المراد من «القائم» و«صاحب الأمر» نموذجاً
بقلم: سلمان عبد الأعلى
تمهيد
بات من الملح جداً في وقتنا الراهن أن نعمل بجد وجرأة لإخضاع القضية المهدوية بمختلف موضوعاتها وملفاتها للدراسة النقدية وللتحقيق العلمي الجاد بما يتناسب مع معطيات العلوم الإنسانية الحديثة، وذلك نظراً لحساسيتها ولكثرة الثغرات والقضايا الشائكة المرتبطة بها، والتي كثيراً ما يتم توظيفها واستغلالها من قبل أصحاب الدعوات المهدوية لنيل بعض المآرب الخاصة، مما يؤدي لإرباك الساحة وافتتان الناس، وهذا هو الحاصل بالفعل منذ أمد بعيد وإلى يومنا هذا.
وفي اعتقادي أنه ينبغي أن لا يُستثنى شيء متعلق بهذه القضية من الدراسة النقدية والمراجعة العلمية الصارمة بما فيها أهم القضايا الحساسة والمعتقدات الأساسية كالمسائل التالية: (مسألة ولادة الإمام المهدي (ع) من ناحية إثبات أصل وجودها، ومن ناحية تحديد طبيعتها “هل هي مسألة تاريخية أم عقائدية؟”- مسألة بعض المفردات والمفاهيم المتعلقة بها- مسألة فلسفة الغيبة الصغرى والكبرى وعللها والأدلة عليها- مسألة السفراء الأربعة في الغيبة الصغرى وصراعاتهم مع مدعي السفارة ومنكروها- مسألة السفارة الخاصة ورؤية الإمام المهدي (ع) في عصر الغيبة الكبرى- مسألة إثبات شرعية النيابة العامة عن الإمام المهدي (ع) في عصر الغيبة الكبرى وحدودها- مسألة الانتظار وفلسفته-مسألة الظهور وعلاماته وملابساته- مسألة طبيعة الحكم وتأسيس الدولة بعد مرحلة الظهور) وغيرها من المسائل الأخرى.
غير أن هناك اهمال ملحوظ في القيام بهذا النوع من الدراسات داخل المذهب الشيعي–على الأقل بحسب اطلاعي- لأن غالبية الكتب والأطروحات المقدمة في هذا الإطار تتناول هذه المسألة وملفاتها تحت تأثير إيديولوجي واضح، مما يجعلها بعيدة كل البعد عن الموضوعية، لأن جل همها يتمركز في تكريس الرؤية المذهبية من خلال تكرار القراءات التبجيلية والتمجيدية واجترار الإجابات التقليدية التي أسس لها العلماء السابقون وفق رؤية تتناسب مع زمانهم، كما هو الحال في أغلب الخطابات المنبرية، بل وفي معظم الكتابات والأطروحات التي تقدم في هذا المجال على أساس كونها علمية وموضوعية. وللأسف أن إبقاء هذه القضية حبيسة لهذا النوع من القراءات يسيء إليها إساءة بالغة ويجعل الآخرين يستخفون بها ويسمُونها بعدم العقلانية.
ولا يتصور البعض أني أريد بكلامي هذا الإنكار أو حتى التشكيك بهذه القضايا المطروحة أو ببعضها، وإنما كل ما أريده هو التأكيد على حاجتها الماسة للدراسة النقدية وللمراجعة الهادئة، بعيداً عن ضوضاء المعارك المذهبية وسجالاتها.
في هذا المقال سأحاول الوقوف عند إحدى المسائل التي أعتقد أنها بحاجة ماسة للمراجعة والتقويم، وهي ما يتعلق ببعض المفردات أو المصطلحات المستخدمة للإشارة لهذه القضية، وبالتحديد سوف أتناول نموذجين أو مفردتين مرتبطتان بهذا الشأن وهما: المراد من (القائم) و(صاحب الأمر) في الروايات المنسوبة لأهل البيت عليهم السلام، وسأبين إشكالياتها وخطورة عدم تحديد المراد الدقيق لها.
القضية المهدوية وفوضى المصطلحات
لو وجه هذا السؤال لأحد الشيعة الإثني عشرية: من هو الإمام القائم؟ أو من هو صاحب الأمر؟ فإنه سوف يجيب مباشرة وبلا أدنى تردد أنه الإمام المهدي المنتظر بن الإمام الحسن العسكري عجل الله فرجه الشريف، فهناك ثقافة عامة معروفة لدى عموم الشيعية -حتى لدى أطفالهم- بأن مفردة (القائم) و(صاحب الأمر) تشير إلى الإمام المهدي المنتظر (ع)، بل قد نجد أن هذا الأمر موجود حتى لدى الخاصة منهم، كما في بعض الكتابات والأطروحات التي تتناول هذه المسألة. غير أن هاتين المفردتين في الروايات المنسوبة لأئمة أهل البيت (ع) لا تشير بالضرورة إلى الإمام المهدي ابن الإمام الحسن العسكري (ع)، وإنما قد تشير إلى غيره من الأئمة (ع). ولا أريد بكلامي هذا أن أنفي وجود روايات ذكرت هاتين المفردتين وكانت تشير إليه (ع) على سبيل الحصر، وإنما أريد أن أشير إلى وجود العكس، وهو وجود روايات استخدمت هاتين المفردتين للإشارة إلى غيره أيضاً.
أولاً: المراد من (القائم) في الروايات المنسوبة لأهل البيت(ع)
هناك العديد من الروايات التي استعملت مفردة (القائم) للإشارة إلى الإمام المهدي بن الإمام الحسن العسكري (ع)، سوف أنقل ثلاث روايات منها للإختصار في التالي[1]:
- ما روي عن يحيى بن أبي القاسم عن الصادق جعفر بن محمد عن أبيه عن جده (ع) قال: “قال رسول الله (ص) الأئمة بعدي اثنا عشر أولهم علي بن أبي طالب وآخرهم القائم هم خلفائي وأوصيائي وحجج الله على أمتي بعدي المقر بهم مؤمن والمنكر لهم كافر[2].
- ما روي عن عبدالله بن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا سيد النبيين وعلي بن أبي طالب سيد الوصيين وإن أوصيائي بعدي اثنا عشر أولهم علي بن أبي طالب وآخرهم القائم (ع)[3].
- ما روي عن ثابت بن دينار عن سيد العابدين علي بن الحسين عن سيد الشهداء الحسين بن علي عن سيد الأوصياء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) أنه قال: “قال رسول الله (ص): الأئمة بعدي أثنا عشر أولهم أنت يا علي وآخرهم القائم الذي يفتح الله عز وجل على يديه مشارق الأرض ومغاربها[4].
فهذه الروايات تشير وبكل وضوح على أن المراد بـ(القائم) هو الإمام المهدي ابن الإمام الحسن العسكري (ع)، غير أن هناك روايات أخرى –كما نوهنا لذلك سابقاً- يفهم منها أنها تشير إلى غيره من الأئمة الإثني عشر (ع)، وأن هذا اللقب ليس خاصاً به (ع)، وإذا أطلق فليس بالضرورة يشير إليه، بل قد يشير إلى غيره من الأئمة (ع) أو لنقل بأن بعضها يصرح أنه يشمل غيره أيضاً، ومن هذه الروايات ما يلي[5]:
- عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ، قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام وهُوَ بِالْمَدِينَةِ، فَقُلْتُ لَهُ: عَلَيَّ نَذْرٌ بَيْنَ الرُّكْنِ والْمَقَامِ إِنْ أَنَا لَقِيتُكَ أَنْ لَا أَخْرُجَ مِنَ الْمَدِينَةِ حَتّى أَعْلَمَ أَنَّكَ قَائِمُ آلِ مُحَمَّدٍ أَمْ لَا؟ فَلَمْ يُجِبْنِي بِشَيْءٍ، فَأَقَمْتُ ثَلَاثِينَ يَوْماً، ثُمَّ اسْتَقْبَلَنِي فِي طَرِيقٍ، فَقَالَ: «يَا حَكَمُ، وإِنَّكَ لَهاهُنَا بَعْدُ؟» فَقُلْتُ: نَعَمْ، إِنِّي أَخْبَرْتُكَ بِمَا جَعَلْتُ لِلّهِ عَلَيَّ، فَلَمْ تَأْمُرْنِي، ولَمْ تَنْهَنِي عَنْ شَيْءٍ، ولَمْ تُجِبْنِي بِشَيْءٍ، فَقَالَ: «بَكِّرْ عَلَيَّ غُدْوَةً الْمَنْزِلَ» فَغَدَوْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ عليه السلام: «سَلْ عَنْ حَاجَتِكَ» فَقُلْتُ: إِنِّي جَعَلْتُ لِلّهِ عَلَيَّ نَذْراً وصِيَاماً وَصَدَقَةً بَيْنَ الرُّكْنِ والْمَقَامِ إِنْ أَنَا لَقِيتُكَ أَنْ لَا أَخْرُجَ مِنَ الْمَدِينَةِ حَتّى أَعْلَمَ أَنَّكَ قَائِمُ آلِ مُحَمَّدٍ أَمْ لَا، فَإِنْ كُنْتَ أَنْتَ رَابَطْتُكَ، وإِنْ لَمْ تَكُنْ أَنْتَ سِرْتُ فِي الْأَرْضِ فَطَلَبْتُ الْمَعَاشَ فَقَالَ: «يَا حَكَمُ، كُلُّنَا قَائِمٌ بِأَمْرِ اللهِ». قُلْتُ: فَأَنْتَ الْمَهْدِيُّ؟ قَالَ: «كُلُّنَا نَهْدِي إِلَى اللهِ». قُلْتُ: فَأَنْتَ صَاحِبُ السَّيْفِ؟ قَالَ: «كُلُّنَا صَاحِبُ السَّيْفِ، ووارِثُ السَّيْفِ». قُلْتُ: فَأَنْتَ الَّذِي تَقْتُلُ أَعْدَاءَ اللهِ، ويَعِزُّ بِكَ أَوْلِيَاءُ اللهِ، ويَظْهَرُ بِكَ دِينُ اللهِ؟ فَقَالَ: «يَا حَكَمُ، كَيْفَ أَكُونُ أَنَا وقَدْ بَلَغْتُ خَمْساً وأَرْبَعِينَ سَنَةً؟! وإِنَّ صَاحِبَ هذَا الْأَمْرِ أَقْرَبُ عَهْداً بِاللَّبَنِ مِنِّي، وأَخَفُّ عَلى ظَهْرِ الدَّابَّةِ»”[6].
- عَنْ أَبِي خَدِيجَةَ: عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْقَائِمِ، فَقَالَ: «كُلُّنَا قَائِمٌ بِأَمْرِ اللهِ، واحِدٌ بَعْدَ واحِدٍ، حَتّى يَجِيءَ صَاحِبُ السَّيْفِ، فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُ السَّيْفِ، جَاءَ بِأَمْرٍ غَيْرِ الَّذِي كَانَ»[7].
- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سِنَانٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام: (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ )؟ قَالَ: «إِمَامِهِمُ الَّذِي بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وهُوَ قَائِمُ أَهْلِ زَمَانِهِ»[8].
بالإضافة إلى ما سبق؛ هناك شواهد أخرى على عدم حصر المراد بـ (القائم) بالإمام المهدي ابن الإمام الحسن العسكري (ع)، وهو أن هناك غير واحد من الأئمة (ع) –بل ومن أبنائهم أيضاً- كان يُظن به أنه الإمام القائم المنتظر، وقد يكون هذا هو ما جعل البعض يسأل الإمام الباقر (ع) عما إذا كان هو القائم المهدي، كما في الرواية الأولى التي نقلناها في الفقرة السابقة، ومن يطلع على كتاب فرق الشيعة للنوبختي يتضح لديه أن الإعتقاد بالإمام القائم رافق العديد من أئمة الشيعة (ع) وبعض أبنائهم وذرياتهم، إذ حصل هذا مع كل من: “محمد بن الحنفية وأبنه عبد الله بن محمد بن الحنفية، عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع)، الإمام جعفر الصادق (ع)، الإمام موسى الكاظم (ع)، الإمام محمد بن علي الهادي (ع)، الإمام الحسن العسكري (ع)، الإمام محمد بن الحسن العسكري (ع)[9]. وهذا الأمر قد يرجح أن هذا اللقب لم يكن من الألقاب الخاصة بالإمام المهدي بن الحسن العسكري (ع) في تلك الفترة.
الاحتمالات البعيدة للشيخ المنتظري
هل من الممكن أن يشمل لفظ (القائم) و(صاحب الأمر) غير الأئمة (ع) كما شملهم في بعض الروايات أم لا؟!
تناول الشيخ المنتظري في كتابه دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية هذا الأمر ليستفيد منه في موضوع ولاية الفقيه، ولكنه ذكر أن احتمال ذلك بعيد جداً، كما جاء في كلامه التالي:
- الأول: في قوله: “وقد يحتمل بعيداً عدم كون المراد بلفظ القائم الوارد فيه وفي بعض الأحاديث الأخر الإمام الثاني عشر القائم في آخر الزمان، بل المراد به كل من يكون قيامه بالحق، ويكون الغرض في الحديث تخطئة بعض من ينتهز الفرصة حين انشغال من له الحق في القيام بتحصيل المقدمات والشرائط، فيستعجل هذا ويقوم قبله، طمعا في الرياسة واجتذاب الناس إلى نفسه. ولعل بعض الأئمة (عليهم السلام) كانوا بصدد تهيئة المقدمات للقيام والثورة ولكن عدم تقية بعض الشيعة وعدم كتمانهم، أو تقدم بعض المنتهزين قد هدم أساس القيام بالحق”[10].
- الثاني: يقول فيه: “فلعل المراد بقوله: ” قائم أهل زمانه ” أيضا الأعم، أعني القائم بالفعل في كل أمة. هذا، ولكن الاحتمال المشار اليه بعيد جداً، إذ الظاهر من لفظ القائم، المستعمل معرفاً بأل التعريف في أخبارنا، هو القائم المعهود. فالمراد بالراية المذمومة فيها، الراية الداعية إلى نفسها، لا إلى إقامة الحق والإمام الحق، فتدبر”[11].
ومع كون هذا الاحتمال بعيداً جداً كما عبر الشيخ المنتظري، فإن هذا لم يمنع استغلاله من بعض الجماعات المهدوية كجماعة أحمد إسماعيل الحسن التي ادعت بأن المراد بـ (القائم) و(صاحب الأمر) في بعض الروايات هو زعيمها أحمد الحسن، وليس الإمام المهدي ابن الإمام الحسن العسكري (ع)، ومن هنا تتضح خطورة المسألة وضرورة التثقيف العام بها، علماً بأن هؤلاء لا يملكون أي مرجحات قوية يمكن من خلالها ترجيح ما ذهبوا إليه[12].
ثانياً: المراد بـ (صاحب الأمر) في الروايات المنسوبة لأهل البيت (ع)
والأمر نفسه حول المراد بـ (صاحب الأمر) في الروايات المنسوبة لأهل البيت (ع)، إذ أنه لا يشير بالضرورة إلى حصره بالإمام المهدي بن الحسن العسكري (ع) رغم كون ذلك –أنه لا يشير إلا إليه- متداول في الثقافة الشيعية العامة، بل ربما حتى لدى بعض الخاصة منهم أيضاً، ولكن هناك العديد من الروايات التي يفهم منها أن المراد من (صاحب الأمر) غيره أيضاً، وسوف أذكر منها ثلاث روايات للاختصار في التالي:
- عن صفوان الجمال قال: سألت أبا عبدالله (ع) عن صاحب هذا الأمر فقال: إن صاحب هذا الأمر لا يلهو ولا يلعب –وأقبل أبو الحسن موسى وهو صغير ومعه عناق مكية وهو يقول لها اسجدي لربك فأخذه أبو عبدالله (ع) وضمه إليه وقال بأبي وأمي من لا يلهو ولا يلعب”[13]. لاحظوا هنا أن المراد بصاحب الأمر في هذه الرواية هو صاحب الأمر بعد الإمام الصادق (ع) وهو الإمام موسى الكاظم (ع) كما هو واضح من الرواية.
- عن داود بن زربي قال: جئت إلى أبي إبراهيم (ع) بمال فأخذ بعضه وترك بعضه فقلت: أصلحك الله لأي شيء تركته عندي قال: إن صاحب هذا الأمر يطلبه منك فلما جاءنا نعيه بعث إلى أبو الحسن (ع) ابنه فسألني ذلك المال فدفعته إليه”[14]. ويفهم من هذه الرواية أن المراد بـ صاحب الأمر فيها هو الإمام الرضا (ع).
- في رواية عن أحمد بن محمد بن أبي نصر جاء فيها: وسألته (أي الإمام الرضا عليه السلام) عن مسألة الرؤية، فأمسك ثم قال: «إنا لو أعطيناكم ما تريدون لكان شراً لكم وأخذ برقبة صاحب هذا الأمر»[15]. وأما هذه الرواية فإنها قد تشير إلى أن المراد بصاحب هذا الأمر فيها هو الإمام الجواد (ع)، لأن السؤال كان موجهاً للإمام الرضا (ع) لطلب رؤيته، ولذا جاء جواب الإمام الرضا (ع) متناسب مع الطلب مبيناً خوفه عليه بقوله: “إنا لو أعطيناكم ما تريدون لكان شراً لكم وأخذ برقبة صاحب الأمر”.
خطورة تسمية (صاحب الأمر)
ويضاف إلى ما ذكرناه في الروايات السابقة؛ يوجد روايات أخرى قد تدعم هذا الأمر وترجحه، وهي الروايات التي تنهى عن تسمية صاحب الأمر، حيث أن أسم الإمام الثاني عشر المهدي بن الحسن العسكري (ع) معروف في الروايات، وهذا مما يدل على أن المراد بـ (صاحب الأمر) أو (صاحب هذا الأمر) ليس محصوراً في الإمام المهدي بن الحسن العسكري(ع)، ومن هذه الروايات التالية:
- عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْكَابُلِيِّ قَالَ: لَمَّا مَضَى عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (ع) دَخَلْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ (ع) فَقُلْتُ لَهُ جُعِلْتُ فِدَاكَ قَدْ عَرَفْتَ انْقِطَاعِي إِلَى أَبِيكَ وَأُنْسِي بِهِ وَوَحْشَتِي مِنَ النَّاسِ قَالَ: صَدَقْتَ يَا أَبَا خَالِدٍ فَتُرِيدُ مَاذَا قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ لَقَدْ وَصَفَ لِي أَبُوكَ صَاحِبَ هَذَا الْأَمْرِ بِصِفَةٍ لَوْ رَأَيْتُهُ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ لَأَخَذْتُ بِيَدِهِ قَالَ فَتُرِيدُ مَاذَا يَا أَبَا خَالِدٍ قُلْتُ أُرِيدُ أَنْ تُسَمِّيَهُ لِي حَتَّى أَعْرِفَهُ بِاسْمِهِ فَقَالَ سَأَلْتَنِي وَاللَّهِ يَا أَبَا خَالِدٍ عَنْ سُؤَالٍ مُجْهِدٍ وَلَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ أَمْرٍ مَا كُنْتُ مُحَدِّثاً بِهِ أَحَداً وَ لَوْ كُنْتُ مُحَدِّثاً بِهِ أَحَداً لَحَدَّثْتُكَ وَلَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ أَمْرٍ لَوْ أَنَّ بَنِي فَاطِمَةَ عَرَفُوهُ حَرَصُوا عَلَى أَنْ يَقْطَعُوهُ بَضْعَةً بَضْعَةً“[16].
نلاحظ أن السائل في هذه الرواية يسأل الإمام الباقر (ع) عن صاحب هذا الأمر ويطلب منه تسميته له، ولكن الإمام (ع) يرفض ذلك خوفاً عليه، وكأن الرواية تشير إلى حدث قريب منه من الممكن أن يعيشه، ومن المستبعد أن يكون المراد به هو الإمام المهدي بن الحسن العسكري (ع) لبعد الفترة الزمنية عن زمن السائل.
- في الرواية عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ الْبَاقِرَ (ع) يَقُولُ فِي صَاحِبِ هَذَا الْأَمْرِ سُنَنٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَنْبِيَاءَ سُنَّةٌ مِنْ مُوسَى وَسُنَّةٌ مِنْ عِيسَى وَسُنَّةٌ مِنْ يُوسُفَ وَسُنَّةٌ مِنْ مُحَمَّدٍ (صلوات الله عليهم أجمعين) فَقُلْتُ: مَا سُنَّةُ مُوسَى قَالَ: خَائِفٌ يَتَرَقَّبُ قُلْتُ وَمَا سُنَّةُ عِيسَى فَقَالَ يُقَالُ فِيهِ مَا قِيلَ فِي عِيسَى قُلْتُ فَمَا سُنَّةُ يُوسُفَ قَالَ السِّجْنُ وَالْغَيْبَةُ قُلْتُ وَمَا سُنَّةُ مُحَمَّدٍ (ص) قَالَ إِذَا قَامَ سَارَ بِسِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ (ص) إِلَّا أَنَّهُ يُبَيِّنُ آثَارَ مُحَمَّدٍ وَيَضَعُ السَّيْفَ عَلَى عَاتِقِهِ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ هَرْجاً هَرْجاً حَتَّى رَضِيَ اللَّهُ قُلْتُ فَكَيْفَ يَعْلَمُ رِضَا اللَّهِ قَالَ يُلْقِي اللَّهُ فِي قَلْبِهِ الرَّحْمَةَ”[17].
ومن غير المستبعد أن يكون المراد بصاحب هذا الأمر في هذه الرواية الإمام موسى الكاظم عليه السلام[18]، وذلك للآتي:
- أولاً: أن الرواية مروية عن الإمام الباقر (ع) مما يحتمل أنها تتكلم عن صاحب الأمر بعده كالروايات التي تناولناها سابقاً.
- ثانياً: أن الرواية بينت أنه قيل فيه ما قيل في عيسى ومن المعروف أن الواقفة بعد وفاته عليه السلام قالت: بأنه رفع إلى السماء ولم يمت.
- ثالثاً: ذكرت الرواية أن فيه سنة من يوسف وهي السجن الغيبة، وهذا ينطبق على الإمام الكاظم (ع) لأنه سجن ولا ينطبق على الإمام المهدي بن الحسن العسكري (ع).
نتيجة مهمة
إذا عرفنا أن المراد بـ (القائم) و(صاحب الأمر) في الروايات المنسوبة لأهل البيت (ع) ليس بالضرورة الإمام المهدي بن الحسن العسكري (ع)، فإن هذا قد يؤثر على فهم بعض الروايات التي تنهى عن القيام قبل ظهور القائم، كما في الرواية عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قوله: “كُلُّ رَايَةٍ تُرْفَعُ قَبْلَ رَايَةِ الْقَائِمِ (ع) صَاحِبُهَا طَاغُوتٌ”[19]. إذ من الممكن أن تكون الرواية تشير إلى رايات كانت موجودة في زمن الإمام الباقر (ع) وهو غير مؤيد لها، إما لعدم أخذها الشرعية منه أو لأي سبب آخر، فهذا ليس بمستبعد[20].
ومما يؤيد هذا الفهم أيضاً وجود رواية عن الإمام أبي عبدالله الصادق (ع) في وصيته لمؤمن طاق: “…يا ابن النعمان إن العالم لا يقدر أن يخبرك بكل ما يعلم، لأنه سر الله الذي أسره إلى جبرئيل عليه السلام وأسره جبرئيل عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وآله … فلا تعجلوا فوالله لقد قرب هذا الامر ثلاث مرات فأذعتموه، فأخره الله، والله مالكم سر إلا وعدوكم أعلم به منكم. يا ابن النعمان ابق على نفسك فقد عصيتني. لا تذع سري…”[21]. فقد تُفهم هذه الرواية على أن الإمام عليه السلام كان بصدد عمل بعض الترتيبات للقيام، ولكن إذاعة الأمر ساهم في تأخير ذلك ثلاث مرات، ويقوي احتمال هذا المعنى الرواية المروية عن الإمام الصادق (ع) أيضاً والتي يقول فيها لمجموعة من أصحابه: “لو أن لي عدد هذه الشويهات -وكانت أربعين- لخرجت”[22].
فهذه الروايات قد تشير إلى النهي عن القيام في زمانه (ع) لبعض الموانع والأسباب، وليس في كل زمن يسبق عصر الإمام المهدي بن الحسن العسكري (ع) كما فهم ذلك بعض العلماء.
الخاتمة
قد يقول قائل: سواءً كان المراد بـ (القائم) و(صاحب الأمر) الإمام المهدي بن الحسن العسكري (ع) حصراً، أو لم يكن كذلك، فما هي الفائدة المرجوة من وراء ذلك؟
هناك عدة فوائد من وراء تحديد المراد الدقيق لهاتين المفردتين أشرنا إليهما في طيات البحث، ولكن سوف أكتفي هنا بتخليصها وذكر فائدتين مهمتين جداً في التالي:
- الأولى: أن هناك عدة تعليمات وتوجيهات ذكرت في بعض الروايات التي تضمنت الإشارة لهاتين المفردتين (القائم) و(صاحب الأمر)، ولذا فإن هناك اختلافاً كبيراً في الفهم سيحدث بين أن يكون المراد بها هو الإمام المهدي بن الحسن العسكري (ع) أو غيره من الأئمة (ع)، فإذا كانت بعض الروايات تشير إلى أن المراد بها غيره من الأئمة (ع)، فإن هذا سيجعل بعض التوجيهات غير مناسبة للعمل بها في زماننا، لأنها لم تستهدف مخاطبتنا وإنما مخاطبة الجماهير في زمن الأئمة (ع)، كما هو الحال في الروايات التي تنهى عن الخروج قبل خروج القائم.
- الثانية: ضرورة تثقيف عموم الناس بما هو موجود في الروايات بدقة، لأن عدم التحديد الدقيق للمراد من هاتين المفردتين وبيان الاختلافات فيها أدى لاستغلال بعض الدعوات المهدوية لهذا الأمر، كما فعل المدعو بالسيد أحمد إسماعيل الحسن الذي أدعى أنه المقصود بـ(القائم) و(صاحب الأمر) في بعض الروايات، وذلك استناداً إلى أن هاتين المفردتين في بعض الروايات قد يُراد بها غير الإمام المهدي بن الحسن العسكري (ع).
*****
[1] طبعاً ما سنأنقله بغض النظر عن صحة الرواية أو عدمها، لأن ما يهمني هنا هو التركيز على الأجواء العامة للروايات المنسوبة لأهل البيت عليهم السلام.
[2] كمال الدّين وتمام النّعمة للشيخ الصدوق، ج1، ص259.
[3] المصدر السابق، ج1، ص280.
[4] المصدر السابق، ج1، ص282.
[5] الکافی للكليني- ط دارالحدیث،ج2، ص709 بَاب أَنَّ الْأَئِمَّةَ عليهم السلام كُلَّهُمْ قَائِمُونَ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالى هَادُونَ إِلَيْهِ
[6] المصدر السابق، ج2، ص709-710.
[7] المصدر السابق.
[8] المصدر السابق.
[9] راجع كتاب فرق الشيعة للنوبختي. طبعا,ً حتى الإمام علي بن أبي طالب (ع) عندما استشهد نقل عن بعضهم القول: “أن علياً لم يقتل ولم يمت، ولا يقتل ولا يموت حتى يسوق العرب بعصاه، ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً”.
[10] دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية للشيخ حسين علي المنتظري، ج1، ص242.
[11] المصدر السابق، ج1، ص243.
[12] لتفاصيل أكثر راجع كتاب المبين في حقيقة الكمين، فلقد ناقشنا هذا الموضوع مفصلاً.
[13] الكافي للشيخ الكليني- ط الاسلامية، ج1، ص311.
[14] المصدر السابق، ج1، ص313.
[15] قرب الإسناد لأبي العباس عبد الله بن جعفر الحميري، ج1، ص380.
[16] الغيبة للنعماني، ج1، ص288-289.
[17] المصدر السابق، ج1، ص164-165.
[18] نعم، في آخر الرواية الأمر يختلف ولكن لا يهمنا مناقشة هذا الأمر الآن.
[19] الغيبة للنعماني، ج1، ص114.
[20] طبعاً هذا الكلام بغض النظر عن صحة الرواية من عدمها.
[21] بحار الأنوار – ط دارالاحیاء التراث، ج75، ص289.
[22] جواهر الكلام، للشيخ محمّد حسن النّجفي، ج21، ص397. علماً بأني لم أعثر على هذه الرواية في الكتب الروائية.