مطالعةٌ في مواطن الائتلاف والاختلاف
د. مخلص السبتي(*)
مقدّمة
نستهدف هنا ثلاثة أهداف أساسية:
1ـ توظيف الخبرة الإنسانية لخدمة الفكر الإسلامي.
2ـ توظيف الفكر الإسلامي لخدمة الفكر الإنساني (باللغة التي يفهمها).
3ـ محاولة المساهمة في نزع الصراع المحتدم (على المستويات الفكرية والسياسية…) بين فئتين عظيمتين من المسلمين: فئة العلمانيين؛ وفئة الإسلاميين.
ينطلق البحث من فرضية مفادها أن داء تقمُّص القداسة الذي أصاب المسيحية وعصف بالكنيسة هو نفسه الذي أصاب التاريخ الإسلامي وعصف بمركز الخلافة، وبأغلب الفرق الإسلامي عبر التاريخ، مثل: الخوارج، وما تلاهم من فرق متشعِّبة، كالعلوية والمنصورية والخطابية…إلخ.
ما مدى صحّة هذا الطرح؟ وهل يمكن مقاربته بالأحاديث الاستشرافيّة للنبيّ|: (لتتبعن سنَّة مَنْ كان قبلكم…)([1])، و(أنّ هذه الملّة ستفترق على ثلاث وسبعين: اثنتين وسبعون في النار، وواحدة في الجنة)([2])؟
في البداية ينبغي التأكيد على أن فهم أهداف العلمانية ومراميها يقتضي فهم الواقع الذي جاءت العلمانية في أوروبا لمجابهته. ونحن نزعم أنه نفس الواقع الذي جابهته الكثير من نصوص القرآن والسنَّة وتصرُّفات الخلفاء، واقع اتَّسع بادعاء العصمة والقداسة عبر آليتين اثنتين:
1ـ عصمة وقداسة الراهب أو الإمام أو الوليّ القطب.
2ـ عصمة وقداسة الرأي ما دام صادراً عن مستند من نصٍّ ديني، ولو لم يتمّ النظر إلى الشخص في ذاته على أنه مقدَّس أو معصوم([3]).
إشكالٌ في الغرب
تضرب العلمانية بجذورها الأولى إلى عمق الدين المسيحي؛ إذ لم يأتِ عيسى× بهدف تأسيس دولة أو تبليغ شريعة([4])، بل أتى للدعوة إلى نبذ الوثنية، ولنشر التوحيد، مع تصحيح القِيَم الأخلاقية، والدعوة إلى المحبّة والسلام.
فكانت رسالة عيسى إذن رسالة روحية مكملة للدولة والشريعة، وغير معادية لهما. وفي الوقت ذاته كانت تعمل على التمييز المستمرّ ما بين دولة قيصر ودعوة عيسى؛ حتّى لا تختلط الدعوة المقدَّسة بالدولة المدنَّسة (profane).
ومع مرور العهود أنتجت الدعوة مؤسسة قوية لها أموال طائلة، وإقطاعات شاسعة، وميليشيات مسلحة، وهي الكنيسة التي سيطرت سيطرة كاملة ومطلقة على الدولة وملوكها وساستها، وأخضعت المجتمع لنظامٍ صارم يبجِّل الروح، ويلغي المصالح الدنيوية والمادية، ويقف في وجه تطوُّر العلوم والمعارف غير الدينية.
وبذلك تشكّلت حركة العلم والدين القانون، وأصبحت الكنيسة هي المتحكمة في الأنفس والأرواح، عبر رهبانها وقسِّيسيها، حتّى أن إيمان المسيحي لم يكن ليصحّ إلاّ بالمرور عبر وصاية الراهب، التي تفرض قَسْراً على الأتباع، وهي تشبه وصاية الآباء على أبنائهم القاصرين. ومَنْ يبحث في دلالات ومرجعيات المصطلحات الكنيسة المستعملة من أبٍ وابن، وأحياناً أخت وأخ، يدرك عمق الهوّة الفاصلة بين رجل الدين ولو كان في أسفل السلَّم الهَرَمي للكنيسة ورجل الدنيا العادي.
فرجال الدين والرهبان إذن هم الوسطاء الذين ليس منهم بُدٌّ؛ لكي يكون الإنسان مؤمناً، وهم المتحكِّمون في إيمان المؤمن، منذ أيامه الأولى عبر التعميد إلى نهاية حياته عبر مباركته أو طرده من الملكوت، مروراً بإمكانية تبشيره أيام حياته بمغفرة الذنوب أو متابعته بالتفتيش عن آرائه ومعتقداته، وتطهيره بالتعذيب والإحراق بالنار، إذا كان «مجدّفاً» مخالفاً لآراء الكنيسة المقدّسة.
على أن مصدر الانحراف الذي بدأ بفترةٍ قصيرة بعد عيسى× لم يكن في ذات الدين، ولا حتى في وجود الإكليروس الديني، بل في حرص هذا الإكليروس على استملاك الدين والدنيا استملاكاً نهائياً، واحتكار معرفتهما احتكاراً مطلقاً ومشروعاً، والصدور في ذلك عن طريق مقدّس لا يقبل المراجعة أو المحاسبة؛ إذ هم الرهبان المتحكِّمون باسم الله، والمترجمون لإرادته، وأيُّ مخالفة لهم تعتبر مخالفة لإرادة الله وتوجيهاته.
وقد أثَّرت هاته الفلسفة الإطلاقية العرفاتية على:
1ـ مصادر الدين ونصوصه
فأقرّت المجامع الكنسية أناجيل، وأقصت أخرى، من دون أيّ سند علمي أو توثيقي. وحرمت ترجمة الكتب المقدّسة من اللاتينية إلى غيرها من اللغات الأوروبية؛ إمعاناً في احتكار الدين ووسائل معرفته.
2ـ الإبداع الفكري والعلمي
إذ تبنَّت الكنيسة الآراء الأرسطية، وأضفت عليها من القداسة والرهبة ما جعل مخالفيها كفّاراً هراطقة، ولذلك قتلت العلماء واضطهدتهم، وأحرقت المفكِّرين والمخالفين.
3ـ التعايش الاجتماعي
حيث تمّ اضطهاد المخالفين من اليهود والمسلمين وأتباع المذاهب المسيحية المخالفة، وتمّ حظر التعامل التجاري معهم، وطردهم من وظائفهم، وإخضاعهم للمبادئ الكنسية بالقوّة، والسعي المحكم إلى تغيير أسمائهم وأديانهم بالإكراه.
ومن جهةٍ أخرى أدّى تحالف الكنيسة مع الإقطاعيين إلى استضعاف فئات واسعة من العبيد وصغار التجّار والحرفيين، وغصب أموالهم وأعراضهم،…إلخ، فانتفى بذلك التعايش الاجتماعي بين المذاهب المسيحية، وبينها وبين الأقليات الدينية التي تعيش بينها.
4ـ النظام السياسي
صاغ رجال الكنيسة النظرية الثيوقراطية، وهي ما يعرف بالحكم بالحقّ الإلهي المقدّس. وبمقتضى ذلك صار الحاكم يحكم الشعب بتوجيهٍ من الإرادة الإلهية. وبذلك لم يكن لشخصٍ أو هيئة أن يعارض الحاكم؛ لأنه هو المجسِّد لإرادة الله، وهو الذي يحكم باسم الله ونيابةً عنه. وأعلى معارضة للحاكم تسقط في الكفر، وتوجب لصاحبها اللعن والإخراج من الملكوت.
ولم يكن رجال الدولة، من أمراء ونبلاء وغيرهم، ليتقبَّلوا بيسرٍ تحكُّم رجال الدين بهم، بل انخرطوا في صراعاتٍ طويلة أدَّتْ في الأخير إلى انتصار رجال الدولة «العلمانيين» على رجال الدين «اللاهوتيين». ولم يكن الأمر رفضاً للدين من جانب العلمانيين، بل كان الجميع ينتهي بقوّة وبتعصُّب إلى الدين المسيحي. فالعلمانية لم تكن استبدالاً لثقافة دينية بثقافة أخرى لا دينية([5])، بل محاولة للرجوع بالمسيحية إلى سالف عهدها.
ومن هنا نفهم كيف أن العلمانية تحوّلت إلى مصدر للقيم الإنسانية الثابتة في الثقافة الغربية، بما أنها شرط للقضاء على الظلم والاستبداد، وتحرير للعقل، وترشيد للعمل الإنساني، وأصبحت فلسفة عامّة توجِّه الوعي الاجتماعي والسياسي وجهته العقلانية العلمية، وتبعده عن التصوّرات الخرافية التي تعيق فهم الحياة وتطويرها. إنها في المرجعية الغربية ليست فقط النقيض المواجه للثيوقراطية المستبدّة، بل أيضاً هي المواجه لتحريف الدين والتزيُّد فيه. فلم يكن لها من مبرِّر في المجتمعات الأوروبية لولا ذلك السلطان القاهر الذي ألَّه الرهبان، ومنحهم الحديث باسم الله ونيابةً عنه، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ﴾ (التوبة: 31).
إشكال الشرق
ظهرت الحاجة إلى التمييز بين حكم الله في الشيء وحكم الإنسان منذ فترة مبكرة، حيث نزل القرآن في العهد المكي داعياً إلى عدم الحديث باسم الله ونيابة عنه في غير ما شرّع أو أخبر عنه، فإنْ حدث شيءٌ من هذا فهو كذب وافتراء به عليه: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ﴾ (النحل: 115 ـ 116).
فبعدما بيَّن الله عزَّ وجلَّ هنا ما حرَّم على المسلمين دعاهم إلى عدم التزيُّد عليه بالتشريع نيابة عنه، فإنْ حدث هذا كان كذباً وافتراء عليه.
كما أننا نجد الرسول| يميِّز بين حكمه الخاصّ الذي يصيب ويخطئ وحكم الله عزَّ وجلَّ المطلق فيقول: «إنَّما أنا بشر، وإنَّكم تختصمون إليَّ، فلعل أحدكم أن يكون ألحن بحجَّته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمَنْ قضيتُ له بحقِّ مسلمٍ فإنَّما هي قطعةٌ من النار»([6]).
ويقول في حديث تأبير النخل: «إن الظنّ يخطئ ويصيب، ولكنْ ما قلت لكم: قال الله، فلن أكذب على الله»([7]).
والرسول يربّي أصحابه على اعتبار هذا الفارق، فحينما أمر بريدة على سرية نهاه أن ينزل عدوّه إذا حاصرهم على حكم الله، وقال له: «فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا، ولكنْ أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك»([8]).
لكنّ سنة الله لا بُدَّ أن تتم، ولا بُدَّ أن يأخذ التاريخ مجراه، فتنطبق على المسلمين سنَّة الله في الذين خلَوْا من قبل: «لتتبعنَّ سنَّة مَنْ كان قبلكم حذو القذّة بالقذّة»([9])، فيقدِّسوا آراء شيوخهم وأئمتهم. وهنا نذكر الخوارج والمنصورية والخطابية والإسماعلية والباطنية…، ثم بعد ذلك البابية والبهائية والقاديانية،…إلخ.
أما في العالم السنّي فالمتأمِّل في تجربة الطرق الصوفية يلحظ نشوء منهج جديد منذ فترة مبكِّرة من تاريخ التصوّف، هو منهج «الحقيقة»، الذي زاحم منهج الشريعة أحياناً، وأقصاه في معظم الأحيان.
وهذا المنهج يقوم على مبادئ الذوق والإلهام، الأمر الذي مكَّن كثيراً من شيوخ الطرق من الادّعاء أنهم على صلة مباشرة بالله، وبذلك أصبحت إلهامات الشيخ وأحلامه هي مصادر العلوم والمعارف الدنيوية والأخروية. ومن شيوخ الطرق مَنْ كان يدّعي أنه يلتقي برسول الله| يقظةً، لا مناماً، فيخبره ويأمره وينهاه. خُذْ مثالاً على ذلك: الشيخ أبو العباس التيجاني، الذي قال: «أخبرني الرسول| قائلاً: بعزّة ربي يوم الاثنين ويوم الجمعة لم أفارقك فيهما من الفجر إلى الغروب، معي سبعة أملاك، وكلّ مَنْ رآك في اليومين تكتب الملائكة اسمه على ورقةٍ من ذهب، ويكتبونه من أهل الجنة…
وكان التيجاني يقول: مَنْ ترك ورده وأخذ وردنا، وتمسَّك بطريقتنا هذه الأحمدية المحمدية الإبراهيمية الحنفية التيجانية، فلا خوف عليه ولا من الله ولا من رسوله ولا من شيخه أيّاً كان، من الأحياء أو من الأموات، أما مَنْ أخذ وردنا وتركه فإنه يحلّ به البلاء دنيا وأخرى، ولا يموت إلا كافراً قطعاً، وبذلك أخبرني سيد الوجود| يقظةً، لا مناماً»([10]).
ولقد أصاب هذا المنهج الإلهامي الصوفي نجاحاً في أغلب مناطق العالم الإسلامي، وتطوّر لكي يشكل لنفسه بناء فلسفياً متكاملاً يقوم على إلغاء العقل، وإحلال «الذوق» مكانه.
وبذلك يصبح «الذوق» هو نقطة بداية المريد والمتعلِّم والذي يرتقي في المقامات حتّى يصبح هو «الله»، وحينما يرتفع به ذوقه إلى هذا «المقام» نجده لا يتردَّد في إعلانه على الناس في مجالسهم ومنتدياتهم بصيغ تتفاوت بحسب الظروف والمناسبات؛ فمرّة يفهمهم أنه «ما في الجبة إلاّ هو»، ومرّة يصبح بكلام لا لبس فيه «أنا الله».
بهاته الوسيلة منح الشيوخ والأولياء والأقطاب والأَغَوات لأنفسهم سلطاناً روحياً مهيمناً، بحيث لم يكن يصحّ أن يظل المؤمن بغير شيخ، فـ «مَنْ لم يكن له شيخ فشيخه الشيطان». وهذا الشيخ هو الذي يمنح للمريد «الإذن» في ذكر ربِّه، ويربي روحه ويرعاها. لهذا يتحتَّم أن يكون المريد بين يدي شيخه «كالميت بين يدَيْ غاسله؛ لأنه هو الأدرى بروحه، وما يصلحه، ودينه، وما يستقيم به».
فالشيخ بذلك هو صاحب السلطان الروحي الذي لا يستقيم إيمان المؤمن بدونه، ولا يصحّ سيره إلى الله إلاّ على نهجه وتحت وصايته، بل إنه كثيراً ما استمرت وصاية الشيخ وسيطرته على الأتباع حتّى بعد موته، فيقدّس قبره ويعظّم، وتشدّ إليه الرحال، وتقام له المواسم، ويرجى في المهمّات والملمّات….
وهكذا أصبح الأئمّة والشيوخ والأقطاب متحكِّمون في الناس باسم الله، وأيُّ مخالفةٍ لهم تعدّ مخالفة لأصول الدين وثوابت العقيدة.
ومن الطبيعي أن تحاول هاته الفلسفة الإطلاقية العرفانية التأثير على:
1ـ مصادر الدين ونصوصه
قادت الصراعات السياسية بعض المسلمين إلى أن يصرِّحوا بأن القرآن قد أصابه الزيادة والنقصان. وهكذا نجدهم يروُون: لو قرئ القرآن كما أنزل لألفيتنا فيه مسمَّين». وعن أبي جعفر× قال: «لولا أنه زيد في كتاب الله ونقص ما خفي حقنا على ذي حجى»([11]).
وكان منهم مَنْ يحتج بظاهر القرآن على باطن أهوائه، ولا يخفى بعد ذلك صنيع الذين وضعوا الحديث؛ لبيان الفضائل أو لترجيح الآراء([12]).
2ـ النظام السياسي
يحدثنا التاريخ أن محنة خلق القرآن إنما كان سببها الاقتناع برأي اجتهادي على أنه هو الحقّ، وإقصاء الآراء الأخرى؛ بصفتها باطلاً يجب التقرُّب إلى الله بمحاربة أصحابه والتضييق عليهم. وهكذا اعتبر المأمون الإمام أحمد من أهل الجهالة والضلال عن الدين والتوحيد([13]).
هذا النسق المأموني لم يكن شاذّاً خلال تاريخ الخلافة، بل نقيضه هو الشاذّ الذي لا يقاس عليه، حتّى أن برهان غليون ليقول عن حقٍّ: كان السلطان مسؤولاً أمام الله، ومَنْ يكون مسؤولاً أمام الله لا يمكن أن يكون مسؤولاً أمام العبد، أو أن يقبل السؤال أمام الرعيّة، حتّى كادت مخالفة السلطان تتحوَّل مهما كان ظلمه أو كفره إلى مخالفة الدين. وفي هذه الحالة ليس أمام الناس من وسيلةٍ لمقاومة الظلم إلاّ الإرجاء، والدعاء على الملوك أو لهم… فبديلُ ذلك… ـ كما قال بعض الفقهاء ـ الفتنة المدمِّرة. وهذا هو الذي جعل الأدبيات السياسية الإسلامية بصفةٍ عامة أقرب إلى فلسفة النصيحة منها إلى العلم السياسي الحقيقي»([14]).
3ـ التعايش الاجتماعي
من الواضح أن ادّعاء احتكار الحقيقة كان ولا يزال السبب في تمزيق وحدة المجتمعات، وضياع قواسمها المشتركة. وهكذا يحدِّثنا التاريخ عن صراعات دامية وقعت بين العامة من أتباع الشافعية والحنفية، أو بين الحنابلة والشافعية، أو بين السنّة والشيعة… ويذكر التاريخ أن الحرب بين الدولة العثمانية السنّية والدولة الصفوية الشيعية قد دامت زهاء 200 سنة، مما تسبَّب في تفكُّك المجتمعات الإسلامية، وضياع الثقة بين فئاتها، حتّى أنه في نهاية القرن الماضي كانت العديد من المساجد لها أربع محاريب، لكلّ مذهبٍ محرابٌ خاصّ به.
4ـ الإبداع العلمي والفكري
واضح إذن أن كلّ الانحرافات السابقة، سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو على مستوى العلوم الشرعية، قد ألقت بظلالها على العقل المسلم، فنشأت لديه ثنائية متقابلة (دين/دنيا). فطالب الدين لا يكون إلا زاهداً في الدين… كما تمّ حثّ الناس على الخمول؛ باعتباره من لوازم التوكُّل، وتمَّت محاربة الشرع والعقل بالدعوة إلى وجوب أن يكون مصدر المعرفة هو الذوق، فهو الحقيقة المطلقة، أما الشرع فإنّما هو لعوامّ الناس، لا لخاصّتهم، ويلائم المبتدئين، لا الراسخين. وأما العقل فحجابٌ كثيف مانع من التعرُّف إلى الحقيقة، ولذلك تأوَّلوا قول الله عزَّ وجلَّ ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ فقالوا: فرعون هو العقل.
وبهذه الطرق بدأ الناس يبدعون في ما أمر الشرع التوقُّف عنده، ويتوقَّفون عمّا أمر الشرع بالاجتهاد فيه، ففشا الجمود والانحطاط في أرجاء العالم الإسلامي.
مقارنةٌ
واضح إذن أن الواقع الذي جابهته العلمانية في أوروبا هو نفس الواقع الذي جابهته الكثير من نصوص القرآن والسنّة وتصرّفات الخلفاء الأوائل، واقع اتَّسم بادّعاء العفّة والقداسة، عبر تقديس الراهب أو الإمام أو الوليّ القطب، أو عبر تقديس الرأي ما دام صادراً عن مستند ديني، قوياً كان أو ضعيفاً في دلالته، واقع اتَّسم كذلك ببناء هَرَمي ديني غير دنيوي، من دون أيّ مستندٍ من وحي أو تبليغ. فللكنيسة بناؤها الهرمي الذي يقوم على الأخت والأخ والراهب والباب والقديس…إلخ، وللطريقة بناؤها القائم على المريد فالمقدّم فالشيخ فالقطب فالغَوْث، والبهائية لها بناؤها كذلك المكون من الباب وباب الباب وبهاء الله والقدوس…إلخ([15]).
إنه الانحراف نفسه وقع في أوروبا، فكانت عبودية الإنسان لرجال الدين، ووقع في العالم الإسلامي، فكانت عبوديته للأئمّة والخلفاء وللأقطاب والأولياء. وهذا سرّ نبوءة الرسول| حين قال: «تركبنّ سنن مَنْ كان قبلكم حذو القذّة بالقذّة». والقرآن الكريم يوضح سنن مَنْ كان قبلنا، فيخبر عنهم أنهم ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ﴾ (التوبة: 31). ولذلك فمن دعائم توحيد الكلمة بين سائر أهل الكتاب: «اليهود والنصارى والمسلمون»، أن لا يتّخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لا نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران: 64).
إن النتيجة واحدة بين هؤلاء وهؤلاء، وهي السقوط في تأليه الإنسان، بإضفاء القداسة على شخصه أو رأيه، مع ما يستتبع ذلك من احتكارٍ للحقيقة، وتبرير للتسلط والظلم، وتبرير للانحراف، وسفك الدماء بالجهاد، أو مواجهة الهرطقة والزندقة، مما يحول الحياة الاجتماعية والسياسية إلى مرجل دائم الغليان بالصراعات الحادّة التي لا تكاد تنتهي بعض فصولها إلاّ لكي تبدأ أخرى، ويحول الحياة الدينية والعلمية إلى طقوس ومراسيم فارغة، وتلاوات وتراتيل غامضة، تكرَّر وتعاد من دون النظر في محتواها، ولا التفكير في توثيقها، فتنضب ينابيع الإبداع، وتتجمد العقول، وتخمل الهمم.
ولقد رأينا في التاريخ الغربي أن العلمانية شكَّلت أداة إجرائية حاسمة لتصحيح الانحراف، وإنْ لم تكن شاملة ولا كلية. أما في التاريخ الإسلامي فكانت المعركة فيه سجالاً، حيناً ينتصر اتجاه العقل والعلم الدين، وأحياناً ينهزم. وكان الانهزام بسبب غياب حلٍّ إجرائي يترجم الفلسفة الأصولية في التفرقة والتمييز إلى واقع عملي. فكان العمل الفكري والسياسي، سواء داخل أو خارج السلطة، يتحرك في غالب أمره خارج إطار هذا التمييز، وندرت ـ وأحياناً انعدمت ـ استدراكات تماثل أو تقارب استدراكات الخبّاب بن المنذر وأبي ياسر وعمر ومالك…([16]).
ولا يسعنا ـ ونحن نصل إلى مواطن الاختلاف بين الفكرين الإسلامي والعلماني ـ إلا أن نقرِّر أمرين اثنين نرى أنَّهما في غاية الأهمية:
أوّلاً: لم يحمل دعاة العلمانية في العالم الإسلامي همّ تبيئتها وإخضاعها لعقيدة الأمة ورغباتها ومتطلّبات واقعها. ولهذا السبب أتت العلمانية محمّلة بملابسات وحيثيات واقع غير واقعها، وبثنائيات غير ثنائياتها، ثنائيات مبنية على التقابل والتنافر بين الدين والدنيا، والدين والعلم، …إلخ، فصارت بذلك ملازمة للاختراق الثقافي.
ثانياً: لم تخرج العلمانية عن سنة التطوّر، فأصابها ما يصيب جميع الأديان والفلسفات من ضروب الغلوّ والتطرف، وأصبح اللاديني يتّخذها ذريعة لإقصاء الدين عن الدولة والمجتمع، وأضحَتْ بذلك نظرية نفي الدين مضادّة للدين تتّخذ لنفسها صبغة الإطلاقية والثبات، وبعبارة أخرى: أصبحت «ثيوقراطية مضادّة»، لا تمثّل رغبات عموم الناس بقدر ما تمثّل أهواء ومعالج فئات ضيقة احتكرت الحديث عن الدين، واعتبرت أهواءها في ذلك مطلقة لا تقبل المراجعة.
وليس من شكٍّ عندنا أن هذا الغلوّ لا يقتضي منا نفض أيدينا من الفكر العلماني بأجمعه؛ إذ لو دعَوْنا إلى ذلك لكانت دعوة الداعين إلى تجاوز الأديان مجتمعة ـ لأن الكثير من أفرادها مغالون متنطِّعون ـ محقّة وصادقة، والأمر غير ذلك.
إذن فيجب أن تتفرّع فئات من العلماء ورجال الفكر من كلّ الأديان والاتجاهات لتجديد تراث الإنسانية، وتنقيته من شوائب الغلوّ والتنطّع، وإدامة فاعليته؛ من أجل خير الدين والدنيا.
الهوامش
_____________
(*) أستاذ الفكر والحضارة في جامعة الحسن الثاني ـ الدار البيضاء. من المغرب.
([1]) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام، باب 15؛ ومسلم: 2669؛ والترمذي: 1180.
([2]) أخرجه أبو داوود في كتاب السنّة، باب شرح السنة، رقم 4596؛ وابن ماجة في سننه، في كتاب الفتن، الباب 17، رقم 3991.
([3]) قد تتعدد الآراء المستخلصة من النصّ، إلى حدّ التناقض أحياناً، من دون أن يكون أيّ منها مقدساً أو مطلقاً، وإنما تنحصر القداسة في ذات النصّ، وفي عبارته، لا في الانطباعات التي تحصل حوله.
([4]) نجد في إنجيل متّى، منسوباً إلى قول عيسى: «لا تظنوا أني جئت لأنسخ الشريعة أو أقوال الأنبياء، أنا جئت لا لأنسخها، بل لأكملها. أقول لكم الحقّ: ما دامت السماء في الأرض موجودة فلن يسقط من الشريعة حرفٌ واحد ونقطة واحدة، بل يتم كل شيء» (إنجيل متى، إصحاح 17 ـ 18).
([5]) برهان غليون، نقد السياسة الدولة والدين: 355.
([6]) رواه مالك وأحمد والشيخان عن أم سلمة.
([7]) رواه أحمد وابن ماجة من حديث طلحة.
([8]) أخرجه مسلم في كتاب الجهاد؛ وأبو داوود في كتاب الجهاد.
([9]) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام، باب 15.
([10]) د. تقي الدين الهلالي، الهدية الهادية إلى الطائفة التيجانية: 11 ـ 25.
([11]) الفيض الكاشاني، تفسير الصافي 1: 37.
([12]) محب الدين الخطيب، الخطوط العريضة: 15.
([13]) برهان غليون، نقد السياسة: 614 ـ 615.
([14]) انظر: عبد المنعم النمر، نظرية الملخص: 63.
([15]) محيي الدين الخطيب، البهائية: 180.
([16]) الأول سأل الرسول| يوم بدر، حين أنزل الجند: يا رسول الله، أرأيت هذا المنـزل، أمنـزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدَّم فيه أو نتأخَّر، أم هو الرأي والمكيدة والحرب؟ والثاني أكَّد أن الخليفة خليفة رسول الله، وليس خليفة لله؛ والثالث رفض أن يكتب الكاتب بين يدَيْه (هذا ما أرى الله عمر)…