للحضارات الإنسانية دور وظيفي في النهوض و تجديد ثقافتها الإسلامية، وكون الثقافة تدخل في تشكيل الهوية، بالتالي تأتي خطوات النهضة والثبات – رغم التأرجح في البين – من هذا التلاقح الإيجابي، وكيفية استنطاق تاريخ الحضارات ومخزونها في الوجدان والذاكرة استنطاقا معرفيا قادرا على فتح أفق عقلية، راكمت خبراتها وتجاربها لتنهض في قراءة النص، وتستطيع أن تستفيد من التجربة الإنسانية في النهوض بالتجربة الدينية، وتطوير بنية الفهم والعقل في سبيل اتساع دائرة هذا الفهم للنص .
وتعد المعرفة والعلوم ركيزة مهمة في نهضة أي أمة، خاصة إذا وظفت في تنمية المجتمع وتطوير مستويات الترفيه فيه، وارتفاع منسوب العدالة للوصول بالإنسان إلى الكرامة الحقيقية، وبما يحقق الأمن والاستقرار الاجتماعي، لا عن طريق العنف وإنما عن طريق الارتقاء بعقول الجمهور وقيمه وأولوياته.
ولتحقيق النهضة خاصة في المجال المعرفي نحتاج توظيف لكل المكونات، سواء من ناحية النوع ( الإنسان)، أو من الناحية الجنساوية( ذكر وأنثى )، حتى يتحقق ميزان معتدل في العطاءات الاجتماعية في المجال التنموي لكافة الفئات.
إلا أن مسيرة النهضة في العالم العربي تعثرت تعثرا كبيرا وطويل المدى، خاصة بعد الاستعمار واحتلال فلسطين.
ولكن ما هي أبرز أسباب التأخر التي عطلت مسيرة النهضة في العالم العربي؟
– الاستبداد وتوظيفه للاختلافات بكافة أشكالها، وإشغال المجتمعات بهذه الاختلافات الفرعية عن أولويات كلية مصيرية في مسيرتها النهضوية.
– المناهج التعليمية وتدخل السلفية الدينية فيها، وتغييب العلوم الفلسفية والعقلية منها، ليتم التمكن من الهيمنة على العقول ومنعها من ثقافة النقد والسؤال، وتدجينها لتكون قابلة للاستبداد المشرعن، قابلة للتطويع بثقافة تعتمد نمطية محددة ومقننة في الطاعة والولاء.
– تغييب المرأة وظيفيا وحصر دورها ضمن أطر لا تخدم إلا مشروع الاستبداد والهيمنة. وتقنين هذا التغييب لتأطير قناعاتها بحدود دنيا تمنعها من الخروج عن هذه الحدو، د والتحرر الإيجابي لعقلها من مستلزمات رسمت لها أبعاد شخصيتها في محور واحد هو البعد الأنثوي.
– الاستعمار ودوره العميق في تكريس ثقافة الاستبداد والتبعية، ومحاولة الهيمنة على ثروات المنطقة بما فيها العقول . بل دوره في تكريس الجهل وإبراز التطرف كسلطة دينية حاكمة كي يتمكن من استغلال الثغرات فيما بعد كورقة ضاغطة على الأنظمة والشعوب.
ورغم أن لا خلاف كان في البين حول المرأة والرجل، وكانت الأدوار تتكامل بشكل طبيعي بينهما في كثير من الأزمنة، وخاصة أن الإسلام خطى خطوات متقدمة في هذا الصدد مقابل وضع المرأة في الأديان الأخرى، وهو ما خلق إشكالية حقيقية فيما لو ترك الإسلام يعبر عن رؤيته للمرأة، ودورها في كل دوائرها من الذات الى الأسرة إلى المجتمع، فإن ذلك يعني تكاتف الجهود الاجتماعية والسياسية النهضوية. ودفع التوجهات العقدية والسياسية خاصة في العقليات الاستعمارية، تبني رؤى شبيهة تخفف من ضغط المطالبات الحقوقية لكنها تحرجها على مستوى التمثيل السياسي والاجتماعي، ويقلل من حظوظ هيمنتها وإشغال المجتمعات المستعمرة بحيثيات داخل دينية وداخل اجتماعية ، هذا فضلا ان ذلك يكرس وحدة جهود مكونات المجتمع حول أولويات النهضة.
وعبر التاريخ كان للمرأة دورا فاعلا وبارزا في حركات التحرر وفعل النهوض والإصلاح، خاصة في فعل المقاومة العسكرية المناوئة للاحتلال، حيث برز دور المرأة كعنصر فعال اخترق خطوط العدو الأمامية، هذا فضلا عن دورها في قرارات تاريخية ومصيرية كان لها أثرا نهضويا في مسيرة المواجهة وتقرير المصير. وتجلى ذلك في القضية الفلسطينية، حيث مازالت المرأة في قلب أحداثها، وتنشط كأصيل في مقاومتها لا كوكيل.
ولكن للأسف تدريجيا ومع التقادم، بدأ دور المرأة بالانحسار، بل حتى في مسيرتها المعرفية ، وكان ذلك لأسباب عديدة أهمها: توظيف الدين في تحييد حراكها وحصره في دائرة ضيقة، رغم أن الدافع الرئيسي لم يكن دينيا بقدر ما كان عادات وتقاليد، أو رد فعل على محاولات سلب المرأة هويتها وجوهرها، والهجمة الحداثية الشرسة على كينونتها.
وانحصر دورها في في الفعل التنفيذي والتربوي، وابتعدت عن مراكز القرار والتخطيط الاستراتيجي، وكأن الوأد التاريخي عاد بلباس آخر لا سلبها حقها في الحياة، بل يسلبها حق عقلها في التفكير والتخطيط و تقرير المصير .
وكان عزلها اجتماعيا في دوائر ضيقة، وتحديد المجالات المتاحة لها للعمل، وعدم إعطائها فرصة تعبر فيها عن ذاتها سببا محوريا في تأخرها في كثير من المجالات خاصة السياسية والفكرية.
وهو ما أفقد الأمة عنصرا فعالا في مجالات النهوض، وعطل نصف المجتمعات فافقدها بعدا حيويا كعقل وعاطفة.
فالمرأة اليوم خاصة في كثير من الأحزاب والتيارات الإسلامية، محيدة بشكل كبير عن مراكز القرار، وتعمل كعضو تنفيذي لما يخطط له الرجال، ولا تتحرك إلا في دائرة ضيقة ضمن ما رسمته لها تلك الجهات.
وهي مجرد عدد في الانتخابات بكافة أشكالها، أو عنصر تنفيذي لجلب الأصوات ، كون الإحصائيات أثبتت أن نسبة الإناث أكثر من نسبة الذكور، وهو ما يجعل الهيمنة على قرارها أسهل في حال تحييدها وتضييق دائرة حراكها وحريتها، بعناوين مختلفة أهمها العنوان الديني الذي يستخدم كشعار يحقق غايات كثير من الأحزاب والتيارات السياسية.
وأهم العناوين التي قيدوا بها حراك المرأة هي ولاية الرجل، وحجاب المرأة المتعلق بعفتها، والاختلاط بفهم مغلوط ومتطرف، وعدم أهليتها لتكون في مراكز القرار حيث هناك خلاف فقهي في ذلك أغلبه يكرس حجبها عن مراكز القرار بحجة عدم الأهلية.
وهي عناوين فضفاضة تم توظيفها دينيا لوأد المرأة باسم الدين.
واليوم باتت الحاجة ملحة لإعادة ترتيب دور المرأة في المجتمع، وفهم أعمق وأوسع للولاية و الحجاب والاختلاط والأهلية، فهم يتناسب مع معطيات الزمان والمكان، ويقرأ النص على ضوء معطيات الواقع .
وهذا لا يخلي مسؤولية المرأة من النضال المستمر لأجل أخذ مكتسباتها الإلهية وحقوقها الإنسانية، لا على الطريقة الغربية المزدوجة المعايير، بل على الطريقة القيمية التي تنظر لها كشريك مكمل للرجل لا ندا له. وهو ما يحتم على النساء المتصديات لرفع وتيرة النضال لأجل إعادة الاعتبار لدور المرأة في مسيرة النهضة،
فتغيب نصف المجتمع هو تعطيل لنصفه الآخر، وهو دفع للخلف يؤخر وضعنا كأمة أمام الأمم المتقدمة حضاريا ومعرفيا.
حيث يحول أولويات المرأة وطموحها لأولويات هامشية لا تتعدى بعدها الأنثوي، فطموحها قد وصل في بعض المجتمعات إلى قيادة سيارة. بدل أن توحد جهودها مع الرجل في الطموح والتطلعات النهضوية في مواجهة الاستبداد ومحاربة التخلف والجهل، والنضال المشترك لأجل العدالة والكرامة الإنسانية.
فهذا التحييد شتت جهود مكونات المجتمع وفرقها، ثم سلط باسم الدين جهة على جهة باسم الولاية للحد من نشاطها وتطلعاتها، وسلب إمكانية الشراكة في مواجهة الاستبداد وفي دفع مسيرة التحرر.
وتعطيل دور المرأة جعل هناك ثغرات كبيرة ينفذ منها الفكر الغربي بجانبه السلبي، ليوظف هذا التهميش في سبيل مشاريعه، فخرجت شعارات تحرير المرأة وحقوق المرأة وغيرها من المطالبات التي استبطنت
غايات مخالفة لظاهر هذه الدعوات، مما أوجد جدليات إشكالية في الساحة العربية حول المرأة ووظيفتها، فبينما تبنى بعض النخب تلك المطالبات كما هي دون النظر لماورائياتها، رفضت نخب أخرى هذه المطالبات كليا واعتبرتها اختراق ثقافي خطير للهوية من باب المرأة.
بينما قليل جدا من رفع الصوت مطالبا بإعادة النظر بوضع المرأة ودورها الوظيفي، وقراءة هذا الدور وفق متطلبات الراهن، ومعطيات العقل الحديث ومناهج المعرفة الجديدة. معللا ذلك بحاجتنا لإعادة قراءة التراث ونقده، و حاجتنا الملحة لسد الثغرات المحورية في جسد الأمة لا بردود أفعال بل بمشاريع ناهضة بديلة تقدم للمرأة وفق ابجدياتنا الفكرية والثقافية، ومع الاستفادة من التجارب البشرية الأخرى بما فيها الغربية في جانبها الإيجابي إن وجد.
وهذا إشغال جديد للنخب قادهم إلى صراعات هامشية حولت اهتمامها عن القضية المركزية التي أضرت بالرجل والمرأة، وهي قضية الاستبداد والتطرف والاحتلال، والنضال المشترك لأجل العدالة والكرامة الإنسانية.
العدالة مطلب إنساني لمحوريتها في إيقاظ جوهر الإنسان، وقاعدته التي تشكل منصة أساسية لبناء منظومة القيم الفوقية، وأعني بها ” الكرامة”، وهي غير متعلقة بجنس، وإنما هي قوام للنوع .
وهي حق للإنسان لا يستطيع أحد سلبه منه، كونها الركيزة التي تحقق منظومة القيم، وتحمي هذا الإنسان من الاستبداد، وتشكل له دافعية لتحقيق العدالة، وتأسيس ثقافة الرفض لكل ما يعاكس كرامته.إذ بالعدالة تتحقق كرامة الإنسان.
المرأة كإنسان له هذه الكرامة، وتحقيقها بالفعل يستلزم فرض حقوق عدة واقعية، كون كرامتها لا تتحقق إلا بالعدالة، وبغيابها يختل ميزان القيم في النوع الإنساني، وخاصة في المرأة لتوافر مقومات إقصائها الطبيعية والمفتعلة فرديا بالاستبداد، واجتماعيا بالأعراف والعادات والتقاليد.
للنهضة مقومات كثيرة أحد ركائزها المرأة، كونها عنصر أصيل في تحقيق العدالة التي هي لب النهضة، وهو ما يتطلب رفض كل أشكال الاستبداد، والسعي الحثيث بعد رفع الاستبداد للعدالة، التي ستحقق تلقائيا جوهرة القيم الكرامة، وهذا يتطلب تضافر كل الجهود وكل المكونات للمواجهة والتغيير والنهوض.