون عليها ، فإنهم سلم لا تخاف بائقته ، وصلح لا تخشى غائلته ، وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك .
واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع ، وتحكماً في البياعات ، وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة . فامنع من الإحتكار فإن رسول الله’منع منه ، وليكن البيع بيعاً سمحاً ، بموازين عدل وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع . فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكل به ، وعاقب في غير إسراف .
سياسة الحاكم مع الطبقة الفقيرة
ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم ، والمساكين والمحتاجين ، وأهل البؤسى والزمنى ، فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً . واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم ، واجعل لهم قسماً من بيت مالك ، وقسماً من غلات صوافي الإسلام في كل بلد ، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى ، وكلٌّ قد استرعيت حقه ، فلا يشغلنك عنهم بطر ، فإنك لا تعذر بتضييعك التافه لإحكامك الكثير المهم ، فلا تشخص همك عنهم ، ولا تصعر خدك لهم ، وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون وتحقره الرجال ، ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع ، فليرفع إليك أمورهم ، ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى الله يوم تلقاه ، فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم ، وكل فأعذر إلى الله في تأدية حقه إليه . وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن ، ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه ، وذلك على الولاة ثقيل والحق كله ثقيل . وقد يخففه الله على أقوام طلبوا العاقبة فصبروا أنفسهم ، ووثقوا بصدق موعود الله لهم .
سياسة الحاكم مع مراجعيه
واجعل لذوي الحاجات منك قسماًتفرغ لهم فيه شخصك ، وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه لله الذي خلقك ، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع ، فإني سمعت رسول الله’يقول في غير موطن: لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع . ثم احتمل الخرق منهم والعيّ، ونحِّ عنك الضيق والأنَفَ يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته، ويوجب لك ثواب طاعته . وأعط ما أعطيت هنيئاً ، وامنع في إجمال وإعذار .
برنامج يومي للحاكم
ثم أمور من أمورك لا بد لك من مباشرتها: منها إجابة عمالك بما يعيى عنه كتابك . ومنها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك مما تحرج به صدور أعوانك . وأمض لكل يوم عمله فإن لكل يوم ما فيه ، واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله أفضل تلك المواقيت ، وأجزل تلك الأقسام ، وإن كانت كلها لله إذا صلحت فيها النية وسلمت منها الرعية . وليكن في خاصة ما تخلص به لله دينك ، إقامة فرائضه التي هي له خاصة . فأعط الله من بدنك في ليلك ونهارك ، ووفِّ ما تقربت به إلى الله من ذلك كاملاً غير مثلوم ولا منقوص ، بالغاً من بدنك ما بلغ . وإذا أقمت في صلاتك للناس فلا تكونن منفراً ولا مضيعاً ، فإن في الناس من به العلة وله الحاجة . وقد سألت رسول الله’حين وجهني إلى اليمن: كيف أصلي بهم؟ فقال: صل بهم كصلاة أضعفهم ، وكن بالمؤمنين رحيما .
لقاءات الحاكم المباشرة مع الناس وحذف البطانة
وأما بعد فلا تطولن احتجابك عن رعيتك ، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق ، وقلة علم بالأمور . والإحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه ، فيصغر عندهم الكبير ، ويعظم الصغير ، ويقبح الحسن ويحسن القبيح ، ويشاب الحق بالباطل .
وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور ، وليست على الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب ، وإنما أنت أحد رجلين: إما امرؤ سخت نفسك بالبذل في الحق ففيم احتجابك من واجب حق تعطية ، أو فعل كريم تسديه ؟
أو مبتلى بالمنع ، فما أسرع كف الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك ، مع أن أكثر حاجات الناس إليك مما لا مؤونة فيه عليك ، من شكاة مظلمة ، أو طلب إنصاف في معاملة .
ثم إن للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول ، وقلة إنصاف في معاملة ، فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال .
سياسة الحاكم مع أقاربه وحاشيته
ولا تقطعن لأحد من حاشيتك وحامتك قطيعة ، ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس ، في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤونته على غيرهم ، فيكون مهنأ ذلك لهم دونك ، وعيبه عليك في الدنيا والآخرة .
وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد ، وكن في ذلك صابراً محتسباً ، واقعاً ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع ، وابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه ، فإن مغبة ذلك محمودة .
وإن ظنت الرعية بك حيفاً فأصحر لهم بعذرك ، واعدل عنك ظنونهم بإصحارك ، فإن في ذلك رياضة منك لنفسك ، ورفقاً برعيتك ، وإعذاراً تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق .
سياسة السلم والحذر مع العدو والإلتزام الكامل بالإتفاقيات
ولا تدفعن صلحاً دعاك إليه عدوك ولله فيه رضى ، فإن في الصلح دعة لجنودك ، وراحة من همومك ، وأمناً لبلادك .
ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه ، فإن العدو ربما قارب ليتغفل ، فخذ بالحزم واتهم في ذلك حسن الظن .
وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمة فحُطْ عهدك بالوفاء ، وارع ذمتك بالأمانة ، واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت ، فإنه ليس من فرائض الله شئ الناس أشد عليه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم ، من تعظيم الوفاء بالعهود . وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين ، لما استوبلوا من عواقب الغدر ! فلا تغدرن بذمتك ، ولا تخيسن بعهدك ، ولا تختلن عدوك ، فإنه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقي . وقد جعل الله عهده وذمته أمناً أفضاه بين العباد برحمته ، وحريما يسكنون إلى منعته ويستفيضون إلى جواره . فلا إدغال ولا مدالسة ولا خداع فيه .
ولا تعقد عقداً تجوز فيه العلل ، ولا تعولن على لحن قول بعد التأكيد والتوثقة ، ولا يدعونك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله إلى طلب انفساخه بغير الحق ، فإن صبرك على ضيق أمر ترجو انفراجه وفضل عاقبته خير من غدر تخاف تبعته ، وأن تحيط بك من الله فيه طلبة ، فلا تستقيل فيها دنياك ولا آخرتك .
تحذير الحاكم بشدة من سفك الدماء
إياك والدماء وسفكها بغير حلها ، فإنه ليس شئ أدعى لنقمة ولا أعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة ، من سفك الدماء بغير حقها ! والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة ، فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام ، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله . ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد ، لأن فيه قود البدن . وإن ابتليت بخطأ وأفرط عليك سوطك أو سيفك أو يدك بعقوبة ، فإن في الوكزة فما فوقها مقتلة فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقهم . وإياك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها وحب الاطراء ، فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين .
الخطوط العامة لسياسة الحاكم مع المواطنين
وإياك والمن على رعيتك بإحسانك ، أو التزيد فيما كان من فعلك أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك ، فإن المن يبطل الإحسان والتزيد يذهب بنور الحق ، والخلف يوجب المقت عند الله والناس ، قال الله تعالى: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ .
التثبت والإعتدال في اتخاذ القرارات
وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها ، أو التسقط فيها عند إمكانها ، أو اللجاجة فيها إذا تنكرت ، أو الوهن عنها إذا استوضحت .
فضع كل أمر موضعه وأوقع كل عمل موقعه . وإياك والإستئثار بما الناس فيه أسوة ، والتغابي عما يعنى به مما قد وضح للعيون ، فإنه مأخوذ منك لغيرك. وعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور وينتصف منك للمظلوم .
كيف يكون الحاكم حاكم نفسه ويسيطر على غضبه ؟
أملك حمية أنفك ، وسورة حدك ، وسطوة يدك وغرب لسانك . واحترس من كل ذلك بكف البادرة وتأخير السطوة ، حتى يسكن غضبك فتملك الإختيار . ولن تحكم ذلك من نفسك حتى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربك . والواجب عليك أن تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة ، أو سنة فاضلة ، أو أثر عن نبينا’، أو فريضة في كتاب الله ، فتقتدي بما شاهدته مما عملنا به فيها ، وتجتهد لنفسك في اتباع ما عهدت إليك في عهدي هذا واستوثقت به من الحجة لنفسي عليك ، لكيلا تكون لك علة عند تسرع نفسك إلى هواها .
دعاء أمير المؤمنين×للتوفيق في تحقيق أهدافه في الحكم
وأنا أسأل الله بسعة رحمته وعظيم قدرته على إعطاء كل رغبة ، أن يوفقني وإياك لما فيه رضاه ، من الإقامة على العذر الواضح إليه وإلى خلقه ، مع حسن الثناء في العباد ، وجميل الأثر في البلاد ، وتمام النعمة وتضعيف الكرامة ، وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة ، وإنا إليه راغبون . والسلام على رسول الله وآله الطيبين الطاهرين ، وسلم تسليماً كثيرا ).
~ ~
رسالة الحقوق للإمام زين العابدين^
وتشمل خمسين حقاً على الإنسان ، ابتداءً من حقوق الله تعالى الى حق نفسه ومحيطه ومجتمعه ودولته ، وحقوق أهل الأديان الأخرى . وتبدأ بإجمال كالفهرس، ثم تفصل الحقوق واحداً واحداً .
وقد صحح روايتها علماؤنا ، وبحث أسانيدها العلامة الجلالي في كتابه جهاد الإمام السجاد×/269، وشرحها العلامة السيد حسن القبانجي&باسم (شرح رسالة الحقوق للإمام علي بن الحسين زين العابدين×) ، وذكر شروحها وترجماتها صاحب الذريعة&: 7/42 ومعجم المطبوعات النجفية/220، وموسوعة مؤلفي الإمامية: 1/233.
(راجع: رجال النجاشي/116، وتحف العقول لابن شعبة الحراني/255، والخصال/564 ، ومعجم رجال الحديث للسيد الخوئي: 4/293، ومستدرك الوسائل: 11/154، والبحار: 71/10، ونهج السعادة: 7/211، وأعيان الشيعة: 1/638، ومجلة تراثنا: 61/140).
ونورد نصها من الخصال ، مع عبارات من تحف العقول:
فهرس رسالة الحقوق والواجبات
(عن أبي حمزة الثمالي قال: هذه رسالة علي بن الحسين×إلى بعض أصحابه: إعلم أن لله عز وجل عليك حقوقاً محيطة بك في كل حركة تحركتها أو سكنه سكنتها ، أو حال حلتها أو منزلة نزلتها أو جارحة قلبتها أو آلة تصرفت فيها (بعضها أكبر من بعض) ، فأكبر حقوق الله تعالى عليك ما أوجب عليك لنفسه من حقه الذي هو أصل الحقوق ، ثم ما أوجب الله عز وجل عليك لنفسك من قرنك إلى قدمك ، على اختلاف جوارحك ، فجعل عز وجل للسانك عليك حقاً ، ولسمعك عليك حقاً ، ولبصرك عليك حقاً ، وليدك عليك حقاً ، ولرجلك عليك حقاً ، ولبطنك عليك حقاً ، ولفرجك عليك حقاً ، فهذه الجوارح السبع التي بها تكون الأفعال .
ثم جعل عز وجل لأفعالك عليك حقوقاً ، فجعل لصلاتك عليك حقاً ، ولصومك عليك حقاً ، ولصدقتك عليك حقاً ، ولهديك عليك حقاً . ثم تخرج الحقوق منك إلى غيرك من ذوي الحقوق عليك فأوجبها عليك حقوق أئمتك، ثم حقوق رعيتك ، ثم حقوق رحمك فهذه حقوق يتشعب منها حقوق .
فحقوق أئمتك ثلاثة أوجبها عليك: حق سائسك بالسلطان، ثم حق سائسك بالعلم، ثم حق سائسك بالملك . (وكل سائس إمام)
وحقوق رعيتك ثلاثة أوجبها عليك: حق رعيتك بالسلطان ، ثم حق رعيتك بالعلم فان الجاهل رعية العالم ، ثم حق رعيتك بالملك ، من الأزواج وما ملكت الإيمان . وحقوق رحمك كثيرة متصلة بقدر اتصال الرحم في القرابة وأوجبها عليك: حق أمك ثم حق أبيك ثم حق ولدك ثم حق أخيك ، ثم الأقرب فالأقرب والأولى فالأولى . ثم حق مولاك المنعم عليك ثم حق مولاك الجارية نعمته عليك
ثم حق ذوي المعروف لديك ، ثم حق مؤذنك لصلاتك ، ثم حق إمامك في صلاتك ثم حق جليسك ، ثم حق جارك ، ثم حق صاحبك ، ثم حق شريكك ، ثم حق مالك ، ثم حق غريمك الذي تطالبه ، ثم حق غريمك الذي يطالبك ، ثم حق خليطك ثم حق خصمك المدعي عليك ثم حق خصمك الذي تدعي عليه . ثم حق مستشيرك ، ثم حق المشير عليك ، ثم حق مستنصحك ثم حق الناصح لك ثم حق من هو أكبر منك ، ثم حق من هو أصغر منك ، ثم حق سائلك ، ثم حق من سألته ، ثم حق من جرى لك على يديه مساءة بقول أو فعل عن تعمد منه أو غير تعمد ، ثم حق أهل ملتك عليك ، ثم حق أهل ذمتك ثم الحقوق الجارية بقدر علل الأحوال ، وتصرف الأسباب . فطوبى لمن أعانه الله على ما أوجب عليه من حقوقه ، ووفقه لذلك وسدده .
حق الله عليك أن تطيعه بإخلاص
فأما حق الله الأكبر عليك فأن تعبده لا تشرك به شيئاً ، فإذا فعلت ذلك بإخلاص ، جعل لك على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والآخرة .
(ويحفظ لك ما تحب منها ).
حقوق نفسك وجوارحك عليك
وحق نفسك عليك أن تستعملها بطاعة الله عز وجل فتؤدي إلى لسانك حقه وإلى سمعك حقه ، وإلى بصرك حقه ، وإلى يدك حقها وإلى رجلك حقها ، و إلى بطنك حقه ، وإلى فرجك حقه ، وتستعين بالله على ذلك .
حق لسانك عليك
وحق اللسان إكرامه عن الخنى وتعويده الخير ، وترك الفضول التي لا فائدة فيها ، والبر بالناس ، وحسن القول فيهم . (ويعد شاهد العقل ، والدليل عليه وتزين العاقل بعقله وحسن سيرته في لسانه )
حق سمعك عليك
وحق السمع تنزيهه عن سماع الغيبة ، وسماع ما لا يحل سماعه ، (فإنه باب الكلام إلى القلب ، يودي إليه ضروب المعاني على ما فيها من خير أو شر) .
حق بصرك عليك
وحق البصر أن تغمضه عما لا يحل لك ، وتعتبر بالنظر به ، (وترك ابتذاله إلا لموضع عبرة ، تستقبل بها بصراً ، أو تستفيد بها علماً ، فإن البصر باب الإعتبار) .
حق يدك ورجلك عليك
وحق يدك أن لا تبسطها إلى ما لا يحل لك ، (فتنال بما تبسطها إليه من الله العقوبة في الأجل ، ومن الناس بلسان اللائمة في العاجل ، ولا تقبضها عما افترض الله عليها ولكن توقرها به) .
وحق رجلك أن لا تمشي بها إلى ما لا يحل لك فيها (ولا تجعلها مطيتك في الطريق المستخفة بأهلها فيها ، فإنها حاملتك وسالكة بك مسلك الدين) بها تقف على الصراط ، فانظر أن لا تزل بك فتتردى في النار .
حق بطنك وفرجك عليك
وحق بطنك أن لا تجعله وعاء للحرام ، ولا تزيد على الشبع، (فإن الشبع المنتهى بصاحبه إلى التخمة مكسلة ومثبطة ومقطعة عن كل بر وكرم ، وإن الريَّ المنتهى بصاحبه إلى السكر مسخفة ومجهلة ومذهبة للمروة ).
وحق فرجك أن تحصنه عن الزناء ، وتحفظه من أن ينظر إليه ، (والإستعانة عليه بغض البصر فإنه من أعون الأعوان ، وضبطه إذا هم بالجوع والظمأ ، وكثرة ذكر الموت والتهدد لنفسك بالله ، والتخويف لها به ).
حق الصلاة عليك
وحق الصلاة أن تعلم أنها وفادة إلى الله عز وجل ، وأنك فيها قائم بين يدي الله عز وجل ، فإذا علمت ذلك قمت مقام الذليل الحقير ، الراغب الراهب ، والراجي الخائف ، المستكين المتضرع ، المعظم لمن كان بين يديه ، بالسكون والوقار (والإطراق وخشوع الأطراف ولين الجناح ، وحسن المناجاة له في نفسك ، والطلب إليه في فكاك رقبتك ، التي أحاطت بها خطيئتك واستهلكتها ذنوبك) وتقبل عليها بقلبك وتقيمها بحدودها وحقوقها .
حق الحج عليك
وحق الحج أن تعلم أنه وفادة إلى ربك ، وفرار إليه من ذنوبك ، وبه قبول توبتك ، وقضاء الفرض الذي أوجبه الله عليك .
حق الصوم عليك
وحق الصوم أن تعلم أن حجاب ضربه الله على لسانك وسمعك وبصرك وبطنك وفرجك ، ليسترك به من النار ، فإن تركت الصوم خرقت ستر الله عليك .
حق الصدقة عليك
وحق الصدقة أن تعلم أنها ذخرك عند ربك عز وجل ، ووديعتك التي لا تحتاج إلى الإشهاد عليها ، وكنت بما تستودعه سراً أوثق منك بما تستودعه علانية ، وتعلم أنها تدفع البلايا والإسقام عنك في الدنيا ، وتدفع عنك النار في الآخرة . (ثم لم تمتن بها على أحد لأنها لك ، فإذا امتننت بها لم تأمن أن يكون بها مثل تهجين حالك منها إلى من مننت بها عليه ، لأن في ذلك دليلاً على أنك لم ترد نفسك بها ، ولو أردت نفسك بها لم تمتن بها على أحد ) .
حق الأضحية في الحج عليك
وحق الهدي أن تريد به الله عز وجل ، ولا تريد به خلقه ، ولا تريد به إلا التعرض لرحمة الله ونجاة روحك يوم تلقاه .
حق الحاكم عليك
(فأما حق سائسك بالملك فأن تطيعه ولا تعصيه إلا فيما يسخط الله عز وجل فانه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) .
وحق السلطان أن تعلم أنك جعلت له فتنة ، وأنه مبتلى فيك بما جعل الله عز وجل له عليك من السلطان ، وأن عليك أن لا تتعرض لسخطه ، فتلقي بيديك إلى التهلكة ، وتكون شريكاً له فيما يأتي إليك من سوء ، (وأن تخلص له في النصيحة ، وأن لا تماحكه وقد بسطت يده عليك ، فتكون سبب هلاك نفسك وهلاكه . وتذلل وتلطف لإعطائه من الرضى ما يكفُّه عنك ، ولا يضر بدينك ، وتستعين عليه في ذلك بالله ، ولا تعازَّه ولا تعانده ، فإنك إن فعلت ذلك عققته وعققت نفسك ، فعرضتها لمكروهه ، وعرضته للهلكة فيك ، وكنت خليقاً أن تكون معيناً له على نفسك ، وشريكاً له فيما أتى إليك) . (وأما حق سائسك بالملك فنحو من سائسك بالسلطان إلا أن هذا يملك ما لا يملكه ذاك ، تلزمك طاعته فيما دق وجل منك ، إلا أن تخرجك من وجوب حق الله ، فإن حق الله يحول بينك وبين حقه وحقوق الخلق فإذا قضيته رجعت إلى حقه فتشاغلت به).
حق أستاذك وقدوتك
وحق سائسك بالعلم التعظيم له ، والتوقير لمجلسه ، وحسن الإستماع إليه ، والإقبال عليه ، (والمعونة له على نفسك فيما لا غنى بك عنه من العلم ، بأن تفرغ له عقلك ، وتحضره فهمك ، وتزكي له قلبك ، وتجلي له بصرك ، بترك اللذات ونقض الشهوات) ، وأن لا ترفع عليه صوتك ، ولا تجيب أحداً يسأله عن شئ ، حتى يكون هو الذي يجيب ، ولا تحدِّث في مجلسه أحداً ، ولا تغتاب عنده أحداً ، وأن تدفع عنه إذا ذكر عندك بسوء ، وأن تستر عيوبه وتظهر مناقبه ، ولا تجالس له عدواً ولا تعادي له ولياً ، فإذا فعلت ذلك شهد لك ملائكة الله بأنك قصدته ، وتعلمت علمه لله جل اسمه لا للناس .
حق من تحكمهم عليك
وأما حق رعيتك بالسلطان فأن تعلم أنهم صاروا رعيتك لضعفهم وقوتك ، فيجب أن تعدل فيهم ، وتكون لهم كالوالد الرحيم ، وتغفر لهم جهلهم ، ولا تعاجلهم بالعقوبة ، وتشكر الله عز وجل على ما آتاك من القوة عليهم .
حق تلاميذك عليك
وأما حق رعيتك بالعلم فأن تعلم أن الله عز وجل إنما جعلك قيما لهم فيما آتاك من العلم وفتح لك من خزائنه ، فإن أحسنت في تعليم الناس ، ولم تخرق بهم ، ولم تضجر عليهم ، زادك الله من فضله . وإن أنت منعت الناس علمك ، أو خرقت بهم عند طلبهم العلم منك ، كان حقاً على الله عز وجل أن يسلبك العلم وبهاءه ويسقط من القلوب محلك .
حق زوجتك عليك
وأما حق الزوجة فأن تعلم أن الله عز وجل جعلها لك سكناً وأنساً فتعلم أن ذلك نعمة من الله عليك ، فتكرمها وترفق بها ، وإن كان حقك عليها أوجب فإن لها عليك أن ترحمها لأنها أسيرك ، وتطعمها وتكسوها ، وإذا جهلت عفوت عنها .
حق مملوكك عليك
وأما حق مملوكك فأن تعلم أنه خلق ربك وابن أبيك وأمك ولحمك ودمك تملكه ، (لأنك صنعته من دون الله، ولا خلقت شيئاً من جوارحه ، ولا أخرجت له رزقاً ، ولكن الله عز وجل كفاك ذلك ثم سخره لك وائتمنك عليه واستودعك إياه ، ليحفظ لك ما تأتيه من خير إليه . فأحسن إليه كما أحسن الله إليك ، وإن كرهته استبدلت به ، ولا تعذب خلق الله عز وجل ).
حق أمك عليك
وأما حق أمك فأن تعلم أنها حملتك حيث لا يحتمل أحد أحداً ، وأعطتك من ثمرة قلبها ما لا يعطي أحد أحداً ، ووقتك بجميع جوارحها ، ولم تبال أن تجوع وتطعمك ، وتعطش وتسقيك ، وتعرى وتكسوك ، وتضحى وتظلك ، وتهجر النوم لأجلك ، ووقَتْكَ الحر والبرد ، لتكون لها ، فإنك لا تطيق شكرها إلا بعون الله وتوفيقه.
حق أبيك عليك
وأما حق أبيك فأن تعلم أنه أصلك ، وأنه لولاه لم تكن ، فمهما رأيت في نفسك مما يعجبك ، فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه، فاحمد الله واشكره ، على قدر ذلك .
حق ولدك عليك
وأما حق ولدك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره و شره ، وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل ، والمعونة له على طاعته ، فاعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه ، معاقب على الإساءة إليه .
(فاعمل في أمره عمل المتزين بحسن أثره عليه في عاجل الدنيا المعذر إلى ربه فيما بينك وبينه بحسن القيام عليه ، والأخذ له منه).
حق أخيك عليك
(وأما حق أخيك فتعلم أنه يدك التي تبسطها ، وظهرك الذي تلتجي إليه ، وعزك الذي تعتمد عليه ، وقوتك التي تصول بها ، فلا تتخذه سلاحاً على معصية الله ، ولا عدة للظلم لخلق الله ، ولا تدع نصرته على نفسه ، ومعونته على عدوه ، والحول بينه وبين شياطينه وتأدية النصيحة إليه ، فإن انقاد لربه وأحسن الإجابة له ، وإلا فليكن الله آثر عندك وأكرم عليك منه) .
حق المولى على عبده الذي أعتقه
وأما حق مولاك المنعم عليك ، فأن تعلم أنه أنفق فيك ماله وأخرجك من ذل الرق ووحشته ، إلى عز الحرية وأنسها ، فأطلقك من أسر الملكة ، وفك عنك قيد العبودية ، وأخرجك من السجن ، وملكك نفسك ، وفرغك لعبادة ربك . وتعلم أنه أولى الخلق بك في حياتك وموتك ، وأن نصرته عليك واجبة بنفسك ، وما احتاج إليه منك .
حق المعتَق على المولى الذي أعتقه
وأما حق مولاك الذي أنعمت عليه ، فأن تعلم أن الله عز وجل جعل عتقك له وسيلة إليه ، وحجاباً لك من النار ، وأن ثوابك في العاجل ميراثه ، إذا لم يكن له رحم مكافأة بما أنفقت من مالك ، وفى الآجل الجنة .
حق صاحب الفضل عليك
وأما حق ذي المعروف عليك ، فأن تشكره وتذكر معروفه ، وتكسبه المقالة الحسنة ، وتخلص له الدعاء فيما بينك وبين الله عز وجل ، فإذا فعلت ذلك كنت قد شكرته سراً وعلانية ، ثم إن قدرت على مكافأته يوماً كافأته .
حق مؤذن المحلة
وأما حق المؤذن ، فأن تعلم أنه مذكر لك ربك عز وجل ، وداع لك إلى حظك ، وعونك على قضاء فرض الله عليك ، فاشكره على ذلك شكرك للمحسن إليك .
حق إمام الجماعة
وحق إمامك في صلاتك ، فأن تعلم أنه تقلد السفارة فيما بينك وبين ربك عز وجل ، (والوفادة إلى ربك) وتكلم عنك ولم تتكلم عنه ، ودعا لك ولم تدع له ، وكفاك هول المقام بين يدي الله عز وجل ، (والمسألة له فيك) فإن كان(في شئ من ذلك)نقص كان به دونك ، وإن كان تماماً كنت شريكه ، ولم يكن له عليك فضل ، فوقى نفسك بنفسه وصلاتك بصلاته ، فتشكر له على قدر ذلك .
حق من تجالسه
وأما حق جليسك فأن تلين له جانبك ، وتنصفه في مجاراة اللفظ ولا تقوم من مجلسك إلا بإذنه ، ومن يجلس إليك يجوز له القيام عنك بغير إذنه ، وتنسى زلاته وتحفظ خيراته ، ولا تسمعه إلا خيراً .
حق جارك عليك
وأما حق جارك ، فحفظه غائباً ، وإكرامه شاهداً ، ونصرته إذا كان مظلوماً ، ولا تتبع له عورة ، فإن علمت عليه سوءا سترته عليه ، وإن علمت أنه يقبل نصيحتك نصحته فيما بينك وبينه ، ولا تسلمه عند شديدة ، وتقيل عثرته ، وتغفر ذنبه ، (لا تتبع له عورة ، ولا تبحث له عن سوءة لتعرفها ، فإن عرفتها منه من غير إرادة منك ولا تكلف ، كنت لما علمت حصناً حصيناً وستراً ستيراً ، لا تستمع عليه من حيث لا يعلم ، ولا تسلمه عند شديدة ، ولا تحسده عند نعمة ، تقيله عثرته ، وتغفر زلته ، ولا تذخر حلمك عنه إذا جهل عليك ، ولا تخرج أن تكون سلماً له ، ترد عنه لسان الشتيمة ، وتبطل فيه كيد حامل النصيحة ، وتعاشره معاشرة كريمة).
حق من ترافقه
وأما حق الصاحب ، فأن تصحبه بالتفضل والإنصاف ، وتكرمه كما يكرمك ، ولا تدعه يسبق إلى مكرمة ، فإن سبق كافأته ، وتوده كما يودك ، وتزجره عما يهم به من معصية ، وكن عليه رحمة ولا تكن عليه عذاباً .
حق شريكك في عمل
وأما حق الشريك ، فإن غاب كفيته ، وإن حضر رعيته ، ولا تحكم دون حكمه ، ولا تعمل برأيك دون مناظرته ، وتحفظ عليه ماله ، ولا تخونه فيما عز أو هان من أمره ، فإن يد الله تبارك وتعالى على أيدي الشريكين ما لم يتخاونا .
حق مالك عليك
وأما حق مالك ، فأن لا تأخذه إلا من حله ، ولا تنفقه إلا في وجهه ، ولا تؤثر به على نفسك من لا يحمدك ، فاعمل فيه بطاعة ربك ، ولا تبخل به فتبوء بالحسرة والندامة مع التبعة .
حق غريمك الذي يطالبك
وأما حق غريمك الذي يطالبك ، فإن كنت موسرا أعطيته (ولم ترده وتمطله ، فإن رسول الله’قال: مطل الغني ظلم) ، وإن كنت معسراً أرضيته بحسن القول ، (وطلبت إليه طلباً جميلاً) ، ورددته عن نفسك رداً لطيفاً ، (ولم تجمع عليه ذهاب ماله وسوء معاملته ، فإن ذلك لؤم ) .
حق من تعيش معه
وحق الخليط أن لا تغره ولا تغشه ولا تخدعه ، وتتقي الله تبارك وتعالى في أمره (ولا تكذبه ، ولا تغفله ، ولا تخدعه ، ولا تعمل في انتقاضه ، عمل العدو الذي لا يبقي على صاحبه ، وإن اطمأن إليك استقصيت له على نفسك وعلمت أن غبن المسترسل ربا ).
حق خصمك الذي يدعي عليك
وحق الخصم المدعي عليك ، فإن كان ما يدعي عليك حقاً كنت شاهده على نفسك ولم تظلمه ، وأوفيته حقه ، وإن كان ما يدعي به باطلاً ، رفقت به ولم تأت في أمره غير الرفق ، ولم تسخط ربك في أمره . (فإن كان ما يدعي عليك حقاً لم تنفسخ في حجته ولم تعمل في إبطال دعوته ، وكنت خصم نفسك له ، والحاكم عليها ، والشاهد له بحقه دون شهادة الشهود . وإن كان مايدعيه باطلاً ، رفقت به وردعته وناشدته بدينه ، وكسرت حدته عنك بذكر الله ، وألقيت حشو الكلام ولفظة السوء الذي لا يرد عنك عادية عدوك بل تبوء بإثمه ، وبه يشحذ عليك سيف عداوته ، لأن لفظة السوء تبعث الشر ، والخير مقمعة للشر ) .
حق خصمك الذي تدعي عليه
وحق خصمك الذي تدعي عليه ، إن كنت محقاً في دعواك أجملت مقاولته ، ولم تجحد حقه ، (فإن كان ما تدعيه حقاً أجملت في مقاولته بمخرج الدعوى ، فإن للدعوى غلظة في سمع المدعى عليه ، وقصدت قصد حجتك بالرفق ، وأمهل المهلة ، وأبين البيان ، وألطف اللطف ، ولم تتشاغل عن حجتك بمنازعته بالقيل والقال ، فتذهب عنك حجتك ، ولا يكون لك في ذلك درَك ) .
وإن كنت مبطلاً في دعواك اتقيت الله عز وجل ، وتبت إليه ، وتركت الدعوى .
حق من يستشيرك
(وأما حق المستشير ، فإن حضرك له وجه رأي جهدت له في النصيحة ، وأشرت عليه بما تعلم أنك لو كنت مكانه عملت به ، وذلك ليكن منك في رحمة ولين ، فإن اللين يونس الوحشة ، وإن الغلظ يوحش من موضع الأنس . وإن لم يحضرك له رأي وعرفت له من تثق برأيه وترضى به لنفسك ، دللته عليه وأرشدته إليه ، فكنت لم تأله خيراً ، ولم تدخره نصحاً ).
حق من تستشيره
وحق المشير عليك أن لا تتهمه فيما لا يوافقك من رأيه ، وإن وافقك حمدت الله عز وجل . (فإنما هي الآراء وتصرف الناس فيها واختلافهم ، فكن عليه في رأيه بالخيار إذا اتهمت رأيه . فأما تهمته فلا تجوز لك إذا كان عندك ممن يستحق المشاورة ، ولا تدع شكره على ما بدا لك من إشخاص رأيه ، وحسن وجه مشورته ، فإذا وافقك حمدت الله وقبلت ذلك من أخيك ، بالإرصاد بالمكافأة في مثلها إن فزع إليك ).
حق من يطلب منك النصحية
(وأما حق المستنصح ، فإن حقه أن تؤدي إليه النصيحة على الحق الذي ترى له أن يحمل ، ويخرج المخرج الذي يلين على مسامعه ، وتكلمه من الكلام بما يطيقه عقله ، فإن لكل عقل طبقة من الكلام ، يعرفه ويجيبه ، وليكن مذهبك الرحمة ).
حق من نصحك
وحق الناصح أن تلين له جناحك ، وتصغي إليه بسمعك ( حتى تفهم عنه نصيحته) ، فإن أتى بالصواب حمدت الله عز وجل ، (وقبلت منه وعرفت له نصيحته) وإن لم يوافق رحمته ولم تتهمه ، (وعلمت أنه لم يألك نصحاً إلا أنه أخطأ) ، ولم تؤاخذه بذلك ، إلا أن يكون مستحقاً للتهمة ، فلا تعبأ بشئ من أمره على حال .
حق كبير السن
وحق الكبير توقيره لسنه ، وإجلاله لتقدمه في الإسلام قبلك ، وترك مقابلته عند الخصام ، ولا تسبقه إلى طريق ، ولا تتقدمه ، ولا تستجهله ، وإن جهل عليك احتملته وأكرمته، لحق الإسلام وحرمته .
حق صغير السن
وحق الصغير رحمته في تعليمه ، والعفو عنه ، والستر عليه ، والرفق به ، والمعونة له . (والستر على جرائر حداثته فإنه سبب للتوبة ، والمداراة له وترك مماحكته ، فإن ذلك أدنى لرشده ).
حق من يسألك حاجة أو تسأله حاجة
وحق السائل إعطاؤه على قدر حاجته ، وحق المسؤول إن أعطى فاقبل منه بالشكر والمعرفة بفضلة ، وإن منع فاقبل عذره .
وأما حق المسؤول ، فإن أعطى فاقبل منه ما أعطى بالشكر له ، والمعرفة لفضله ، واطلب وجه العذر في منعه وأحسن به الظن ، واعلم أنه إن منع ماله منع ، وأن ليس عليه التثريب في ماله ، وإن كان ظالماً ، فإن الإنسان لظلوم كفار ) .
حق من أحسن اليك بخدمة
(وأما حق من سرك الله به وعلى يديه ، فإن كان تعمدها لك حمدت الله أولاً ثم شكرته على ذلك بقدره ، في موضع الجزاء ، وكافأته على فضل الإبتداء ، وأرصدت له المكافأة .
وإن لم يكن تعمدها ، حمدت الله وشكرته ، وعلمت أنه منةٌ توحدك بها.. سبباً من أسباب نعم الله عليك ).
حق من أساء اليك
وحق من ساءك أن تعفو عنه . وإن علمت أن العفو يضر انتصرت قال الله تبارك وتعالى: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ. (فإن لم يكن عمداً لم تظلمه بتعمد الإنتصار منه ، فتكون كافأته في تعمد على خطأ، ورفقت به ورددته بألطف ما تقدر عليه).
حق أهل ملتك ودينك عليك
وحق أهل ملتك إضمار السلامة لهم والرحمة لهم ، والرفق بمسيئهم ، وتألفهم واستصلاحهم ، وشكر محسنهم ، وكف الأذى عنهم ، وتحب لهم ما تحب لنفسك ، وتكره لهم ما تكره لنفسك ، وأن يكون شيوخهم بمنزلة أبيك ، وشبابهم بمنزلة إخوتك ، وعجائزهم بمنزلة أمك ، والصغار بالمنزلة أولادك .
حق أهل الكتاب في بلدك
وحق الذمة أن تقبل منهم ما قبل الله عز وجل منهم، ولا تظلمهم ما وفوا لله عز وجل بعهده.(وتفي بما جعل الله لهم من ذمته وعهده ، وتكلمهم إليه فيما طلبوا من أنفسهم وأجبروا عليه ، وتحكم فيهم بما حكم الله به على نفسك فيما جرى بينك وبينهم من معاملة، وليكن بينك وبين ظلمهم من رعاية ذمة الله والوفاء بعهده وعهد رسوله).
حق أقاربك وعشيرتك
(وأما حق أهل بيتك عامة فإضمار السلامة ، ونشر جناح الرحمة ، والرفق بمسيئهم ، وتألفهم واستصلاحهم ، وشكر محسنهم إلى نفسه وإليك ، فإن إحسانه إلى نفسه إحسانه إليك إذا كف عنك أذاه ، وكفاك مؤنته، وحبس عنك نفسه ، فعمهم جميعاً بدعوتك وانصرهم جميعاً بنصرتك ، وأنزلهم جميعاً منك منازلهم ، كبيرهم بمنزلة الوالد وصغيرهم بمنزلة الولد ، وأوسطهم بمنزلة الأخ ، فمن أتاك تعاهدته بلطف ورحمة ، وصل أخاك بما يجب للأخ على أخيه . فهذه خمسون حقاً محيطة بك ، لاتخرج منها في حال من الأحوال يجب عليك رعايتها ، والعمل في تأديتها ، والإستعانة بالله جل ثناؤه على ذلك ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . والحمد لله رب العالمين ). انتهى.