” إذا خيروني بين الموت على مبادئي والعيش دونها بنعيم السلطة، لاخترت موتا بكرامة على عيش بذل”.
التوتونيون قبيلة كانت تعيش في عام ١٢٠ ق.م، واعتبرها الرومان من البرابرة لوحشيتهم في فهم الحياة، حيث كانوا لا يفهمون إلا لغة القوة، لكن ما لفتني في قصتهم هو أن رغم ترحالهم لمدة ١٩ عاما بحثا عن موطن خصب زراعيا وماديا، وبعد وصولهم لتلك الأرض على أطراف إيطاليا، إلا أن خسارتهم في معركتهم مع الرومان عنى لهم الأسر والاستعباد، فقرر من تبقى منهم أن يموت بكرامة، فقاموا أولا بقتل أطفالهم ومن ثم قتلوا أنفسهم، وهو قرار أدى إلى انقراضهم كعرق وسلالة تماما.
الهدف من هذه القصة هو بالرغم من بربريتهم إلا أنهم كانوا يدركون بالفطرة معنى الكرامة والحرية وإباء النفس، ورفضوا بإدراكهم البسيط الاستعباد، فانتحروا جماعيا حتى انقرضوا تماما.
وبعد قرابة ٢١ قرنا تقريبا عن هذه القصة، وهو زماننا الراهن، وما يوصف به من حضارة وتقدم ومدنية، إلا أن كثير من النخب ومع ادعاءها الفهم الحضاري والتمدن، إلا أنها أكثر بربرية من التوتانيين، بل أكثر عبودية ونزق، رضخوا للاستعباد بعنوان الثقافة، واستخدموا الثقافة أداة للسلطة وليس للوعي.
فبات بعضهم بين خيارين، إما الاعتقال والسجن، أو الرضوخ للسلطة والدخول في معينها بظاهر متحرر مثقف، وباطن مستعبد مذلول ومنقاد غير حر.
فالتوتانيون قبل ٢١ قرنا اختاروا الموت بكرامة والانقراض على الحياة باستعباد وذل، رغم بربريتهم، واليوم كثير من النخب تختار الدخول في ثوب السلطة بذل، على الاعتقال والسجن لكن بكرامة وحرية حقيقية.
الثقافة وظيفتها النهوض بوعي معتنقها، و الارتقاء بإنسانيته وتجرده وموضوعيته وتخليصه من كل التبعيات وأنواع الاستحمار والاستعباد، فمن زادت معارفه زادت عواطفه ومنها إنسانيته، ليقود هو بعد ذلك شعلة تحرير وعي الناس، وتخليصهم من التبعيات والاستعباد.
ما يحدث اليوم لأغلب النخب، أنها تحولت لنخب وظيفية تستخدم الثقافة كأداة في تحقيق سلطة وكسب مال، ولأنها تصبح مستعبدة فهي لا تحاول تحرير عقول الناس وتوعيتهم، بل تحاول أن تكرس الجهل وتوظفه في سبيل الفتن وتكريس المذهبيات والطائفية، كون الوعي يكشف حقيقتها ويسقطها من رهانات وتعويل المناضلين عليها.
فكما تخشى كثير من الأنظمة من وعي الشعوب حتى لا تنكشف حقيقتها، تخشى كثير من هذه النخب الوظيفية ممارسة حركة الوعي الاجتماعي حتى لا تنكشف حقيقتها وتضيع مصالحها ومكاسبها الشخصية.
لذلك نجد كثير من مراكز الدراسات المنتشرة في الخليج ومنطقتنا ترعاها وتدعمها أنظمة، وبهذا الدعم توظف الثقافة والنخب في تكريس الجهل وليس في رفعه والنهوض بالوعي، وتعزل النخب عن الواقع، وتجعلها تدور في دوائر المصطلحات والنظريات البعيدة عن الواقع وإشكالياته الحقيقية، وتعقد مؤتمراتها في أفخم الفنادق ليكون هناك هيمنة حسية وعقلية.
لكن رغم كل هذا البذخ الفكري والمعيشي، إلا أنك تجد الشعوب مازالت في موقع الجهل ذاته، بل تكرست أدوات استعبادها وتخديرها، فبعد التخدير الديني بات اليوم لدينا تخدير ثقافي، تستخدم فيه النخب أداة في تمويل هذا التخدير وتدعيمه ورفده وتكريس واقع الاستعباد والاستحمار، دون أن تقدم رغم كل هذا الزخم من المؤتمرات حلولا للواقع المعقد، يؤسس لمبدأ تداول السلطة ويجعل من الشعوب مصدرا للسلطات لتحقيق العدالة.