والبناء الرمزيّ والإشاريّ للقرآن الكريم
د. محمد كاظم شاكر(*)
1ــ مقدّمة ــــــ
من الأمور التي أثارت ضجّة في أوساط تفسير القرآن وجود مناهج التفسير الإشاريّ أو الباطنيّ. تلك المناهج التي تسحب منا أيّة علاقة عقليّة أو عُرْفيّة بالنصّ القرآنيّ، بل تجعلنا في مقابل نصٍّ مبهم ومرموز، لا نملك شفرة لحلّ رموزه، وبالتالي لا يمكننا فهم معانيه؛ لأنّها أمورٌ باطنيّة، لا يعلم كنهها إلاّ الراسخون في العلم.
منشأ التفسير الإشاريّ والتفسير الباطنيّ مجموعة من الأحاديث التي تتحدَّث عن ظهر وبطن القرآن، عن التنزيل والتأويل. من هنا أردنا من خلال هذه المقالة دراسة مضمون تلك الأحاديث، وتحليل خطابها. ولعل الاستفهامات المبدئيّة التي يوجب علينا منطق البحث العلميّ طرحها وبرمجة هذه المقالة وفقها:
1ـ هل التفسير الذي تتحدَّث عنه هذه الروايات شيءٌ آخر غير التفسير المتعارف في العُرْف اللغويّ؟ وبشكلٍ أوضح: طبق هذه الروايات هل الله سبحانه وتعالى أراد من القرآن الذي أرسله هدايةً للناس وجودَيْن مختلفَيْن: ظاهريّ؛ وباطنيّ، أو تنزيليّ؛ وتأويليّ؟
2ـ إذا سلَّمنا بوجود هذه الوجودات المتعدِّدة، ظاهر وباطن، تنزيل وتأويل، فما هي العلاقة التي نحتكم إليها في التعامل مع هذه الوجودات؟ هل هناك علاقة منطقيّة أو لغويّة؟ وإذا انعدم بيننا وبين النصّ القرآنيّ أيّ نوع من تلك العلاقات، وإذا أقررنا بانتفاء أيّة علاقة، أليس هذا تثبيتاً لمقولة رمزيّة النصّ القرآنيّ؟
تؤكِّد دراسات في الميدان جنوح البعض إلى الاعتقاد بأنّ للقرآن رغم شكله الظاهر، الذي يوحي بوجودٍ عُرْفيّ وعقلائيّ، وجوداً آخر ما وراء الكلمات والسطور، وجوداً لا علاقة له باللغة أو بالعقل. هذا الوجود الذي يخفى، ولا يدرك كنهه إلاّ النبيّ الأكرم| والأئمّة المعصومون^، الذين يملكون وحدهم شفرة فكّ رموزه. وهو مذهب يريد إعطاء الشرعية الدينيّة والعلميّة لأصحاب التوجُّه الباطنيّ، فهم المردِّدون لمقولة: إن الله أراد من القرآن حقيقة غير المعنى العُرْفيّ، وإن الألفاظ كانت على سبيل الطريقيّة ليس إلاّ. وهو نفس التوجُّه الذي تتبنّاه حركة الإسماعيليّين، وتدافع عنه. فالقرآن عندهم مجرّد رموز وإشارات([1]). كذلك يذهب الأخباريّون هذا المذهب وإنْ بشكلٍ مختلف عن الإسماعيليّين، حيث يقولون: إنّه لا أحد غير أهل البيت يستطيع فهم معاني القرآن ومرادات آياته. ولا يقتصر هذا التوجُّه على هاتين الفئتين، بل هناك من المعاصرين مَنْ يرى أنّ تأويل القرآن ومعرفة باطنه وقفٌ على أهل البيت^. ومن هنا فإنّ معارف القرآن على قسمَيْن: الأوّل: معارف تبتني على المعاني اللغويّة، التي لها ارتباط بالإطلاقات العُرْفيّة والاستعمالات اللغويّة. وهذا القسم يمكن تحصيله لكلّ مَنْ كان له إلمامٌ تامٌّ باللغة العربيّة، والبلاغة بكلّ أبوابها، بالإضافة إلى المسلَّمات العُرْفيّة والعقلائيّة. وهو القسم الذي أشير إليه في الروايات بظاهر القرآن أو الظهور اللفظيّ والعُرْف اللغويّ.
الثاني: وهو قسم من المعارف لا يقوم على الإطلاقات العُرْفيّة والظهورات، بل هو طريقةٌ خاصّة لا ينالها سوى الراسخون في العلم. وهو ما أشير إليه في الروايات بباطن القرآن.
لذا فالقسم الأوّل يتمّ تناوله في مجال التفسير؛ أمّا القسم الثاني فهو الذي يتمّ تناوله في مجال التأويل([2]).
فتح الاعتقادُ بباطن القرآن، وأنّ تأويله خاصٌّ بالراسخين في العلم، البابَ أمام بعض مَنْ لهم نفحاتٌ خبيثة للتعريض بالمذهب الشيعيّ. فهذا محمّد حسين الذهبيّ قد كتب يقول: «لأنّ الباطن الذي أشار إليه الحديث ـ يريد الأحاديث النبويّة التي جاء فيها ذكر باطن القرآن ـ، وقال به جمهور المفسِّرين، هو عبارةٌ عن التأويل الذي يحتمله اللفظ القرآنيّ، ويمكن أن يكون من مدلولاته. أما الباطن الذي يقول به الشيعة فشيءٌ يتَّفق مع أذواقهم ومشاربهم، وليس في اللفظ القرآنيّ الكريم ما يدلّ عليه، ولو بالإشارة»([3]).
كما كتب محمد أبو زهرة متحدِّثاً عمّا ذهبت إليه بعض فرق الشيعة في القول بباطن القرآن، وبالتأويل بدل التفسير: «تعتقد بعض فرق الشيعة أنّ للقرآن ظاهراً وباطناً، ولكلّ باطن باطن، إلى سبعة أبطن. كما قالوا بأنّه لا يمكن التعرُّف على معاني القرآن إلاّ بعد إدراك هذه البطون السبعة. وهذه البطون السبعة ليست في متناول الجميع، فليس كلّ الناس قادرين على التوصُّل إليها، بل هي من اختصاصات الإمام المعصوم، الذي عنده مفاتحها وأسرارها، وأصلها الأوّل عند رسول الله، الذي أودعها عند عليّ بن أبي طالب من بعده، وأوصاه أن يناولها للإمام من بعده، حتّى تستقرّ في يد الإمام الأخير الإمام الغائب»([4]).
ويرى الذهبيّ أنّ قول الشيعة بالباطن، واعتقادهم بتوقُّف تأويل القرآن على أئمّتهم، قد أغلق إمكان فهم القرآن أمام الناس، ولا سبيل أمامهم لفهمه سوى اتّباع تأويلات وتفسيرات أئمّتهم([5]).
ونحن سنحاول في طيّات هذه المقالة أن نثبت أنّ القول برمزيّة القرآن وباطنيّة معانيه ومعارفه، وأنّ الطريق الوحيد لسبر مكنوناته تتأتّى عن طريق التأويل، ليس من الأفكار التي تقوم عليها معارف أهل بيت النبوة، وليست لهم بها أيّة نسبة أو علاقة. من هنا لابدّ من تبيين دلالة الروايات التي تحدَّثت عن باطن القرآن، وعن التأويل والتطبيق، وبعد ذلك نعمل على تبويبها ـ وفق مدلولاتها ـ ضمن طبقات.
2ـ المراد الدلاليّ للظاهر والباطن الواردَيْن في بعض الروايات ــــــ
وردت روايات الباطن والظاهر في كتب الحديث عند الفريقين([6]). وقد بُيِّن المراد من الظاهر والباطن في الكثير منها. والملاحظ في هذه الروايات أنّ الظاهر أريد به معنيان:
أـ ألفاظ القرآن التي هي مورد القراءة والتلاوة.
ب ـ المعنى الظاهريّ الذي يستفاد من الاستعمال العُرْفيّ (اللغويّ) وبالاستعانة بأسباب وشأن النزول.
وإذا أخذنا المعنيَيْن بعين الاعتبار سيكون المراد بالباطن مخالفاً لهما. لذا نجد أنّ معنى الباطن مطلق الباطن، الذي يبتدئ من المعنى الظاهريّ ويمتدّ ليشمل المعاني المعمَّقة، ليصبح في المعنى الأخير مفتوحاً على كلّ المعاني الخفيّة التي ليست من جنس المعنى الظاهريّ للآيات.
لذا تتحدَّد أبواب الروايات في هذا المضمون بحيث تكون الروايات على الطبقات التالية:
الطبقة الأولى: طبق المعنى الأوّل للظاهر والباطن. ومن هذه الروايات:
1ـ ظاهره أنيق، وباطنه عميق([7]).
2ـ ظاهره محكم، وباطنه عميق([8]).
3ـ فظاهره التلاوة، وباطنه الفهم([9]).
المراد من التلاوة في الرواية الأخيرة قراءة الألفاظ والحروف. والمراد من الدراية إدراك المعاني. وبهذا فإن القراءة والتلاوة، التي إنّما تتعلَّق بظاهر الألفاظ؛ ليس لها مدخليّة في فهم معاني الآيات؛ بدلالة ملازمة القراءة لظاهر اللفظ. وإذا تعلَّق الظاهر باللفظ فإنّ الباطن له اختصاص بالمعاني وإدراك المراد الإلهيّ من الآيات. فتصبح العلاقة بين الظاهر والباطن علاقة الدالّ بالمدلول، وهي العلاقة التي تدحض نظريّاً رمزيّة القرآن.
الطبقة الثانية: طبق المعنى الثاني للظاهر والباطن. ومن هذه الروايات:
1ـ ظاهره حكم، وباطنه علم([10]).
2ـ قال: ظهر القرآن الذين نزل فيهم، وبطنه الذين عملوا بمثل أعمالهم([11]).
في هذه الروايات أُدْرِج كلٌّ من الظاهر والباطن ضمن المعنى. وبشكلٍ آخر فإنّ الباطن في الطبقة الأولى (مطلق المعنى) مَقسَمٌ للظاهر والباطن في الطبقة الثانية. فالظاهر متعلِّق بالمعاني السطحيّة، بينما الباطن أكثر عمقاً، وحدوده أكثر اتّساعاً، فهو لايختصّ بموارد النزول.
وطبق الرواية الثانية الأخيرة فإنّ الظاهر فقط ينطبق على موارد النزول، أما الباطن فهو المعاني التي تتجاوز موارد النزول، لتختصّ بملاكات النزول التي مع موارد النزول. وليس الباطن طبق هذه الروايات الأخيرة معاني مرموزة، ولكنّها معانٍ تنطلق من المعنى الظاهريّ للألفاظ.
الطبقة الثالثة: الظاهر يتعلَّق بالتنزيل، والباطن بالتأويل. ومن هذه الروايات:
1ـ عن فضيل بن يسار أنّه سأل الإمام الباقر× عن قوله: «ما من القرآن آيةٌ إلاّ ولها ظهر وبطن»؟ فقال×: «ظهره تنزيله، وبطنه تأويله، منه ما قد مضى، ومنه ما لم يكن، يجري كما تجري الشمس والقمر»([12]).
2ـ وعن ابن عباس أنّه قال: «إن القرآن ذو شجون وفنون، وظهور وبطون، فظهره التنزيل، وبطنه التأويل»([13]).
وللاقتراب أكثر من مراد هذه الروايات نبحث أوّلاً في معنى التنزيل والتأويل الذي تمّ ذكره في الروايات.
3ـ المعنى الدلاليّ للتنزيل والتأويل ــــــ
أطلق التنزيل في بعض الروايات على ألفاظ القرآن. قال ميثم التمّار: «كنتُ أقرأ التنزيل على أمير المؤمنين×، وكان يعلِّمني تأويله([14]).
وهذا واضحٌ في أنّ المعاني لا تأتي بالتلاوة والقراءة، فيكون المقصود بالتنزيل ألفاظ القرآن، ويقابل التنزيل في الاستعمال لفظ التأويل، ليكون التأويل مدلول الألفاظ ومعناها، أعمّ من دلالة المطابقة والالتزام والتضمُّن. والرواية التالية تؤيِّد ما ذهبنا إليه في معنى التأويل: «أرسل معاوية لابن عبّاس رسالة ينهاه عن ذكر مناقب الإمام عليّ× وأهل البيت^، فأجابه: أتنهانا عن تأويل القرآن؟ فقال له: نعم، فقال ابن عبّاس: أَنَتْلو القرآن ولا نذكر ما عنى الله به؟!»([15]).
يلاحظ في هذه الرواية أنّها جعلت التأويل بمعنى ما عنى الله به.
عن حذيفة بن اليمان: في يوم الغدير، بعد أن قال رسول الله|: «مَنْ كنتُ مولاه فهذا عليٌّ مولاه»، سأل رجل: يا رسول الله، ما تأويل هذا؟ فقال|: «مَنْ كنتُ نبيَّه فهذا عليٌّ أميرُه»([16]).
فالواضح أنّ سؤال السائل كان حول المراد من «مولى»، حيث جاء الجواب مبيِّناً المراد من الكلمة الأولى، فقد قصد بها النبيّ، وفي الثانية أريد بها الأمير.
و في حديث آخر عن عليّ×، في تأويله للآية الكريمة: ﴿إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾ (البقرة: 156): إنّ الله مالكٌ لنا، وإنّنا راحلون حتماً عن هذه الدنيا([17]).
الدلالة المطابقيّة لهذه الآية هي «إنّنا ملكٌ لله، وإنّنا ميِّتون». أمّا الدلالة الالتزاميّة لعبوديّتنا ومملوكيّتنا لله فهي ملك الله لنا، والدلالة الالتزاميّة لرجعتنا إليه هي الموت والرحلة عن هذه الدنيا إلى دار الآخرة. لذا فالمعنى الذي في تأويل الآية كان استعمال مدلولها الالتزاميّ.
وفي رواية أخرى عن عليّ×، في تأويل قوله تعالى على لسان حضرة إبراهيم×: ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي﴾ (الصافات: 99)، أنّه قصد السعي والاجتهاد في عبادة الله وإخلاص التوجُّه إليه([18]). وليس المراد بالذهاب الذهاب الحقيقيّ، الذي يكون بتحريك أعضاء الرجل.
وقال الإمام الكاظم×، في تأويله لآية المباهلة، الآية 61 من سورة آل عمران: تأويل ﴿أَبْنَاءَنَا﴾ الحسن والحسين’، وتأويل ﴿وَنِسَاءَنَا﴾ فاطمة الزهراء÷، وتأويل ﴿وَأَنْفُسَنَا﴾ الإمام عليّ×. فالواضح أنّ تأويل الآية تمّ من خلال استحضار الأفراد الذين كانوا مع النبيّ الأكرم أثناء ملاقاته لوفد نجران من أجل المباهلة، حيث لم يكن في صحبة النبيّ| أحدٌ آخر غير أهل بيته، وهم هؤلاء النفر الذين ذكرتهم الآية بأبنائنا ونسائنا وأنفسنا.
والنتيجة أنّ استعمال كلمة التأويل من طرف النبيّ الأكرم، أو من طرف أهل البيت، أو الصحابة والتابعين، إنّما أريد بها تبيين المعنى، والإفصاح عن مراد المتكلِّم، والذي قد يكون بالدلالة المطابقيّة أو الالتزاميّة أو استعمال الحقيقة والمجاز أو أنّه أراد أحد المصاديق، ولا وجود للتفسير بالمرموز أو الخروج بالكلام نحو الرمزيّة والإشارة.
4ـ أنواع الروايات التفسيريّة ــــــ
شكَّلت الروايات التي كان موضوعها تفسير بعض القرآن القسم الأكبر من التفاسير الأثريّة، حتّى جعلت هذه الروايات من اختصاصها، وسُمِّيت اصطلاحاً بالروايات التفسيريّة. هذه الروايات لوحظ فيها استعمال طرق مختلفة في التفسير. ويمكن تقسيمها إلى مجموعات، بحيث لا يمكن جعلها جميعاً في مرتبة واحدة. وهذه المجموعات:
1ـ الروايات التي فسَّرت الآيات بالظاهر. وتكون باستعمال أسلوبَيْن:
أـ الروايات التي بيَّنت المعاني الظاهرة.
ب ـ الروايات التي بيَّنت المصاديق، من خلال الاعتماد على ظاهر الآيات.
2ـ الروايات التي فسَّرت الآيات بالباطن. وتكون باستعمال أسلوبَيْن أيضاً:
أـ الروايات التي بيَّنت المعاني الباطنيّة.
ب ـ الروايات التي بيَّنت المصاديق الباطنيّة.
ويمكن استعمال تقسيمٍ ثانٍ للروايات التفسيريّة:
المجموعة الأولى: وهي قسمٌ من الروايات التفسيريّة التي بيَّنت معاني الألفاظ. وتكون على قسمَيْن:
1ـ المعاني الظاهرة.
2ـ المعاني الباطنيّة (بالباطن).
المجموعة الثانية: وهي قسمٌ من الروايات التفسيريّة التي بيَّنت مصاديق الألفاظ. وهي على نوعَيْن:
1ـ تمّ تعيين المصاديق من خلال ظاهر الألفاظ.
2ـ تمّ تعيين المصاديق من خلال باطن الألفاظ.
بالنسبة للتقسيم الأوّل نتناوله بالتحليل بأنواعه الأربعة:
النوع الأوّل: الروايات التي بيَّنت المعاني باستعمال الظاهر ــــــ
المراد بالمعنى في هذه الاستعمالات تمام مراد المتكلِّم (المُخاطِب) من كلامه (المتن، الآيات). والمعنى بهذا الاستعمال ينقسم إلى: معنى ظاهر؛ ومعنى باطن. ويتمّ تبيين مدلول المتكلِّم المطابقيّ أو الالتزاميّ أو التضمُّنيّ، وهي المداليل التي يطلق عليها المعنى الظاهر. وأما المعنى الذي لا يتمّ من خلال استعمال المداليل الثلاثة فيُسمّى المعنى الظاهريّ، وانْ كان ليس ظاهراً في الحقيقة، وإنّما يطلق عليه المعنى الباطنيّ.
و تدخل في هذا النوع الروايات التي ترفع بعض الإبهامات التي يمكن أن تكون في معاني بعض الألفاظ، كالروايات التي تخصِّص عامّ القرآن، أو تقيِّد مطلقه، أو تبيِّن مجمله. ونذكر بعض الروايات ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ:
أـ آية الوضوء ــــــ
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلى الْكَعْبَينِ…﴾ (المائدة: 6).
هل تدلّ على مسح كلّ الرأس أو بعض الرأس؟ الإبهام الآخر الموجود في ألفاظ الآية هو: هل المراد مسح الرجلَيْن أو غسلهما؟؛ وذلك لأنّ لفظ «أرجلَكم» أتت منصوبةً، وهي بهذا تحتمل وجهَيْن:
1ـ العطف على ظاهر لفظ «أَيْدِيَكُمْ»، وحكم الأيدي هو الغسل، فتكون الأرجل مثلها في الحكم، أي إنِ الواجب فيها هو الغسل.
2ـ عطفها على محلّ «رُؤُوسِكُمْ»؛ لأنّ رؤوسكم في محلّ نصب مفعول به. وفي هذه الصورة يكون حكمها حكم الرأس في الوضوء، وهو المسح، فيكون الواجب في الأرجل المسح، وليس الغسل.
في رواية عن الإمام الباقر× تمّ تبيين مراد الله تعالى في آية الوضوء، ورفع بهذا الإبهام عن معاني ألفاظها. ففي الكافي: عليّ بن إبراهيم، عن أبيه؛ ومحمّد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، جميعاً، عن حمّاد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة، قال: قلت لأبي جعفر×: ألا تخبرني من أين علمتَ وقلتَ: إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟ فضحك، ثم قال: يا زرارة، قال رسول الله|، ونزل به الكتاب من الله، لأنّ الله عزّ وجلّ يقول: ﴿فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ﴾، فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أن يغسل، ثم قال: ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إلى الْمَرَافِقِ﴾، ثم فصل بين الكلام فقال: ﴿وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ﴾، فعرفنا حين قال: ﴿بِرُؤُوسِكُمْ﴾ أنّ المسح ببعض الرأس؛ لمكان الباء، ثم وصل الرجلين بالرأس، كما وصل اليدين بالوجه، فقال: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ إلى الْكَعْبَينِ﴾، فعرفنا حين وصلها بالرأس أنّ المسح على بعضها، ثم فسَّر ذلك رسول الله| للناس، فضيَّعوه، ثم قال: ﴿فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ﴾، فلمّا وضع الوضوء إنْ لم تجدوا الماء أثبت بعض الغسل مسحاً؛ لأنّه قال: ﴿بِوُجُوهِكُمْ﴾، ثم وصل بها ﴿وَأَيْدِيكُم﴾، ثم قال: ﴿مِنْهُ﴾، أي من ذلك التيمم؛ لأنّه علم أنّ ذلك أجمع لم يجرِ على الوجه؛ لأنّه يعلق من ذلك الصعيد ببعض الكفّ، ولا يعلق ببعضها، ثم قال: ﴿مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم (في الدين) مِّنْ حَرَجٍ﴾، والحرج الضيق ([19]).
ب ـ آية السرقة ومجازاتها ــــــ
﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (المائدة: 38).
بالنسبة إلى هذه الآية يوجد بعض الإبهام حول معاني بعض الألفاظ:
الأول: هل المراد بالسرقة كلّ سرقة تلبَّس بها السارق والسارقة؟
الثاني: ما هو المراد باليد التي تقع عليها عقوبة الحدّ؟
بالنسبة إلى السؤال الأوّل بيَّنت الروايات المرويّة عن أهل البيت^ قيوداً تلحق بالسرقة، وبالمتلبِّس بها، بحيث قُيِّد المطلَق. وقد استنبط الإمام الخميني& في كتابه «تحرير الوسيلة» ثمانية شروط في حدّ السرقة والمتلبِّس بها، ومن جملتها: البلوغ، والعقل، والاختيار، وعدم الاضطرار، وإحراز المسروق في حوزة السارق…([20]).
أمّا بالنسبة إلى السؤال الثاني فقد ورد أيضاً عن أهل البيت تحديد اليد في حدّ السرقة بالأصابع الأربعة؛ وذلك لأنّه بدلالة المطابقة تطلق اليد ويُراد بها من رؤوس الأصابع إلى الكتف. أمّا بالدلالة التضمُّنيّة فإنّ اليد تطلق ويُراد بها بعضها. وكمثال: فإنّ مَنْ جُرحت أصابعه يقال له: جُرحت يدُه. لذا فإنّ أيّ جزءٍ من اليد يمكن أن يكون بمعنى اليد، وسواء بدلالة المطابقيّة أو التضمُّنيّة، فكلاهما شملتا تعريف أهل البيت لحدّ اليد في حدّ السرقة.
من هنا يتبيَّن أنّ هذه الروايات لم تخرج عن المعنى الظاهريّ للألفاظ، سواءٌ أكان بالدلالة المطابقيّة أو التضمُّنيّة أو الالتزاميّة.
النوع الثاني: الروايات التي بيَّنت المصاديق بالاعتماد على المعنى الظاهريّ للآيات ــــــ
المقصود بالمصاديق الموضوعات الخارجيّة التي ينطبق عليها المفهوم الكلّيّ للمعنى.
ويجب القول: إنّ أغلب الروايات التفسيريّة كانت في بيان مصاديق الآيات القرآنيّة. نعم، في بعض الروايات التي كان موضوعها بيان مصداق أو مصاديق معاني الألفاظ يستدعي الأمر مزيداً من الدقّة والتأمُّل في معاني الألفاظ. ومثال هذا النوع: التفسير المنقول عن الإمام الصادق× للآية: ﴿يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاء﴾ (البقرة: 269)، حيث قال: المراد بالحكمة المعرفة والتفقُّه في الدين([21]).
وفسِّرت الحكمة في بعض الروايات بـ «إطاعة الله»، و«معرفة الإمام»([22]). وقال العلاّمة الطباطبائي في شأن هذه الروايات: إنّها كلّها في صدد تبيين المصداق الخارجيّ([23]).
وبيان هذا أن الحكمة في الاستعمال اللغويّ تعني «المنع للإصلاح»([24])، بمعنى أنّها تشمل كلّ نوع من القول أو السلوك يكون من شأنه إصلاح الناس، ومنعهم عن الفساد. وهنا فإنّ الحكمة بهذه الشمولية لا تختصّ بالمسلم، بل يمكن أن تكون بعض مصاديقها عند غير المسلم، كالكافر، والمنافق. وهذا ما يلاحظ في هذه الرواية: «خُذْ الحكمة ولو من أهل النِّفاق»([25]). ومن الأكيد أنّ معرفة الإمام وإطاعة الله لا يمكن أن يدلّنا عليها الكافر ومَنْ هم في طابوره، لذا فلا يمكن القول: إن الروايات الأولى كانت تفسيريّة لمعنى لفظ الحكمة الوارد في الآية بقدر ما كانت في صدد إعطاء بعض مصاديقها. ويلاحَظ أنّ الكثير من الروايات التفسيريّة تجعل أشخاصاً بعنوان كونهم المصاديق الخارجيّة لمعاني ألفاظ الآيات. ولا يعني هذا أنّ تلك الروايات كانت فقط في صدد تعيين بعض المصاديق؛ لأنّ هناك ما يحصر المصداق الوحيد والواقعيّ للآية، ولا يمكن تجاوزه لغيره بعنوان كونه بياناً لمصداقٍ جديد. من هنا تدرج هذه الروايات في خانة الرواية المبيِّنة للمعنى، وليس للمصداق. ومثالها: ما جاء في تفسير الآية 33 من سورة الأحزاب، حيث حصرت المصاديق في فاطمة الزهراء والأئمّة الأطهار^، أو تفسير آية الولاية بأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب×.
النوع الثالث: الروايات التي بيَّنت المعاني باستعمال التفسير الباطنيّ ــــــ
ربما يكون استعمال المعاني الباطنيّة طريقة في توسيع مساحة المعاني الظاهريّة. ولا يقتصر استعمال التفسير الباطنيّ بالخطاب القرآنيّ، بل تتعدّاه إلى كلّ خطابات الناس. فالمعروف أنّ الناس يستعملون الكتابة في التعبير عن خطاباتهم، ولكنْ لا يجعلون كلّ كلامهم منحصِراً في المعنى الظاهر، ويمكن القول: إنّها فقط جزء من مراد المتكلِّم، بل يجعل كلمات أو عبارات تحمل في غير الجانب الظاهر منها كلّيّات ومعاني أكبر وأفكار أوسع. هذه الأفكار الكلّيّة والمعاني الواسعة هي ما يصطلح عليه «المعاني الباطنيّة». وكما يلاحظ فإنّ منشأ المعاني الباطنة أو الباطنيّة هي نفسها المعاني الظاهرة.
وكمثال على بناء المعنى الباطن على المعنى الظاهر: لو قال معلِّم لتلامذة الصفّ الابتدائي: «من فضلكم، لا تلقوا بالأوراق المهملة في الصفّ». فهذه الجملة على بساطتها تحمل معنى ظاهراً وآخر باطناً. وإدراك المعنيين يتوقَّف على قدرات ذهن التلاميذ؛ فهناك مَنْ سيفهم أنّ طلب المعلِّم منحصرٌ فقط في الأوراق المهملة، فيكفّ عن إلقائها في الصفّ، ولكنّه عندما يبري قلم رصاصه لا يتورَّع عن إلقاء زوائده في الصفّ، وإذا اعترض عليه المعلِّم فإنّ جوابه سيكون أنّ المعلم إنّما قال: الأوراق المهملة؛ وقد يوجد بين تلامذة الصف مَنْ سيمتنع عن إلقاء الأوراق في الصفّ، ولكنْ ما إنْ يخرج منه حتّى يرمي بها في ساحة المدرسة، فقد فهم أنّ توصية المعلِّم إنّما كانت في محيط الصفّ، وليس خارجه. وكما يلاحظ فإنّ مراد المعلِّم لم يكن هو المعنى الظاهر، بل أراد أن لا يرمي التلاميذ بكلّ أنواع الزبالة والزوائد في الأرض، سواء أرض المدرسة أو الشارع أو البيت. لذا فإنّ توصية المعلِّم للتلاميذ بعدم إلقاء الأوراق المهملة في الصفّ لها معنى ظاهر، ولها معنى باطن، ويصبح المعنى الباطن «لا توسِّخوا محيط بيئتكم»، وهو المعنى الذي لم تُشِرْ إليه أيّة لفظة من ألفاظ الجملة التي استعملها المعلِّم. فمراد المعلِّم يوجد في المعنى الظاهر، ولكن لا يوجد في دلالة الألفاظ المستعملة.
ولأنّ فهم ظاهر الخطاب يتوقَّف على فهم الألفاظ فإنّ هذا النوع من الفهم يقلِّص من وجود فوارق في المرتبة بين الناس في إدراكه والتوصُّل إليه. لكنَّهم غير متساوين في فهم المعاني الباطنيّة للخطاب؛ لأنّ التوصُّل إلى فهم باطن الكلام يتوقَّف على القدرات المعرفيّة والعقليّة. والفهمُ بهذا اللحاظ تشكيكيٌّ بين الشدّة والضعف.
وقد قال بعض المفسِّرين، في محاولةٍ للتوفيق بين المعنى الظاهر والمعنى الباطن للقرآن: إنّ الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن بلغةٍ تتناسب وكلّ أنواع الفهم، مأدبةً مفتوحةً للعوامّ والخواصّ، لكنْ رغم يُسْر ألفاظها وسلاستها فهي تحمل معارف عالية، ومعاني عميقة غير منكشفة، تحتاج إلى مَنْ يرفع حُجُبها، ويكشف عن معانيها. وهذا الصراط يتفاوت فيه الناس طبق الحال والمقام؛ فمنهم مَنْ توصله قدراته إلى يسير ثماره؛ ومنهم مَنْ يحظى بعظيم معانيه، وهم فيه درجاتٌ([26]).
وفي عالم الإثبات هناك آياتٌ ورواياتٌ تبيِّن انفتاح لغة القرآن على كلّ الطبقات، ومن بينها: ما روي عن النبيّ الأكرم|: «إنّا معاشر الأنبياء نكلِّم الناس على قدر عقولهم»([27]). كذلك يقول الله تعالى في محكم كتابه: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ (الزخرف: 3 ـ 4).
وهذه الآية تتحدَّث عن تنزيل المعارف والمعاني التي كانت في أمّ الكتاب بلغةٍ بسيطة وسهلة، يستسقي منها عامّة الناس طبق القدرة؛ لكي يهتدوا بها وينوبوا بها إلى الله، لكن وراء تلك المعارف معارف أخرى أعمق وأعلى، هي لمَنْ يكشف الحجاب عنها، ويرفع ستار الحجب عن نورها.
وعبّر عن تواجد المعنيَيْن الظاهر والباطن العارف المولوي في قوله:
لا تظنَّن أنّ القرآن فقط ظاهره
|
وهذا ما يوضِّحه العلاّمة الطباطبائيّ بذكر أمثلة عن وجود المعاني الباطنة خلف المعاني الظاهرة، قائلاً: «في قوله تعالى: ﴿لاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً﴾ (النساء: 36) الفهم الأوّليّ الذي يتبادر إلى الذهن؛ بلحاظ الألفاظ، حرمة عبادة الأصنام والأوثان، وبشيءٍ من التمعُّن يدرك القارئ معنىً آخر، مفاده حرمة إطاعة غير الله بدون إذن الله، وفي نظرةٍ أوسع من الأولى والثانية يفهم القارئ للآية حرمة اتّباع هوى النفس، ليصل في نظرةٍ أكثر عمقاً إلى حرمة الغفلة عن الله والالتفات إلى غيره([29]). ويضيف قائلاً: وهذه التراتبيّة في ظهور المعاني وانجلائها، المعنى الابتدائيّ الذي يحصل من ظاهر الآية، ثم حصول المعنى الثاني، ثم الثالث، وكلّ معنى يؤدّي إلى آخر أوسع منه وأعمق، يجري في كلّ الآيات، من أوّل آية في القرآن إلى آخر آية. والتدبُّر في هذه المعاني يجعلنا ندرك المعنى الحقيقيّ لقول الرسول الأكرم|: «إنّ للقرآن ظهراً وبطناً إلى سبعة بطن»([30]).
من خلال التوضيحات السابقة نخلص إلى القول: إنّ بين الروايات التفسيريّة نفسها روايات أعطت معنىً أوسع لبعض الآيات القرآنيّة، وهي التي نصطلح عليها بالمعنى الباطن. ومن الأمثلة على هذا: ما جاء في خصوص الآية الكريمة: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَاْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾، فإنّ المعنى الظاهر لهذه الآية نحصل عليه بلحاظ أسباب النزول، ففي زمان الجاهليّة كانوا إذا أحرموا يريدون الحجّ جعلوا ثقباً في حائط بيوتهم، منها يدخلون ويخرجون، فلا يستعملون باب الدار طيلة فترة الحجّ، فنزلت الآية تنهاهم عن هذا الفعل([31]). لكنّ المعنى الباطن لهذه الآية هو أنّ الإنسان يجب أن يأتي أموره، دنيويّة أو أخرويّة، بنحوٍ صحيح وعقلانيّ. وهذا ما أشار إليه الإمام محمد الباقر× حين قال: «يعني أنْ يأتي الأمور من وجهها، أيّ الأمور كان»([32]).
ويلاحظ أنّ المعنى الذي ذكره الإمام× للآية هو معنىً باطنٌ، وهو توسيعٌ للمعنى الظاهر، ولو أنّ أيّ لفظ من ألفاظ الآية لا يعطي هذا المعنى لغويّاً.
النوع الرابع: الروايات التي تبيِّن مصاديق باطنة ــــــ
كما أنّ لدينا رواياتٍ تتحدّث عن مصاديق لظاهر الآيات القرآنيّة كذلك توجد روايات تبيِّن مصاديق باطنةً للآيات، أو ما يمكن تسميته بمصاديق المعاني الباطنة، والتي لا يمكن عدُّها عُرْفاً من مصاديق ظاهر الآيات. ولكنْ ما دام المعنى الباطن هو توسيعٌ للمعنى الظاهر فإنّ المعنى الظاهر يشملها. ومن الأمثلة على هذا: الآية السالفة الذكر: ﴿وَاْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا﴾. فبعد المعنى الظاهر والمعنى الباطن هناك مصاديق للمعنى الباطن أشار إليها الإمام الصادق× في ما روي عنه، حيث قال: «الأوصياء هم أبواب الله التي منها يُؤتَى، ولولاهم ما عُرِف الله عزّ وجلّ، وبهم احتجّ الله تبارك وتعالى على خلقه»([33]).
والرواية بيَّنت مصاديق من مصاديق المعنى الباطن للآية. وبعبارةٍ أوضح: إن المعنى الباطن هو الذي يمكن التوصُّل إليه عن طريق عقلائيّ، فالعقل يدرك أنّ الذين يمكنهم إرشاد الناس إلى طريق الحقّ هم وحدهم الذين أدركوا هذه الطريق، ولزموها في حركاتهم وسكناتهم، وعُصِموا عن الحياد عنها ولو تصوُّراً. لذا فسلوك طريق الحقّ بابُه هؤلاء السادة المكرَّمين والهداة المهديّين^.
بشكلٍ عامّ تَبيَّن لنا أنّ الروايات التفسيريّة الواردة عن أهل البيت^ على قسمَيْن:
أـ روايات تبيِّن معاني الآيات، أعمّ من المعنى الظاهر والمعنى الباطن.
ب ـ روايات كانت في صدد بيان مصاديق لمعاني الآيات صرفاً، أعمّ من المصاديق الظاهرة أو المصاديق الباطنة.
تقسيمٌ آخر للروايات التفسيريّة ــــــ
هناك من المفسِّرين مَنْ اعتبر فقط تلك الروايات التي تبيِّن معاني الآيات. فالعلاّمة السيد محمد حسين الطباطبائيّ قد صرَّح في تفسيره «الميزان في تفسير القرآن» إلى هذا بعباراتٍ مختلفة، كقوله: «الرواية من الجري، دون التفسير»، أو قوله: «هو من الجري أو البطن، وليس من التفسير في شيء»، و«هي من الجري والتطبيق أو من البطن، وليست بمفسِّرة»([34]). فهو قد وضع تصنيفاً جديداً للروايات التفسيريّة المنقولة عن أهل البيت^. والمستخلَص من عبارات صاحب الميزان المتقدِّمة، وغيرها كثير في الميزان، أنّ روايات أهل البيت^ في تفسير القرآن على ثلاث أنواع: 1ـ الروايات التفسيريّة المحضة؛ 2ـ روايات الجري والانطباق؛ 3ـ روايات الباطن.
1ـ الروايات التفسيريّة المحضة ــــــ
في اصطلاح السيد الطباطبائيّ الروايات التفسيريّة هي الروايات التي تكشف عن المراد الإلهيّ من الآية، وليست في صدد بيان مصاديق قابلة للانطباق على مراد الآية. فقد تكون الآية مجملةً، وتأتي الرواية لتفصِّل المراد الحقيقيّ، أو قد تكون الآية عامّة أو مطلقة، فتأتي الرواية لتخصيصها أو تقييدها. وهذا النوع من الروايات يمثِّل القسط الأعظم من روايات أهل البيت^.
2ـ روايات الجري والانطباق ــــــ
ما يُصطَلَح عليه بروايات «الجري» هي تلك الروايات التي لا تكون في صدد بيان المراد التامّ للآية، وإنما هي تبيِّن بعض مصاديقها، أو تكشف عن موارد خارجة عن شأن النزول. ويقول صاحب الميزان في هذا النوع من الروايات: «وهذه سليقة أئمّة أهل البيت، فإنّهم^ يطبِّقون الآية من القرآن على ما يقبل أن ينطبق عليه من الموارد، وإنْ كان خارجاً عن موارد النزول، والاعتبار يساعده، فإنّ القرآن نزل هدىً للعالمين، يهديهم إلى واجب الاعتقاد، وواجب الخلق، وواجب العمل. وما بيَّنه من المعارف النظريّة حقائق لا تختص بحالٍ، ولا زمان دون زمان، وما ذكره من فضيلة أو رذيلة، أو شرَّعه من حكم عمليّ، لا يتقيَّد بفردٍ دون فرد، ولا عصرٍ دون عصر؛ لعموم التشريع»([35]).
ومن الأمثلة على الموارد التي كانت الروايات في مجال الجري والانطباق: ما ورد في شأن الآيتين الكريمتين:
1ـ ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ﴾ (البقرة: 121)، فقد ورد عن الإمام الصادق× أنّ المقصود في الآية هم الأئمّة الأطهار^([36])، ويقول السيد الطباطبائيّ: إنّ هذه الرواية من باب الجري والانطباق بذكر المصداق الكامل([37]).
2ـ ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ…﴾ (الحاقة: 19). وكتب السيد الطباطبائيّ في تفسير الميزان أنّ العديد من الروايات التي تحدَّثت عن هذه الآية أجمعت على أنّها في أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب×. وفي روايات أخرى أنّها تنطبق على عليّ بن أبي طالب× وشيعته. وهومن باب الجري، وليس من التفسير([38]).
3ـ روايات الباطن ــــــ
وهي جملةٌ من الروايات التي تكشف عن معاني ومصاديق لا يُتوصَّل إليها عن طريق المعنى الظاهر والعُرْفيّ للألفاظ.
والفرق بين روايات الجري والانطباق وروايات الباطن هو أنّ ما أتى في روايات الجري بعنوان تفسير مصداق أو مصاديق يشمله ويحتويه إطلاق اللفظ في الظاهر أو في العُرْف اللغويّ. ومثال على هذا: في معنى ﴿الأبْرَارِ﴾، فحين قيل: إنّهم الأئمّة الأطهار، وإنّ ﴿الْفُجَّارَ﴾ هم بنو أمية، فإنّ هذه الألفاظ تصدق فعليّاً على تلك المصاديق. إلاّ أنّه قد تذكر الرواية أموراً لا تكون ضمن دلالة ألفاظ القرآن الكريم، كما هو الشأن في قوله تعالى: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ﴾ (الرحمن: 22)، فقد ورد عن ابن عبّاس أنّه قال: اللؤلؤ والمرجان عليّ وفاطمة، وفي رواية أخرى: الحسن والحسين’([39]).
﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ…﴾ (البقرة: 253). حيث ورد في الكافي عن الإمام محمد الباقر× أنّ الآية تدلّ على أنّ أصحاب النبيّ الأكرم| غير مستثنَيْن من هذا الكلّ، يعني أنّ أصحاب النبيّ بعده على مجموعتين: واحدةٌ مؤمنةٌ؛ وأخرى كافرةٌ([40]).
جاء في تفسير العيّاشي عن الأصبغ بن نباتة قال: كنت واقفاً مع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب× يوم الجمل، فجاء رجلٌ حتّى وقف بين يديه، فقال: يا أمير المؤمنين، كبَّر القوم وكبَّرنا، وهلَّل القوم وهلَّلنا، وصلّى القوم وصلَّيْنا، فعلامَ نقاتلهم؟ فقال×: على هذه الآية: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ… وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم﴾، فنحن «الذين من بعدهم»، ﴿وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ…﴾، فنحنُ الذين آمنوا وهم الذين كفروا، فقال الرجل: كفر القومُ وربٍّ الكعبة، ثم حمل فقاتل حتّى قُتل»([41]).
و يقول العلاّمة الطباطبائي: إنّ هذه القصة قد ذكرها كلٌّ من الشيخ المفيد، والشيخ الطوسي في الأمالي، والشيخ القمّي في تفسيره. وتدلّ الرواية على أنّ الكفر الذي عناه أمير المؤمنين في هذه الرواية أعمّ من الكفر الخاصّ أو المصطلح في العقائد، والذي تترتَّب عليه أحكام فقهيّة خاصّة. ويؤكِّد هذا اللحاظ روايات أخرى عديدة، وكذا الأحداث التاريخيّة التي تبيِّن أنّ أمير المؤمنين× لم يعامل القوم في صفّين معاملة الكفّار من المشركين والملحدين أو أهل الكتاب، ولم يعاملهم بالأحكام النازلة في المرتدّين. لذا فتفسير أمير المؤمنين لكفر القوم كان من خلال باطن الآية، وليس حسب ظاهرها وما يعنيه ظاهر الآية وألفاظها، خصوصاً أن عليّاً× ما فتئ يردِّد طوال فترة تسلُّمه الإدارة السياسيّة للأمّة أنّه يقاتل المخالفين على التأويل، وليس على التنزيل([42]).
وقد فسَّر السيد الطباطبائي كلمتَيْ «إيمان» و«كفر» التي جاءت في آيات مشابهة بأنّ المراد الكفر والإيمان بالولاية؛ لأنّه هو المعنى الذي يحمله باطن الآيات، ولا يمكن حسابه تفسيراً لتلك الآيات مطلقاً([43]).
علاقة الجري بالباطن ــــــ
رغم أنّه قد يستشفّ من كلام صاحب الميزان في البحث الروائيّ للتفسير أنّ «الجري» شيءٌ آخر غير «الباطن»، فإنّه، ومن باب التسامح، يمكن القول: إنّ روايات «البطن» هي نوع من الجري؛ بلحاظ كون روايات الباطن في ذاتها توسعةً وتمديداً لمساحة معاني الألفاظ وانطباقها على مصاديق غير ظاهرة. ولعل الروايات تؤيِّد هذا المنحى وتثبته، فالسيد الطباطبائيّ يقول: «في بعض الروايات بطن القرآن تعني انطباق معاني الآيات على موارد أخرى توصل إليها من خلال التحليل، من قبيل: الجري»([44]).
نسبة روايات الجري والتطبيق في التفسير الروائيّ ــــــ
تتحدَّث الإحصائيّات الأوّليّة لهذا النوع من التفسير عن ما يعادل السدس بالنسبة إلى مجموع الروايات التفسيريّة، أي ما مجموعه 2130 رواية، قُسِّمت بالشكل التالي:
هذا عن عدد هذه الروايات، أمّا في ما يخصّ سندها فإنّ ما يقارب نصفها غير مسند، بل هو مرسلٌ ومقطوع السند. وليس هذا فحسب، بل لقد تبيَّن عبر دراسة سندها أنّ ما يعادل الثلث من مجموع عددها قد نقلها رواة اتُّهموا بالغلوّ، أو عُرفوا بالغلوّ([45]).
وفي الجملة رغم الاتّفاق على أنّ منهج الجري والتطبيق أمرٌ عقلائيّ فإنّ عدداً كبيراً من الروايات التي تمّ تفسير الآيات القرآنيّة وفقها قد عُدَّت موضوعةً ومجعولة، سواءٌ من طرف الوضّاعين أو الغلاة.
إنّ ما قام به الأئمّة المعصومون^ من خلال تفسير بعض الآيات القرآنيّة باستعمال طريقة الجري والتطبيق منطقيّة في إطارها، إلاّ أنّ الغلاة قد تجاوزوا هذا الإطار، ليجعلوا القرآن كلّه عبارة عن بحر من الرموز والإشارات التي لا تمتّ بصلة كلّيّاً إلى ظاهر القرآن. وبالتالي أصبحت الروايات من ذاك النوع تطغى على التفسير الروائيّ، ومحاولتها تحويل النظر عن ظاهر القرآن، الذي هو مناط التكليف وطريق استنباط الأحكام الشرعيّة، إلى باطنه الذي يكون مرتعاً خصباً لهم لزرع ونشر أفكارهم الضالّة تحت مظلّة التفسير. وقد حاول الشهيد السيد محمد باقر الصدر توصيف هذا الفكر المنحرف، الذي نسب إلى الشيعة دون غيرهم من الفرق والمذاهب الأخرى، حيث قال: «ومَنْ تتبَّع أحوال المنتسبين إلى الأئمّة^ وجد أنّ هناك اتّجاهَيْن بينهم:
أحدهما: الاتّجاه السائد في فقهاء الأصحاب، الذي كان يمثِّل ظاهر الشريعة، والذي هو واقعها أيضاً، وكان يتمثَّل في زرارة ومحمّد بن مسلم وأمثالهم.
والآخر: اتّجاه باطنيّ، كان يحاول دائماً أن يلغز في القضايا، ويحوِّل المفهوم إلى اللامفهوم. وفي أحضان هذا الاتّجاه نشأ الغلوّ. وحيث لم يكن لهم مدارك واضحةٌ اتَّجهوا إلى تأويل القرآن، واستخراج بطونٍ له…، وهي كلُّها أجزاء من قضيّةٍ كلّيّةٍ حاولها الغلاة المنحرفون، وهي صرف الأنظار من ظاهر الشرع إلى باطنٍ لا معنى له»([46]).
نتيجة البحث ــــــ
من خلال ما طرح نتوصَّل إلى النتائج التالية:
1ـ لقد استند البعض إلى روايات الظاهر والباطن، وروايات التنزيل والتأويل، ومعاني بعض الروايات التفسيريّة، ليرِّوجوا لرمزيّة ولغز الخطاب القرآنيّ. لكنْ، ومن خلال بحث دقيق لتلك الروايات، سواءٌ من خلال السند أو المتن، تبيَّن أنّه ليس فقط أنّها لا تؤيِّد باطن ولغزيّة الخطاب القرآنيّ، بل تثبت ما هو نقيضه.
2ـ جاء الظاهر والتنزيل في الروايات بمعنيَيْن:
أـ ألفاظ القرآن؛ ب ـ المعنى الأوّليّ والظاهريّ لألفاظ القرآن.
وفي مقابل المعنى الأوّل «الباطن والتأويل» بالمعنى المطلق، وفي مقابل المعنى الثاني «الباطن والتأويل» في جانبه المعنائيّ، والذي يكون في التوسيع من مساحة المعاني الظاهرة.
3ـ الروايات التفسيريّة: إمّا في مقام بيان المعاني؛ أو في مقام الكشف عن المصاديق. وكلا المجموعتَيْن إمّا تأخذ الظاهر بعين الاعتبار؛ أو الباطن. ممّا يجعل لدينا في النتيجة أربع مجموعات من الروايات التفسيريّة؛ بلحاظ تعاملها مع الألفاظ:
1ـ الروايات التي تبيِّن المعنى الظاهر.
2ـ الروايات التي تبيِّن المصاديق الظاهرة.
3ـ الروايات التي تكشف عن المعاني الباطنة.
4ـ الروايات التي تتحدَّث عن المصاديق الباطنيّة.
الهوامش
_____________________
(*) أستاذٌ جامعيّ متخصِّص في علوم القرآن والدراسات الغربيّة، له مجموعة مؤلَّفات.
([1]) انظر: تأويل الإسلام: 7؛ وجه الدين: 180؛ راحة العقل: 112 ـ 113، 126.
([3]) التفسير والمفسِّرون 2: 32؛ وكذلك يرجع إلى: أصول التفسير وقواعده: 247 ـ 248.
([4]) المعجزة الكبرى، القرآن: 576.
([5]) التفسير والمفسِّرون 2: 27.
([6]) كنـز العمّال 1: 622، رواية 2879، 550، رواية 2461؛ فضائل القرآن: 97 ـ 98؛ جامع البيض: 527؛ الكافي 1: 374، 4: 549؛ جامع البيان عن تأويل آي القرآن 1: 25، ح9؛ مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 7: 316، رقم 11579؛ إتحاف السادة المتَّقين: 4؛ بحار الأنوار 2: 284.
([8]) تفسير الصافي 1: 28 ـ 29.
([9]) بحار الأنوار 89: 17، 74: 136.
([11]) بصائر الدرجات الكبرى: 216؛ بحار الأنوار 89: 97 ـ 98.
([18]) نور الثقلين 4: 419؛ البرهان في تفسير القرآن 4: 28.
([19]) الكافي 3: 32 (كتاب الطهارة)، باب 19، ح4.
([20]) تحرير الوسيلة 2: 612 (الفصل الخامس، المسألة 1).
([21]) بحار الأنوار 1: 215؛ تفسير العياشي 1: 151.
([23]) الميزان في تفسير القرآن 2: 404.
([25]) نهج البلاغة: 373، الكلمات القصار، الكلمة رقم (80).
([28]) مثنوي مولوي، الكتاب الثالث: 4243 ـ 4244.
([29]) قرآن در إسلام: 20 ـ 21.
([31]) تفسير العيّاشي 1: 105، نهاية تفسير الآية 189 من سورة البقرة؛ بحار الأنوار 1: 97، ح214.
([34]) الميزان 19: 257؛ نهاية الآية 8 من سورة الصف، 292، الآية 84 من سورة الشعراء، 20: 163 نهاية الآيات الأولى لسورة النبأ.
([35]) الميزان 1: 44، نهاية الآية 6 سورة الحمد.
([37]) المصدر نفسه 1: 262، الآية 121 من سورة البقرة.
([42]) الميزان 2: 323، الآية 253 من سورة البقرة.
([45]) جمع آوري روايات تطبيق در تفسير روايي شيعي، وتحليلي پيرامون آنها (عنوان رسالة لنيل درجة الماجستير من جامعة قم).