المفاهيم الحضارية، وأسس الدولة المدنية
أ. د. عبد الأمير كاظم زاهد(*)
مدخلٌ
في شكل الدولة في العالم المعاصر هناك أنموذجان: أنموذج الدولة الدينية؛ وأنموذج الدولة المدنية. ولكلّ أنموذج طبيعته([1]) وماهيته. ولعل عصرنا يرجح أنموذج الدولة المدنية. وهذا الانتماء ناتجٌ عن المعطيات السلبية لتجربة الكنيسة في أوروبا في العصر المتوسط، والمعطيات الإيجابية للبديل الإصلاحي الذي ظهر بعد موجة التنوير الكانتي([2]).
لقد ارتبط ظهور الدولة المدنية بمفهوم حقوق الإنسان المدنية والسياسية، وبالتقدّم ومشاعية المعرفة والديمقراطية، فهذه المفاهيم من لوازم الدولة المدنية.
لقد أصبحت تجربة أوروبا حالياً تجربة إنسانية، ولم تختزل بجغرافيتها، لكنَّ المفكِّرين والدارسين المسلمين لا يزالون يتعاملون معها على أنها أنموذج الآخر الديني، ولا سيَّما في المقارنات مع تجارب الشعوب.
رغم أن عالمنا الإسلامي وتجربته التاريخية والسياسية منذ خمسة عشر قرناً كانت من نمط الدولة الاستبدادية، التي لا تنطبق عليها معايير الدولة الدينية، ولا معايير الدولة المدنية، ومع ذلك نلحظ من الكتّاب مَنْ يبجِّل التجربة التاريخية، ويلتمس لها التبريرات والتفسيرات، ويضفي عليها صفات مناقبية كبيرة([3]). وإزاء مثل هذا الالتباس التاريخي، والخلط بين الأصول النظرية والتطبيقات التاريخية الأوروبية والشرق أوسطية، نجد أن في الفكر الإسلامي صورتين للدولة:
1ـ صورة ترسمها الأصول النظرية، وبعض التطبيقات العملية قصيرة الأمد.
2ـ صورة تصنعها التجربة السياسية التاريخية الفعلية (من بداية العصر الأموي حتّى انتهاء الخلافة العثمانية 1924م).
والصورة الأولى هي الصورة المثالية الأنموذجية المعبرة عن الحكمة الربانية في بناء الإنسان والمجتمع، وهندسة الدولة، سواء في الفلسفة السياسية أو في الاستراتيجيات والأهداف أو في النظم والقوانين أو في التطبيقات الإجرائية.
أما صورة ما حصل فعلاً فهي صورة التطبيق البشري للتجربة السياسية، الذي لا يمكن في كثير من الأحيان الدفاع عن سلبياته.
وعلى المعطيات السلبية للتجربة السياسية التاريخية للمسلمين يؤسِّس خصوم الاتجاه الإسلامي رؤيتهم بأنّ الإسلام الصحيح لا علاقة له بالدولة؛ لأن تجربتهم ليست موجبات دينية، إنما سلطة بشرية قدَّمت نفسها باسم الدين. وحقيقة الإسلام ـ كما يدَّعون ـ دعوة روحية أخلاقية. ومن ذلك: نظرة المستشرقين التي تتناول حضارة الإسلام ومفاهيمه بطريقة غير موضوعية، وتنتهي تلك الرؤى إلى أنه ينبغي أن لا يكون للإسلام شأن بالدولة وإدارة الشأن العام. ويرى أصحاب هذا الاتّجاه أنّ الادّعاء بأن الإسلام دين ودولة ليس حقيقياً؛ لأنه إذا أقام الدولة فإنه سيقيم الدولة الدينية بكلّ شرورها التي عرفتها البشرية في عصرها الوسيط في أوروبا وفي العالم الإسلامي. وعليه فهو دينٌ لا علاقة له بالدولة، وهذه الأفكار ومستنداتها كلّها لا تقارب الحقيقة؛ لأنها توظّف التجربة التاريخية الاستبدادية للأمويين والعباسيين لأهداف أيديولوجية غير علمية؛ إذ إن الإسلام مشروع حضاري للإنسان والمجتمع، ومن ضروراته إقامة دولة الحقّ والعدل، ودولة الإنسان، ودولة الرحمة الربانية.
وبالعودة إلى تفصيلنا بين «أنموذج الأصول النظرية» فإننا نجد من الأدلة الكثير، ومنها: إن أسبق النصوص والوثائق وثيقة المدينة، التي عقدها النبيّ المصطفى| مع (أهل يثرب)، والتي لم تكن إلاّ دستوراً مدنياً ضامناً للحقوق والحرّيات، ومحدِّداً لسلطات الدولة، بحيث يمكن الاستناد لأصل من الأصول النظرية المدوّنة للخروج من هذه الثنائية التي يُراد للتجربة السياسية الإسلامية أن تنحشر فيها؛ إما ترك الشأن العام؛ أو تطبيق الدولة الدينية؛ لأن المهم في هذه الوثيقة أنها قد صدرت عن مقام النبوّة المعصومة التي تبلِّغ عن الله تعالى، وإن أفعال النبي| سنّة ملزمة، ومرجعٌ للتشريع.
ثم إنها وثيقة مكتوبة في عام 622م، أو السنة الأولى للهجرة.
وإنها ناتج مباحثات ومشاورات بين قطاعات دينية واجتماعية مختلفة، تشكل المكونات الاجتماعية في يثرب.
ثم إنها وضعت للتطبيق العملي في بواكير تأسيس دولة جديدة، يتنوّع شعبها تنوعاً في الأديان والأعراق، فأقيمت على دستور مكتوب، وهو «الصحيفة»، التي لها ذاتية مستقلة تميِّزها عن غيرها من الدساتير والوثائق الدولية والمجتمعية.
والأكثر أهمية في ذلك أن البنية الاجتماعية العربية آنذاك كانت تعتبر هذا التنوع شيئاً غريباً وغير مألوف اجتماعياً في حياة العرب وتقاليدهم؛ لأن الأساس السائد في التجمعات البشرية كانت رابطة الدم والقرابة، بينما كان مجتمع المدينة المنورة إبّان تأسيس الدولة مكوّناً من أديان وقوميات، فكانت رابطة المواطنة.
وكذلك فإن الافتراض بأن دولة يترأسها نبيٌّ مرسَل له دينٌ يعدّ خاتم الأديان، وناسخاً لكلّ الشرائع السماوية، كان يفترض أن تكون الرابطة الاجتماعية فقط هي الرابطة الدينية. إلاّ أنّ كلّ هذا لم يحصل، إنما الذي حصل هو مشروعية التنوُّع والتعدُّد، ونمط المشاركة الدستورية، وكانت الرابطة هي رابطة المواطنة.
إن المنهج الذي نتعامل على وفقه في هذا البحث يبدأ من الاعتراف بإطلاقية مضمون النصّ، بعد التوثُّق من صحة صدوره، ودائمية مقتضاه الفكري والقانوني، لكنّه لا يغفل عن الملحظ الزمني التاريخي الموجود في ذات النصّ، بحيث يعدّ ذلك الملحظ الملامح الأولى والعرضية للتطبيق الأول لمضمون النصّ. فأيّ رواية أو نصّ صادر من المعصوم لا يمكن أن ينفصل عن عصره، لكنْ لا بُدَّ له أن يخاطب عصره، «بكل ما في العصر من تشكُّلات اجتماعية وسياسية واقتصادية ومعرفية»، لكنه لما كان جزءاً من دين، أو جزءاً من خطاب ربّاني للإنسان، فلا بُدَّ أن تكون له ديمومة مضمونية جوهرية داخل جيولوجيا النصّ، يمكن تحويلها مجرَّدة عن ارتباطها بأزمان الصدور إلى موجهات فلسفية وفكرية وقانونية لعصور تالية، وإنْ اختلفت في التركيب والتشكُّل.
المطلب الأول: توثيق صحيفة المدينة، وإسنادها
أُريدَ بأسانيد الوثيقة عرضٌ لسلسلة الرواة الذين روَوْا الحديث وأحوالهم التي يترتَّب عليها وثاقة الصدور، أما التوثيق فهو مجموع المراجع والمدوّنات التي ذكرت الصحيفة، كلاً أو جزءاً، وبياناً لهذين الأمرين: الإسناد؛ والتوثيق.
لم يحرز البحث في كتب الشيعة ذكراً كافياً للصحيفة.
فقد روى الطوسي في التبيان، وعنه الطبرسي في مجمع البيان، عن عكرمة، عن عبد الله بن عباس، سرداً عن اليهود وحلفائهم من العرب.
وقد روى الطبرسي في أعلام الورى، عن عليّ بن ابراهيم القمّي، أنهم جاؤوا لرسول الله يطلبون الهدنة، فأجابهم رسول الله، وكتب لهم كتاباً.
ونقل الكليني، والطوسي في التهذيب، عن طلحة بن زيد، عن الصادق×، عن الباقر× قال: قرأتُ في كتاب عليٍّ× أن رسول الله| كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار ومَنْ لحق بهم منهم من أهل يثرب([4]).
نقول: وفي وقت صدور الوثيقة هناك رأيان:
الأول: يرى أن محمداً| كتبها وعرضها على الأطراف المعنية بعد مدّة وجيزة من دخوله المدينة المنورة مهاجراً إليها من مكّة، وقبل تشكيل الدولة الجديدة.
الثاني: يرى أنه| أصدرها بعد خمسة أشهر من وصوله إلى يثرب([5])، بعد الفترة الانتقالية لتأسيس الدولة، أي اعتبارها الوثيقة القانونية للدولة (المؤسّسة على أسس قانونية).
إن المرجع الأساس لرواية الوثيقة ـ بوصفها جزءاً من السيرة النبويّة ـ هي كتب الحديث والسيرة والرواية، ثم كتب التاريخ؛ لأنها وثيقة شرعية أسَّست لنظامٍ عملي تمّت إجراءات تطبيقه، وتم العمل به.
والمرجع الأول لها كتاب السيرة، لابن إسحاق. فقد ذكر ابن إسحاق أن محمداً| كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه اليهود، وعاهدهم على دينهم وأموالهم، واشترط عليهم… ثمّ يسرد بقيّة بنود الوثيقة([6]).
وقد نقل ذلك عنه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه غريب الحديث([7])، وابن كثير([8]) في كتابه. وأوردها ابن هشام في السيرة النبوية([9]). وأشار لها أبو عبيد الهروي في الأموال([10])، وابن زنجويه في كتابه الأموال أيضاً([11]). وذكر أحمد بن حنبل جزءاً من بنودها في مسنده([12])، وأبو يعلى الغراء في مسنده([13]). وجاء ذكرها في السيرة الحلبية([14]). وتوسَّع في عرض أسانيدها، فأشار إلى أن بعض بنودها ممّا رواه أحمد، وبعضها ممّا رواه البخاري ومسلم وأبو داوود في الصحيح والسنن، وكلّهم رووها بسندٍ صحيح، عن أنس بن مالك. وهذا هو الإسناد الأول للوثيقة.
وفي إسنادٍ آخر لها رُويت عن شعيب، عن أبيه، عن جدّه.
كما رواها أحمد في مسنده عن ابن عباس.
أما في صحيح مسلم فقد رواها عن جابر بن عبد الله([15]).
وروى البهيقي منها ثلاثاً وعشرين فقرة. ورواها ابن سيِّد الناس اليعمري، الذي يعدّ من حفاظ الحديث([16])، وبعد أن أوردها بنصّها قال: «هكذا ذكره ابن إسحاق». وقد ذكرها ابن خثيمة فأسندها، قال: حدَّثنا أحمد بن جناب أبو الوليد: حدَّثنا عيسى بن يونس: حدَّثنا كثير بن عبد الله المزني، عن أبيه، عن جدّه، أن رسول الله| كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار، وذكر نحوه([17]).
وبذلك يتَّضح أن الوثيقة قد أخرجها بطولها ابن هشام([18]) في السيرة، وابن كثير في النهاية([19])، وابن سيِّد الناس في عيون الأثر([20])، وكلّهم عن ابن إسحاق، دون ذكر السند.
1ـ وأخرجها البيهقي في السنن الكبرى([21]) من طريق الحاكم النيسابوري، فأسنده إلى محمد بن إسحاق، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: حدَّثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال: حدَّثنا أحمد بن عبد الجبّار قال: حدَّثنا يونس بن بكير الشيباني الكوفي، وهو أبو عمر الكوفي العطاردي، عن ابن إسحاق قال: حدَّثنا عثمان بن محمد بن عثمان بن الأخنس الثقفي الحجازي بن شريف قال: أخذت من آل عمر بن الخطاب هذا الكتاب.
وفي هذا الإسناد هناك إشكالات، ولا سيَّما على وثاقة العطاردي ويونس بن بكير، إضافة إلى أنّه لم يصرّح عثمان ممَّنْ أخذ الكتاب من آل عمر.
2ـ وجاء في إسناد أبي عبيد الهروي في الأموال مرسلاً: حدَّثني يحيى بن عبد الله بن بكير وعبد الله بن صالح قالا: حدَّثنا الليث بن سعد قال: حدَّثني عقيل بن خالد، عن ابن شهاب أنه قال: بلغني أن رسول الله| كتب بهذا كتاباً ـ بنحو حديث ابن إسحاق ـ مرسل للزهري([22]).
3ـ وأخرجه البيهقي من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف فقال: وروى كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جدّه، أنه قال: كان في كتاب النبيّ|: «إن كلّ طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط…»([23]).
4ـ وفي إسناد آخر: أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر القاضي قالا: حدَّثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال: حدَّثنا محمد بن إسحاق الصفاني قال: أنبأ معاوية بن عمرو، عن أبي إسحق الفزاري، عن كثير بن عبد الله، فذكر الصحيفة.
5ـ إسناد ابن سيِّد الناس: عن ابن أبي خثيمة من طريق أحمد بن جناب أبي الوليد قال: حدَّثنا عيسى بن يونس قال: حدَّثنا كثير بن عبد الله بن عمرو المزني، عن أبيه، عن جدّه، أن رسول الله كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار، وذكر نحوه([24]).
أمّا المتأخِّرين فقد استفاض ذاكروها بعددٍ كبير يصعب إحصاؤه، أكتفي بذكر بعضهم، ومنهم:
ـ الشيخ محمد مهدي شمس الدين في كتابه (في الاجتماع السياسي الإسلامي). يقول الشيخ، تحت عنوان حكومة النبيّ|: إنه نظم العلاقة بين المسلمين واليهود باعتبارهم يشكِّلون مجتمعاً سياسياً واحداً متنوّعاً في انتمائه الديني. وهذه أول تجربة سياسية في التاريخ من هذا النوع. ثم يوضّح في هامش هذا النصّ ـ بعد الإشارة إلى سيرة ابن هشام، ومراجعه نصّ الصحيفة والدراسات حولها ـ أن النبي في الوثيقة هو الحاكم، وأن الأقليات الدينية يتمتَّعون بحقّ المواطنة مقابل الخضوع لقوانينها، والاحترام، غير الحماية.
ثم يقول: وما جاء في الصحيفة حكم ثابت غير منسوخ. إن النبي يدعوهم ولكنَّهم أحرار في القبول أو العدم، وعدم استجابتهم لا يؤثِّر على حقوقهم المدنية ما داموا مواطنين لم يخونوا.
ويقول: لقد كادت هذه التجربة أن تستمرّ لولا أن اليهود أفسدوها بتآمرهم، ودخولهم في حرب مع المسلمين نصرةً لقريش، فخالفوا بنودها، ممّا أدّى إلى انهيار المجتمع المتنوّع، لكنّ انهيارها لا يعني إنهاء مشروعيتها، ويمكن تطبيقها([25]).
وعند صالح أحمد العلي في كتابه تنظيمات الرسول الإدارية في المدينة([26])؛ والأستاذ محمد حميد الله الحيدرآبادي في كتابه الوثائق السياسية([27])؛ والشيخ جعفر سبحاني([28]). وذكرها المباركفوري في الرحيق المختوم([29])؛ وعليّ محمد محمد الصلابي([30])؛ ودافع عن وجودها وصدورها الدكتور أكرم ضياء العمري في كتابه السيرة النبوية الصحيحة([31])، مؤكِّداً أنّ أسانيدها ترقى إلى مرتبة الأحاديث الصحيحة، وأن نصوصها كانت مألوفة في عصره، حيث إنّ فيها تشابهاً كبيراً مع كتب النبيّ الأخرى. واجتهد الدكتور أحمد أبو زيد إلى أنها ليست وثيقة واحدة، إنما هما وثيقتان؛ تناولت إحداهما موادعة الرسول لليهود، أنجزت وتمّ إقرارها قبل معركة بدر مع اليهود؛ والثانية تُعنى بالتزامات المسلمين، مهاجرين وأنصاراً، فيما بينهم، وقد جرى صدورها بعد معركة بدر([32]).
وقد صحَّح الوثيقة بطولها د. أكرم ضياء العمري([33])، والدكتور جاسم العيساوي (الوثيقة النبوية)([34])، والسيد محمد صالح السامرائي (أثر التخطيط النبوي في بناء المجتمع المدني)([35])، والدكتور الصلابي (السيرة النبوية)([36])، وسليمان الفهداوي (الفقه السياسي للوثائق النبوية)([37]).
الاستشراق
وممَّنْ أثار الانتباه لها المستشرق فلهاوزن.
واعتبرها «وثيقة من جانبٍ واحد» المستشرق مونتغمري وات، فأصرّ على أن اليهود لم يبرموا أيّ معاهدة مع الرسول|([38]). وحاول بكلّ وسيلةٍ أن يظهر أن مكانة الرسول في المدينة حتّى فتح مكّة لم تكن أكثر من رئيس مجموعة ديموغرافية تسكن المدينة، وليس الحاكم الرئيس لها. في حين أن السيرة النبوية في دائرة المعارف البريطانية تؤكِّد أن شخصية النبيّ| كانت هي المرجع النهائي([39]).
وقال المستشرق كَيربيلي: في بداية حقبة المدينة كانت سياسات النبي وحكمته قد طوّرت كلّ الوضع لصالحه، في وثيقةٍ قيِّمة وموثوقة لا تقبل الشكّ. وقد وصلتنا. وهي الوثيقة (charter) التي سنَّها محمد| مع جميع سكان المدينة بعد مدّةٍ وجيزة من وصوله. وتنطوي هذه الوثيقة على أهمّية تاريخية وقانونية ولغوية، جعل فيها جميع سكّان المدينة (المؤمنون منهم والوثنيون واليهود) أمّة واحدة، وسعى جاهداً إلى تنظيم العلاقات بينهم([40]).
وقال: إن النتائج أن إخراج اليهود من المدينة، بل من جزيرة العرب، لم يكن ناسخاً للوثيقة، إنما تطبيقاً لها؛ إذ نصَّت ْعلى أن لا يتخالف أو يعمل الموقِّعون عليها عملاً يفضي إلى الإضرار بالمسلمين أو عموم سكان المدينة.
إنّ كلّ مَنْ تقدَّم ممَّنْ ذكرها يؤكِّد صحة صدورها عن النبيّ| سنداً. ويضيف العمري لها دلالة أن أسلوبها اللغوي والدلالي والسياق المألوف دليل على صحّتها وأصالتها. وإن نصوصها تعابير مألوفة في عصره|، وإنْ قلَّ استعمالها فيما بعد، ثمّ مشابهتها مع كتب النبيّ الأخرى([41]).
ومقابل هؤلاء يقف بعض الكتّاب من الوثيقة موقفاً متحفِّظاً؛ ففي موسوعة الخطب والدروس، للشحود، تشكيكاً جدلياً واضحاً فيها، بدءاً بادّعاء ضعف أسانيدها، دون التدليل على أسباب الضعف، ومن دون التسمية والتشخيص للرواة الضعفاء.
ويذهب المتحفِّظون على الوثيقة إلى أنها ـ على افتراض صدورها ـ منسوخةٌ بآيات القتال، أو بآيات الجهاد عامّة، أو منسوخة بحديث: (أخرجوا اليهود من جزيرة العرب). فهي نصٌّ منسوخ لا يجوز العمل به([42]).
المطلب الثاني: الظروف السياسية والاجتماعية في يثرب قبل الهجرة النبوية
تعتبر المدينة المنورة (يثرب) مكاناً يسكنه اليهود والعرب. ويهود المدينة هم الذين هاجروا إليها بعد انتهاء الأسر البابلي. وكان في يثرب أحياء مغلقة لمجموعات متميِّزة، مثل: بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة. وقد نزلوا الحجاز أيام بختنصر([43]).
وفيها أحياء للأوس؛ وأخرى للخزرج، فحالفوهم، وصاروا يتشبَّهون بهم؛ لما يرَوْن عليهم من الفضل في العلم، وامتلاكهم لكتابٍ مقدَّس، وما امتلكوه من مأثورٍ عن أنبياء بني إسرائيل، وادّعائهم أنهم أتباع سيِّدنا إبراهيم.
وكان اليهود سادة المدينة، بيدهم عصب المال والسيطرة على الإنتاج الزراعي، وهم أشبه بالحكّام. وكانوا يعتبرون أنفسهم ـ وحدهم دون غيرهم ـ أصحاب الامتيازات، وأنّ كل قرار يجب أن يصدر عنهم ومنهم وإليهم. وطبقاً لرأيهم الديني فإن الناس جميعاً خُلقوا خَدَماً لهم. لهذا نجد أن العرب، من الأوس والخزرج، مجموعة سكّانية غير مندمجة معهم. وقد أذكى اليهود الصراع الدامي بين الأوس والخزرج طيلة سنين؛ للاستفادة من وضع ضعف العرب. فكان العرب بحاجةٍ إلى مَنْ ينهي هذا الصراع، ومَنْ يعيد الوحدة للعرب الموجودين في يثرب.
فاقتصاد يثرب ذو الطبيعة الزراعية يحتاج إلى استقرار سياسي واجتماعي، بينما الأجواء المضطربة الدائمة جعل قوّة العمل غير فعّالة وغير نشطة في يثرب، وكانت طبقة فقيرة جدّاً تعمل لصالح رؤوس الأموال اليهودية…
وليست يثرب.. مدينة ذات مركز ديني، كما هو الحال في مكّة، ولا توجد فيها قوانين وأنظمة متوارثة، سواء أكانت مكتوبة أو أعرافاً مجتمعية… كما لا توجد سلطة سياسية أو شبه سلطة، كما هو حال «دار الندوة» و«الملأ من قريش» في مكّة. وليست مدينة تجارية، كما هو حال مكّة؛ فإن الوضع الاقتصادي فيها كان في أيدي اليهود. وكانت يثرب معرَّضة للغزو، فلم يكن بين سكانها نظامٌ للدفاع المشترك…، بل كان على كلِّ قبيلة من قبائل العرب، أو مجموعة من مجاميع اليهود، أن تحمي نفسها، فكانت تجعل لها سوراً دفاعيّاً خاصّاً بها، حتّى أحصيت أسوارها بما يقرب من ثلاثة عشر سوراً([44]).
ولم يتَّفق اليهود على تنصيب (عبد الله بن أبيّ) ملكاً على يثرب، علماً أن مثل هذا المقترح كان يدعو له بعض اليهود؛ لتقليدهم أنظمة ملكية، مثل: الروم والفرس. لذلك قال أهل يثرب للرسول الأكرم|: (إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشرّ ما بينهم، وعسى الله أن يجمعهم بك، وسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإنْ يجمعهم الله عليك فلا رجل أعزّ منك)([45]).
ولقد كان سكّان يثرب إبّان الهجرة النبوية من اليهود والعرب المشركين والعرب الذين آمنوا ونصروا، ثمّ جاءهم المهاجرون. فهم أربع شرائح: اليهود، العرب المشركون، العرب الأنصار، العرب المهاجرون. وكان اليهود تسعة طوائف. وقد كان مجموع المسلمين الذين صاروا بعد الهجرة مسلمي المدينة من المهاجرين والأنصار ألفاً وخمسمئة شخص.
إن غياب السلطة السياسية المركزية كان ينعكس على الحياة الاجتماعية والدفاعية. وكانت يثرب بحاجة إلى سلطةٍ سياسية مستقرّة؛ ليكون أثرها واضحاً على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. وكان العلم والمعرفة حِكْراً على اليهود، وهم يتكلَّمون العربية، ويكتبونها بالحروف العبرية. وكان لليهود بيوت للعبادة (المدارس)، بينما كان العرب أمِّيين؛ لأنهم لا يملكون كتاباً، فيشعرون بعقدة الضآلة.
والأصل تعميق الخلاف وإدامة الصراع، فلقد تحالفت بنو قينقاع اليهودية مع الخزرج، وتحالف بنو النضير وقريظة مع الأوس، إلاّ أن المعارك فعلاً كانت تجري فقط بين الأوس والخزرج، دون أن يعطي اليهود خسائر بشرية.
لقد أورد بعض الدارسين أن سكان يثرب كانوا عشرة آلاف شخص، منهم ألف وخمسمئة مسلم، وأربعة آلاف يهودي، وأربعة آلاف وخمسمئة من العرب المشركين؛ إذ يشكِّل المرتبطون به عقائدياً أقل من 10%، ولا سيَّما إذا أخذنا تعامل النبيّ مع المنافقين بعين الاعتبار. ثم إن النبي| لاحظ أنه بحاجة إلى ترسيم حدود دولة المدينة، فقد حدَّد الرسول الحدود السياسية لدولة المدينة بين لابتين. واللابة الصحراء، والحرّة (جبال سوداء). قال|: إن إبراهيم حرَّم مكّة، وإني أحرِّم المدينة بين لابتيها. فقد ورد في مسند أحمد: أخرج عليٌ× الصحيفة، فإذا فيها: «مَنْ أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرفٌ ولا عدل»؛ وفيها: «إن ابراهيم حرَّم مكة، وإنّي أحرِّم المدينة، حرام ما بين حرمتيها وحماها كلّه، لا يختلي خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها، إلاّ لمَنْ أشار بها، ولا تقطع منها شجرة إلاّ أن يعلف رجلٌ بعيره، ولا يحمل فيها السلاح لقتالٍ. المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمَّتهم أدناهم، وهم يدٌ على مَنْ سواهم. ألا لا يقتل مؤمن بكافرٍ، ولا ذو عهدٍ في عهده».
وجاء في مسند أحمد رواية عن أنس بن مالك، وعن رافع بن خديج، قوله|: «إن إبراهيم حرّم مكة، وإني أحرِّم ما بين لابتيها»([46]).
قال النووي: واحتجّ بهذا الحديث الشافعي ومالك وأحمد وإسحاق، فقالوا: إن للمدينة حرماً، فلا يجوز قطع أشجارها، ولا أخذ صيدها، ولكنَّه لا يجب الجزاء فيه عندهم، خلافاً لأبي حنيفة الذي لا يرى للمدينة حرماً، كما هو لمكّة المكرَّمة.
وورد في شرح النووي على صحيح مسلم: إن الشافعي ومالك يذهبان إلى تحريم صيد المدينة وشجرها. وأباح أبو حنيفة ذلك. لكن مالك والشافعي يقولان: إنه لا ضمان في صيد المدينة وشجرها، فهو حرامٌ بلا ضمان. ولكنّ ابن أبي ليلى يرى فيه الضمان، كحَرَم مكّة([47]).
ولا بُدَّ من الإشارة إلى أن الأجواء السياسية في المدينة حتّى قبل الهجرة لم تكن أجواء متشدِّدة ضدّ الدين الجديد، فقد كان جمعٌ من المسلمين المهاجرين قد وصل المدينة، مثل: أبي سلمة بن عبد الأسد، وكان قد رجع من الحبشة إلى مكّة، فأوذي، فتوجَّه إلى المدينة([48]).
الصحيفة ناتج حوار واتّفاق
ذكر بعض الباحثين أنه| عقد اجتماعاً مع المهاجرين والأنصار في بيت أنس بن مالك، وعرض عليهم البنود من 1 ـ 23، وتم تدوينها في اجتماعهم، وتوافقوا عليها.
ثمّ عقد اجتماعاً آخر في بيت بنت الحارث مع زعماء المشركين واليهود؛ للتفاهم على المبادئ الرئيسة الأخرى([49]). فكان عقداً اجتماعياً مع الجماعات المنضوية في الدولة المعلنة حديثاً، بحيث ظهرت الوثيقة، وهي ناتج إجماع واتّفاق جميع الأطراف؛ لأنه ليس من المعقول أنّ النبيّ الذي اضطرّ للهجرة من مكّة؛ بسبب اضطهاد قريش، والذي هاجر منها ليلاً، وبشكلٍ سرّي، أن يقوم بإجبار (85%) من سكّان المدينة على الالتزام بوثيقةٍ يضعها، دون التشاور معهم، وتحصيل موافقتهم. فإرغام الأطراف الأخرى احتمالٌ مستبعد، ولا سيَّما وهم أكثر قوّة في العدد والعدّة، لكن لدى العرب في يثرب (مسلمون أو غير مسلمين) رغبة شديدة في تحقيق السلام، وإنهاء حالة الحرب الدائمة والفوضى وغياب الأمن، بعد أكثر من قرن على الحروب والنزاعات المستمرّة بين سكّانها؛ لأن يثرب بكلّ مكوناتها ـ قبل مجيء النبيّ محمد| ـ عجزت عن أن تصل بنفسها إلى السلام، فجاءت الوثيقة لتنظِّم الوضع الاجتماعي على أسس، ولتحقِّق الأمن والسلام. وهذا عاملٌ مهمّ من عوامل قبول الوثيقة؛ لأنها دعتهم إلى الالتزام بقواعد قانونية تضع لكلّ ذي حقٍّ حقَّه بعد تحقُّق اعتراف الأطراف كافّة بالوجود الفعلي والقانوني للأطراف الأخرى. ومن هذه الأطراف (يهود المدينة) ومشركيها ومسلميها.
والملفت أن الوثيقة لم تجعل اليهود «ذمِّيين»، ولم تأمرهم بإعطاء الجزية لأيّ سلطة، ولم تعامل العرب المشركين على أنهم مطالبون بالإسلام أو القتل، إنما اعتبرهم معاهدين، لقوله تعالى ﴿إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ﴾ (التوبة: 4)، وإنْ كان المتحفِّظون يرَوْن أن فرض الجزية جاء في السنة التاسعة.
المطلب الثالث: المعطيات السياسية لوثيقة المدينة
من خلال التمعُّن في وثيقة المدينة ظهرت لنا المعطيات التالية:
1ـ أسَّست الوثيقة في واقعٍ لم يكن يعرف الدولة دولةً مدنية بعناصرها الأربعة «المواطنون، الإقليم، والحكومة، والقانون». فكانت الوثيقة دستوراً أنموذجياً لدولة متميزة في جزيرة العرب.
2ـ أسَّست الوثيقة لمفهوم الأمة، «وهي المجموعة البشرية التي ترتبط برباط عقائدي ـ فكري، فكان الأنصار من قبائل شتّى والمهاجرون الذين هم من قبائل شتّى يشكِّلون مجتمعاً متميِّزاً أطلق عليهم «الأمّة»، رغم اختلاف أعراقهم، بما يترتَّب على ذلك من أبعاد سياسية وآثار حقوقية وانعكاسات على التكوين السياسي والاجتماعي([50]).
فقد جاء في الصحيفة: إن المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومَنْ تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أمّة من دون الناس([51]).
كما أسَّست لمفهوم الدستور، وهو المدونة القانونية العليا التي توضِّح الحقوق والحرّيات والمسؤوليات للحاكم والمحكوم. وأسَّست لآليات إعمال الدستور بعد التوقيع عليها من قِبَل أطرافها بعد المشاورات والمباحثات. جاء في الصحيفة: إن سلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن، إلاّ على سواءٍ وعدل بينهم. وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيءٍ فإنّ مردّه إلى الله وإلى محمد|([52]).
وتؤسّس الوثيقة لمفهوم التعايش السلمي بعد إنهاء حالة النزاعات المسلحة طويلة الأمد بين أصحاب الاعتقادات المختلفة والأصول المتعددة أو المتباينة أو المتضادة، وبذلك تسقط الوثيقة استغلال العقائد بوصفها محرّكات للصراع؛ لأنها إذا أصبحت محرّكات صراع فإنها ستنتج صراعات مركبة وطويلة([53]).
3ـ كان بالإمكان أن يتطوّر الوضع الاجتماعي والسياسي في يثرب لتتشكَّل دولة طوائف، إلا أن الوثيقة وضعت الأساس لقيام الدولة المركزية، بدل دول الطوائف. لذلك نصَّت على خضوع الجميع لمرجعية الدولة، التي أنيط بها إقامة العدل وتنظيم القضاء، وبذلك تنقل الوثيقة الولاء من الطائفة إلى الدولة. ونصَّتْ الوثيقة أنه عند اختلاف السلطات الثلاثة فإنّ قيادة الدولة (رئيس الدولة) هو الفصل فيها([54]).
جاء في الوثيقة: إن الاختلاف مردودٌ إلى الله ورسوله. وما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مردّه إلى الله وإلى محمد رسول الله([55]).
4ـ أسّست الوثيقة ـ بعد تحقيق سياسات الاندماج المجتمعي ـ لمفهوم التكافل والتضامن. فأقرت الوثيقة أن المهاجرين مسؤولون عن فداء أسراهم، ويدخل في عمومه أنهم متضامنون في تلبية الحاجات الأساسية المطلوبة من قبل أفرادهم، والأنصار كذلك، وكلّ تجمُّع قبليّ مسؤول عن فداء أسراه… وبذلك توظِّف الوثيقة الرابطة القبلية للسلوك الإيجابي في المجال الاجتماعي، دون السياسي([56]). فأمرت القبائل أن تتضامن بالديات، وجميع المؤمنين يتضامنون للفقير الذي لا يملك أن يعطي في فداء أسير أو دية قتيل. وبذلك تؤسِّس الوثيقة تلبية حاجة مَنْ كان عليه دَيْن، ولم تكن له عشيرة تعينه على فداء أسيره. قالت الصحيفة: يتعاقلون على ربعتهم، كمعاقلهم الأولى. فعلى المسلمين إعانته في فداء ذلك الأسير([57]).
5ـ اعتماد الوثيقة على العُرْف الاجتماعي المتَّبع، وإقراره للمهاجرين؛ إذ أقرت الوثيقة المهاجرين من قريش على عاداتهم وسننهم الاجتماعية في الديات والدماء، وكما قرَّره عبد المطلب، بينما لم تقرّ أعرافهم في المجال التجاري (الربا)، أو الأحوال الشخصية. وهذا يعني أنّه ليس بالضرورة أن يكون الدستور متّسقاً مع ما يجده من سلوكيات سائدة، وليس بالضرورة أن يكون متقدّماً زمناً ووعياً على مجتمعه، فانتهجت الوثيقة مسلكاً وسطاً([58]).
6ـ قرّرت الوثيقة أن مسؤولية دفع الظلم والإجحاف والاعتداء على الحقوق والحريات مسؤولية الجميع، لا تختصّ بمَنْ وقع عليه. جاء في الوثيقة: «إنما تقع على الجميع. فالمؤمنون بعضهم موالي بعض، والكل على مَنْ بغى أو ظلم أو ارتكب إثماً أو عدواناً أو فساداً. وإن أيديهم عليه جميعاً، ولو كان ولد أحدهم». مع ما لهذا المبدأ من آثار على البنية الاجتماعية، وعلى نوع القرار السياسي، بل عموم الموقف السياسي، وطرق تعاطي الحكّام مع مسألة الظلم، بحيث يقر مبدأ قد يمسّ سلطته. زيادة على ما لهذا من تأثيرٍ روحي ونفسي على الأمّة، بحيث تقرّر الوثيقة أن على الجميع ملاحقة القاتل أيّاً كان. جاء في الصحيفة: «ولا يحول هذا الكتاب دون ظالمٍ أو آثم».
7ـ أعطت الوثيقة لكلّ مسلمٍ حقّ إجارة «غير المواطن في دولة المدينة»، أي منحه تأشيرة الدخول والإقامة الآمنة فيها، متى تأكَّد من خلوّ نواياه من الإساءة للتجربة الجديدة، شرط أن لا يجار كافر مطلوب «للمسلمين» من قبل شخصٍ من الموقِّعين على الوثيقة. جاء في الوثيقة: إن ذمّة الله واحدة، ليجير عليهم أدناهم.
8ـ قلبت الوثيقة الموازين السياسية. فقد كان اليهود في يثرب وحدهم ـ دون غيرهم ـ أصحاب الامتيازات. وإن كلّ قرار يجب أن يصدر عنهم ومنهم وإليهم. فهم الحكام على الناس، والناس محكومون؛ لأنهم بالأصل قد خُلقوا لخدمتهم، كما يعتقدون. في حين جعلتهم الوثيقة مواطنين يتساوون مع غيرهم بالحقوق والواجبات، ويخضعون للحكومة المركزية، بحيث لا يخرج أحد إلاّ بإذن رسول الله. فقد جاء في الصحيفة، بعد أن يعدِّد طوائف اليهود: إنه لا يخرج منهم أحدٌ إلاّ بإذن محمد|. وهذا يعني من جهتهم اعترافاً رسمياً بالسلطة([59]).
9ـ إن المفاهيم السياسية والعقائدية التي أقرتها الوثيقة هي خيارات المجتمع وتفضيلاته، لذلك لا ينصر المسلمون ولا غيرهم من «الموقعين على الوثيقة» مَنْ أحدث وابتدع خلافاً لتفضيلات المدينة، بل يجب مقاومة ما يفسد الخيار المجتمعي للأفكار والمفاهيم بطرق غير علميّة ولا برهانية.
المطلب الرابع: المعطيات القانونية للوثيقة
1ـ أسّست الوثيقة لقانونية سلطة الدولة.
2ـ أسّست الوثيقة لمبدأ جواز الانضمام للوثيقة بعد إبرامها.
3ـ أسّست الوثيقة الوظيفة القانونية للدولة، وهي إقامة العدل والأمن، وتولّي مهمة القضاء، والضمان، وحقوق الإنسان.
4ـ منعت الدولة الطوائف والمكوّنات والتجمعات ومراكز القوى من التدخُّل في صلاحيات الدولة المركزية، وتعطيل القانون.
5ـ أسّست الوثيقة لشخصية العقوبة، فقد جاء فيها: (إنه لم يأثم امرؤ بحليفه).
6ـ وضعت الوثيقة الأساس للمركز القانوني للأقليات من جهة الحقوق والالتزامات داخل منظومة المواطنة.
7ـ ورد في الوثيقة أن للمواطن مجموعة حقوق، منها: حق الحياة، وحق الملكية، وحق الأمن وحرمة المسكن، والحق في الإجارة، والضمان.
8ـ أسّست الوثيقة الاحترام القانوني لعقائد الغير، وعدم الإكراه في فرض المعتقدات، وضرورة التناصح بين مكوّنات الأمة.
9ـ وضعت الوثيقة الأساس القانوني للمواطنة.
10ـ جعلت الوثيقة المرجع عند اختلاف السلطات الثلاث لرئيس الدولة (بوصفه نبيّاً مرسَلاً من عند الله).
11ـ طبَّقت الوثيقة قانونياً المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات.
12ـ أسّست الوثيقة لمبدأ عدم جواز إبرام الصلح المنفرد مع العدو.
قضايا فيها جدلٌ فقهي
المسألة الأولى: تبنت الوثيقة أن لا يقتل مسلمٌ بكافرٍ. وتأسَّس على هذا المبدأ بعد ذلك حتى يومنا هذا حكم فقهي عند جمهور الفقهاء، وهو أن لا قصاص بين المسلم والكافر، حيث تبنّى أغلب فقهاء المذاهب الإسلامية أن المسلم إذا قتل كافراً فلا يُقاد به، إلاّ ما عرف عن الحنفية من أن مواطني الدولة الإسلامية (المسلم ـ والكتابي) هم سواءٌ في حرمة إزهاق الأرواح، وترتُّب القصاص على جميع القتلة بشكل متساوٍ.
المسألة الثانية: نتج عن الوثيقة اعتراف اليهود والمشركين والمنافقين بأن المؤمنين أحسن هدياً وأقومه. فقد نصت الصحيفة في البند (20) أنّ المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه.
المسألة الثالثة: أعطت الوثيقة الحقّ للمسلمين في استرجاع أموالهم التي صادرها المشركون من قريش في مكّة بعد هجرتهم…؛ ليس لأنهم مشركون، إنّما لأنّهم معتدون على ممتلكاتهم. فجاء في البند (20) أنه لا يجير مشركٌ مالاً لقريش، ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن.
والدليل على ذلك أن من أطراف الوثيقة (عرب مشركون)، فلو كانت الوثيقة تقرِّر مصادرة أموال المشركين مطلقاً لم يدخلوا فيها، فلمّا وقَّعوا عليها وخضعوا لها فلأن هذا البند لا يعنيهم. وبذلك تتأسَّس حرمة الاعتداء على أموال الغير مطلقاً.
الخاتمة
ظهر من خلال البحث:
1ـ إن الوثيقة يمكن جمع بنودها من أحاديث متفرّقة، صحيحة الصدور، مبثوثة في كتب الحديث.
وإزاء مَنْ يشكك في صدورها فإن حشداً من الأسانيد ومجموعة من مدوّنات علم الحديث قد ذكروا الصحيفة.
2ـ يلاحظ أن هذه الوثيقة لم يهتمّ بها المؤرِّخون، وأهملوا دراستها.
3ـ هناك مَنْ يرى أنهما وثيقتان: الأولى: بين المهاجرين والأنصار؛ والثانية: بينهم (مجتمعين) وبين اليهود. والراجح أنها وثيقة واحدة.
4ـ يلاحظ أنّها شرعت في وقتٍ لم يكن فيه (بيت المال) للمسلمين.
الهوامش
_______________
(*) أستاذٌ جامعيّ، وباحثٌ في الفقه الإسلامي، وعميد كلِّية العلوم الإسلاميّة في كربلاء. له مؤلَّفاتٌ فكريّة وفقهيّة متنوِّعة. من العراق.
([1]) أياد العنبر، الدولة المدنية في الفكر السياسي الإسلامي: 10.
([2]) حميد مسلم فرهود، تنظيرات الإمام علي للدولة المدنية: 21.
([3]) نقد الحركات الإسلامية: 37.
([4]) الطوسي، التبيان 1: 366؛ الطبرسي، مجمع البيان 1: 303؛ إعلام الورى 1: 157؛ أصول الكافي 2: 666؛ الطوسي، التهذيب 2: 4.
([5]) الصحيح من السيرة 4: 205؛ تاريخ الخميس 1: 353.
([8]) ابن كثير، السيرة 2: 319، 320، 323؛ ابن كثير، البداية والنهاية.
([9]) ابن هشام، السيرة النبوية 2: 147 ـ 150.
([10]) أبو عبيد الهروي، الأموال: 202.
([11]) ابن زنجويه: الأموال 2: 466 ـ 470.
([15]) رشيد محمد إسحاق، صحيفة المدينة ـ دراسة حديثة، رسالة ماجستير صادرة عن جامعة الملك سعود، 1405هـ.
انظر كذلك: رسالة ماجستير «مرويات الزهري في المغازي»، صادرة من جدّة، 1405هـ. وفيها حشد من الأسانيد للوثيقة.
([16]) ابن سيِّد الناس، عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسِّيَر 1: 260.
([18]) ابن هشام، السيرة النبوية 3: 131.
([19]) ابن كثير، البداية والنهاية 3: 224.
([20]) ابن سيِّد الناس، عيون الأثر 1: 238.
([21]) البيهقي، السنن الكبرى 8: 106.
([22]) أبو عبيد القاسم بن سلام، الأموال: 215.
([23]) البيهقي، السنن الكبرى 8: 106.
([24]) ابن سيِّد الناس، عيون الأثر 1: 238.
([25]) محمد مهدي شمس الدين، في الاجتماع السياسي الإسلامي.
([28]) جعفر سبحاني، السيرة النبوية 8: 14.
([29]) صفي الرحمن المباركفوري، الرحيق المختوم 1: 145.
([30]) الصلابي، السيرة النبوية ـ عرض وقائع وتحليل أحداث 1: 492.
([31]) أكرم ضياء العمري، السيرة النبوية الصحيحة 1: 275.
([32]) د. أحمد أبو زيد، السيرة النبوية: 73.
([33]) أكرم العمري، السيرة النبوية الصحيحة.
([34]) د. جاسم العيساوي، الوثيقة النبوية: 69.
([35]) د. محمد صالح السامرائي، أثر التخطيط النبوي في بناء المجتمع المدني.
([36]) محمد علي الصلابي، السيرة النبوية 1: 564.
([37]) سليمان الفهداوي، الفقه السياسي للوثائق النبوية: 94.
([38]) مونتغمري وات: محمد في المدينة: 180 (watt: Muhammad at Medina, chapters).
([39]) دائرة المعارف البريطانية 1: 39 (Encyclo Pedia Britannica 1768)؛ انظر: محمد مهر علي، الاهتمام بالسيرة: 180.
([40]) كيربيلي، تحقيق: عبد الجبار ناجي.
([41]) أكرم ضياء العمري، السيرة النبوية الصحيحة 1: 275.
([42]) علي نايف الشحود، موسوعة الخطب والدروس 9: 164، 282.
([43]) الطبري، تاريخ الأمم والملوك 2: 299.
([46]) مسند أحمد 2: 419؛ سنن البيهقي 5: 97؛ الإمام مالك، الموطأ 1: 251.
([47]) النووي، شرح صحيح مسلم 5: 25؛ انظر: تحفة الأحوذي 9: 367.
([48]) ابن حجر، فتح الباري 11: 253.
([49]) محمد حميد الله الحيدرآبادي، الوثائق السياسية والإدارية.
([50]) د. عبد الأمير زاهد، السيادة في الفكر الإسلامي، بحث منشور في مجلة المنهاج، العدد 61، بيروت، السنة 2011.
([51]) انظر: صحيفة المدينة، البند 1، 2.
([52]) انظر: صحيفة المدينة، البند 1، 2.
([53]) د. عبد الأمير زاهد، السيادة في الفكر الإسلامي، بحث منشور في مجلة المنهاج، العدد 61، بيروت، 2011.
([54]) انظر: عبد الرحمن بن عبد الله، نبي الرحمة: 22؛ سليم العوّا، النظام السياسي في الإسلام: 52؛ خالد الحميدي، نشوء الفكر السياسي الإسلامي: 59.
([56]) ابن كثير، البداية والنهاية 2: 319.
([57]) أحمد شلبي، موسوعة التاريخ الإسلامي 1: 286.
([58]) السلم والحرب، بحث منشور في مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد 7: 1826.
([59]) أ. د. محمد مهر علي، الاهتمام بالسيرة النبوية: 15؛ انظر: مونتغمري وات، محمد في المدينة: 180.