دراسةٌ في المعالم والآفاق
ـ القسم الأول ـ
الشيخ رضا إسلامي(*)
مقدّمة ــــــ
لم يسلك علم الأصول في مساره التاريخي والتكاملي طريقاً واحداً، ولم يضرب على إيقاع واحد ورتيب. فتارةً كان له صعود متسارع في الوصول إلى الذروة النسبية؛ وتارةً كانت له حركة متباطئة، وندر أن يتوقَّف وقوفاً كاملاً. وبنظرة عامة يمكن القول: إن فقهاء الشيعة الكبار قد عمدوا عبر المراحل المختلفة إلى تطوير أفكارهم الأصولية وتعميقها، وفي الوقت نفسه قاموا بتشذيب وتنقيح هذا العلم من الأمور الزائدة. وهنا نتساءل: متى برزت نقطة الذروة في هذه الحركة العلمية؟ وما هي الأسباب التي جعلت من عالم كبير مثل الشيخ الأنصاري& صاحب مدرسة فقهية وأصولية؟ في حين هناك علماء وأساطين آخرين، من أمثال: الفاضل التوني&، الذي تقدَّم الشيخ الأنصاري من الناحية الزمنية، وكانت أفكاره الأصولية العالية في كتاب (الوافية) تدعو الإنسان ـ بلحاظ المقطع الزمني لتأليفه ـ إلى الوقوف له وقفة إجلال وإكبار، أو الميرزا أبو القاسم القمي&، صاحب كتاب (قوانين الأصول)، ومع ذلك لم يعرفا بوصفهما صاحبَيْ مدرسة أصولية. إذاً علينا أن نعلم كيفية تكوُّن المدارس الأصولية، وما هي مقوّماتها ومميّزاتها؟ ومَنْ هم الذين يمكنهم أن يؤسسوا لمدرسة أصولية؟ وهل ظهور المدارس الأصولية والفقهية يتقارن مع ظهور مرحلة جديدة في الأصول أو الفقه، أم أنّ لكلّ واحدة مسارها المستقلّ، ويصدف أن تتقارنا أحياناً، ويكون ظهور مدرسة سبباً في ظهور مرحلة جديدة؟
يمكن لنا أن ننسب المدارس الفقهية والأصولية إلى الزمان أو المكان أو الشخصيات العلمية. وفي جميع هذه الحالات الثلاث سيكون التأثير العميق للعنصر الزماني والمكاني والإنساني ملاكاً في هذه النسبة. فلو قلنا: المدرسة الفقهية في النجف، أو مدرسة إصفهان، أو سامراء، نكون قد أخذنا بنظر الاعتبار تأثير المناخ العلمي في النجف أو إصفهان أو سامراء في ظهور التفكير الخاص. وإذا تحدثنا عن المدرسة الأصولية في القرن الثاني عشر نكون قد نظرنا إلى تأثير المقطع الزمني ـ المحفوف بالمتغيّرات الخاصة ـ على رواج ذلك النمط الفكري في الأصول، وفي تلك المدرسة الأصولية. ولكن من وجهة نظرنا فإن حصّة المكان والزمان في التأثير، وفي ظهور المدارس العلمية، لا يمكن أن يكون جديراً بالدراسة دون النظر إلى وجود الشخصيات العلمية المبدعة. بل إن تأثير الزمان والمكان إنما يكون من خلال ظهور الشخصيات العلمية البارزة، وإن وجود هؤلاء العلماء ـ في الحقيقة ـ هو الذي جعل الزمان والمكان مؤثِّراً. ولكن هل ظهور أصحاب المدارس يعني دائماً الدخول في مرحلة جديدة من مراحل الفقه أو الأصول؟ يجب القول في الجواب: لا يوجد مثل هذا التقارن على الدوام. فكثيراً ما كان هناك فقهاء وأصوليون من أصحاب المدارس، ولكنّهم مع ذلك لم يتمكنوا من التأسيس لمرحلة جديدة، أو إيجاد مناخ جديد في تاريخ ذلك العلم، ولكن كانت أرضية التحوّل والتغيير موجودة في تراثهم الفكري، حيث استطاعوا تقديم أفكار عالية وجديدة. وهنا تبرز أهمية الدور الذي يضطلع به التلاميذ بوصفهم مروِّجين للأفكار الأصولية والفقهية التي صدع بها أساتذتهم في تاريخ التحوُّل لكل علم، وتبلور مراحله المختلفة. وعندما يتمّ الحديث عن مراحل الفقه يتم لحاظ المناخ العام السائد في حقل الفقه. وبالطبع فإن ظهور الشخصيات العلمية يعدّ نقطة البداية لتلك المراحل. وعندما نتحدّث عن ظهور المدارس الفقهية والأصولية لن يكون التأثُّر بالمناخ العام، وازدهار الفكر الخاصّ، هو الملاك.
يتمّ أحياناً تعريف المدارس الأصولية والفقهية بتعريفات مختلفة. وعليه فإننا هنا؛ حيث نروم رسم الخطوط العريضة لمدرسة السيد الشهيد الصدر الأصولية، يجب أن نبيِّن تعريفنا للمدرسة الأصولية، وإنْ كنّا لا ننكر إمكان أن تكون هناك تعريفات أخرى للمدرسة الأصولية، وحمل هذا المصطلح على معانٍ أخرى؛ إذ إن استعمال مصطلح (المدرسة) إنما هو للإشارة إلى منهج وأسلوب خاصّ في الفقه والأصول. وهذه ظاهرةٌ مستحدثة، وقد تجلّى أول ظهور لها من خلال ترجمة مؤلفات الفلاسفة الغربيين. وإن الحديث عن المدارس الفقهية والأصولية يضارع الحديث عن المدارس الفلسفية.
إن مرادنا من المدرسة الأصولية هو النمط الفكري الأصولي القائم على الآراء الخاصة في ما يتعلّق بمصادر ومباني وتقسيمات علم الأصول. ويمكن تقييم هذا النوع من الفكر على نحو متكامل أو غير متكامل. كما نجد الأصوليين يتميَّزون من الأخباريين بمدرسة أصولية، بمعنى أن لديهم طريقة خاصة في فهم الأحكام الشرعية، وإن علماء الشيعة يمتازون من علماء أهل السنة في أنّ لكل مجموعة منهما مدرسة خاصة يُعرف بها. بيد أننا في التقييم؛ وبلحاظ الاتجاه، نحكم على مدرسة بالإيجاب، بينما ننظر إلى المدارس الأخرى بنظرة سلبية.
وبالطبع فإن كل شخصية أصولية تتميّز بنمطها الفكري الخاص. وإن اجتهاد تلك الشخصية في علم الأصول يقتضي أن تتخذ مباني علمية خاصّة بها. ولكنّ هذا لا يعني أن نفترض وجود مدارس أصولية بعدد المجتهدين في علم الأصول. بل إن اختلاف المدارس ناظر إلى الاختلاف العام والكلي الذي يغيّر شكل علم الأصول، وينطلق من المباحث المبنائية. ولهذا السبب لا نرى بين جميع المجتهدين الكبار، الذين جلسوا على مائدة المدرسة الأصولية للوحيد البهبهاني، مَنْ يستحقّ أن يكون صاحب مدرسة جديدة، غير عددٍ قليل، من أمثال: الشيخ الأنصاري. ومن بين جميع المجتهدين الكبار من تلاميذ الشيخ الأنصاري لا نرى أيضاً من أصحاب المدارس الأخرى غير قلائل، من أمثال: الآخوند محمد كاظم الخراساني. فإننا نرى في آثار هؤلاء العلماء البارزين القلائل تحوُّلاً جذرياً في علم الأصول، بينما لا نرى في آثار الكثير من التلاميذ الآخرين اختلافاً كبيراً، بحيث يمكن القول بأنهم يسيرون على نفس النهج الأصولي لمدرسة الوحيد البهبهاني أو الشيخ مرتضى الأنصاري. وعلى هذا الأساس فما دام التغيير الشكلي والمضموني لم يتحوّل ليكون جذرياً وجوهرياً لا يصلح لأن يكون مبدأً لانبثاق مدرسة جديدة. وإذا كان هناك بعض العلماء الذين لم يعرفوا بكونهم أصحاب مدرسة خاصة ـ رغم ما قاموا به من إنجازات علمية مرموقة ـ فإن السبب في ذلك يعود إلى أنّ أعمالهم اقتصرت على مستوى التغييرات السطحية والجزئية، وكانت في حدود التهذيب والتنقيح لما هو قائم من الأفكار؛ أو لأنهم لم يكن لديهم تلاميذ أكفاء، ليعملوا على نشر أفكارهم، ومن هنا لم يحصلوا على تلك الشهرة التي تجعلهم في مصافّ أصحاب المدارس، أو الذين نالوا شهرةً لأسباب أخرى.
وأما التحوُّل في علم الأصول عند الشيعة فيمكن أن يدور حول محور الأمور التالية: التحوّل في مباني الاستنباط، وتنقيح مباني الاستدلال، وطرح الأساليب الجديدة للاستدلال، وإعادة صياغة البحوث القديمة والمعهودة والمتداولة والعمل بالتالي على توسيعها وتعميقها، وطرح البحوث الجديدة والبديعة وغير المعهودة، وإحداث التغيير في هيكلية علم الأصول أو بنية بعض المباحث الأصولية. فكلما حصل تغيير جذري في هذه المحاور الرئيسة من علم الأصول، وكان هذا التغيير أكثر من مجرّد تغيير تدريجي وبسيط، أمكن القول بظهور مدرسة أصولية جديدة.
ويمكن تفسير ظهور المدارس الفقهية على غرار ظهور المدارس الأصولية أيضاً. وبنظرة أكثر شمولية يمكن تفسير الاختلاف بين المدرسة الفقهية الشيعية وبين المدرسة الفقهية السنية في تعيين مصادر الفقه، وحجم فاعليتها وجدوائيتها، والاختلاف في المباني الكلامية، والاختلاف في المناهج والأساليب الناشئة من الاختلاف في المصادر والمباني. إن هذه الاختلافات الجذرية والفرعية قد أسَّست لمسارين مختلفين ومنفصلين للتحولات الفقهية عند الشيعة والسنة على طول التاريخ، بحيث يجب دراسة المراحل التاريخية لكلٍّ منهما على انفراد وبشكل مستقلّ عن الآخر.
وفي ما يتعلق بعلم الأصول يمكن بنفس النظرة الشمولية اعتبار مدرستين أصوليتين لكلٍّ من الشيعة والسنة متمايزتين من بعضهما. فإن المدرسة الأصولية الشيعية بجميع انتماءاتها ومدارسها تختلف عن المدرسة الأصولية السنية بجميع مذاهبها ومدارسها الفقهية والأصولية بأمور عديدة، منها:
أولاً: اختلافهما في مصادر علم الأصول، التي هي نفسها مصادر علم الفقه أيضاً([1]).
ففي ما يتعلَّق بالقرآن الكريم نجد الشيعة لا ينظرون إلى القرآن الكريم مباشرة وبشكل مستقلّ عن الروايات الواردة في تفسيره من طريق أهل البيت^. في حين أنّ أهل السنة لا يعترفون بمكانة أهل البيت بوصفهم المعلِّمين والمفسِّرين لآيات الكتاب المبين.
وفي ما يتعلق بالسنة الشريفة نجد الشيعة يتوسَّعون في قول وفعل وتقرير المعصوم حتّى يشمل جميع المعصومين^؛ بوصفهم خلفاء منصوصاً عليهم من قبل رسول الله|. في حين يذهب أهل السنة بعد النبيّ الأكرم إلى حجّية قول الصحابيّ.
وفي ما يتعلق بالعقل نجد الشيعة يحصرونه في نطاق الإدراكات العقلية القطعية. بينما يذهب أهل السنة إلى اعتبار حتّى الدليل الظني، من قبيل: القياس، أو الاستحسان، بل ويرون هذا الدليل العقلي الظني أكثر جدوائية من الاجتهاد نفسه.
وفي ما يتعلق بالإجماع فإنّ تبرير حجّيته طبقاً لأيّ مبنى من المباني الشيعية([2]) عائدٌ إلى سنّة المعصومين^. في حين أن حجية الإجماع عند أهل السنة تعود إلى ملاك عصمة الأمّة، أو جماعة خاصة من الأمّة، من قبيل: إجماع أهل الحَلّ والعقد، أو إجماع أهل المدينة.
وبالطبع فإن لهذه الاختلافات الجوهرية في تفسير حجية المصادر الأربعة تأثيراً مباشراً في النتائج المترتبة على هذه المصادر، وسعة الاستناد إليها، وتقديم بعضها على بعض. وهي أمور يمكن بحثها في علم الفقه، وفي علم الأصول أيضاً.
وإذا تمّ الحديث عن مصادر أخرى وراء هذه المصادر الأربعة فإن هذا يكون مرتبطاً أيضاً بتفسير حجية المصادر الرئيسة. وإن الشيعة لا يتجاوزون هذه المصادر الأربعة، بل إنهم لم يعتبروا الإجماع إلا مماشاة لأهل السنة. في حين أن أهل السنة يتوسعون في المصادر، لتشمل القياس، والاستحسان، والاستصلاح، والعرف، وشريعة السلف، ومذهب الصحابيّ، وسدّ الذرائع، وما إلى ذلك.
ثانياً: إن وجه التمايز بين المدرسة الأصولية عند الشيعة والمدرسة الأصولية عند أهل السنة يعود إلى وجه التمايز بينهما في المباني الكلامية.
فالمعروف عند أهل السنة جواز السهو والنسيان على النبيّ الأكرم|. بينما يذهب الشيعة إلى عصمة النبي في جميع الأمور الفردية والاجتماعية، والدنيوية والأخروية، وفي بيان الأحكام وتشخيص الموضوعات.
كما يذهب الشيعة بعد النبي الأكرم إلى عصمة الأئمة الاثني عشر^، وبذلك يكون الأئمة مصدراً للتشريع عند الشيعة أيضاً. بينما يتَّجه أهل السنة إلى الصحابة، وعلى الرغم من أنهم لا يتحدَّثون عن عصمتهم، إلا أنهم يبلغون بتقديسهم وتنزيههم حدّاً يصلون معه بهم إلى درجة العصمة تلقائياً.
وإن قاعدة اشتراك الأحكام من القواعد المتسالَم عليها بين الشيعة، وعلى هذا الأساس يذهبون إلى بطلان التصويب. إلاّ أن أهل السنة ليسوا على قول واحد في إثبات أو إبطال التصويب.
وإن قاعدة الاشتراك نفسها ترتبط بالبحث عن كمال وجامعية الشريعة. بيد أن أهل السنة لا يأبون من قبول دور المجتهد في تكميل الشريعة بناءً على القول بالتصويب.
وطبعاً إن هذا النوع من الاختلاف في المباني الكلامية يمكن أن يشكِّل قاعدة للاختلاف في كمية وكيفية مصادر البحث الفقهي والأصولي. وقد تقدّمت الإشارة إلى ذلك.
ثمّ إننا إذا نظرنا إلى نصّ البحوث الأصولية عند الفريقين سنقف على عدّة أنواع من الاختلاف، من قبيل: إن بعض البحوث عندنا قد توسَّعت على نحو كبير جداً، من قبيل: مباحث الأصول العملية، ودليل الانسداد. في حين بقيت هذه البحوث مهجورة ومتروكة عند أهل السنة؛ إذ لم يحدث في الفقه السني تفكيك بين الدليل الكاشف والدليل الذي يعيِّن الوظيفة.
ولكن في المقابل نجد أهل السنة قد توسَّعوا في باب القياس وأقسامه وأركانه إلى حدود كبيرة.
ومن جهة أخرى فإنّ محور تقسيم البحوث الأصولية عند أهل السنة هو (الحكم)، بينما محور تقسيم البحوث الأصولية عند الشيعة هو (الدليل). وهذا الأمر هو الذي أدى إلى إظهار بنية وأسلوب البحث في علم الأصول على نمطين مختلفين تماماً.
يضاف إلى ذلك أيضاً أن أصول الفقه السني تعمد إلى توظيف القواعد وطريقة تطبيقها بكثرة، ويتمّ ذكر أمثلة واقعية في نصّ الكتب الأصولية عن تأثير المباني الأصولية في استنباط الأحكام بكثرة. بينما في أصول الفقه الشيعي يتم بيان القواعد والنظريات الأصولية بعيداً عن المناخ الواقعي للفقه، وعلى شكل بحث مستقل، وتذكر لتقريب المسائل أمثلة افتراضية في الغالب، وهذا هو الذي أدى إلى ظهور شبهة التضخُّم في علم أصول الفقه، والقول بعدم وجود ثمرة عملية في الكثير من البحوث الأصولية. وربما ورد هذا الإشكال على علم الأصول عندنا أيضاً. ولكنّ هذا الإشكال ناشئ إلى حدٍّ ما من عدم الالتفات إلى طبيعة البحوث الأصولية؛ إذ في مقام تطبيق القواعد الأصولية يمكن للكثير من النكات والخصوصيات أن تكون مؤثرة، ولا يصحّ اعتبار عملية التطبيق عملية سهلة وبسيطة. من هنا يضطر علماؤنا إلى صياغة أمثلة افتراضية تعكس التأثير المباشر للمبنى الأصولي على نتيجة عملية الاستنباط. كما يعمل المحقِّقون في علم الطبّ من أجل إثبات تأثير مادّة معينة في معالجة مرض من الأمراض إلى تجربتها واختبارها على إنسان أو حيوان في المختبر، دون أن تكون فيها العناصر المؤثِّرة الأخرى.
وإذا تجاوزنا الخلاف الشيعي السني في مدرستَيْهما الأصوليتين، ودخلنا في الدائرة الفكرية لكلّ فريق منهما على انفراد، لوجدنا هناك مدارس مختلفة أيضاً. فإن لكلّ واحد من المذاهب الفقهية عند أهل السنة مدرسته الأصولية الخاصّة لاستنباط الأحكام الفقهية، بحيث يمكن لكلٍّ منها أن ترسم حدود ومعالم مدرسة أصولية. بيد أننا شهدنا فيما بعد أن التأليفات الأصولية لعلماء أهل السنّة من مختلف المذاهب قد تجلّت في ثلاثة اتجاهات رئيسة، وتم عرضها من خلال ثلاثة أنحاء مختلفة. وهذا الأمر ـ بالالتفات إلى اختلاف المذاهب واختلاف أصول الاستنباط ـ مثارٌ للتساؤل. وعلى أيّ حال فإن الاتجاهات هي كالتالي:
1ـ طريقة المتكلِّمين: وعلى أساس هذه الطريقة نسجت مؤلَّفات، من قبيل: المعتمد، لأبي الحسين البصري(463هـ)؛ والبرهان، لإمام الحرمين الجويني(487هـ)؛ والمستصفى، لأبي حامد الغزالي(505هـ).
2ـ طريقة الفقهاء: أصول الفقه، للجصاص(307هـ)؛ وكتاب آخر يحمل ذات العنوان، للسرخسي(483هـ). فإنّ هذين الكتابين قد تمّ تأليفهما على أساس هذه الطريقة.
3ـ الطريقة الجامعة: بديع النظام، لابن الساعاتي؛ وجمع الجوامع، للسبكي(771هـ). فهذان كتابان يمثِّلان نموذجاً للتعرّف على هذه الطريقة الثالثة.
وإنّ كل واحدة من هذه الطرق الثلاثة يمكن اعتبارها مدرسة أصولية، وقد كتبت العديد من الكتب في بيان مناهجها وأساليبها العلمية([3]).
وأما عندما ندخل في دائرة التشيُّع، ونقرأ تاريخ تطوّر علم الأصول، نشاهد ظهور مختلف المدارس في مسار تكاملي وتدريجي. ولكن يمكن لنا أن نشير إلى النقاط المشتركة لبعض المدارس، وأن نطرح من خلال نظرة عامة وشاملة مدرستين: إحداهما: عقلية؛ والأخرى: نقلية. وبعبارة أخرى: المدرسة الأصولية؛ والمدرسة الأخبارية. إن الأخباريين القدامى، برئاسة الشيخ الصدوق&، والأخباريين المتأخِّرين، بزعامة الشيخ محمد أمين الإسترآبادي، تعتبر تياراً ضعيفاً، ولم يحظَ باستمرار طويل. بينما كان الأصوليون هم التيّار القوي والغالب، بحيث لم يتوقَّف عن الحركة والتقدّم أبداً. وقد انطلقت هذه الحركة العلمية في الأصول ابتداءً من ابن أبي عقيل وابن الجنيد رسمياً، واستمرّت إلى الشيخ الأنصاري والآخوند الخراساني وتلامذتهما البارزين. وقد شهد علم الأصول في داخل هذا التيار عمليات تجديد متكرِّرة، قد تصل أحياناً إلى تغييرات جوهرية.
من هنا يمكن اعتبار السيد المرتضى ـ الذي أبدع الذريعة إلى أصول الشريعة بوصفه أول كتاب أصولي تفصيلي ـ مدرسةً أصولية. كما يمكن لنا أن نعدّ من جاء بعده، من أمثال: العلاّمة الحلي، صاحب مبادئ الأصول؛ والشيخ الحسن بن زين الدين العاملي، صاحب معالم الأصول؛ والشيخ الوحيد البهبهاني، صاحب الفوائد الحائرية؛ والشيخ الأنصاري، صاحب فرائد الأصول؛ والآخوند الخراساني، صاحب كفاية الأصول؛ والشيخ ضياء الدين العراقي، صاحب مقالات الأصول؛ والميرزا محمد حسين النائيني، مدارس أصولية. وبطبيعة الحال هناك في البَيْن مصاديق مشكوك فيها، وهي في إثبات كونها مثالاً لظهور مدرسة أصولية جديدة تحتاج إلى تحقيق ودراسة على مساحة أكبر.
ومن الذين تمّ طرح مدارسهم الفقهية فقط جماعةٌ من الأخباريين المعتدلين، من أمثال: الشيخ يوسف البحراني، صاحب الحدائق الناضرة؛ والملا محسن الفيض الكاشاني، صاحب مفاتيح الشرائع؛ وجماعةٌ من الأصوليين، من أمثال: ابن إدريس، صاحب السرائر؛ والمحقق الكركي، صاحب جامع المقاصد؛ والشهيدين الأول والثاني، صاحبَيْ نصّ وشرح اللمعة الدمشقية؛ والشيخ محمد حسن النجفي، صاحب جواهر الكلام. وبالطبع توجد هنا أيضاً بعض المصاديق المشكوك فيها، وهي؛ لإثبات كونها مثالاً لظهور مدرسة فقهية جديدة، بحاجة إلى دراسة وتحقيق أيضاً.
وعندما نصل إلى السيد الشهيد محمد باقر الصدر& ـ أبرز تلاميذ السيد المحقِّق أبي القاسم الخوئي ـ ندرك من خلال دراسة آثاره ظهور مدرسة أصولية بوضوح كامل. ويمكن لنا أن نرصد ثماني خصائص للدلالة على مدرسته الأصولية، وربما كانت هناك خصائص أخرى بالإضافة إلى هذه الخصائص الثمانية، وهي:
1ـ بناء الهيكل الأصولي.
2ـ تبويب العناوين.
3ـ البحث عن جذور المسائل وخلفياتها.
4ـ التنظير.
5ـ الإبداع.
6ـ التناغم والتنسيق.
7ـ التأريخية.
8ـ المنهج التدريسي.
1ـ بناء الهيكل الأصولي ــــــ
من المعلوم أنّه كلما كان تبويب مسائل كلّ علم أدقّ فإن المكان الصحيح والمنطقي لكلّ مسألة سوف يتجلّى على نحو أكثر وضوحاً، ويتمّ التعرّف على أبحاث ذلك العلم بشكل أفضل، ويتمّ التعرّف على مواطن الفراغ من أجل تكامل البحوث على نحوٍ أيسر.
وقد عمد السيد الشهيد الصدر في البداية إلى ذكر التبويب المعروف في علم الأصول الذي يذكره أستاذه الكبير السيد الخوئي([4])، وقال: يُقال عادة في تقسيم مباحث علم الأصول: إن القواعد الأصولية على أربعة أقسام:
1ـ القواعد التي تثبت لنا الحكم الشرعي بالوجدان، وهي مباحث الاستلزام العقلي، من قبيل: القاعدة العقلية القائلة: (مقدمة الواجب واجبة).
2ـ القواعد التي تثبت لنا الحكم الشرعي تعبُّداً، وهي على نوعين:
أـ القواعد التي تقع صغرى في قياس الاستنباط، ويكون البحث فيها صغروياً. ومن هذا القبيل: جميع مباحث الألفاظ، ومن بينها البحث في ظهور صيغة الأمر في الوجوب، وظهور العام المخصص في تمام الباقي.
ب ـ القواعد التي تقع كبرى في قياس الاستنباط، ويكون البحث فيها كبروياً. ومن هذا القبيل: جميع الأبحاث المرتبطة بالحجّية، ومن بينها البحث في حجّية ظواهر الكتاب، وحجّية خبر الواحد، وحجية الشهرة.
3ـ القواعد التي تثبت لنا الوظيفة الشرعية عند عدم العلم بالحكم الشرعي وجداناً أو تعبُّداً، من قبيل: أصالة البراءة الشرعية، وأصالة الاحتياط الشرعي.
4ـ القواعد التي يرجع إليها الفقيه في المراحل الأخيرة، وهي الأصول العملية العقلية، من قبيل: قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وقاعدة وجوب الاحتياط العقلي([5]).
في هذا التبويب تقع جميع البحوث الأصولية ضمن قسمين، هما: الأمارات؛ والأصول العملية. أما الأمارات فهي عبارة عن أدلة الاستنباط التي تحتوي على حيثية الكشف عن الواقع، وأما الأصول العملية فهي التي تقتصر على تحديد الوظيفة العملية فقط. وكلّ واحدة من الأمارات والأصول العملية تنقسم إلى قسمين آخرين. ففي ما يتعلَّق بالأمارات ـ الأعمّ من القطعية والظنية ـ يتمّ الحديث تارةً عن أصل الظهور، وتارةً أخرى عن حجية ذلك الظهور. وفي ما يتعلَّق بالأصول العملية يتمّ الحديث تارةً عن الأصول العملية الشرعية (التي تمّ التأسيس لها من قبل الشارع)، وتارةً أخرى عن الأصول العقلية (التي تمّ التأسيس لها من قبل العقل).
وإذا تقدّمنا أكثر، ونظرنا في عناوين (كفاية الأصول)، للمحقِّق الخراساني، نجد مباحث علم الأصول تقع ضمن أربعة أقسام، على النحو التالي:
1ـ مباحث الألفاظ ومقدّماتها. وهنا يُبحث في أصل ظهور الدليل اللفظي. ويتمّ في ضمنها إدراج الكثير من الأبحاث العقلية، دون أن يتمّ تبريرها بالشكل الكافي.
2ـ مباحث الأمارات الشرعية المعتبرة، حيث يُبحث أولاً عن حجّية القطع، ومن ثمّ عن حجية أو عدم حجّية بعض الأمارات الظنية.
3ـ مباحث الأصول العملية، الأعمّ من العقلية أو النقلية.
4ـ مباحث تعارض الأدلّة والأمارات.
وأما كتاب فرائد الأصول، للشيخ الأنصاري، فيشتمل على هذه الأقسام الثلاثة الأخيرة من مباحث كفاية الأصول. وأما القسم الأوّل فيمكن العثور عليه في تقريرات درس الشيخ الموسومة بـ (مطارح الأنظار).
وبعد المحقِّق الخراساني واصل تلاميذه النسج على ذات هذا المنوال والأسلوب في التبويب، مما يُثبت قلّة اهتمامهم بتقديم تبويب أنسب. فمثلاً: نجد أن تقريرات درس الميرزا النائيني الموسومة بـ (فرائد الأصول)، وكذلك في كتاب (مقالات الأصول)، للمحقق العراقي، لم ينظر فيها إلى أبواب وفصول ومباحث علم الأصول برؤية خاصة ودقيقة، وإنما هناك مجرّد إشارات ضمنية لذلك في معرض بيان تعريف وموضوع علم الأصول، كما هو الحال بالنسبة إلى آثار المتقدّمين. وفي حدود معرفتنا فإن الشيخ محمد حسين الإصفهاني هو أول شخصية أصولية تبادر إلى القيام بإصلاح جوهري في هذه العملية التبويبية، مقترحاً فصل المباحث العقلية عن مباحث الألفاظ.
وبناءً على مقترحه فإن الأبواب الأصولية الأربعة عبارة عن:
1ـ مباحث الألفاظ، التي يبحث فيها عن أصل ظهور الأدلة اللفظية.
2ـ المباحث العقلية، من قبيل: بحث مقدمة الواجب، وبحث امتناع اجتماع الأمر والنهي.
3ـ مباحث الحجّة، التي يتمّ فيها البحث عن حجّية ظواهر الكتاب والسنة، وكذلك حجّية الإجماع، والدليل العقلي.
4ـ مباحث الأصول العملية.
ومن ثمّ يُصار إلى مباحث تعارض الأدلة، الموسوم بـ (باب التعادل والتراجيح)، تحت عنوان (خاتمة). وهو في الواقع عبارة عن باب وقسم خامس من أبواب علم الأصول.
يلاحظ هنا أنه قد تم إدراج الأصول العملية ـ الأعمّ من الشرعية والعقلية ـ وكذلك الأمارات ـ الأعمّ من الظنية والقطعية ـ في موضع واحد، وبدلاً من ذلك تمّ الفصل بين المباحث العقلية والمباحث اللفظية، وهو أمرٌ هام.
وقد عمد الشيخ محمد رضا المظفر في كتابه (أصول الفقه) ـ الذي ألَّفه منذ البداية ليكون منهجاً تدريسياً ـ إلى استحسان هذا التبويب الذي أخذه عن أستاذه؛ إلا أن الشيخ الإصفهاني نفسه بادر فيما بعد إلى ضمّ مباحث التعادل والتراجيح إلى مباحث الحجّة، وجمع مباحث علم الأصول في ثلاثة أبواب. وقد علَّل ذلك بأنه عند تعارض الأدلة يقع الكلام في نهاية الأمر على حجّية أحد الدليلين. وبذلك سيقع الكلام دائماً على الحجّية ـ الأعمّ من الشأنية أو الفعلية ـ بعد الكلام على وقوع التعارض.
وحصيلة هذه التحقيقات في تبويب وتقسيم مباحث علم الأصول ـ ابتداءً من الشيخ الأنصاري إلى المحقِّق الخوئي ـ وجود ثمانية مباحث لعلم الأصول، وهي:
1ـ الأمارات اللفظية القطعية، والمباحث التمهيدية المرتبطة بباب الألفاظ.
2ـ الأمارات اللفظية الظنية.
3ـ الأدلة العقلية أو الأمارات العقلية التي يكون نوعها القطعي متداولاً عندنا.
4ـ حجية الدليل العقلي القطعي.
5ـ حجية بعض الأمارات الظنية.
6ـ الأصول العملية الشرعية.
7ـ الأصول العملية العقلية.
8ـ تعارض الأدلّة.
وبطبيعة الحال فإن الأصوليين يختلفون في دمج بعض هذه الأقسام ببعضها الآخر، كما يختلفون في التعريف بالأقسام العامة والكلية، دون أن يقدِّم أيٌّ منهم معياراً واضحاً للفصل أو للدمج في ما يرتبط بهذه الأقسام.
وقد عمد السيد الشهيد الصدر& ـ بالنظر إلى آخر أشكال تقسيم مباحث علم الأصول، وهو التقسيم الذي ذكره أستاذه المحقِّق الخوئي& ـ إلى بيان مقترحه والعيوب الموجودة في هذا التقسيم قائلاً: يمكن أن يكون هناك لحاظان في تقسيم المباحث:
اللحاظ الأول: أن نعمد في تقسيم المباحث إلى ملاحظة القواعد التي تستخدم في عمليات الاستنباط، والقول بأن هناك أربع مجموعات من القواعد. حيث يذهب الفقيه أولاً إلى المجموعة الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة، وهكذا وصولاً إلى الرابعة. وبذلك يكون هناك ترتب طولي بين هذه المجموعات الأربعة من القواعد بلحاظ عملية الاستنباط، وكلّ واحد منها يكون هو المستند عند فقد المجموعة السابقة عليها. وإن ظاهر كلام المحقق الخوئي في بيان مباحث علم الأصول وتقسيمها لحاظ ذلك. ولكن يرد عليه بعض الإشكالات:
أولاً: إن القسم الثاني من القواعد لا يقع في طول القسم الأول؛ وذلك لأن المشهور يذهب إلى حجية الأمارة، سواء أمكن تحصيل العلم الوجداني بالحكم الشرعي أم لا. من هنا فإن حجية الأمارة غير مشروطة بانسداد باب العلم.
ثانياً: إذا كان المعيار قائماً على الترتب الطولي وجب أن يكون هناك ترتب بين قواعد المجموعة الثانية نفسها، والعمل على تقديم بعضها على بعضها الآخر. فمثلاً: إذا كانت هناك في مسألةٍ آيةٌ ظنّية الدلالة، وخبر ظنّي السند، وجب علينا تقديم العلم التعبدي في الدلالة على العلم التعبدي في السند. ونتيجة ذلك عدم تمكن خبر الواحد من معارضة ظهور الكتاب، وعلى الفقيه أن يتَّجه في عملية الاستنباط أولاً إلى ظهور الآيات، فإن لم يعثر على ضالته لجأ إلى ظهور الروايات الظنية السند. في حين لم يتمّ الحديث عن هذا النوع من الطولية والترتبية في التقسيم المذكور. ومضافاً إلى ذلك فإن هذا التقسيم لم يتطرّق إلى بيان منزلة الاستصحاب بوضوح، ولا يذكر تقدُّمه على سائر الأصول العملية الأخرى، في حين أن الترتُّب الطولي بين القواعد الأصولية يقتضي وضع الاستصحاب في مرتبة مستقلّة عن الأمارات، وقبل سائر الأصول العملية، من قبيل: البراءة؛ والاحتياط.
ثالثاً: إن افتراض الترتب الطولي بين قواعد المجموعة الثالثة ـ أي الأصول العملية الشرعية ـ وقواعد المجموعة الرابعة ـ أي الأصول العملية العقلية ـ يصحّ على الدوام أيضاً؛ إذ يتمّ الاستناد أحياناً إلى الأصول العقلية قبل الوصول إلى الأدلّة الشرعية، وذلك في الحد الأدنى طبقاً للمبنى بأن نقول: إن أصالة الاشتغال في أطراف العلم الإجمالي تنجيزية، بمعنى أن العقل يحكم بوجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي، ومع وجود حكم العقل يستحيل جعل البراءة من قبل الشارع. وبناءً على هذا المبنى ـ الموافق لرأي المشهور، والمخالف للقائلين بمسلك حق الطاعة ـ تكون البراءة الشرعية في طول الاحتياط العقلي، لا أن الأصل العقلي في طول الأصل الشرعي.
اللحاظ الثاني في تقسيم مباحث علم الأصول: هو أن نلتفت إلى ذات الأدلة واقتضاءاتها بقطع النظر عن مراحل الاستنباط. وذلك بأن نعمد إلى كل مجموعة من المباحث الأصولية التي تحتوي على مبادئ تصوّرية وتصديقية خاصة ونفصلها عن المجموعة الأخرى التي تحتوي على مبادئ أخرى. وبهذا اللحاظ تنقسم المباحث الأصولية إلى قسمين:
1ـ قسم يرتبط بالبحث عن ذات الدليل والحجّة، ويشتمل على ثلاثة أنواع من الأبحاث، وهي:
الأول: مباحث الألفاظ، التي يجب البحث في مبادئها التصورية والتصديقية عن الوضع، والدلالة، وتحديد الظهور، وعلامات الحقيقة والمجاز.
الثاني: مباحث الدليل العقلي، حيث يجب أن يتركَّز الكلام بشكل أكبر على مفهوم الحكم، ومبادئ الحكم، وحقيقة الحكم، والتنافي أو عدم التنافي بين الأحكام والأقسام الأخرى من الارتباط بين الأحكام بوصفها من المبادئ التصورية والتصديقية. فمثلاً: إن البحث الأصولي حول ما إذا كان وجوب الشيء يستلزم حرمة ضده أو لا يتوقف على البحث عن حقيقة الوجوب ولوازم ثبوته العقلية.
الثالث: ويرتبط بالسيرة والإجماع والشهرة والتواتر. وفي جميعها يتم الحديث عن حساب الاحتمالات ودلالة الأدلّة. وإن دلالة هذا النوع من الأدلة على الحكم الشرعي ليس من قبيل الدلالة اللفظية، ولا من قبيل الدلالة الشرعية، وإنما الدلالة هنا من باب حساب الاحتمالات، وإن المبادئ التصورية والتصديقية الخاصة لهذا النوع من الأدلة بأن نرى ما هو حجم تراكم الاحتمالات، وما الذي تقتضيه هذه التراكمات الاحتمالية.
2ـ قسم يرتبط بالبحث عن الحجّية. وله مبادؤه الخاصة التي تجعله مختلفاً عن سائر الأقسام الثلاثة الأولى. وفي هذا القسم يتركَّز الكلام على معنى الحجية، ومعنى المنجزية والمعذرية، والطرق المختلفة للتنجيز والتعذير، بوصفها مبادئ للبحث، ومن ثمّ تدخل مسألة إمكان جعل الحكم الظاهري، والإجابة عن شبهات ابن قِبَة، وكيفية الجمع بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي، ضمن البحث عن طرق التنجيز والتعذير([6]).
وجاء في تقرير آخر عن درس السيد الشهيد الصدر&: يمكن لنا أن نأخذ بنظر الاعتبار نوعين من التقسيم لمباحث علم الأصول:
أـ التقسيم بلحاظ نوع الدليل. وعلى هذا الأساس تنقسم مباحث علم الأصول إلى: الأدلّة المحرزة، والأصول العملية. وكل واحد من هذين القسمين يشتمل على مجموعة من الأبحاث، نجملها على النحو التالي:
1ـ الأدلة المحرزة:
1ـ 1ـ الأدلة الشرعية:
أـ تحديد الدلالة:
1ـ الدليل اللفظي.
2ـ الدليل غير اللفظي.
ب ـ إثبات الصدور.
ج ـ حجّية الدلالة والظهور.
1ـ 2ـ الأدلة العقلية:
أـ البحث الصغروي في صحة القضية العقلية:
1ـ المستقلات العقلية.
2ـ غير المستقلات العقلية.
ب ـ البحث الكبروي في حجية الإدراك العقلي.
2ـ الأصول العملية:
2ـ 1ـ المباحث العامّة والتمهيدية.
2ـ 2ـ المباحث المرتبطة بالأصول نفسها:
أـ الأصل العملي في موارد فقدان العلم الإجمالي (الاستصحاب، والبراءة).
ب ـ الأصل العملي في موارد وجود العلم الإجمالي (الاشتغال، والأقلّ والأكثر).
3ـ خاتمة في بيان تعارض الأدلّة.
وبناءً على كل واحد من هذين التقسيمين يجب في بداية علم الأصول أن نذكر بحثين تمهيديين، هما: أولاً: حجية القطع بوصفه أصلاً موضوعياً في جميع المباحث؛ وثانياً: بيان حقيقة الحكم الشرعي وتقسيماته.
ب ـ التقسيم بلحاظ نوع الدلالة، وهل هي لفظية أو عقلية أو تعبّدية؟ وطبقاً لهذا التقسيم فإن علم الأصول يشتمل على أنواع المباحث التالية:
1ـ مباحث الألفاظ.
2ـ مباحث الدليل العقلي البرهاني، الأعمّ من المستقلات العقلية وغير المستقلات العقلية.
3ـ مباحث الدليل الاستقرائي، الذي يبحث عن مثل: الإجماع، والسيرة، والتواتر.
4ـ مباحث الحجيات الشرعية، بمعنى تلك الطائفة من الأدلة التي ثبتت دلالتها بالجعل الشرعي، الأعمّ من الأمارات الظنية والأصول العملية الشرعية. وهنا يجب التركيز على الفرق الجوهري بين حجّية الأصل وحجّية الأمارة، وآثار كل واحد منهما، وحجّية لوازم كل واحد منهما، وكذلك على تأسيس الأصل عند الشك في الدلالة.
5ـ مباحث الأصول العملية العقلية، من قبيل: البحث عن البراءة العقلية أو الاحتياط العقلي في موارد الشك البدوي، وكذلك البحث عن الاحتياط العقلي في موارد العلم الإجمالي، والبحث في أصالة التخيير العقلي.
وأما خاتمة هذه المباحث فإنها ترتبط بتعارض الأدلة المذكورة، والأحكام المرتبطة بها.
وعلى مستوى المقارنة بين هذين التقسيمين يجب القول: إن التقسيم الأول أقرب إلى المنهج الحوزوي القديم، وهو يعكس جدوائية وفاعلية القواعد الأصولية في مقام الاستدلال الفقهي بشكل جيد. في حين أن التقسيم الثاني أقرب إلى المنهج الحوزوي الحديث، وهو أنسب إلى البحث في القواعد نفسها والتدقيق فيها. وعليه إذا نظرنا إلى علم الأصول من زاويته الآلية (كونه آلة لعلم الفقه)، واستوعبنا مجال تطبيق القواعد الأصولية في الاستدلالات الفقهية، كان التقسيم الأول ـ بطبيعة الحال ـ هو الأفضل. وإذا نظرنا إليه بشكل مستقلّ، ومجرداً عن علم الفقه، كان التقسيم الثاني هو الأنسب([7]).
وعلى الرغم من وجود نوع من الاختلاف في هذين التقريرين المذكورين عن درس السيد الشهيد الصدر& بالنسبة إلى موقع مبحث حجية القطع، وموقع مبحث معرفة الحكم وانقساماته، إلاّ أن بيان كلا هذين النهجين في تقسيم المباحث، وتقديم الملاكات والمعايير الضرورية لكلٍّ منهما، له أهميته، وخاصة أن رجال هذا العلم قلَّما اهتموا بأسلوب التبويب وتقسيم مباحث علم الأصول، وجامعية ومانعية كل تقسيم في عناوين البحوث. وقد اختار السيد الشهيد الصدر المنهج الثاني في دروسه في بحث الخارج، بينما اختار المنهج الأول في تنظيمه لنصّ حلقات الأصول؛ ويعود السبب في ذلك إلى أنّ طلاب هذا العلم في مراحل السطوح أحوج إلى التعرُّف على طريقة توظيف القواعد الأصولية في الفقه. في حين أن طلاب مرحلة بحث الخارج يحتاجون إلى معرفة أسلوب تطبيق المباحث على المنهج السائد في الكتب الأصولية الحديثة، وهي الكتب التي نسجت في مباحثها على المنوال المتَّبع في مدرسة الشيخ الأنصاري([8]).
2ـ تبويب العناوين ــــــ
إن من لوازم التبويب المناسب اختيار عناوين قوية ورصينة وواضحة. وإن ما قام به السيد الشهيد الصدر بالنسبة إلى الكثير من الموارد في هذا المجال يعكس هذه الميزة بوضوح. فلو أن العنوان الذي يتمّ اختياره للبحث لا يتناسب والمعنون فإن هذا سيوقع الطالب في متاهة، مضافاً إلى أنه لا يساعده في العثور على المواطن التي فيها متَّسع للنقاش والأخذ والردّ. وفي الحقيقة فإن تكامل علم الأصول في هذا المحور هو من تأثيرات تكامله في المحور السابق. ولكن لا ينبغي الابتعاد كثيراً عن العناوين المعهودة والتقليدية، وإلاّ فإن القارئ سوف لا يلتفت بيسرٍ إلى ارتباط الصيغة الجديدة بما كان يُذكر في السابق، ونعلم أن عناوين كلّ علم إنما هي بمنزلة العلامات التي توضع على الطريق لهداية المارّة إلى مقاصدهم، وعليه ينبغي بنا الاحتياط بشدّة في رعاية التغيير في العناوين، والقيام بهذه العملية على نحو تدريجي وانسيابيّ، يساعد الطالب والقارئ على ربط العنوان الجديد بالقديم. كما لا يجب المبالغة والإفراط في جعل المصطلحات واللغة الحوارية فجأة ومن دون تدرُّج؛ لأن ذلك سيؤدي إلى الوقوع في الخطأ، وإلى ارتفاع نسبة النقاشات اللفظية. وعليه يجب الاقتصار في جعل المصطلحات الجديدة على موارد الضرورة والحاجة، ومن أجل بيان الفارق المعنوي بين أمرين. ومن هذه الناحية تعرف المدرسة الأصولية للسيد الشهيد الصدر بكونها رائدةً في إبداع العناوين الجديدة، وفي جعل المصطلحات الحديثة، ويمكن القول في المجموع: إن السيد الشهيد الصدر قد أوجد لغة وأدبيات جديدة لعرض الأبحاث العلمية، وكانت هذه اللغة الجديدة مصحوبة بإحداث تغيير في المضامين والقوالب.
بيد أن إبداع السيد الشهيد الصدر في توظيف واستخدام العناوين الجديدة إنما نشاهده في الغالب في نصّ حلقات الأصول. فمثلاً: نشاهد في الحلقة الثانية اختيار عناوين جديدة عند فتح أبوابٍ جديدة من الأبحاث، وعند بيان معرفة الحكم بوصفه بحثاً تمهيدياً. وقد تمّ اختيار العناوين التالية: الحكم الشرعي وتقسيمه، مبادئ الحكم التكليفي، التضادّ بين الأحكام التكليفية، شمول الحكم لجميع وقائع الحياة، الحكم الواقعي والحكم الظاهري، الأمارات والأصول، اجتماع الحكم الواقعي والظاهري، القضية الحقيقية والقضية الخارجية.
وفي الحلقة الثالثة تمّ بيان عناوين المبحث الأخير على النحو التالي: الأحكام التكليفية والوضعية، شمول الحكم للعاقل والجاهل، الحكم الواقعي والظاهري، شبهة التضادّ ونقض الغرض، شبهة تنجُّز الواقع المشكوك، الأمارات والأصول، التنافي بين الأحكام الظاهرية، وظيفة الأحكام الظاهرية، التصويب بالنسبة إلى بعض الأحكام الظاهرية، القضية الحقيقية والخارجية للأحكام.
يجب القول: إن جميع هذه العناوين إنما هي نتيجة للتركيز على المسائل التي سبق للأصوليين أن بحثوها بشكل ضمني ومبعثر، فلم يكن باستطاعة القارئ أن يعثر على شيء بشأنها من خلال قراءة فهارس الكتب أو البحث في عناوينها.
وعند الدخول في بحث الأدلّة المحرزة ـ الأعمّ من الدليل الشرعي والدليل العقلي ـ تطالعنا عناوين جديدة أخرى. وفي الحقيقة فإن هذا الفصل من علم الأصول عند السيد الشهيد الصدر& يحتوي على نسبة أعلى من الإبداع بالقياس إلى قسم الأصول العملية. فمثلاً: في فهرسة الحلقة الثانية نجد العناوين الجديدة لهذا البحث على النحو التالي: وفاء الدليل بدور القطع الموضوعي (بحث قيام الأمارة مقام القطع)، إثبات الدليل لجواز الإسناد (من متفرعات بحث حجية الأمارة)، تنوع المدلول التصديقي (من متفرعات بحث صيغة الأمر ومعانيها)، إثبات الملاك بالدليل (من متفرعات بحث حجّية مثبتات الأمارات)، وسائل الإثبات الوجداني (البحث عن ماهية التواتر والإجماع وسيرة المتشرّعة)، وسائل الإثبات التعبدي (البحث عن حجية خبر الواحد)، قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور (الشكل العام لبحث القدرة الشرعية والقدرة العقلية)، قاعدة إمكان التكليف المشروط (بحث تمهيدي لبيان الفرق بين الجعل والمجعول)، قاعدة تنوّع القيود وأحكامها (بحث قيد الوجوب وقيد الواجب)، القيود المتأخِّرة زماناً عن المقيّد (بحث الشرط المتأخِّر)، زمان الوجوب والواجب (بحث المقدِّمات المفوِّتة والواجب المعلَّق)، اشتراط التكليف بالقدرة بمعنى آخر (بحث الترتُّب)، مُسقِطات الحكم (الشكل الأشمل لبحث إجزاء الأمر الاضطراري).
وأما البحوث الثلاثة المعهودة والمعروفة في علم الأصول، وهي: الحقيقة الشرعية، والصحيح والأعمّ، والمشتقّ، فلم يتمّ التطرّق إليها في حلقات السيد الشهيد أبداً، رغم أنّ السيد الشهيد بحث فيها بالتفصيل في درس الخارج. وقد عمد بعض تلاميذ السيد الشهيد ـ بسبب إحساسه الحاجة أو تصوُّر خلوّ مكان هذه الأبحاث في حلقات الأصول ـ إلى تأليف مستدرك على الحلقة الثالثة، وقدَّم تقريراً عن درس هذه الأبحاث الثلاثة بما يتناسب ومستوى طلاب مرحلة السطح([9]). بيد أنه في الحقيقة يمكن القول: إن عدم ذكر هذه الأبحاث الثلاثة في الحلقات لم يكن سببه غفلة السيد الشهيد عنها، وإنما السبب في ذلك قلّة الفائدة المترتِّبة على نتائجها، وعدم الحاجة إلى بيانها في مرحلة السطح.
وإذا تجاوزنا حلقات الأصول يمكن لنا أن نلاحظ فنّ إبداع تبويب عناوين الأبحاث في تقريرات درس السيد الشهيد أيضاً، رغم أن طبيعة كتابة التقريرات تقتضي أن يكون هناك اختلافٌ بين أذواق المقرِّرين في إثبات عناوين الأبحاث([10]).
وبغضّ النظر عمّا قام به السيد الشهيد الصدر نفسه في الدورة الثانية من الإصلاحات على الدورة الأولى، والتي شملت أسلوب بيان وعرض المسائل واختيار العناوين، فإن مقارنة فهارس أحد هذه التقارير بالفهارس الموجودة في الكتب الأصولية الأخرى وتقريرات درس الميرزا النائيني والمحقِّق الخوئي يكشف بوضوح عن مقدرة السيد الشهيد وهيمنته وإبداعه في الفصل بين جهات المسائل وحيثياتها. ومن باب المثال: يمكن لنا أن نشير إلى مسائل من قبيل: حقيقة الوضع، والمعنى الحرفي، ومقدمة الواجب، والترتُّب، والتزاحم، والوجوب التخييري.
وإلى جانب العناوين الجديدة نجد هناك مصطلحات جديد في المدرسة الأصولية للسيد الشهيد الصدر أيضاً، وقد تسلَّل بعضها إلى العناوين، وبعضها الآخر لم يتسلل إليها. ونحن في ما يلي نشير إلى كلا هذين النوعين:
1ـ العناصر المشتركة: حيث عمد السيد الشهيد إلى توظيف هذا المصطلح في تعريف علم الأصول، وفي مواضع أخرى. ومراده من ذلك تلك الطائفة من القواعد العامّة التي تصلح أن تدخل في استنباط أيّ باب من أبواب علم الفقه، ومن هنا فقد اعتبر علم الأصول هو العلم بهذه العناصر المشتركة، وجعل التعريف جامعاً ومانعاً، ولكنه أضاف لتعريفه قيوداً أخرى، فقال: «هو العلم بالعناصر المشتركة في الاستدلال الفقهي، خاصّة التي يستعملها كدليل على الجعل الشرعي الكلّي»([11]).
2ـ العناصر الخاصة: ومراده منها تلك الطائفة من القواعد الداخلة في عملية الاستنباط، والتي ترتبط باستنباط أحكام شرعية معيَّنة وخاصة، من قبيل: العلم بوثاقة زرارة، الذي جاء في سند روايات خاصّة، والعلم بالمعنى اللغوي لكلمة «الصعيد»، الواردة في آية التيمُّم.
3ـ الأدلة المحرزة: لقد استخدم السيد الشهيد هذا المصطلح في تقسيم وعنونة بعض المسائل والأبحاث. ومراده منه تلك المجموعة من أدلّة الاستنباط التي تحتوي على حيثية الكشف عن وجود الحكم الواقعي ـ سواء أكان كشفاً قطعياً أم كشفاً ظنياً ـ. وعليه فإن الأدلة المحرزة في مصطلح السيد الشهيد الصدر سيكون أعمّ من الأمارات في مصطلح المشهور؛ وذلك لأن المشهور إنما يطلق مصطلح الأمارة على الدليل الظني الكاشف، من قبيل: خبر الثقة، وظاهر القرآن. وأما عند السيد الشهيد فيُطلق على كلّ دليل كاشف ـ سواء أكان قطعياً أم ظنياً ـ أنه دليلٌ محرز، وفي قباله تقع الأصول العملية، التي لا تحتوي على حيثية الكشف عن الحكم الواقعي، وإنما تعمل فقط على تحديد الوظيفة العملية في موارد الشكّ.
4ـ التزاحم الحفظي: وهو نوع من التزاحم في مقام الحفظ التشريعي من قبل الشارع. وهو مختلفٌ تماماً عن التزاحم الملاكي، والتزاحم الامتثالي. وسيأتي توضيحه عند بيان رأي السيد الشهيد الصدر& في مسألة الجمع بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي.
5ـ القرن الأكيد: استعمل السيد الشهيد هذا المصطلح في باب الوضع وكيفيّة حصوله. ومراده من ذلك الاقتران الأكيد والشديد الذي يحصل بين اللفظ والمعنى. ويمكن أن يكون تأكيد هذا الاقتران حاصلاً بسبب عامل كمّي، من قبيل: كثرة استعمال اللفظ وإرادة ذلك المعنى، ويمكن أن يكون له عامل كيفي، من قبيل: حدوث هذا الاقتران في زمان ومكان حسّاسين يحملان مناسبة لا يمكن أن تُنسى. وفي كلتا الحالتين فإن الشهيد الصدر يفسِّر دلالة اللفظ على المعنى بسبب حصول مثل هذا القرن الأكيد بين اللفظ والمعنى، بحيث يستدعي أحدهما الآخر لا محالة.
6ـ التحفُّظ: ومراده من هذا المصطلح هو الاحتياط. ورغم أنه يستعمل كلمة (الاحتياط) أيضاً يمكن القول: إنّه عند استعمال كلمة (التحفُّظ) هناك إشارة إلى نكتة خاصّة، وهي أن فلسفة الاحتياط هي الحفاظ على ملاك التكليف الواقعي المشكوك. ففي الحلقة الثانية من حلقات الأصول ـ مثلاً ـ جاء التعبير بـ (ترك التحفّظ) في البحث عن الأصل الأولي العقلي، وذلك حيث قال: «فالصحيح إذاً أن القاعدة العملية الأولية هي أصالة الاشتغال بحكم العقل، ما لم يثبت الترخيص في ترك التحفّظ». في حين نشاهد في الحلقة الأولى التعبير بـ (ترك الاحتياط) في هذا الموضع نفسه.
7ـ حقّ الطاعة: حيث ذهب السيد الشهيد في قبال رأي المشهور ـ القائل بأصالة البراءة العقلية ـ إلى القول بأصالة الاحتياط العقلي، القائم على مبنى ثبوت حق الطاعة. واعتبر حقّ الطاعة أمراً لا ينفك عن المولويّة الذاتية لله تعالى، وبذلك اتَّخذ لنفسه مسلكاً مغايراً لمسلك المشهور، ودعا مسلكه مسلك حق الطاعة، على ما سيأتي بيانه وشرحه إن شاء الله تعالى.
8ـ القطع الذاتي والقطع الموضوعي: حيث أشار السيد الشهيد في مبحث القطع وحجية قطع القطّاع إلى أنّ كل قطع ينشأ عن العوامل والأسباب الصحيحة، والتي تؤدي إلى القطع عند عموم الناس، فهو قطعٌ موضوعيٌّ. وكلما كان القطع اعتباطياً، ومتأثراً بالعوامل الخاصة، والذي يظهر على خصوص الشخص القاطع، كان ذلك القطع ذاتياً. ومن هنا يكون قطع القطّاع ذاتيّاً، ويجب البحث في حجّيّته.
9ـ تنوين التنكير وتنوين التمكين: فقد عبّر السيد الشهيد في بحث الإطلاق وكيفية وجوده في اسم الجنس عن كلّ تنوين يفيد معنى (الوحدة) في الاسم بأنه تنوين تنكير، من قبيل: (أكرم فقيراً)، والذي يعني وجوب إكرام فقير واحد غير معيّن. وإن هذا الإطلاق سيكون بطبيعة الحال بدلياً. وعبَّر عن كلّ تنوين لا يفيد معنى الوحدة، وإنما يكون مجرّّد علامة على الانصراف، بأنه تنوين تمكين، مثل: (رجلٌ خيرٌ من امرأةٍ). فهذا التنوين لا يُدخل قيد الوحدة في مفهوم الرجل. وعلى هذا الأساس يكون للاسم صلاحية كلٍّ من الإطلاق الشمولي والبدلي. هذا في حين أن تنوين التنكير في المصطلح النحوي يدلّ على كون الاسم نكرة، وإن تنوين التمكين يدلّ على كون الاسم منصرفاً، وليس هناك أيّ كلام بينهم على إفادة أو عدم إفادة قيد الوحدة أبداً.
10ـ وسائل الإثبات الوجداني والتعبّدي: في البحث عن الأدلة المحرزة أطلق السيد الشهيد على تلك الطائفة من الوسائل التي تثبت صدور الدليل الشرعي من طريق قطعي مصطلح (وسائل الإثبات الوجداني)، من قبيل: القطع الذي يثبت الشيء بالوجدان. واصطلح على تلك الطائفة التي لا تفيد القطع، وتمّ اعتبارها بأمرٍ من الشارع، وكان إثباتها من باب التعبُّد، بـ (وسائل الإثبات التعبدي)، من قبيل: خبر الواحد.
11ـ التعارض المستقرّ والتعارض غير المستقرّ: في بحث الأدلة المحرزة أطلق السيد الشهيد على التعارض البدوي بين العامّ والخاص، والمطلق والمقيّد، والحاكم والمحكوم، الذي يعتبر العرف أحدهما قرينة على التصرُّف في ظهور الآخر، مصطلح (التعارض غير المستقرّ)؛ إذ في هذا النوع من الموارد يوجد هناك جمع عرفي، وينتهي التعارض في نهاية المطاف إلى التوافق. وفي قبال ذلك التعارض بين الدليلين اللذين لا يوجد بينهما أيّ إمكان للجمع العرفي، وبالتالي يبقى التعارض على حاله، وهو ما اصطلح عليه السيد الشهيد بـ (التعارض المستقر)، ويجب العمل عندها بقاعدة التخيير أو التساقط، إلا إذا كان هناك مرجِّح في البين([12]).
12ـ الحمل الأولي والحمل الشائع: لقد استعمل السيد الشهيد هذين المصطلحين في عدّة بحوث، منها: البحث عن الاختلاف بين القضية الحقيقية والقضية الخارجية، وفي بيان تعلُّق الأحكام بالعناوين الذهنية، وبحث المعنى الحرفي. وفي الموضع الأول كان تعبير سماحته في الحلقة الثالثة على النحو التالي: «يكفي في إصدار الحكم على الخارج إحضار صورة ذهنية تكون بالنظر التصوّري [أي بالحمل الأولي] عين الخارج، وربط الحكم بها، وإن كانت بنظرة ثانوية فاحصة وتصديقية [أي بالحمل الشائع] مغايرة للخارج».
وفي الموضع الثاني كان تعبيره على النحو التالي: «وحتى نفس مفهوم النسبة ومفهوم الربط، المدلول عليهما بكلمتي (النسبة) و(الربط)، ليسا من المعاني الحرفية، بل من المعاني الاسمية؛ لإمكان تصوّرهما بدون أطراف. وهذا يعني أنهما ليسا نسبة وربطاً بالحمل الشائع، وإن كان كذلك بالحمل الأولي. وقد مرّ عليك في المنطق أن الشيء يصدق على نفسه بالحمل الأولي، ولكن قد لا يصدق على نفسه بالحمل الشائع، كالجزئيّ؛ فإنه جزئي بالحمل الأولي، ولكنّه كلّي بالحمل الشائع».
يبدو من هذا الكلام أنه يريد من مصطلح الحمل الأولي والحمل الشائع ـ عندما يكون الوصف لعقد الوضع ـ معنىً مغايراً ومختلفاً بالكامل عن الشيء الذي يريده علماء المنطق في باب العنوان والمعنون. وأما في باب (الحمل) فإن مصطلح السيد الشهيد لا يختلف عن مصطلح المشهور.
إن دليل اختلاف الاصطلاح في باب العنوان والمعنون هو أن سماحته كلما كان ناظراً إلى ذات الموضوع، جاعلاً مفهومه محكوماً عليه، كان ملحوظاً بالحمل الشائع، وكلما كان ناظراً إلى مصداق الموضوع كان ملحوظاً بالحمل الأولي. في حين أن المناطقة يقولون عكس ذلك، فإنهم يقولون بشأن الجزئي: «الجزئي بالحمل الأولي كلّي، وليس بجزئي»، و«الجزئي بالحمل الشائع جزئي»، في حين أنه بحسب مصطلح سماحته يقال: «الجزئي بالحمل الشائع، أي مفهومه بما هو صورة ذهنية، كلّي، وليس بجزئي»، و«الجزئي بالحمل الأولي، أي مصداق الجزئي وما يوصف في الخارج بأنه جزئي، جزئي».
وعلى هذا الأساس يمكن القول: إنه كلما كان العنوان عند سماحته حاكياً عن الخارج، وتمّ من خلال ذلك العنوان لحاظ الأمر الخارجي، كان ذلك العنوان ملحوظاً باللحاظ التصوّري الأولي؛ وكلما كان العنوان يلحظ بوصفه واحداً من المفاهيم الذهنية كان ملحوظاً باللحاظ التصديقي الثانوي. وعلى هذا الأساس ذكر في الموضع الأول هذا المثال: «النار بالحمل الأولي محرقة»، و«النار بالحمل الشائع كلّي»، أي على العكس تماماً ممّا قاله المناطقة، من أمثال: الأستاذ الشيخ محمد رضا المظفّر في باب العنوان والمعنون من علم المنطق([13]).
3ـ البحث عن جذور المسائل وخلفياتها ــــــ
مرادنا هنا هو تركيز السيد الشهيد الصدر& على جانب من المباحث الجوهرية والجذرية التي تظهر آثارها ولوازمها في مواضع أخرى من علم الأصول. في حين أن سائر الأصوليين ينظرون إلى هذا النوع من المباحث بشكل ضمني ومتفرّق، ولم ينظروا إليها بشكل مستقلّ وخاصّ أبداً، ولم يبحثوها بشكل مركّز ومتناسق. من هنا كلما مسّت الحاجة إلى هذه المباحث الجذرية يُعمد إلى ذكرها في كلام مستقلّ، وأحياناً كان يتمّ جمع هذه الكلمات المشتَّتة، ونلاحظ تكراراً مصحوباً ببعض التغييرات. وحتّى في مسألة الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ـ على الرغم من عدم وجود موضع لها في علم الأصول، فهي تبحث عادةً بعد البحث عن إمكان التعبّد بالظن، ودفع شبهة ابن قِبَة ـ فإن عدم التركيز أدّى بالشيخ الأنصاري مثلاً إلى ذكر نظرية المصلحة السلوكية مرّة في باب الظن، وتارةً أخرى ذكر اختلاف الموضوع في بداية البحث عن أصل البراءة، ومرّة ثالثة ذكر إنكار جعل الحكم في تنبيهات دليل الانسداد من كتاب فرائد الأصول. وبطبيعة الحال لو كان موضع البحث عن (الحكم) في علم الأصول محدَّداً لما أضحت طرق الحلّ المقترحة للجمع بين الحكم الظاهري والواقعي على مثل هذا الاختلاف والتشتُّت.
وفي ما يتعلَّق بعمل السيد الشهيد الصدر فإن الاهتمام بهذه المباحث الرئيسة ـ التي هي بمنزلة الأصول لبعض القواعد الأصولية الأخرى ـ إنّما هو ثمرة التبويب واختيار العناوين الجيّدة للمباحث، والعثور على المواضع الخالية للبحث في نظام القواعد الأصولية. من هنا فإن السيد الشهيد الصدر ـ بعد أن واصل الطريقة التقليدية للمباحث في مرحلة البحث الخارج ـ صار في صدد فتح باب المباحث التمهيدية حول ماهية الحكم الشرعي وتقسيماته وأحكامه. وفي هذا الإطار تحدّث سماحته عن قاعدة الاشتراك، واختلاف الحكم الظاهري والواقعي، والاختلاف بين طائفتين من أدلة الأحكام، أي الأمارات والأصول، ومبادئ الأحكام التكليفية، والاختلاف بين الأحكام التكليفية والوضعية، والتخطئة والتصويب، والتضادّ بين الأحكام التكليفية، والتنافي بين الأحكام الظاهرية، والاختلاف بين القضية الخارجية والقضية الحقيقية في جعل الحكم وتعلُّق الحكم بالعناوين الذهنية، ليستفيد منها بعد ذلك في المبنى الذي يختاره في المباحث الملحقة، وخاصة في مباحث الدليل العقلي غير المستقل. ومن باب المثال: إن حجية المدلولات الالتزامية للأمارات وعدم حجية المدلولات الالتزامية للأصول تقوم على تفسيرنا للاختلاف بين الأمارة والأصل. كما أن لمعرفة مبادئ الأحكام تأثيراً في الكثير من المباحث، وخاصّة في مباحث الدليل العقلي، ومنها: البحث عن استحالة التكليف بغير المقدور، والاختلاف بين الشرط العقلي والشرط الشرعي، وفي البحث عن إمكان الوجوب المشروط، والاختلاف بين شروط الاتصاف، وشروط الترتُّب، وما شابه ذلك. وكذلك تدخل معرفة الاختلاف بين القضية الحقيقية والخارجية في البحث عن إمكان أو استحالة أخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم، والموارد الأخرى التي يطرح فيها التفريق بين الجعل والمجعول بوصفه واحداً من الحلول. كما يكون هناك دخل لمعرفة الفرق بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي، والتعريف الماهوي للحكم الظاهري، في الكثير من المباحث، بما في ذلك بحث العلم الإجمالي، وإمكان أو استحالة المخالفة القطعية للعلم الإجمالي، وتطبيق أصل البراءة في جميع الأطراف.
إذاً يجدر بسائر الأصوليين أن يحدِّدوا موضعاً مستقلاًّ لهذا النوع من المباحث، وأن يعمدوا إلى تنقيح مبناهم هناك؛ كي لا يقعوا في التشتت والتكرار في المباحث ذات الصلة بها.
4ـ التنظير ــــــ
ينبغي لحاظ التنظيرات الأصولية من ناحية حلّ وتفسير المشاكل العلمية بشكل يتخطّى مجرّد القواعد والمباني الأصولية. وبطبيعة الحال فإن جميع النظريات الأصولية يتمّ استعراضها في إطار قاعدة أو مبنىً أصوليّ، ولكنها بلحاظ الفاعلية والتأثير تعدّ من الأهمية بحيث يجب أن يوضع لها عنوان خاصّ؛ ليتمّ الالتفات إلى ربطها بين سائر القواعد والمباني الأصولية الأخرى. وفي ما يلي نعمل على توضيح إبداعات وتجديدات المدرسة الأصولية للسيد الشهيد الصدر في طرح النظريات الأصولية ضمن عدّة محاور على نحو الإجمال:
4ـ 1ـ كيفية الجمع بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي ــــــ
قبل كلّ شيء لا بدّ من توضيح أن تقسيم الحكم إلى الحكم الظاهري والحكم الواقعي يقوم على ملاكين:
طبقاً لبعض المصطلحات يكون المراد من الحكم الظاهري الحكم الذي يعلم من خلال الدليل الفقهي وبمقتضى الأصل العملي. وفي المقابل يكون المراد من الحكم الواقعي الحكم الذي يتمّ اكتشافه من خلال الدليل الاجتهادي والأدلة المحرزة.
وأما طبقاً لمصطلح آخر يكون مؤدّى جميع الأمارات والأصول العملية حكماً ظاهرياً؛ وذلك لأن الأمارات تعتبر دليلاً ظنياً، وتتوقَّف حجيتها على دليل قطعي، وبحسب تعبير السيد الشهيد الصدر يجب اعتبار نفس جعل الحجية للأمارة حكماً ظاهرياً. وقد عمد سماحته في الحلقة الثانية من حلقات الأصول إلى تعريف الحكم الظاهري والواقعي بما يلي: «الحكم الواقعي هو كلّ حكم لم يفترض في موضوعه الشكّ في حكم شرعي مسبق، والحكم الظاهري هو كلّ حكم افترض في موضوعه الشك في حكم شرعي مسبق، من قبيل: أصالة الحِلّ في قوله: (كلّ شيء لك حلال، حتى تعلم أنه حرام)، وسائر الأصول العملية الأخرى، ومن قبيل: أمره بتصديق الثقة والعمل على وفق خبره، وأمره بتصديق سائر الأمارات الأخرى».
وعلى هذا الأساس يكون عنصر (الشكّ) دخيلاً في فعلية الحكم الظاهري، سواءٌ فسَّرنا الحكم الظاهري بـ (الحجّية) التي جعلت للأمارات في ظرف الشك أم قلنا بأن الحكم الظاهري هو من قبيل الوجوب أو الحرمة التي هي مؤدّى خبر الثقة، وهذه أيضاً تجعل في ظرف الشك وعدم وجود العلم، من طريق جعل الحجّية، أم قلنا بأن الحكم الظاهري هو نفس البراءة أو الاحتياط الذي هو أصلٌ عملي.
وبذلك فإن التصوير الذي يقدّمه السيد الشهيد الصدر عن الحكم الظاهري يتطابق مع المصطلح الثاني. وهذا يختلف عن التصوير السائد بشأن الحكم الظاهري، الذي هو مطابق للمصطلح الأول، والمتوارث عن الشيخ الوحيد البهبهاني، وقد ذكره الأستاذ الشيخ محمد رضا المظفّر في بداية كتاب (أصول الفقه).
والآن حيث اتَّضح أن الدليل الدالّ على الحكم الظاهري يمكن أن يكون دليلاً اجتهادياً، كما يمكن أن يكون دليلاً تفقُّهياً، يجب أن نتساءل: إذاً ما هو الدليل الدالّ على الحكم الواقعي؟ والجواب: إن القطع بالحكم الواقعي هو الدال على وجوب الحكم الواقعي، ولكن لا بمعنى أن قطع المكلَّف مأخوذ في موضوع الحكم الواقعي، بل في موضوع الحكم الواقعي لم يؤخذ الشكّ ولا القطع؛ لأن الحكم الواقعي متعلِّق بطبيعة موضوعه، وبتعبير أدقّ: متعلِّق بطبيعة متعلَّقه، وله فعلية بالنسبة إلى القاطع وغير القاطع به.
وبعد بيان التعريف المذكور للحكم الواقعي عمد السيد الشهيد الصدر إلى تبويب مسائل التعبُّد بالظن، وأضاف إلى ما ذكره الأصوليون شبهة تنجّز التكليف الواقعي المشكوك، ولزوم التخصيص في قاعدة قبح العقاب بلا بيان العقلية، بل ذهب إلى أبعد من ذلك حيث وسَّع من دائرة الشبهات ليسحبها على مباحث القطع أيضاً؛ وذلك لأنّ التعبّد بالظن إذا استلزم اجتماع حكمين متماثلين أو متضادين، وكان فيه نقضٌ للغرض وتفويتٌ للمصلحة أو الإلقاء في المفسدة، يمكن القول في باب القطع ـ حيث هناك إمكان للخطأ ـ: إن التكليف بالحكم الواقعي، وبقاء الحكم الواقعي محفوظاً، وثبوت قاعدة الاشتراك في موارد القطع بعدم وجود الحكم الواقعي، لغوٌ ولا معنى له؛ وذلك لأن الحكم الواقعي أوّلاً لا يستطيع أن يكون محرِّكاً، وثانياً: إن التكليف بالحكم الواقعي سيكون تكليفاً بغير المقدور. ومن خلال هذا البحث، وإضافة محذور التخصيص في القاعدة العقلية، وكذلك محذور عدم المحرِّكية والباعثية في الحكم الواقعي على فرض تنجُّز الحكم المضادّ، يوفِّر أرضية لمزيد من البحث والحوار بشأن الحكم الظاهري، وبتبع ذلك مؤدّى قاعدة الاشتراك. ولبيان نظريته النهائية في هذه المسألة يسوق المقدمات التالية:
الأولى: كلما كان غرض المولى ـ الأعمّ من التكويني والتشريعي ـ مشتبهاً ومردَّداً عند المكلّف بين أمرين، ولم يكن المولى يرضى بتفويت غرضه، عمد إلى توسيع دائرة المحرِّكية، وجعلها أوسع من متعلَّق الغرض الواقعي. وعلى هذا الأساس فإن مبادئ الخطاب الظاهري في متعلَّق الخطاب لن يكون موسَّعاً، كما هو ليس في نفس جعل الخطاب الظاهري، بل إن مبادئ الخطاب الواقعي هي نفسها مبادئ الخطاب الظاهري والموسَّع.
الثانية: بعيداً عن التزاحم الملاكي والتزاحم الامتثالي، اللذين تقدم الحديث عنهما، يمكن لنا أن نتصوَّر نوعاً آخر من التزاحم، وهو التزاحم الحفظي. ويقع هذا النوع من التزاحم في نحو عنوان المثال القائل: (إكرام العالم واجب، وإكرام الجاهل حرام)، وكانت هناك مجموعة من الرجال اشتبه علينا أمر العالم والجاهل فيهم. ففي مثل هذا المورد ليس هناك تزاحمٌ ملاكي؛ لأن الموضوع متعدِّد، كما لا يوجد هناك تزاحم امتثالي؛ لإمكان الجمع بين التكليفين واقعاً، بمعنى أنه إذا ارتفع الاشتباه والخلط، وعرفنا كل واحد من العلماء والجهلاء، سيمتثل كلا التكليفين. بل التزاحم هنا يقع في عالم المحرِّكية، بمعنى أن الشارع عند الخلط واشتباه الأغراض الوجوبية بالأغراض التحريمية، أو اشتباه الأغراض الإلزامية بالترخيصية، عند المكلَّف ـ أيّ واحد كان هو الأهمّ عنده ـ، فإنه سيوسِّع من دائرة المحرِّكية بلحاظ ذلك الغرض، وإنّ تقدّيم الغرض الأهمّ لا يعني أن الغرض غير الأهمّ يسقط عن الفعليّة، بل تسقط المحرِّكية بلحاظه فقط، وأما مبادئه وملاكاته فتبقى على حالها.
الثالثة: إن الإباحة والترخيص تارةً تكون من النوع الاقتضائي، وتارةً من النوع اللااقتضائي. وإن وقوع التزاحم الملاكي والتزاحم الحفظي بين الإباحة الاقتضائية والتكليف الإلزامي، أمرٌ متصوَّر؛ إلا أن التزاحم الحفظي بين الحكمين اللذين تكون الإباحة في أحد طرفيهما لااقتضائية غير متصوَّر؛ وذلك لأن اللااقتضاء يمكنه أن يجتمع مع ذي الاقتضاء. كما لا يمكن تصوُّر التزاحم الامتثالي بين الإباحة والتكليف؛ لأن الإباحة لا تتطلّب امتثالاً، سواء أكانت اقتضائية أم لااقتضائية.
يمكن أن نستنتج من هذه المقدّمات الثلاث أن الغرض الواقعي للمولى يمكنه أن يكون على نحوين من الفعلية:
النحو الأول: الفعلية بقطع النظر عن التزاحم الحفظي. وفي هذه المرحلة يكون الغرض الواقعي للمولى موجوداً في متعلَّقه بالفعل، مع جميع مبادئه من الحبّ والإرادة.
والنحو الآخر: الفعلية بلحاظ التزاحم الحفظي، بمعنى أنّه يُتصوّر في موارد الاشتباه والخلط بين الأغراض الواقعية. وفي مثل هذه الحالة ستكون فعلية المحرِّكية قائمة على طبق الغرض الأهمّ.
إن أقصى ما يمكن لدليل القائلين ببطلان التصويب، وصحّة اشتراك الأحكام الواقعية بين العالم والجاهل، أن يُثبته هو الفعلية بالمعنى الأول، أي نفس الجعل والاعتبار. وحتى مبادئه، من المصالح الواقعية والحبّ والإرادة، مشتركةٌ بين العالم والجاهل. وأما الفعلية بالمعنى الثاني فلا يمكنه إثباتها. وبذلك يمكن توجيه كلام المحقِّق الخراساني في (كفاية الأصول) القائل بوجود أربع مراحل للحكم: (الشأن الإنشائي؛ الفعلي غير المنجَّز، والفعلي المنجَّز)، وإن كانت كلماته قاصرة عن إرادة هذا المعنى.
بالالتفات إلى هذه الإيضاحات، التي تبيِّن ماهية الحكم الظاهري وفلسفة تشريعه، يمكن القول في تعريف الحكم الظاهري: «إن الأحكام الظاهرية خطابات تعيِّن الأهمّ من الملاكات والمبادئ الواقعية حين يتطلَّب كلّ نوع منها الحفاظ عليه بنحو يُنافي ما يضمن به الحفاظ على النوع الآخر»([14]). كما أضاف في ذات الموضع من بيان وظيفة الحكم الظاهري قائلاً: «إن الخطاب الظاهري وظيفته التنجيز والتعذير بلحاظ الأحكام الواقعية المشكوكة، فهو يُنجِّز تارة، ويعذِّر تارة أخرى، وليس موضوعاً مستقلاًّ لحكم العقل بوجوب الطاعة في مقابل الأحكام الواقعية؛ لأنه ليس له مبادئ خاصة به وراء مبادئ الأحكلم الواقعية»([15]). وأما الاختلاف بين الأمارات والأصول بلحاظ الحكم الظاهري فله بيان مستقلّ. وقد تحدّث السيد الشهيد الصدر طبقاً لمبناه في هذه المسألة قائلاً: إن الحكم الظاهري في باب الأمارات يدلّ على رجحان الملاك في أحد طرفي التزاحم الحفظي؛ بلحاظ أقوائية الاحتمال في ذلك الطرف، وأما في باب الأصول العملية فإن الحكم الظاهري يُثبت رجحان الملاك؛ بلحاظ أقوائية نفس ذلك الملاك. وقد تمّ توضيح ذلك في موضعه بشكل أكثر.
لا يخفى أن التزاحم الحفظي لم يطرح في الحلقة الثانية والثالثة من حلقات الأصول بوصفه مصطلحاً جديداً، بيد أن هناك إيضاحات كافية في بيان هذه النظرية.
4ـ 2ـ نظرية حقّ الطاعة ــــــ
يذهب الأصوليون إلى القول بأن الأصل الأولي في الشبهات البدويّة، بعد الفحص واليأس من الدليل المحرز، هو البراءة. كما أن الأصل الثانوي الشرعي هو البراءة أيضاً. من هنا فإنهم في مباحث الأصول العملية يرون الدليل الأول على صحّة أصل البراءة بعض الآيات والروايات، والدليل الآخر هو حكم العقل. إلاّ أن السيد الشهيد الصدر خالف مشهور الأصوليين في كون الأصل الأولي العقلي هو البراءة، وقال بأن العقل ـ نظراً إلى مولويّة الباري تعالى غير المجعولة وغير المحدودة ـ في جميع الشبهات البدوية ـ حتّى إذا كانت شبهة التكليف ناشئة عن احتمال ضعيف ـ يحكم بوجوب الاحتياط. وفي الوقت نفسه فإنّه في ما يتعلق بالأصل الثانوي الشرعي يوافق المشهور في القول بالبراءة.
وفي الحقيقة إن نظرية حقّ الطاعة مبنى كلاميّ يتمّ توظيفه في توجيه أصل الاحتياط العقلي في علم الأصول. وعليه من المناسب من هذه الناحية أن نتعرّض لفاعلية هذه النظرية في بحث فلسفة الأخلاق، واعتبار كلمات بعض فلاسفة الأخلاق([16]) بوصفها مؤيِّدة لصحّة ذلك.
لقد عمد السيد الشهيد في طرح هذا البحث قبل كلّ شيء إلى كسر الجوّ الحاكم على هذه المسألة، وإبطال كون البراءة العقلية مسألة بديهية أو إجماعية، وذلك من خلال البحث والتنقيب عن جذور المسألة في كلمات المتقدِّمين، حتى توصّل إلى نتيجة مفادها: إن أصالة البراءة ـ طبقاً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان العقلية ـ إنما اشتهرت بين المتأخِّرين، وتلقّاها الأعلام بالاعتبار والقبول بعد الوحيد البهبهاني. وأما إذا نظرنا في كلمات المتقدِّمين في مسألة (أصالة الحظر أو الإباحة) فسوف نجد أنهم يذهبون ارتكازاً إلى القول بقبول أصل الاحتياط العقلي، وإن كانوا لا يتحدَّثون عنها بنفس الوضوح الذي نقوله نحن. وعلى هذا الأساس تكون أصالة الاحتياط متجذِّرة، بخلاف أصالة البراءة العقلية.
ولو أننا أجرينا بحثاً ودراسة في تأييد نظرية السيد الشهيد فسوف نجد أن البراءة العقلية بين المتأخِّرين لم تتجاوز حدّ الشهرة، حيث كان هناك مَنْ قال بالاحتياط العقلي من المتأخرين السابقين واللاحقين للسيد الشهيد. ومن أشهر هؤلاء: السيد محمد محقِّق الداماد([17])، والذي ذهب بعده اثنان من تلامذته، وهما: السيد موسى الزنجاني، والشيخ ناصر مكارم الشيرازي، إلى هذا المبنى، ودافعا في تقرير خاصّ عن أصالة الاحتياط العقلية.
وقد ذكر السيد الشهيد في المجموع ستّة تقريبات على صحّة أصل البراءة العقلية، ويشكل عليها جميعاً بلزوم الدور والمصادرة على المطلوب، أو أخذ المدَّعى في الدليل. ولكنه لم يعمد إلى الاستدلال عليها أبداً؛ لأنه يراها من الأساس مسألة وجدانية وغير مبرهَنة. ولكي يكشف سماحته عن منشأ وقوع المشهور في الاشتباه في مثل هذه المسألة الوجدانية والبديهية عمد إلى طرح بحث بشأن المولوية، وهو بحث غير مسبوق في علم الأصول، وهو طبقاً لتقريره مستحدَث وإبداعي بالكامل. حيث يقول أولاً: إن الأصوليين قد افترضوا أنّ المولوية شيء محدود، وليس له درجات، في حين أن المولوية مفهوم مشكِّك، وإن قياس المولوية الحقيقية على المولويات العرفيّة لا يمكن أن يكون صحيحاً. وأضاف في توضيح ذلك قائلاً: إن المولويّة عبارة عن حقّ الطاعة، وهي تارة ذاتيّة، ولا تحتاج إلى جعل جاعل، وهذا النوع من المولويّة منحصر بالله سبحانه وتعالى، وهو خالقنا ومالكنا؛ وتارةً أخرى تكون المولويّة مجعولة بجعل من قبل جاعل، وهي على واحدة من الأنحاء الأربعة التالية:
النحو الأول: المولوية التي تجعل من قبل المولى الحقيقي، من قبيل: مولوية الأنبياء والأولياء.
النحو الثاني: المولوية التي تجعل من قبل الأفراد (المولى عليهم)، من قبيل: مولوية رؤساء الجمهورية، الذين يُنتخبون بواسطة أصوات الناس وآرائهم.
النحو الثالث: المولوية التي يجعلها نفس المولى لنفسه، من قبيل: مولوية الحكّام الظلمة، والسلاطين الجائرين، الذين سيطروا على الناس بالقهر والغلبة.
النحو الرابع: المولوية المجعولة من قبل المولى الذي ثبتت له المولويّة بواحد من الأنحاء الثلاثة المتقدِّمة، من قبيل: مولوية الفقيه الجامع للشرائط الذي تثبت له المولوية من قبل الإمام المعصوم الذي ثبتت له المولويّة من قبل الله عزّ وجلّ.
ومن وجهة نظر السيد الشهيد فإن المولوية المجعولة في جميع هذه الأنحاء الأربعة تابعةٌ في سعتها وضيقها إلى جعل الجاعل. فالمولويات العرفية إنما تكون في خصوص الأحكام المقطوع بها، وأما مولوية الله سبحانه وتعالى فلا يمكن اعتبارها في هذا الحدّ فقط. إن القائلين بمسلك حقّ الطاعة يرون الأصل الأولي في الاحتياط قائماً على حكم العقل السليم والفطري، الذي لا يتردّد الإنسان في قبوله إذا لم يكن مسبوقاً بشبهة، ودقَّق في أطراف المسألة جيداً.
ومن جملة ثمار ولوازم القول بهذا المسلك حلّ مشاكل جعل الحكم الظاهري، والشبهات المطروحة في أطراف إمكان التعبُّد بالظنّ. فلو أننا أنكرنا قبح العقاب بلا بيان بوصفها قاعدة عقلية، وقصرناها على الدليل الشرعي من باب التخفيف المولوي، فإننا سوف نتخلَّص من محذور التخصيص في الأحكام العقلية، ومخالفة جعل الحجية للظنّ بحكم العقل بعدم حجّية الظن.
كما يُستفاد من هذا المبنى الأصولي في بحث التجرّي أيضاً. وقد قال السيد الشهيد هناك: إن مجرّد انكشاف التكليف موضوع لحكم العقل بالطاعة وقبح المعصية، سواءٌ أكان التكليف ثابتاً في الواقع أم لا. وليس بحث التجرّي فحسب، بل إن جميع المباحث المرتبطة بالقطع، تكتسب ـ من خلال لحاظ مسلك حقّ الطاعة ـ شكلاً جديداً، وهو ما سوف نتحدَّث عنه في موضعه.
وفي السنوات الأخيرة حظيت نظرية حق الطاعة باهتمام خاص، وفتحت أبواب كثيرة للبحث والحوار بشأنها. وكأنّ ما يميّز السيد الشهيد الصدر في المباحث الأصولية من غيره هو هذه النظرية، وأنه من السهل الإجابة عنها. في حين أن السيد الشهيد قد تطرَّق إلى هذا البحث بشكل دقيق وعلميّ للغاية، وأغلق جميع منافذ الإشكال والردّ على تقريره.
إنّ من أهم الإشكالات الواردة على هذه النظرية أنه طبقاً لمبنى التزاحم الحفظي الذي أسَّس له الشهيد الصدر نفسه إذا التزم المكلف بالاحتياط ورعاية جانب التكليف وملاكه في جميع الشبهات فإنه سيفوّت المصلحة والمنفعة في الترخيص الواقعي في بعض الموارد، في حين أنّ العقل يحكم بأن الشارع كما يهتمّ بملاك تكاليفه كذلك يهتمّ بملاك ترخيصاته. وعليه فإنّ ملاك الترخيص من وجهة نظر العقل يمكن أن يُزاحم ملاك التكليف، وهذا بالتالي سيترك العقل في حيرة من أمره، ويتزلزل حكم العقل بوجوب الاحتياط([18]).
ولقد أجاب بعض تلاميذ السيد الشهيد عن هذا الإشكال على أحسن وجه، ويمكن إجمال هذا الجواب بما يلي:
أولاً: إن ملاك الإباحة لا منجِّزية فيه.
ثانياً: إن ملاك الإباحة يقتضي من جهته إطلاق العنان للمكلَّف وتركه حرّاً، وهذا لا ينافي أن يثبت إلزاماً على المكلَّف من جهة رعاية ملاك التكليف.
ثالثاً: إذا تصوَّرنا الإطلاق في ملاك الإباحة يمكن القول بأن التعذير والتنجيز في شيءٍ لا يمكن تصوُّر وجودهما في عرض واحد، حتى يحصل التزاحم بينهما؛ وذلك لأن التعذير ليس إلاّ عدم التنجيز. والنكتة الفنية في هذا الجواب تكمن في أن موضوع حكم العقل بالتنجيز والتعذير يتحدَّد من قبل العقل نفسه، وإذا كان موضوع حكم العقل بالتنجيز عبارة عن انكشاف التكليف، سيكون موضوع حكم العقل بالتعذير عبارة عن عدم انكشاف التكليف، وحيث إن الموضوع في الأحكام العقلية بمنزلة العلّة التامّة للحكم فإذا فسَّرنا التنجيز بثبوت حقّ الطاعة وجب تفسير التعذير بعدم ثبوت مثل هذا الحقّ([19]).
ومن مجموع الانتقادات والدراسات التي طُرحت بشأن هذه النظرية يمكن لنا أن نستنتج أن منشأ وقوع المشهور في الخطأ بالنسبة إلى هذا الحكم العقلي البديهي أمورٌ، منها:
1ـ عدم الفصل بين المولوية الذاتية وغير المجعولة وغير المحدودة لله سبحانه وتعالى وبين المولويّات العرفية المجعولة، التي تكون بلحاظ السعة والضيق تابعة لجعل الجاعل.
2ـ الخلط بين البراءة العقلية والبراءة الشرعية المستكشفة بدليل العقل.
3ـ استبعاد خفاء حكم بديهيّ عن مشهور الأصوليين والفقهاء.
4ـ عدم التفريق بين الأحكام العقلية والأحكام العقلائية.
5ـ توهُّم إرشاديّة أدلة البراءة الشرعية.
6ـ توهُّم عدم مخالفة الأصل الثانوي الشرعي للأصل الأوّلي العقلي.
7ـ عدم الفصل بين حكم العقل بوجوب الاحتياط وحكم العقل بحسن الاحتياط.
ـ يتبع ـ
الهوامش
______________
(*) باحثٌ متخصِّص في أصول الفقه الإسلامي، وله مساهماتٌ بحثية كثيرة.
([1]) باعتبار أنّ علم الأصول يتحدّث عن الأدلة الفقهية، وأنّ دلالة الدليل يجب أن تكون مقبولة من قبل الشرع، حتى وإنْ كان ذلك الدليل هو العقل.
([2]) من قبيل: قاعدة اللطف، أو ضرورة دخول المعصوم في المجمعين، أو التكهُّن بموافقة المعصوم، أو على مبنى حساب الاحتمالات.
([3]) انظر: محمد خضر بك، علم أصول الفقه؛ مصطفى سعيد الخن، دراسة تاريخية للفقه وأصوله.
([4]) انظر: الشيخ محمد إسحاق الفياض، محاضرات في أصول الفقه 1: 8.
([5]) الشيخ حسن عبد الساتر، بحوث في علم الأصول 1: 115؛ السيد محمود الهاشمي، بحوث في علم الأصول 1: 57.
([6]) الشيخ حسن عبد الساتر، بحوث في علم الأصول 1: 117 ـ 123، باختصار.
([7]) السيد محمود الهاشمي، بحوث في علم الأصول 1: 57 ـ 61، باختصار.
([8]) المصدر السابق: 62. ومن الجدير بالذكر أنه في انتساب أحد المنهجين إلى الأسلوب الحديث في الحوزة هناك نوع من التهافت في الكلمات المنقولة عن السيد الشهيد الصدر، حيث أطلق على المنهج الحوزوي الجديد، الذي ظهر ـ من وجهة نظر السيد الشهيد الصدر ـ بعد الشيخ الأنصاري، وتكامل على يد المحقق الخوئي، أنه منهج تطبيقي، في حين أطلق عليه في موضع آخر بأنه منهج تجريدي.
([9]) انظر: دروس في علم الأصول، الحلقة الثالثة، طبعة جامعة المدرّسين، حيث جاء بحث هذه المسائل الثلاث في ضمنها، بقلم: السيد محمود الهاشمي.
([10]) لقد تمّ حتى الآن عرض عدّة تقريرات عن درس السيد الشهيد الصدر عن الدورة الأولى والدورة الثانية: التقرير الأول في حدود عام 1405هـ، بقلم السيد محمود الهاشمي، تحت عنوان (بحوث في علم الأصول)، وهو يحتوي دورة كاملة لبحث خارج السيد الشهيد ضمن سبعة مجلدات. ولكن يُلاحظ فيه اختصاراً مقروناً بالإغلاق والإبهام. وبعد ذلك ظهر في عام 1407هـ كتاب مباحث الأصول، بقلم السيد كاظم الحائري، وتكامل بالتدريج، وهو يشتمل حتى الآن على النصف الثاني من علم الأصول ـ أي مباحث الحجج، والأصول العملية، وتعارض الأدلة ـ في خمسة مجلدات. ويمتاز هذا التقرير بوضوح وسلاسة أكثر. وفي عام 1423هـ طبع التقرير الثالث، بقلم الشيخ حسن عبد الساتر، تحت عنوان (بحوث في علم الأصول) ـ وهو ذات العنوان الذي اختاره السيد محمود الهاشمي لتقريره ـ، وهو يشتمل على النصف الأول من علم الأصول ـ أي مباحث الألفاظ، والأدلة المحرزة، وكذلك مباحث الحجج ـ، في ثمانية أجزاء، ضمن ستّة مجلدات. وإن هذا التقرير ـ خلافاً للتقريرين الأوّلين ـ لا يحتوي على هوامش وإبداء للرأي من قبل المقرِّر إلاّ نادراً، ويبدو أن نصّ الكتاب إنّما هو نقل من أشرطة الكاسيت، دون أن يقوم المقرِّر بأيّ محاولة للتصرُّف في تعبيرات الأستاذ السيد الشهيد. وبذلك يمكن لهذا التقرير أن يساعد على رفع مواطن الإغلاق والإبهام الموجودة في التقريرين الأولين. ومن الجدير بالذكر أن التقرير الأول تلفيقٌ عن الدورتين الأولى والثانية لدروس بحث السيد الشهيد الصدر، بينما التقرير الثاني ـ بالمقدار الذي تمّ نشره حتى الآن ـ بأجمعه تقريرٌ للدورة الثانية، وأما التقرير الثالث فهو بأجمعه من الدورة الثانية.
([11]) السيد محمود الهاشمي، بحوث في علم الأصول 1: 31.
([12]) إن ظهور هذا العدد من المصطلحات في علم الأصول على يد السيد الشهيد الصدر قد تمّت الإشارة له في مقدمة الأستاذ السيد علي أكبر الحائري على الحلقة الأولى، طبعة مجمع الفكر الإسلامي: 91 ـ 94.
([13]) لمزيد من التفصيل حول هذا البحث انظر: دروس في علم الأصول، الحلقة الثالثة، تحقيق وتعليق: مجمع الفكر الإسلامي: 403 ـ 416، الملحق الثاني تحت عنوان (الحمل الأولي، والحمل الشائع)، بقلم: الأستاذ السيد علي أكبر الحائري.
([14]) دروس في علم الأصول، الحلقة الثالثة، بداية الكتاب، تحت عنوان (الحكم الواقعي والحكم الظاهري).
([15]) المصدر السابق، تحت عنوان (وظيفة الأحكام الظاهرية).
([16]) من قبيل: الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي في فلسفة الأخلاق: 178.
([17]) راجع: المحاضرات، مباحث في أصول الفقه (تقريرات درس السيد محمد محقق الداماد)، بقلم: السيد جلال الدين الطاهري الإصفهاني 2: 237.
([18]) انظر: فصلية پژوهشهاي أصولي، خريف عام 1381هـ.ش: 11، مقالة (نظرية حق الطاعة)، بقلم: محمد صادق اللاريجاني.
([19]) راجع: المصدر السابق: 27، مقال (حديث الساعة حول نظرية حقّ الطاعة)، بقلم: السيد علي أكبر الحائري.