من حيث كانت انطلاقته الفقهية ورؤيته في قراءة النص في بعده الاجتماعي،حيث انجذب السيد محمد باقر الصدر إلى ما طرحه الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه فقه الإمام الصادق حيث قال : ” … كانت هذه المرة الأولى التي قرأت فيهاعن عنصر الفهم الاجتماعي للنص ، هي حين قرأت بعض أجزاء المجدد الخالد ” فقه الإمام الصادق الذي وضعه شيخنا الحجةالكبير ” الشيخ محمد جواد مغنية ” الذي حصل الفقه الجعفري على يده في هذا الكتاب المبدع على صورة رائعة في الأسلوب والتعبير والبيان ” بحوث إسلامية ..للسيد محمد باقر الصدر
فالفهم الاجتماعي للنص معناه : ” فهم النص على ضوءارتكاز عام يشترك فيه الأفراد نتيجة لخبرة عامة وذوق موحد،وهو لذلك يختلف عن الفهم اللفظي واللغوي للنص الذي يعني تحديد الدلالات الوضعية والسياقية للكلام”. مصدر سابق.
هذه الرؤية شكلت مدرسة جديدة وتجديدية أخذت وقتا مرحليا كي تتضح معالم النظرية في حاضنة وعيها ، ومن ثم انطلاقها للحاضنة العلمية الحوزية وقدمت فتوحات علمية في قراءة النص وفق عنصر الفهم الاجتماعي.
فمن وجهة نظري تلمست في السيدة الفاضلة أم عباس النمر تأثرا بهذه المدرسة الصدرية في قراءة النص وفق الفهم الاجتماعي ، واستطاعت في هذا الصدد أن تقدم قراءات متميزة في النصوص الحديثية والقرآنية والتاريخية آخذة في الحسبان البعد المعرفي في الموضوع والعمق العرفاني ، لتدمج في ذلك بين القراءة العقلية والعرفانية بطريقة متجانسة تشبع حاجات الانسان العقلية والروحية.
ونستطيع القول أنها لعبت دورا تجديديا على عدة أصعدة نرصد أهمها وفق قراءة خاصة قد يجانبها الصحة في مفاصل وقد تكون صحيحة في مفاصل أخرى:
١. المنبر الحسيني النسوي
كلنا نعلم رغم تاريخية المنبر النسوي وما يشكله من أهمية في المجتمع النسوي إذ يلعب دورا هاما في الحفاظ على الرابطة العاطفية بين أهل البيت عليهم السلام وأتباعهم، ويبقي قضيتهم حية دوما في قلوب محبيهم ، إلا أننا أيضا لا ننكر كم السلبيات التي يسببها هذا المنبر على واقع المجتمع النسوي من حيث الوعي والرشد وتشويه كثير من الحقائق وتسطيح الطرح والتركيز على جانب الإبكاء والتوغل في ذلك لدرجة تحول الإبكاء وكثرته إلى غاية وهدف للجمهور تقيم على أساسها أداء صاحبة المنبر. إضافة إلى عدم وجود طرح علمي وموضوعي غالبا فيما يثار من قضايا على المنبر النسوي لغلبة ثقافة العزاء والإبكاء لأجل الثواب على ثقافة الإحياء وتحقيق الغاية من العزاء وهي النهوض بالوعي من مدرسة الوحي.
استطاعت الأستاذة أم عباس وبشكل ماهر أن تطور من المنبر الحسيني النسوي ، وأن تعيد صياغة فكرة التجديد للمنبر لا من خلال نظرية الصدمة التي تسقط كل الحقائق وكل مشاريع الاصلاح من خلال رفض الجمهور لما يطرح لاختلافه عما اعتاد على سماعه،بل من خلال نظرية المرحلية والبناء ثم الهدم من الداخل دون أدنى مواجهة مع مسلمات الجمهور الظاهرة.
فهي تبني فكرة وتهدم مماثلتها المنحرفة،تبني فكرة وترسخ جذورها في الذهن ومن ثم تقيم الأعمدة والبناء الكلي عليها ، وبعد ذلك تبدأ ذهنية الحضور تدريجيا بطرد الفكرة المماثلة المشوهة وترسيخ الفكرة الجديدة وهكذا حتى استطاعت أن تحدث تغييرا جذريا وليس سطحيا في مفاهيم كثيرة ، وتنهض بمستوى المنبر الحسيني النسوي من تقليدية باتت تبعد الجيل الجديد عنه إلى تصحيحية تجديدية إن صح التعبير جذبت الجيل الجديد الشاب إليه والقت في ذهنيته بذور مفاهيمية ساقتها وفق قراءة اجتماعية للنصوص تلامس واقعه وتعالج قضاياه .
٢. البناء العقدي ونظرية الهجوم لا الدفاع:
البيئة المحيطة بالأستاذة هي بيئة تضج بالتشكيك العقدي والاتهامات بالشرك والكفر ، لمست الاستاذة الفاضلة وجود تشويه في المباني العقدية لدى الكثيرات ، وهو أمر بديهي الحدوث نتيجة المواجهة الدائمة في قلب العقيدة ومسها وهي التوحيد، وهو ما سبب حدوث ردة فعل انغلق فيها كثر على مفهوم مذهبي للإمامة ، كانت سببا في إحداث الكثير من الارباكات المعرفية والعقدية.
استطاعت أن تشخص مكامن الخلل وأن تقدم معالجات جوهرية من خلال ما يتباه الناس ولكن بطريقة علمية مبنائية ومعرفية حولت من خلالها الإمامة في مرتكزات الفهم العام من شأن له أبعاد مذهبية خاصة بعيدة عن الواقع العملي ، إلى شأن جوهره التوحيد وقابل للمارسة العمليةالمنهجية في الحياة ، فطرحت الإمامة في بعدها التوحيدي تحول فيها الإمام من مجرد شخص معصوم نبكي لأجله إلى منهج حياة يعالج كثير من قضايانا ويمارس دوره في هدايتنا.
وبذلك حولت حالة الدفاع الدائم عن العقيدة نتيجة التشكيك المتواصل والاتهام بالشرك والتكفير إلى حالة هجوم مضاد مبني وفق أسس علمية وموضوعية وبرهانية قادرة على اقتحام الآخر في مبانيه التوحيدية في عقر داره .
٣.القيم واستراتيجية الوقاية:
حيث أن الفتنة الشاملة تصيب المجتمعات التي تفقد منظومة القيم والمبادئ ، استطاعت الأستاذة الفاضلة من خلال مقاربتها للواقع أن تشخص نسبة وجود القيمة في المجتمع وأثر ذلك وانعكاسه على انهيار المجتمع ودخوله في الفتنة الشاملة.
فمن خلال تواجدها بين مجموعة شكلت نواة الانطلاق في المحيط الاجتماعي ، استطاعت أن تعالج مجموعة من القيم المهمة المطروحة في ساحات الفكر والمجتمع وكانت قيم يختلط فيها الحق والباطل فيشتبه الانسان بحدودها ومنطلقاتها ، وأهمها الحرية والبصيرة والكرامة.
كانت المعالجة تتم من خلال سلسلة محاضرات مستلهمة من سيرة أهل البيت عليهم السلام تعالج قضايا عصرية خاصة فيما يتعلق بالأسرة والمجتمع ، ولم تكن القيمة تعالج فقط بالكلام والمحاضرات بل كان يرافق ذلك عرض بروجكتر وفق كلمات منتقاة فكريا ، ومشاهد مدروسة في انعكاسها النفسي على المشاهد فاستخدمت الصورة والكلمة والشعر في ترسيخ القيمة وبنائها فكريا ومعرفيا ومن ثم محاولة متابعتها سلوكيا من خلال طرحها كسلوك في سيرة أهل البيت عليهم السلام بعد أن حولت العلاقة بالامام علاقة ارتباط فكري وعقلي وعاطفي ومنهجي ليصبح المسلك مترسخ كمنهج للحياة في ذهنية الجمهور.
وهي تهدف بذلك إلى عمل وقائي على المستوى البعيد ، إذ أن النهوض بمنظومة القيم هو نهوض بالإنسان ووعيه ورشده كي يحقق العدالة وينهض بكرامته ثم يؤدي وظيفته الاستخلافية .
٤. تجسير العلاقة بين المثقف الديني والحوزوي
كلنا يعلم تاريخية الجدل بين المثقف وعالم الدين ، ومحاولات تجسير العلاقة التي نجحت بعض المحاولات بهذا الصدد وفشلت كثير منها لعدة أسباب لا يتناسب ومقام المقال لذكرها لعدم تناسبها الموضوعي.
حاولت أم عباس في الوسط النسوي السعي لتطبيق فكرة التجسير بين العالم والمثقف ، فالتف حولها نخبة تختلف درجاتهم المعرفية إلا أنها شبكة يمكن أن تكون صلة وصل مهمة بين العالم والمجتمع بعبور جسر المثقف ، إذ يشخص المثقف هموم الذات والمجتمع وأهم الاشكاليات المعرفية ويعالج العالم ذلك بمعالجات عصرية قريبة من الواقع تبين أهمية الإنسان وقدرة الدين على خدمته والتخفيف من آلامه ومعاناته.
ورغم أن المحاولة في مهدها ما زالت إلا أنها تشكل بداية بذرية جيدة للانطلاق والتطبيق.
نعم تواجه الاستاذة بعض الصعوبات أهمها أنها إمرأة في وسط يميل بفكره ذكوريا ، ووسط مازال متأثرا بالنظرة التقليدية للمرأة وهو عائق أعتقد من الممكن تجاوزه ومن ثم معالجته إذا استطاعت الأستاذه تشخيص طرق المعالجة المرحلية وفق منهجية حكيمة اعتقدها جديرة بذلك .
إضافة إلى أن البعد عن الساحة العملية الاجتماعية والاحاطة بمجموعة من النخب قد يشكل عائقا من جهتين:
الأولى : التوغل في التنظير البعيد نوعا ما عن الواقع وهو ما يتطلب الاحتكاك بالساحة الاجتماعية وبكافة أطيافها لتصبح أكثر قربا من الواقع، وهو ما يتطلب اختلاط بأكبر نسبة من الجمهور والاطلاع عن كثب على واقعه الاجتماعي وعدم الاكتفاء بمخاطبته من خلال المنبر فقط.
الثانية : الاحاطة بالنخب قد يشكل حاجبا وحاجزا عن تشخيص الواقع ، فبعض هذه النخب تنظيري وبعضه نقدي حاد لا يرى جمالية لأي مشهد ، وقلة هم الموضوعيون الذين يستطيعون تشخيص الاشكاليات المعرفية بصورة مجردة وموضوعية ، وهو ما يتطلب من الأستاذة الفحص والتدقيق وعدم التسليم لتشخيصات تلك النخب وتفحصها ومدى قربها من الواقع وتجردها وموضوعيتها.
إضافة لضرورة وجود نخب صادقة وقادرة على النقد البناء لها ، الذي تستطيع من خلاله الاستاذة معرفة مكامن الخلل في منهجيتها ومعالجتها وإعادة تصويبها، حيث يمكنها أن تطبق نظرية المرجعية الشاهدة والأمة الشهيدة التي طرحها الشهيد محمد باقر الصدر ولكن تطبيقها في نطاق يتناسب والمقام أي بحدود أضيق من المرجعية.
ولا ننكر أيضا أن اختلاف المدارس الفكرية والمدرسية الموجودة في الساحة قد يشكل عائقا واقعيا وحقيقيا لها ، لما لهذا الاختلاف في الثقافة السائدة من دور ليس في الاثراء المعرفي بل في القتل المعرفي والخلاف الذي يصل أحيانا لدرجة القتل الاجتماعي ، وهو ما يتطلب وعي وحذر شديدين ودقة في الحراك والطرح لصيانة هذه التجربة والسعي لانجاحها لتقدم نموذجا رائدا يستطيع تغيير مسيرة المرأة في مشروع التمهيد.
إننا اليوم نحتاج لدعم الطاقات والكفاءات النسوية والعمل على تمكينها كي نحدث تغييرا في تصور الرجل عن المرأة ، وتغييرا في تصور المرأة عن ذاتها ودورها ووظيفتها وسعتها المعرفية ، ومن ثم تغييرا شاملا في المجتمع يغربل الدين من كل الموروثات الأبوية والعادات والأعراف المنافية للشرع والعقل، وتكون هناك قراءة عصرية أصيلة لشخصية المرأة قادرة على النهوض بها وحمايتها وصونها ضمن حدود وظيفتها الاستخلافية التي أرادها الله منها.
فمسؤولية نجاح نموذج الأستاذة أم عباس يقع على عاتقها أولا، وعلى عاتق النخب ثانيا ، وعاتق الرجل ثالثا، وعاتق المجتمع رابعا ، وكلها تتحكم بها تداخلات وتشتبك في نقاط يمكن فعليا تجاوزها إذا استطعنا حل معضلة الجدل الإنساني وامتلاك نظرة موضوعية علمية تجريدية لموضوعة المرأة في الفكر الإسلامي.