قراءةٌ في نظرية المعرفة عند السيد الصدر
السيد إحسان الشهرستاني(*)
مقدّمة ــــــ
عمد بعض الكتّاب في الأعوام الأخيرة إلى إثبات أنّ الأصول التي يتمّ توظيفها في الفلسفات الراهنة ـ الأعمّ من الإسلامية وغير الإسلامية، والمشائية أو الإشراقية ـ تختلف بأجمعها عن الأسس المذكورة في المباني الإسلامية المتمثّلة بالقرآن الكريم وسنّة النبي الأكرم| وأهل البيت^. ومن ناحية أخرى فإن العلماء المختصّين في العلوم الكلامية والفقهية قد استخدموا نوعاً من المباني الخاصّة بهم، ولكنهم لم يعملوا على تدوينها بشكل واضح وشفّاف. إنّ مشروع العقل المزدوج عبارة عن عمل جديد يأتي في سياق هذا الموضوع، وفي إطار التأسيس لمبانٍ جديدة؛ من أجل تكوين فلسفة حديثة قائمة على أساس الأصول الإسلامية.
ونحن في هذه المقالة، وبعد إطلالة قصيرة على الاختلاف القائم بين هاتين الرؤيتين، سنعمد إلى استعراض المعايير الثلاثة التي يستفيدها السيد الشهيد محمد باقر الصدر&؛ لنثبت أننا من بين جميع هذه المفاهيم نخضع لتأثير عنصر الاستقراء، دون الأمور الفطرية. وفي الختام سوف نخوض في العقل المزدوج ـ الذي يدخل فيه كلٌّ من المنطق والشعور ـ، ونعمل على التعريف بعنصر الإرادة في الوصول إلى اليقين في هذا العقل.
سبب هذه التسمية ــــــ
قبل الخوض في أصل هذا الموضوع ربما كان من الضروري أن نتحدّث حول السرّ في انتخاب هذا العنوان «العقل المزدوج» لمقالنا هذا. إنّ المراد من اختيار هذا العنوان هو توجيه الأنظار إلى أن قوّة التعقل لدى الإنسان تقع تحت تأثير قوّتين منفصلتين عن بعضهما. وفي الحقيقة إن التركيب القائم على الدوام بين هاتين القوّتين هو الذي يمنح الإنسان قدرته على التفكير والإبداع. وعليه فإن العقل المزدوج يعني العقل الذي تتَّحد فيه كلٌّ من القوّة المنطقية والقوّة العاطفية، وتعملان بشكلٍ متلاحم وغير منفصل. القوة الأوّلى تقوم بأعمال التجزئة والتبويب، وهو الذي يتمّ التعبير عنه في ألسنة الفلاسفة المسلمين بقوّة الانتزاع، مع فارق أنّ الكثير من المذاهب تنسب القوّة التركيبية إلى الانتزاع، بيد أننا سنثبت في الفصول القادمة أن عملية التركيب ترتبط بجانب آخر من الإنسان، يتمثَّل بقوّته العاطفية والوجدانية. أما القوّة الثانية التي لها القدرة على خلق الأقسام الجديدة فلا تطرح أولاً، بل يتمّ التعبير عنها في الفلسفة بعباراتٍ من قبيل: القوّة الفلسفية الثانوية. يؤكِّد كاتب هذه السطور على أن هذا الجانب من النشاط الذهني يكون خارجاً عن دائرة القوّة المنطقية، وهو خاضعٌ بالكامل لتأثير العاطفة الإنسانية أو الإرادة. إنّ نظرية العقل المزدوج تسعى إلى تعريف موقع ومكانة كلّ واحدة من هاتين القوّتين بنحوٍ آخر؛ لتكون أقرب من واقع بنيتنا الفكرية، ومن التعاليم الإسلامية أيضاً.
أما التسمية الأخرى التي يمكن اختيارها لهذا التعريف فهي عبارة عن «العقل العملي»؛ وذلك لأنّ الجانب الثاني من تفكيرنا ـ الذي يتمثَّل بالمشاعر ـ يتبلور من خلال أعمالنا وسلوكنا. من هنا فإن العقل المزدوج لا يفرِّق بين الإنسان وعمله، وإن مسائل من قبيل: التقوى تعدّ من أركانه. ولكنْ حيث سبق أن تمّ استخدام عبارة العقل العملي وكان المراد منها موضوع علم الأخلاق فقد آثرنا عدم اختيار هذا التعبير في طرحنا هذا.
الفصل الأول: اختلاف الأصول الفلسفية والدينية ــــــ
سُرعان ما أدرك الفلاسفة المتقدِّمون ضرورة تدوين أساليب للتفكير الصحيح، وتشذيبه من الشوائب. وبشكلٍ عام يمكن القول: إنهم لم يسعَوْا إلى الحصول على أسلوب يغربل طريقتهم الفكرية فحسب، بل سعَوْا إلى أن يكون ذلك الأسلوب مقبولاً من قبل الآخرين أيضاً. من هنا يمكن تقسيم هذا المسار إلى قسمين:
1ـ قسم المعرفة: وهو يشتمل على الأساليب التي يمكن للإنسان من خلالها أن يعمل على تقييم أفكاره ومعتقداته.
2ـ قسم الاستدلال: إنّ مساحة نشاط هذا القسم تكمن في العثور على الأساليب التي يؤمن بها جميع الناس، ليمكن بذلك إيصال الأفكار والمعتقدات إلى الجميع.
حتّى ما قبل ثلاثة قرون لم يكن هناك بحثٌ بشأن أسلوب المعرفة لدى الإنسان، وكان جميع الفلاسفة تقريباً ينتمون إلى إحدى المدرستين الفلسفيّتين: (الفلسفة المشّائية؛ والفلسفة الإشراقية، ويجعلونها أساساً لأعمالهم الفلسفية. إن بحث أسلوب المعرفة، أو العبارة الشهيرة التي قالها ديكارت: «أنا أفكِّر إذاً أنا موجود»، عادت في المراحل المتأخِّرة من جديد، وأصبحت ملح أحاديثهم اليومية. وإن بيان العقل المزدوج يأتي في الحقيقة إلى حدٍّ كبير في سياق التذكير بهذا الجانب من وجود المشاعر والأحاسيس.
حتّى الآن تمّ النظر في جميع المدارس الفلسفية المشّائيّة ـ الأعمّ من الإسلامية وغيرها ـ إلى الجانب المنطقي من العقل بوصفه مرآة تعكس الواقع الخارجي، وينفي أيّ تأثير للمشاعر والأحاسيس على هذا النوع من التعقُّل. ومن جهة أخرى فإن القائلين بفلسفة الإشراق يؤكِّدون بشكلٍ تامّ على مسألة الوجدان والإدراكات الداخلية والباطنية والذاتية، ويمكن القول: إنهم لا يُدخِلون أيّ مقولة منطقية في هذه الدائرة من عقائدهم. أجل، هناك الكثير من الفلاسفة المسلمين، الذين تأثَّروا بالتعاليم الإسلامية، وصاروا في صدد التلفيق بين هاتين القوّتين الإدراكيتين. ولكنهم قاموا بهذا الأمر من خلال اختيار «القلب» بالنسبة إلى المعرفة، و«المنطق» بالنسبة إلى الاستدلال. بيد أن نشاط هذه الجماعة في الحقيقة يرتبط بشكل أكبر بالاستدلال، دون المعرفة. بمعنى أنّ الفلاسفة المسلمين جعلوا إحدى هاتين المدرستين القائمتين (المدرسة الإشراقية والمدرسة المشّائية) أساساً لنشاطهم في دائرة المعرفة، وفي ما يتعلق بدائرة الاستدلال لم يوظِّفوا إلاّ قوّة المنطق. ولكي يُقرّبوا نتيجة هذا الأمر من التعاليم الإسلامية طرحوا العقل العملي أو الأخلاق بوصفها نتيجة لهذا النشاط.
نسأل الله أن يتغمَّد أرواح جميع الذين ساروا على هذا الطريق، وسعَوْا بهذه النية الطاهرة إلى إصلاح المباني الفلسفية.
ولكن اليوم، وبعد مضيّ قرون متمادية على مختلف الأعمال التي قام بها الفلاسفة المسلمون، لا يزال الفلاسفة يُقرّون بأن النتائج الحاصلة من هذه الفلسفة مغايرة لمبادئ الدين الإسلامي الحنيف. ولمزيد من التوضيح حول هذا الموضوع يمكن للقارئ الكريم الرجوع إلى كتاب «مباني خدا شناسي در فلسفه يونان وأديان إلهي»([1])، لمؤلِّفه: رضا برنجكار، وكذلك: «مكتب تفكيك»([2])، لمؤلفه: محمد رضا الحكيمي.
ومن باب المثال، وباختصار شديد، نذكر رأي الشهيد الشيخ مرتضى مطهري بشأن إحدى المسائل التي تشرح الفرق بين المدارس الفلسفية والنصوص الدينية. ومن الجدير بالذكر أنّ صدر المتألهين يعتبر آخر وأفضل الفلاسفة الذين تمكَّنوا من إثبات المعاد الجسماني، ومع ذلك يقول الشهيد مطهري في هذا الصدد: «لقد ذهب أمثال صدر المتألهين إلى القول بالمعاد الجسماني. ولكنَّهم أدخلوا جميع مسائل هذا (المعاد الجسماني) في الروح وفي (عالم الأرواح)، بمعنى أنهم قالوا بوجود خصائص الجسم في (عالم الأرواح)…. إلا أن هذا الأمر بالطبع لم يحلّ المشكلة، بمعنى أنّنا لا نستطيع تطبيق هذا الكلام على مجموع الآيات القرآنية. فعلى الرغم من جودة هذا الكلام، وإمكان تأييده بالأدلّة العلمية، ولكنْ لا يمكن تبريره وتأييده من خلال (المعاد القرآني)؛ لأن المعاد القرآني لا يختصّ بالإنسان، وإنما يشمل العالم بأسره. فالقرآن الكريم يتكلَّم في الأساس عن عالم المادّة، ولا يقتصر على الإنسان فقط، فتراه يقول: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ﴾ (التكوير: 1 ـ 3)، وهذا الكلام كلّه مرتبط بيوم القيامة، ويقول أيضاً: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ﴾ (إبراهيم: 48). فالكلام لا يقتصر هنا على أرضية أرواحنا، وإنّما يتحدث عن الأرض التي نعيش عليها (الكرة الأرضية)، وهكذا سائر الآيات الموجودة في القرآن الكريم… ومجرّد نظريته (صدر المتألهين) لا يمكنها أن تحل مشكلة المعاد([3]).
إلى هنا نكتفي بهذا المقدار، ونستعرض في ما يلي خلاصة الاختلافات بين هاتين المدرستين الفلسفيتين واللاهوتيتين على النحو التالي:
1ـ إن تصوّر الله في الفلسفة متأخِّر عن سائر العلوم الأخرى؛ وذلك لأن هذا التصوّر يتبلور على أساس العقيدة ومعرفة الوجود. وعليه فإن معرفة الله تكون من فعل الإنسان؛ إذ إن الإنسان في الوهلة الأولى يكوِّن في ذهنه تصوُّراً عن الله. ثمّ يضطر إلى البحث من أجل إثبات هذا المخلوق الذهني. وحيث إن الله يتمتع في هذه المنظومة بأعلى درجات التجرّد فإن تحديد صحّة هذه الاستدلالات تكون في غاية التعقيد. ومن هنا يتعيَّن على الإنسان أن يمضي وقتاً وعمراً طويلاً ليغدو مؤهَّلاً لمعرفة الله، في حين أن مباني المعرفة الإلهية في النصوص الدينية ترى أنّ معرفة الله من الأمور الفطرية التي تولد مع الإنسان. وإن جميع المعارف الإنسانية اللاحقة تقوم على أساسٍ من هذه المعرفة. ولذلك فإنّ الله في هذه المدرسة لا يتمّ إثباته، وإنما يُكتفى بمجرّد التذكير بوجوده فقط.
وهنا يجدر بنا التذكير بهذه النقطة الدقيقة، وهي أن الذين يسعون إلى إثبات وجود الله يرون أنفسهم أعلى منه، ومحيطون به؛ لأن لازم إثبات الشيء معرفته، وللتعرّف عليه لا بدّ من الإحاطة به. وقد ثبت في المنطق أنّ المعرِّف محيطٌ بالمعرَّف.
2ـ لا وجود للارتباط في الفلسفة بين سلوك الإنسان وبين موضوع المعرفة. فعلى الرغم من قولهم: إن الإنسان إذا عرف الله فإنه سيتواضع له تلقائياً، بيد أنّ الفيلسوف إذا تكبّر ولم يتواضع لله لا يُقال: إن هناك خللاً في معرفته، وإنما يقال: إنه لم يعمل بمضمون معرفته. وهذا دليل محكمٌ على أن العمل والمعرفة مقولتان منفصلتان عن بعضهما، في حين يُعتبر مفهوم التقوى في الإسلام شرطاً في معرفة الله، والفسق بداية لبُعد الإنسان عن الله؛ حيث روي عن الإمام الصادق× أنّه قال: «الخشية ميراث العلم، والعلم شعاع المعرفة وقلب الإيمان. ومن حُرم الخشية لا يكون عالماً، وإن شقّ الشَّعر في متشابهات العلم. قال الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ (فاطر: 28)»([4]).
3ـ إن موضوع الإرادة في الفلسفة الإغريقية، وحتّى في جميع أساليبها المصحّحة من قبل المسلمين، لا تعني مفهومها الإسلامي. بمعنى أن موضوع الإرادة بفعل وقوعها تحت تأثير العلة والمعلول تجعل الجبر في نهاية المطاف قدراً لكلّ موجود، حتّى الباري تعالى. ويكفي في ذلك الرجوع إلى الكتب الكلامية لتقف على عبارات من قبيل: «يجب على الله أن يكون عادلاً»، وما إلى ذلك.
4ـ إن المفاهيم المعروفة عند الفلاسفة (من قبيل: الوجود، والمادة، والمجرّد، والإرادة، والارتباط بين الموجودات، والعلّة والمعلول، وما إلى ذلك)، هي من صنع الإنسان. ورغم عدم وجود أيّ إشكال من الناحية العقلية على هذه المسألة فإنّه مع وجود المصادر الأفضل (القرآن والسنّة) لا يكون الاقتصار على المنطق البحت عقلانياً، ويجب بحكم العقل أن يُستفاد من هذه المصادر. وبعبارة أخرى: في العقل المزدوج يتمّ التعاطي مع «الوحي» بوصفه مصدراً معرفيّاً حقيقياً. وهذا الأمر لوحده يضيّق الشرخ القائم بين المدارس الأخبارية والأصولية إلى حدٍّ كبير، ويمكن القول: إن طرح العقل المزدوج مقبولٌ في كلتا هاتين المدرستين.
5ـ وعلى الرغم من أنّ الفلاسفة المسلمين عند البحث والجدل يُسارعون إلى القول بأن الفلسفة أسلوب للتفكير، وأنّها تعاني من بعض المحدوديات، إلاّ أنهم مع ذلك في المواطن التي يتعيَّن عليهم إعطاء الأولوية للنقل نجدهم يستعينون بالعقل؛ من أجل فهم وتفسير هذا النقل، ويعطون الأولوية للعقل، ويعملون على تأويل النقل. وهذا ناشئٌ من عدم التفاتهم إلى المحدوديات الحقيقية في العقل. وبعبارة أخرى: إنهم أصابوا في اعتبار العقل محدوداً، ولكنَّهم أخطأوا في تحديد مواطن تلك المحدوديات.
وقد عمدنا إلى طرح نظرية «العقل المزدوج» من أجل رفع هذه النواقص، مضافاً إلى احتوائها على الخصائص التالية:
1ـ إنّها بدلاً من «الإثبات» تطرح «التذكُّر».
2ـ إن تأثير هذه النظرية على أصول الدين وطريقة تدريسها عميقٌ جدّاً، وخاصة بالالتفات إلى أنّ مسألة وجود الله هي الأصل، وأن سائر الأمور يتمّ التعرّف عليها من خلالها وعلى أساسها. وهناك إشارة في الفصل الرابع إلى هذا الأسلوب.
3ـ لا يتمّ إيضاح منزلة العقل والنقل بشكلٍ كامل فحسب، بل يستفاد من المزج بينهما بشكلٍ دائم.
4ـ حيث إنّ مباني العقل المزدوج قد تمّ تدوينها من أجل بيان وشرح المباني المنطقية ـ الفلسفية لعلم أصول الفقه، فمن الطبيعي أن يخلق أرضية أفضل لهذا العلم بالقياس إلى المنطق الأرسطي. فإن موارد من قبيل: خبر الواحد أو الخبر المتواتر لا حجّية لها من وجهة نظر المنطق الأرسطي، ولكنْ في العقل المزدوج، حيث يتمّ إدخال عنصرَيْ الإيمان والتقوى، يُمكن إعداد أسس لحجّية هذا النوع من الأخبار.
5ـ إن التيّارات العلمية الحديثة في الغرب ـ وخاصّة في الولايات المتحدة الأميركية ـ في حقل معرفة الخلايا الدماغية، وتأثير المشاعر والأحاسيس في ذكاء الإنسان ومعلوماته، منسجمة مع هذه النظرية انسجاماً كاملاً([5]).
6ـ يمكن اعتبار هذه النظريّة حركة في سياق تفعيل العقل طبقاً لموازين المدرسة التفكيكية.
الفصل الثاني: دراسة المدركات الإنسانية ــــــ
نهدف في هذا الفصل إلى إثبات أنّ منهجنا الفكري لا يقوم ـ كما يتصوّر الفلاسفة ـ على علم المنطق فحسب، بل إن جانبنا الروحي دخيلٌ وبشدّة في جميع النتائج الحاصلة من قبل نشاطنا الذهني أيضاً. وبعبارة أخرى: إن تخليص نمطنا الفكري من الجوانب الروحية، والاقتصار على الجوانب المنطقية البحتة في تفكيرنا ليس سوى وهمٍ من الأوهام. إننا في هذا الفصل نسعى إلى إثبات عدم إمكان أن ينفرد الجانب المنطقي من تفكيرنا لوحده، ويكون مبدعاً وخلاّقاً. من هنا فإننا سنعمد إلى تقسيم الأساليب الاستدلالية إلى قسمَيْن:
أـ أسلوب الكلّ إلى الجزء (القياس): إذا كان المنطق هو الحاكم المطلق على هذا الأسلوب ستكون جميع النتائج الحاصلة عنه دقيقة ومنطقية. وعلى هذا الأساس فإن ما يُذكَر في المنطق بوصفه برهاناً قياسيّاً يكون من هذا النوع، وتكون نتائجه صحيحة. غاية ما هناك أنّ كلامنا يكمن في كبرى برهان القياس. فسؤالنا هو عن مصدر هذه الكليات، وتحت أيّ منظومة فكرية استطعنا الوصول إلى كليّ من الكليات؛ وذلك لأن إحساساتنا تكتفي بإدراك «الجزئي»، وإنّ هذه الإدراكات الجزئية هي التي تتحوَّل بمرور الزمن إلى إدراكات كلية. إن تاريخ الفلاسفة يُثبت هذه الحقيقة، وهي أن الناس قد أخطأوا مراراً وتكراراً في مسألة القياس. ومن باب المثال نذكر النموذج التالي: لقد كان المهندسون والمخترعون يذهبون من الناحية المنطقية إلى استحالة صُنع شيء يمكنه الطيران؛ وذلك لأنّ كل جسم أثقل من الهواء سينزل إلى الأسفل، وحيث كانت جميع الأجسام أثقل من الهواء، إذاً طبقاً لهذا القياس المنطقي لا يمكن لأيِّ جسم أن يستقرّ في الهواء. وإنّ السبب الرئيس في هذا النوع من الأخطاء هو أننا إذا نظرنا في أيّ قياس منطقيّ نجده مشتملاً على أمر كلّي، وإنّ هذا الأمر الكلّي في واقعه وحقيقته عبارةٌ عن حركة من الجزئي إلى الكلّي، أو ما يُسمّى بالاستقراء.
ب ـ أسلوب الجزء إلى الكلّ (الاستقراء): حيث إن جميع إدراكاتنا مرتبطة بهذه الحركة فإنّ الجانب الأكبر من هذا الفصل سوف يختصّ بهذا القسم. وكما سنثبت فإنّ هذا القسم لا يمكنه أن يعطي نتائج منطقية خالصة. وبطبيعة الحال فإن هذا ليس شيئاً جديداً، فقد سبق للفلاسفة منذ القدم أن سعَوْا إلى حلّ هذه المعضلة. بيد أن السيد الشهيد الصدر هو أول مَنْ أثبت ضرورة أمرٍ آخر غير اليقين المنطقيّ لحلّ مسألة الاستقراء. وإنه من خلال طرح اليقين الذاتي، إلى جانب اليقين الموضوعي والمنطقي، عمد في الحقيقة إلى فتح المجال أمام الروح الإنسانية والقسم الذاتي من الإنسان في الاستدلال أو الكشف الاستقرائي. وهذا ما التفت إليه أحد أساتذة جامعة طهران، وهاجم في نقدٍ كتبه على كتاب «الأسس المنطقية للاستقراء» ما قام به السيد الشهيد. وإنّ مضمون اعتراض هذا الأستاذ هو أنّ السيد الشهيد قام بعمل أحجم عن القيام به جميع الفلاسفة طوال قرون، حيث إنهم كانوا يرومون العثور على حلّ من خارج الروح البشرية والأحاسيس الإنسانية، وإنّ السيد الشهيد من خلال إدخال الروح الإنسانيّة لم يقُمْ بعملٍ شاقّ أو مبدع.
في حين إنه من خلال طرح العقل المزدوج لم يتمّ إهمال الجانب الذاتي من الإنسان، بل على العكس من ذلك تماماً، فقد تمّ الاعتراف به رسمياً، حيث نقول: إن الطريق الصحيح لا يكمن في حذف الذات بالكامل، بل يكمن في العثور على معادلات وضوابط ضرورية في سياق الاستفادة الصحيحة منها، كما ذكر السيد الشهيد في كتابه المذكور آنفاً شرائط للتفكير الصحيح في اليقين الذاتي.
وعندما ندرس مسألة التفكير من خارج أيّ نوع من المدارس الفلسفية ندرك أننا إذا أردنا لاستدلالاتنا أن تكون صحيحة بشكل كامل يجب أن تكون هناك واحدة من الحالات التالية:
1ـ أن ندرك منذ الصغر جميع الكليات؛ كي نتوصّل إلى المطالب الجيدة من خلال توظيف القياس؛ إذ كما تقدَّم أن ذكرنا فإن القياس حركة من الكلّ إلى الجزء، ولكي تكون نتائجه صحيحة علينا أن نفترض عدم ارتكابنا أيّ إشكال في الكلّيات، وإنّ هذه الكليات بأجمعها هي عين الواقع. وبعبارة أخرى: أن تكون جميع معلوماتنا الكلّية فطريّة وبديهية.
2ـ أن نؤمن بأن نتائج الاستقراء ـ كما هو الحال بالنسبة إلى برهان القياس ـ متينة وواقعية. ولا بدّ من الالتفات إلى أنّ الاستقراء التامّ في الحقيقة ليس من نوع الحركة من الجزء إلى الكلّ، بل هو نوع من الإخبار.
3ـ أن نعثر على طرق حلٍّ أخرى من خارج المنظومات الفلسفية والمنطقية الموجودة. وبطبيعة الحال فإن أنصار العرفان وفلاسفة الإشراق يدَّعون عثورهم على مثل هذه الطرق. وربما أمكن القول بأن نظرية العقل المزدوج تُعتبر واحدةً من هذه الأساليب التي تعترف بـ «الوحي» بشكلٍ كامل، وتعمل على طرح كلمتها بشكل منطقي، ومن خلال توظيف الشواهد الموضوعية تفتح فضاءً واسعاً للدراسات المنطقية.
إننا سنبحث في الأسلوب الثالث ـ أي مقترح العقل المزدوج ـ في الفصل التالي إن شاء الله.
وأمّا الاستقراء فقد تعرّض للتشكيك منذ فجر الفلسفة. فأوّلاً: إن الناس متفاوتون في الوصول إلى الكلّيات. وثانياً: لم يعثر الفلاسفة حتى الآن على طريقة منطقية مئة بالمئة للحصول على اليقين من الاستقراء. وإنّ بعض الناس يحكمون بكلية مسألة ما، حتّى بعد رؤية مورد واحدٍ من مواردها، ليلتفتوا بعد ذلك إلى خطأ الحكم الذي أصدروه بمجرّد رؤيتهم المورد التالي. ومن جهة أخرى فإنّ المسار التاريخي للعلوم يُثبت أن الإنسان لا يسعه الاعتماد والتعويل على الكليات التي تمّ التوصّل إليها من هذا الطريق. ولا بأس هنا بذكر هذه الطرفة الغربية: سافر ذات يوم صحفي ومهندس وعالم رياضيات على متن قطار في الولايات الأميركية المتّحدة. ولدى وصول القطار إلى ولاية كاليفورنيا قال الصحفي: يبدو أن جميع الأبقار في كاليفورنيا سوداء، فبادر المهندس إلى تصحيح كلام الصحفي قائلاً: بل يجب القول: إنّ الأبقار التي رأيناها حتى الآن في كاليفورنيا سوداء، وهنا تدخل عالم الرياضيات قائلاً: بل يجب القول بأنّ الجانب الذي رأيناه من الأبقار في كاليفورنيا أسود!
إنّ النقطة المركوزة في ذهن الكثير من العلماء المسلمين هي أننا نعلم الكليات منذ الصغر، ولكن هذه المعلومات موجودة فينا بالقوّة، ولا تتحوّل إلى الفعلية والاستعداد إلاّ من خلال الاحتكاك والاصطدام بالواقع الخارجي. ولكي نتوصّل إلى صحّة هذه النظرية يجب علينا أن نبحث في أننا هل نمتلك نوعاً من العلم الكلي منذ أن خُلقنا أم لا؟ والشيء الذي يجب أن ندركه هو أن الذين يرومون البحث في المسائل الفطرية والبديهية يكونون متقدّمين في السنّ عادة، وقد اختزنوا الكثير من التجارب والعلوم. وإنّ تحديد المقدار الذي تعلَّموه في الأزمنة اللاحقة، وأيٌّ منها فطريّ، في غاية الصعوبة. وهنا تجدر بنا الإشارة إلى واحدة من النتائج التي أفرزتها جهود السيد الشهيد محمد باقر الصدر&. فإنه من خلال تعيين ثلاثة أساليب قد قدَّم لنا عوناً كبيراً في هذا الطريق السهل والممتنع، تغمّده الله بوافر رحمته، وأسكنه فسيح جنّته.
فقد أكَّد السيد الصدر& على أنّ المعلومات التي تزداد تدريجياً، ويشتدّ وضوحها بمرور الزمن، هي من نوع المعلومات التي نحصل عليها فيما بعد، ولا يمكنها أن تكون من المسائل الفطرية. وقد جاءت خلاصة هذا البحث في الصفحة 437 من كتاب «الأسس المنطقية للاستقراء». مضافاً إلى ذلك فإن السيد الشهيد الصدر قد عمد إلى بيان ثلاثة أساليب من أجل التفريق والتمييز بين المفاهيم الأوّلية (الفطرية) وبين الإدراكات التي يحصل عليها الإنسان بالتدريج، وهي:
1ـ إذا اتَّضح شيء من خلال ذكر أمور أكثر لن يكون ذلك الشيء من المسائل البديهية والأولية.
2ـ أن يرفض الفكر الإنساني كلّ نوع من أنواع إمكان الاستثناء والاستدراك على هذه القضية، حتّى وإن استطعنا أن نأتي بشواهد افتراضية على ذلك.
3ـ إذا كانت القضية في العوالم الافتراضية الأخرى (غير العالم المادي) معتبرة أيضاً كانت تلك القضية من الأمور الفطرية([6]).
وقبل أن ندخل في دراسة بعض المفاهيم الأساسية يجدر بنا بيان النتيجة التي ذكرها السيد الشهيد الصدر في هذا المجال. إنّ السيد الشهيد من الذين يذهبون إلى الاعتقاد بأن معلوماتنا الموضوعية ـ أي ما نحصل عليه من العالم الخارجي ـ كلها ناتجة عن نشاطنا الفكري الاستقرائي؛ حيث يقول: «إن التصديق بالواقع الموضوعي للعالم معرفة استقرائية»([7]).
وفي ما يلي نبحث في بعض المفاهيم الأساسية؛ لنثبت أن هذه المفاهيم فطرية أم اكتسابية:
1ـ نبدأ من مفهوم «الزمان». فهل مفهوم الزمان أمر فطري أم لا؟ هل كان مفهوم الزمان عبر المراحل التاريخية وحتى بين الأفراد بمعنى واحد؟ وهل مفهوم الزمان عند ابن سينا وابن عربي بمعنى واحد؟ هناك تعريفات كثيرة بشأن الزمان، وهذا في حدّ ذاته يُثبت أنّ هذا المفهوم في حالة تغيّر نحو الأفضل. وعليه لا يكون مفهوم الزمان ـ طبقاً للشرط الأول الذي ذكره السيد الشهيد ـ فطرياً.
2ـ مفهوم «المكان» بمعنى الفضاء الثابت والذي لا يقبل التغيير ـ طبقاً للشرط الثاني الذي يسوقه السيد الشهيد ـ مفهوم اكتسابي؛ إذ طبقاً لهذا الشرط إذا كان هذا المفهوم فطرياً (أولياً) لما أمكن للفكر الإنساني أن يتصوّر خلافه حتى على مستوى الافتراض، في حين أنّ النظريات الجديدة بشأن الزمان ـ المكان قد أثبتت إمكان هذا التصوّر. ومضافاً إلى ذلك هناك آيات وروايات كثيرة تدلّ على طيّ الأرض. ولو لم نؤمن بهذه الروايات فإنّه بمجرّد أن نستطيع تصوّر طيّ الأرض وقصرها يكون ذلك دليلاً على اكتسابية هذا المفهوم.
3ـ إنّ من الموارد التي تؤخذ على نحوٍ عقلي صرف علمَ الرياضيات. في حين أن الشرط الثالث الذي يذكره السيد الشهيد& يُثبت أن الرياضيات أيضاً ليست عقلية صرفة، وإنما هي مرتبطة بالأجواء المحيطة بها. ومن باب المثال: يقال: إن مجموع الزوايا الداخلية للمثلَّث تساوي 180 درجة (زاويتين قائمتين). في حين أننا إذا دقَّقنا النظر، فسوف ندرك أن هذه القاعدة لا تصحّ إلاّ إذا رسمنا المثلَّث على سطح مستوٍ. وأما إذا رسمنا هذا المثلث على سطح منحنٍ، فلن تعود مجموع الزوايا الداخلية لذلك المثلث 180 درجة. وعلى هذا الأساس وطبقاً للشرط الثالث فإن نتائج الرياضيات سوف تتغير بتغيّر العالم المحيط بالرياضيات. وعليه يجب القول بأن هذا العلم ينبثق عن المفاهيم الاكتسابية، دون الفطرية.
وهنا نقول: حيث لا تكون مفاهيم من قبيل: الزمان والمكان من الأمور البديهية والأولية فبطبيعة الحال لن تكون المادّة ـ التي هي مزيج من الزمان والمكان ـ فطرية أيضاً. وبالطبع كان باستطاعتنا أن نحصل على ذلك من الشرط الأول الذي ذكره السيد الشهيد مباشرة؛ وذلك لأن فهمنا للمادة متغيّر. ومن باب المثال: يمكن لنا أن نشير إلى اختلاف العلماء المسلمين في كون الملائكة من جنس المادّة أو من غير جنس المادة؛ لكونه مؤشِّراً على تغيُّر فهمنا للمادة والملائكة. وعليه عندما تكون هذه المفاهيم الجوهرية اكتسابية كيف يمكن لنا الادّعاء بأن جميع معلوماتنا وكلياتنا أوّلية وبديهية؟
وعليه لا مندوحة لنا من الاعتراف بأن معلوماتنا عن العالم الخارجي تقوم على نوعٍ من الاستقراء، كما ذكرنا تنويه السيد الشهيد في هذا المجال. وعليه فإمّا أن نؤمن بكفاية الاستقراء دون أيّ شرط آخر، أو أن نذكر أسلوباً آخر لإضفاء المشروعية عليه.
وقد ذهب السيد الشهيد الصدر& إلى القول بأنّ اليقين الحاصل من مرحلة الاستقراء يقينٌ منطقيّ، وذلك عبر سلوك المراحل التالية:
1ـ اليقين المنطقي أو الضروري: يمكن اعتبار هذا القسم معادلة، وهي عبارة عن حساب الاحتمالات. وإنّ لفظ اليقين هنا هو نفس حساب الاحتمالات، وإن لفظ اليقين هنا يعني المعادلة الصحيحة.
2ـ اليقين الموضوعي: إنّ تطبيق المعادلة المتقدِّمة على العالم الخارجي تستوجب حصول يقين موضوعي. وبالطبع فإن هذا اليقين يكون دائماً أقلّ من واحد، وهو في الحقيقة نوعٌ من الظن.
3ـ اليقين الذاتي: من خلال دراسة مجموعة من موارد اليقين الموضوعي من مختلف الجهات يحكم العقل بصحّة أو عدم صحّة قضيةٍ من القضايا. وإنّ هذا الحكم هو الذي يجعل الحركة الاستقرائية من وجهة نظر السيد الشهيد منطقية بشكلٍ كامل.
إننا في العقل المزدوج لا نصرّ على المنطقية الصرفة، وإنّما نصرّ على إضافة العنصر الذاتي والإرادي من الإنسان في دائرة معرفته. وعليه فإن الفارق بينه وبين حركة السيد الشهيد الصدر& تكمن في بيان عنصر الحكم الذي نعتبره تابعاً لمشاعرنا وإحاسيسنا، وليس في الجانب المنطقي من الإنسان. وبعبارة أخرى: إن اليقين الذاتي حركة إرادية ومتأثِّرة بعواطف الإنسان، ولها ارتباط وثيقٌ بسلوك الإنسان، في حين لم تذكر أيّ واحدة من هذه الخصائص في عمل السيد الشهيد الصدر.
الفصل الثالث: «العقل المزدوج» ــــــ
عندما تمّ طرح هذه الفكرة للمرّة الأولى، وقيل: نحن لا نستطيع بيان مسائل الفيزياء الذرّية بدقّة، ويجب أن نستعمل فيها نوعاً من حساب الاحتمالات، ثارت ثائرة العلماء، حتى نسبوا إلى (ألبرت أنشتاين) أنه قال: «إن الله لا يرمي بالزهر». ولكن كما تبيّن للعلماء على طول السنين فإنّ هذا العلم لا يقوم على أساس الصدفة وعدم العلم، بل على أساس الإذعان بضعفنا في قياس المادّة بشكل دقيق.
وبهذا حلّ العلم الإجمالي محلّ اليقين في علم الفيزياء الذرية.
وإن «العقل المزدوج» هو مشروع من هذا القبيل، وشبيه بهذا التغيير. بمعنى أنه لا وجود لـ «اليقين» في العقل بشكله المنطقي البحت، وأنه قد أخلى مكانه لليقين العملي والعلوم الإجمالية. والنقطة الهامّة الأخرى التي أخذت بنظر الاعتبار في هذه المسألة هي إدخال عنصر (الإرادة) و(الإمضاء الإلهي) في دائرة المعرفة الإنسانية. وطبعاً بسبب عدم اكتمال المشروع، وعدم اطّلاع الكاتب على تأثير عالم الملكوت على الإنسان، فقد تركنا القسم الثاني مهملاً تقريباً، واكتفينا بإيراد تذكير واحدٍ منه.
إن الذي تمّ التأكيد عليه في «العقل المزدوج» هو استبدال عنصر «الإرادة» بنوع من العلّية والمعلولية المنطقية. إن هذا الطرح ـ بعد الإذعان بأن نظام العلية والمعلولية لا يمكنه أبداً أن يحوّل (الظنّ القويّ) في الاستقراء إلى (يقين) ـ يُشير إلى نوع آخر من اليقين، موجودٍ عند جميع الناس، وهو اليقين الذي يحرِّكهم ويدعوهم إلى اتخاذ القرارات النهائية. وفي ما يلي نسوق كلمتين لأمير المؤمنين ومولى المتَّقين× يصرّح فيهما بأنّ عنصر اليقين إراديّ، وأنّه الدافع الرئيس لنا نحو القيام بأعمالنا:
قال الإمام علي×: «مَنْ لم يوقِنْ قلبه لم يُطِعْه عمله»([8]).
وقال× أيضاً: «سكِّنوا في أنفسكم معرفة ما تعبدون، حتّى ينفعكم ما تحرِّكون من الجوارح؛ بعبادة مَنْ تعرفون»([9]).
وكذلك قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ﴾ (البقرة: 282) فيه دلالة صريحة على تأثير عمل الإنسان على معرفته. وإن المسار الفلسفي في إيجاد هذا المفهوم الجديد هو:
1ـ إن الإنسان في بداية خلقته لا يحمل أيّ انطباع عن العالم الخارجي المحيط به. وإذا كان لديه سلسلة من المعلومات الأولية، فطريّة أو أيّاً كان اسمها، فإنّه ليس لها أيّ تأثير على هذه الحركة.
2ـ إن جميع المفاهيم التي يحصل عليها الإنسان إنّما تكون على نحو تدريجي، وهي من نوع الحركة والانتقال من الجزء إلى الكلّ. وعلى هذا الأساس لا يمكن الحصول على مفهوم كلّي منطقي. وبعبارة أخرى: إن جميع كلياتنا واستنتاجاتنا من العالم الخارجي إنما هي حصيلة عملية استقرائية.
3ـ إنّ أهمّ نقطة في هذا الطرح تكمن في هذه الناحية، وهي: كيف ننظر إلى مسألة الاستقراء؟ قيل: إن الاستقراء يرفع دائماً من قوّة الظن من خلال حساب الاحتمالات، ولكنه لا يبلغ بها إلى حدّ اليقين. ومن جهة أخرى هناك في وجودنا عنصر يدعونا إلى (العمل)، وهذا العنصر هو الذي يردم الهوّة الواقعة بين (الاحتمال القوي) وبين (اليقين)، وهي الحركة التي تبدأ بفعل إرادة الإنسان، وتتحوَّل إلى يقين بإمضائها من قبل الله تعالى. وعلى هذا الأساس فإن اليقين فعل إراديّ للإنسان يقترن بتوفيق الله، ويمكن لنا أن نطلق عليه لفظ (الإيمان) أيضاً.
4ـ إن (اليقين) في هذا الطرح لا يعني الوصول إلى الواقعية الخارجية، بل هو عنصر يدفعنا نحو العمل. وبطبيعة الحال فإنّ ردّة الفعل الناجمة عن فعلنا تستعمل بوصفها تجربة أخرى لتطوير وتحسين معرفتنا للعالم الخارجي.
5ـ بالالتفات إلى ما تقدَّم فإن (المعرفة) ليست حركة ذات مرحلة واحدة، بل هي حركة فكريّة دائبة ودائمة، ذات (مراحل سكونية) تسمّى باليقين أو الاعتقاد.
6ـ حيث يكون للإمضاء الإلهي، وكذلك لسلوكنا، تأثيرٌ في مسألة المعرفة، لذلك يتمّ طرح التقوى بوصفها عنصراً رئيساً في المعرفة.
7ـ إن انتقال الفكر من شخصٍ إلى آخر على شكل إثبات منطقي سيغدو ممكناً، بل يتمّ عبر التذكير من قبل الشخص الأول، والإيمان من الشخص الثاني.
8 ـ وفي هذا الطرح يكون (اليقين) على شكل العلم الإجمالي العملي، وليس العلم الدقيق المنطقي النظري.
9ـ إن أسلوب الاستدلال الصحيح الموجود في هذا الطرح يتطابق مع القوانين الموجودة في الرياضيات تطابقاً تامّاً. بمعنى أنّه في كل نوع من أنواع الاستدلال يجب في البداية تعريف الفرضيات المسبقة. وبذلك تقوم هذه الفرضيات المسبقة بدور (الكليات) في القضايا المنطقية. فإذا لم نتوصَّل إلى نتيجة من خلال هذه الفرضيات المسبقة، أو قامت النتيجة المذكورة بنقض هذه الفرضيات، وجب حينها القيام بتغيير هذه الفرضيات المسبقة. وفي هذه الصورة يمكن لنا أن نعتبر النتائج الحاصلة منطقية (في إطار افتراضي محدود).
الفصل الرابع: توظيف العقل المزدوج في الأصول ــــــ
تقدَّم في الفصل الأول أن استعرضنا بعض النقاط على ضعف الاستفادة من المباني الفلسفية في أصول الدين. وكما ذكرنا هناك فإن أصل طرح العقل المزدوج إنما كان من أجل رفع هذه الإشكالات المذكورة والتغلّب عليها، وإيجاد مبنى جديد قائم على أساس الروايات الإسلامية؛ لكي نكون قد وفّقنا إلى تأسيس نظام طبيعي ومتناسب بين العقل والنقل.
وفي هذا الطرح ستكون حركتنا العقلية في أصول الدين على النحو التالي:
أـ الفرضيات المسبقة: إنّ الفرضيات المسبقة في الإسلام هي التي تكون شرطاً في قبول إسلام الفرد. بمعنى ليس مجرّد الاعتراف بالوجود، بل وكذلك الاعتراف بوحدانية الله تعالى، والنبوة لخاتم الأنبياء|.
وعلى هذا الأساس فإن أسلوب التحقيق يكون قائماً على الأصول التالية:
1ـ أن ينظر إلى عالم التكوين وعالم التشريع بوصفهما أساسين لاكتساب المعرفة بالواقعيات والحقائق.
2ـ كما تقدّم في طرح العقل المزدوج يمكن للعقل المنطقي أن يعمل في إطار الفرضيات المسبقة المتقدّمة على شكل قياس.
3ـ حيث إن العثور على (وجه مشترك) الصغرى والكبرى في القياس، وهو في حقيقته عبارة عن عملية استقرائية، يجب أن نستعين بالله؛ لكي ينجينا من الوقوع في الأخطاء من هذه الناحية.
ب ـ الاستنتاج: لو التفتنا إلى طبيعة العمل في الفقرات المتقدّمة فسوف ندرك أن الحركة المعرفية في الإسلام إنما هي من قبل الله نحو الجزئيات، وليس العكس: «اللهم عرّفني نفسك، فإنك إن لم تعرّفني نفسك لم أعرف رسولك. اللهم عرّفني رسولك، فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجّتك. اللهم عرفني حجّتك، فإنك إن لم تعرّفني حجّتك ضللت عن ديني»([10]).
إنّ الفقرة الأخيرة من هذا الدعاء تثبت بوضوح كامل أهمية الرجوع إلى «النصّ» والروايات؛ من أجل إدراك المفاهيم بشكل صحيح. والموضوع الآخر الذي يمكن ذكره بوصفه نتيجة عن الحركة المتقدّمة هو أن التشريع (النقل) يظاهر التكوين (العالم الخارجي)، ويجب أن تكون النتائج الحاصلة متطابقة على الدوام مع هذين المصدرين. وعليه فإذا كانت النتيجة مخالفة للنصوص الإسلامية نكون حتماً قد ارتكبنا خطأ في مسارنا الفكري.
الفصل الخامس: الاستنتاج ــــــ
سعى عددٌ من علماء إلى التأكيد على أنه طبقاً لمعرفتهم بالمصادر الإسلامية فإننا لا يجب ولا نستطيع أن نثبت الله. وبطبيعة الحال يمكن أن تكون لنا حركة منطقية عقلية في ما يتعلق بمعاني صفات الله، وكذلك مفاهيم المُلْك والملكوت، ومقام الأنبياء والأئمة، وسائر الموارد المذكورة في نصّ الآيات والروايات.
والنقطة الأخرى التي يروم الكاتب بيانها في هذا الفصل أنّ الحركة العقلية الصرفة من أجل إثبات الأصول الدينية لم تكن حركة موفّقة، وكان فيها بعض الثغرات الطفيفة، التي تتضح من خلال البحث والتدقيق. فمثلاً: إن إثبات المعاد للذين لا يؤمنون بالوحي والإسلام بنفس الأساليب التي كانت متداولة حتى الآن لا يمكن أن يكون ممكناً من ناحية العقل المنطقي. وإنما يجب التذكير به فقط، وبيان المراد بشكلٍ واضح وصريح. أجل، إن إثبات النظريات على أساس الروايات بالنسبة إلى المسلمين هي عملية عقلية في حاضنة النقل، وهي عملية مقبولة.
الهوامش
(*) باحثٌ في الفكر الإسلامي المعاصر.
([1]) أسس معرفة الله في الفلسفة الإغريقية وعند الفلاسفة اللاهوتيين.
([3]) مجموعه آثار (الأعمال الكاملة) 4: 793 ـ 794.
([4]) الحياة 2: 332 ـ 333، نقلاً عن بحار الأنوار 2: 52، عن (مصباح الشريعة).
)[5]) see: Goleman, Daniel. Emotional Intelligence Why it can matter more than IQ.
([6]) الأسس المنطقية للاستقراء: 439.