تهدف هذه الدراسة إلى تقديم معرفة بكتاب "بغية الرَّاغبين في سلسلة آل شرف الدِّين"([1]) بوصفه كتاباً يتضمن كتابةً مختلفةً متميِّزةً، تتنوع بين الترجمة والسيرة والتاريخ السياسي والأدبي والعمراني، وتهدف، بمختلف هذه الأنواع، إلى أداء وظيفة اجتماعيَّة واحدة إصلاحيَّة، سوف نحاول تبيّنها بعد قليل.
تؤدَّى هذه الكتابة بلغة أدبيَّة متميِّزة تتيح لها أن تنهض بأداء تلك الوظيفة من طريق إبلاغ المتلقي الرسالة التي تحملها في مناخٍ من المتعة الأدبيَّة.
ويبدو أن المؤلف كان يدرك تنوّع كتابته، فوضع لكتابه عنواناً ثانوياً هو: «تاريخ أجيال في تاريخ رجال، كتاب نسب وتاريخ وتراجم»، كما أنه يحدد هدفه من وضع هذا الكتاب، فيقول: "وضعته أداءً لحقوق الآباء والأرحام، وشكراً لجهودهم في دين الإسلام، ودلالة للخلف على جادة السلف، ليعرفوها، وإرشاداً للأبناء إلى سبيل الآباء ليقتفوها، فإن فعلوا ذلك فقد حفظوا جدودهم (حظوظهم) وإلاَّ فليضرعوا خدودهم. وأعيذهم بالله أن ينقضوا محكم بنائهم، أو يسلكوا غير سبيل آبائهم: >ومن يشاقق الرَّسول من بعدما تبيَّن له الهدى، ويتَّبع غير سبيل المؤمنين نولِّه ما تولَّى<" (1/9).
فالهدف المحدَّد هو أن يتبع الخلف «سبيل المؤمنين» المتمثِّل في جادَّة السلف، فيكون هؤلاء، في تراجمهم وسيرهم وتاريخهم، قدوة تقتدى وتخلَّد طوال الزمن، ولعلَّ هذا ما يشير إليه الاستخدام اللغوي، اختيار «سلسلة»، و«تاريخ أجيال»، فكل جيل حلقة في سلسلة تمتد إلى ما شاء الله…
وإن كنا لاحظنا جماليَّة الاستخدام اللغوي في عبارة العنوان الثاني، فإننا نلاحظ جماليَّة هذا الاستخدام في الفقرة التي اقتبسناها، وتتمثل هذه الجمالية في خصائص، منها: المعجم اللغوي السهل، بنية العبارة البسيطة المتينة في آن، توازن العبارات وتقابلها، في نسق يقترب بها من الشعر، الإيقاع الناظم للتوازن المتمثل بتكرار الأصوات، وتنوّع الخطاب بين خبر وشرط، وخبر يخرج إلى معنى استحالة ألاَّ يسلكوا الجادَّة المعنية، ويستشهد على ذلك بآية كريمة تؤكد ما يذهب إليه، وتضع المتلقي أمام مسؤوليته بعدما تبيَّن له الهدى، ما يعني أن هذا الكتاب هو سعي في تبيين الهدى، ونهوض بالواجب، فما ينظم هذه الكتابة هو هذه الرؤية المتمثلة ببيان الهدى، وتحديد سبيل المؤمنين، إنها – أي هذه الرؤية – المبدأ/القانون الذي يحكم تشكل بنية هذا الكتاب ونظام علاقات مكوِّناته.
وهكذا نرى أن اللغة توظف، أيضاً، في سبيل أداء هذه المهمة بنجاح، فتكون هذه الكتابة أدبيَّة أيضاً في الوقت نفسه الذي تكون فيه أداة إيصال ترجمة أو سيرة أو تاريخ…
ويصرِّح المؤلِّف، في غير موضع من كتابه، بالهدف من كتابته، فعلاوة على ما سبق ، نذكر بعض النماذج الأخرى على سبيل المثال فحسب:
– من المعروف أن العلماء الكبار المتفرّغين للفقه والفتوى… كانوا يربأون بأنفسهم وأوقاتهم عن الشعر ونظمه، وقد سمَّى الشيخ عبد الحسين صادق ديوانه الكبير المتضمِّن شعراً جيداً «سقط المتاع». يقول المؤلِّف عن مراسلات الأخوين السيدين صالح ومحمد: «وشعرهما يدل على أنهما كسائر من قصر أوقاته على العلم ممن يربأ بنفسه وأوقاته عن القريض ونظمه…».
ويقول عن شعر السيِّد صدر الدين: "وكان يرتجل الشعر ارتجالاً ويقتضبه اقتضاباً، ولا يسهر عليه جفناً، ولا يكدّ فيه طبعاً، ولا يثبته في ديوان»، ويعلِّق في الهامش: "وقد ضاع شعره في إيران ضيعة البدر في ليالي الشتاء".
ثم يورد أبياتاً للسيد صالح، ويقول بعد ذلك: "وما كنت لأورد هذه الأبيات لولا أنها تمثِّل حناناً يوجب على أولاد هذين السيدين وأحفادهما أن يتبادلوه بينهم في كل خلف" (1/144 و145 و160).
وعندما يتحدَّث عن السيد إسماعيل يروي بعض نوادر كان السيد يحدِّث بها أولاده، ويقول: «وكان سيدنا الفقيد يحدِّث أولاده بأمثال هذه النوادر عنه وعن غيره تهذيباً لهم وإرشاداً إلى مكارم الأخلاق، وأن العلم والفضل والانتساب إلى الأكابر وشرف العائلة لا ينبغي أن يكون سبب غرور الرجل وتكبّره وترفّعه، بل الواجب أنه كلما ارتفع رتبةً عند الناس وخصَّه الله بفضيلةٍ ازداد تواضعاً، وأن خير معرّف للرجل بين الناس فضله وعلمه وتقواه، وأن الرجل يلزم أن يكون صادقاً في توكله، ثابتاً في عزمه غير متلوِّن" (1/211).
وهذه، كما يبدو، كتابة في الأخلاق، تضاف إلى ما سبق ذكره من أنواع الكتابة، ما يعني أن هذا الكتاب، كما سبق أن قلنا، يتضمن أنواعاً كثيرة من الكتابة الهادفة إلى أداء وظيفة واحدة سبق أن ذكرناها.
وإن تكن هذه الكتابة تصدر عن رؤية معيَّنة، فإن مادَّتها الأوليَّة مأخوذة من مصادر موثوقة، ما يعني أن هذه المادة نفسها، في الأساس، أو في طبيعتها، تمثِّل تلك الجادَّة/سبيل الله، ومن هذه المصادر نذكر:
1 – أحاديث وأخبار شفويَّة عن والده وجدّه وخاله وابن عمِّه.
2 – مجاميع تضمَّنت تراجم لرجالات آل شرف الدين ومنَجَزات عائلية.
4 – قصائد تضمَّنت معلومات أو مقولات أو دلالات يمكن الإفادة منها (1/ج).
ويبدو أن المؤلف كان يجيد استقراء النصوص الشعرية، والإفادة منها، ومن نماذج ذلك نقدِّم، على سبيل المثال، ما يقوله عن نكبة عاملة أيَّام الجزار، ومحنة الشيخ إبراهيم يحيى آنذاك، يقول: «يفهم ذلك من لاميته العصماء، وهي تربو على مئة بيت شكا فيها ضرَّه ومحنته في تشريده، متذمِّراً من سوء حاله في بعلبك ومتشوِّقاً إلى أهليه، ومما جاء فيها مخاطباً لهم:
سقـى الله مغناكم وجاد بلادكـم
|
|
من الغيث محلول النطاق هطول…».
|
وإذ يستقرئ الشعر، يشرح ويعلِّق، ويؤرِّخ للشاعر، ويختار نماذج من شعره تنتظم في المحور المركزي/الهدف أو الوظيفة، ما سبق أن ذكرنا، ومنها خطاب الشيخ في قصيدته هذه لولي الأمر وصاحب العصر (عجَّل الله فرجه):
فيا ابن الإمام العسكـري إلـى متـى
|
|
يـرجِّيك جيل فـي الزمان فجيل
|
وإن يكن هذا الصَّنيع تأريخاً للشعر، فإن في الاختيار نفسه ما يدل على تذوّق مرهف للجمالية الشعريّة، متمثلة، في هذه الأبيات، على سبيل المثال، في ثنائيات التناظر والتضاد: تلاف = تلافه، عقاله # عقول، الرَّي = روضة # ذبول، والتكرار الصوتي القاف الدال، وتكرار الألفاظ، والمجاز وتنوّع الخطاب الخ… وهذا يعني أنَّ المؤلِّف يمتلك كفاءة المؤرِّخ والناقد المتذوِّق، القادر على اختيار ما تتوافر فيه الصفتان: الجمالية الشعرية، والدلالة المنتظمة في المحور المركزي.
تحتاج إجادة هذه الكتابة إلى كاتب مختلف غير عادي، إمام في مختلف هذه المجالات، والسيِّد عبد الحسين شرف الدِّين، بشهادة عارفيه، وقارئي مؤلفاته، هو هذا الكاتب الإمام، فقد كان كما هو معروف «إماماً في اللغة وعلوم العربيَّة وآدابها والمنطق والتاريخ والحديث والتفسير والرجال والرواية…»، علاوة على «أن أسلوبه يكاد يكون نسيج وحده» (1/و)، ويتساءل المحقق آقابزرك الطهراني، في سياق ترجمته له فيقول: «أهو مجتهد فاضل، أم متكلِّم بارع، أم فيلسوف محقق، أم أصولي ضليع، أم مفسِّر كبير، أم محدث صدوق، أم مؤرخ ثبت، أم خطيب مصقع، أم باحث ناقد، أم أديب كبير؟» (2/602).
وقد وظَّف هذه القدرات جميعها في مسار تحقيق الهدف الذي حدَّده، فاتخذ موقعاً في النهضة الإصلاحية الإسلامية يتحدَّث عنه الأستاذ محمد علي قاسم فيقول: إنه ثالث ثلاثة، «فهو يلي في نهجه الإصلاحي ودعوته البنَّاءة، جمال الدِّين الأفغاني وتلميذه مفتي الديار المصرية محمد عبده…» (1/ب).
تقتضي هذه الكتابة استخدام منهجية قوامها: أولاً طيّ التفاصيل وإيثار الإيجاز، ومما يقوله في هذا الصدد: «نطوي التفاصيل كما طويناها في ما سبق من كلامنا إيثاراً للإيجاز الذي إن تعدَّيناه تجاوزنا إلى تاريخ العراق في هذه الفترة، وهذا ليس موضوع الكتاب» (1/376)، وثانياً، التركيز على موضوع القول، كما يفيد ما اقتبسناه، وإن كان من استطراد إلى قضية ما ينتهي إليها الكلام فيلمّ بها إلماماً، ومما يقوله في هذا الصَّدد: «لما انتهى بنا الكلام إلى الحياة العلميَّة رأينا أن من المناسب أن نلمّ بها في سبيل الاختصار، كما هو الشأن في كل ما يذكر مستطرداً» (2/78). وثالثاً، الإعراض عن التفاصيل الشخصيَّة والتركيز على موضوع الحديث، فلدى زيارته إلى دمشق للقاء الملك فيصل لقي من الاهتمام ما يكتب "في تاريخ مذهَّب مجنَّح"، لكنه لم يكتب هذا، وقال: "لنا في دمشق ذكريات زهر، لو كان غيري رجلها لنشرت صحفها، وفصَّلت مواقفها في تاريخ مذهَّب مجنَّح، ولكني أعرض عن التفاصيل وأطويها في جمل تنسجم وهذا النسق المتواضع» (2/157)، ورابعاً، تسجيل الحقائق، وإن بدا منها ما هو خارق للعادة يفسِّره، ومن نماذج ذلك نذكر أنه لدى ترجمته للسيد صدر الدين ابن السيد صالح سجَّل أنَّ هذا السيِّد كان إذا زاره زائر من البلاد العامليَّة يكلمه بمصطلح أهل تلك البلاد لا يخرم ألفاظهم ولا لهجتهم، ولا تفوته أمثالهم السائرة في محاوراتهم، شأن الألمعي من أهل عرفهم الخاص الواقف على جلائل أمورهم ودقائقها، كأنه لم يفارق جبل عامل وأهله منذ استهلَّ حتى اكتهل، علماً أنه غادر تلك البلاد وهو في السادسة من عمره، ثمَّ لم يرجع إليها حتى لحق بربه، وهذه خصيصة تكاد تلحق بخوارق العادات». وإذ يسجل هذه الخصيصة ويتبيَّن طبيعتها: «تكاد تلحق بخوارق العادات»، يستدرك فيذكر مصدر معلوماته المتمثِّل بالسيد هادي وهو ابن أخي السيد صدر الدين، وبالسيد محمد هاشم الموسوي الأصفهاني وهو صهر للسيِّد، ثم يفسِّر هذه الخصيصة بأن السيد أخذ عن والديه كثيراً، ثم إنه كان يأنس بالعامليين فيسعى إلى لقائهم والأخذ عنهم، علاوة على أخذه من السيد قاسم عباس الموسوي نزيله وتلميذه…، وإذ يذكر السبب يقول: "وبهذه التقريبات تخرج هذه الخصيصة عن خوارق العادات» (1/148). وخامساً، الموضوعية، وإعطاء ذوي الحقوق حقوقهم، فلدى حديثه عن السيد محسن الأمين، يقول: «علاّمتنا الحجة الكبير السيد محسن الأمين قدس سره" (1/15)، ما يدلّ على أنَّ الكلام الذي يُقال عن خلاف بين العالمين الكبيرين، إن صحّ، ليس له أي تأثير لا على موضوعيَّة البحث ولا على الموقف، وهذه هي أخلاق العلماء والباحثين. وسادساً، الانطلاق من مبادئ في التاريخ للرجال والأحداث، فلدى ترجمته للسيد حسن بن السيد الهادي، يتحدَّث عن أستاذه الميرزا محمد حسن الشيرازي، فيبدأ القول بـ«هو الإمام المجدِّد…»، ويعلِّق في الهامش بأن المعروف بين المسلمين أن الله عزَّ وجلَّ يقيِّض لهذا الدِّين على رأس كل مئة سنة من يجدِّده ويحفظه، ويستشهد بالحديث الشريف الذي ينصُّ على ذلك، ويحقِّقه، ثم يذكر ما يثبت رأيه فيذكر المجدِّدين، على رأس كل مئة سنة، في التاريخ الإسلامي (1/302 و303).
إن علماء المنهج والمنهجيَّة يعودون في ما يعودون إليه، ليضعوا مبادئهم وإجراءاتهم، إلى إنجازات العلماء الكبار، وها نحن نتبيَّن، هنا، منهجيَّة لهذا النوع من الكتابة الذي صنَّفناه تحت عنوان: «الكتابة – تاريخ الأجيال: تعدد النوع ووحدة الوظيفة».
وإن تكن أولى مهمَّات هذه الكتابة أن تتبيَّن الجادَّة/ سبيل المؤمنين، فإن أهم ما ينبغي إنجازه في هذا المجال هو تبيّن صورة من يخطّ هذه الجادّة ويمضي في سبيلها، ويكون قائداً يتَّبع. يتبيَّن السيد عبد الحسين شرف الدين صورة هذا القائد مجسَّدة عملياً في نماذج كثيرة من الذين يترجم لهم، ومن هؤلاء، على سبيل المثال، السيد محمد بن الحسن بن الهادي الصَّدر، إذ رأى أن للقيادة صورة مؤتلفة في روحه وبدنه وشخصيته، وتتمثَّل هذه الصورة ليس في البطولة والبسالة فحسب، وإنما في صفات أخرى أيضاً، ومنها، أولاً، أن القائد ينبغي أن يكون مؤمناً، وأن يجاهد عن عقيدة وإخلاص، وثانياً، أن يكون مفكِّراً حكيماً، واسع العقل بعيد الغور يقلِّب الأمور بطناً لظهر، وثالثاً، أن يدلي بالرأي ويشاور ثم يتخذ القرار، ورابعاً، أن يمضي بعزم إلى تنفيذ القرار بعد أن يُتَّخذ من دون وهن ولا عناء، وخامساً، أن يندفع بنفسه في الميدان، ينهد في الرعيل الأول، وسادساً، أن تكون مواقفه وحدةً وأن يكون موقفه عنواناً لهذه الوحدة…، وبعد أن يتبيَّن السيِّد هذه الصفات يقول: «… ولعلَّ لهذه الخصائص ترجع زعامته، وبهذا تفسَّر شعبيته» (1/364 و365).
وفي أنموذج آخر هو أنموذج العالِم المتفرِّغ للعلم، هو أخوه السيد شريف، يتبع الطريقة المتبعة في تراجم الرجال، فيذكر نسبه ومكانته العلميَّة وأخلاقه، ومولده وتحصيله وأساتيذه ومشايخه وشهادات العلماء فيه ومؤلفاته وشعره ووفاته، ومرضه ووصيته وفرحته عند لقاء الله تعالى ومآتمه ومراثيه، وهذه ترجمة وافية، جاءت كما يقتضي علم التراجم أن تجيء، ولكن ما تتميز به ترجمة السيد شرف الدين، علاوة على ما سبق ذكره، أولاً، التقاط تفاصيل تمثل "صورة بارزةً عن قداسة أولئك الصفوة الهداة، وعن شعورهم بالواجب تجاه خالقهم وإخوانهم"، فالسيد شريف، كان يأتي زميله وصديقه السيد حسن محمود الأمين، بعد أن أصيب بالحمى، وفقد الشعور والإدراك ونسي كل شيء حتى الصلاة وأفعالها وأقوالها، في أوقات الصلاة، ويجلس إلى جانبه، ويقول له: قل وافعل كما أقول وأفعل (2/12)، وثانياً، التركيز على ما يتميَّز به المُترجم له، فإن كان السيد محمد الحسن الصدر قد تميَّز بالقيادة/الزعامة وتوافرت له شروطها، فإن السيد شريف تميَّز بالانصراف إلى العلم، والعمل، ينفق أوقاته عليهما «ويخلي ذرعه على التبحّر في الفقه والأصول، وكان يكره الشهرة والظهور، كما أشار إليه بعض الأفاضل في رثائه؛ حيث يقول:
ولديك أسـرار كتـمـت بيانـهـا |
|
وهـي الحقـيـقـة لـو أذاع الكاتـمُ |
السيرة الذَّاتيَّة
ولعلَّ الأنموذج الأبرز هو «السيرة الذاتية»، في هذا الكتاب، والسِّيرة كما نعلم أنواع، وقد اقتضت طبيعة الكتابة التي تحدَّثنا عنها أن تكون سيرة السيد الذاتية في هذا الكتاب مزيجاً من الترجمة الذاتية، والسيرة المقالة؛ إذ لم يعن السيِّد بسرد تفاصيل وقائع حياته اليوميَّة، كما لم يهتم بوصف الأمكنة والأشياء والناس، وصفاً مفصَّلاً، وإنما اختار مراحل بارزة من حياته، وتحدَّث عنها كأنه يتحدَّث في قضيَّة من القضايا التي يعالجها عادةً، ومن أبرز هذه المراحل: مولده، نشأته، طفولته، دراسته، مشايخه والآخذون عنه، وإجازاته ومؤلفاته وعودته إلى عاملة، ومقاومته للاستعمار: مؤتمر الحجير، التشرّد والنفي، العودة والمشاريع الإصلاحية والتربوية التي نفَّذها، حجّه، زيارته ومشاهده… وتتخلل ذلك استطرادات عن الحياة العلميَّة، وتاريخ جبل عامل إبَّان مواجهة الاستعمار الفرنسي.
والتقنيَّة الأكثر استخداماً في السَّرد هي تقنية التلخيص التي تلائم هذا النوع من الكتابة، ومن نماذج استخدامها على سبيل المثال نذكر: "أقمنا بين ظهرانيهم سنة واحدة، فكانت أجزل أيامنا فائدة، وأتمها عائدة، وأرجاها منفعة، قرأت فيها "شرح اللمعة" في الفقه، و"مباحث الألفاظ" من "فصول الأصول" (2/67).
وتبدو، في هذه المراحل، إشارات دالَّة على طبيعة الجادَّة – النهج التي تحدَّثنا عنها آنفاً، ومن نماذج ذلك نذكر على سبيل المثال فحسب:
لدى الحديث عن تربيته في المرحلة الأولى من عمره يقول متمثِّلاً:
لا عـذَّب الله أمِّـي أنـها شربـت
|
|
حبَّ الوصـيِّ وغـذَّتنيه في اللَّبن (2/63) |
ولدى الحديث عن لقائه بخاله العلاَّمة السيد محمد حسين، يذكر أن هذا العالم كان يبكي فرحاً بلقاء الأحبَّة، متمثلاً:
هجم السرور عليَّ حتـى أنَّه
|
|
من فرط ما قد سرَّني أبكاني (2/66)
|
وهذا يدل على طبيعة العلاقات العائلية، ورقَّة عاطفة هذا العالم الجليل، الحازم.
ولدى حديثه عن الأب الرحيم، المدرِّس الناجح، يقدِّم صورة فريدة عن العلاقة بين الأب وابنه من نحو أول، وبين المدرِّس وتلميذه من نحوٍ ثان (تراجع: 2/64 و65). ثم لدى حديثه عن العلاقة بالأب في ما بعد، يقول: إن والده أجمع على رجوعه من العراق، «ولم يكن لنا بد من النجوع لأمره» (2/104)، وعندما عاد إلى شحور كان في خدمته، عملاً بما أدَّب الله به عباده.
كما يقدِّم الصورة نفسها للأم الحنون العاقلة المدبِّرة المترفِّعة…، وعن الزوجة يقول: «كانت من خيرة الفاطميات في كل أمر يعلو به شأن الخفرات من حيث الدِّين ومن حيث الدنيا ومن كل جهة» (2/65).
أما العلماء الذين تلقَّى العلم على أيديهم فهم:
علمـاء أئـمـة حكمـاء
|
|
يهتدي النجم باتباع هداها (2/73).
|
ويقرّ بفضل جدِّه السيد الهادي وخاله الحسن والسيد إسماعيل الصدر، ليس على المستوى العلمي فحسب، وإنما على المستوى التربوي أيضاً فيقول: «ولهم في تربيتي والهيمنة عليَّ – في ما آتاهم الله من علم وحلم وحكمة – أساليب حملوني بها على طريقتهم المثلى، وضربت على قالبهم، واستفدت من جلواتهم، وخلواتهم، ومن مظان الفراغ من أوقاتهم أضعاف ما استفدته من سائر دروسي…» (2/77).
ولعلَّ هذا ما قصدناه عندما تحدَّثنا عن الجادَّة – سبيل المؤمنين، وهي هنا الطريقة المثلى التي يضرب المرء على قالبها وأساليبها، ومن مظاهر هذه الطريقة المثلى أنه قال لمدير مكتب الملك فيصل، عندما أراد أن يعطيه مالاً: "إننا لم نثر من أجله، في سبيل المال، وإنما هي عقيدة درج عليها كل شيعي منذ عهد الإمام عليB".
وفي ثنايا هذه السيرة الذاتيَّة، كما في ثنايا التراجم، نجد تاريخاً ثقافياً إن صحَّت التسمية، ونعني به التاريخ الذي يشمل ليس تاريخ الأحداث السياسية فحسب، وإنما الأحداث الأخرى أيضاً، ومنها: العلمية، والتربوية، والأدبيَّة والعمرانيَّة وهو في ذلك يسعى إلى تحقيق الهدف نفسه الذي ذكر أنه وضع كتابه من أجله، وفي ما يأتي نقدِّم نماذج دالَّة.
يبدأ الكلام على الحياة العلميَّة بالقول: إنَّ سلطان العلوم الإسلاميَّة كان مشيَّد الأركان رفيع البنيان، وكانت دولتها مزدهرة وعواصمها مثابة للناس وأمناً… ينفر إليها من كلِّ فرقةٍ طائفة ترى في العلوم الدينية وما إليها غاية من أسمى الغايات، ولهذا احتشدت الجامعات بأمم من الطلاَّب تختلف أشكالهم ولغاتهم وأعراقهم، وتتّحد مبادئهم وأغراضهم. وهذا هو المبدأ الأساس الذي تبينَّاه في كتابه، وهو التنوّع والوحدة في آن. ثم يقول: إن هؤلاء الطلاب كانوا مؤمنين مخلصين…، وكان الانتخاب من بينهم طبيعياً، فيتم اختيار من كان أقوى على المصلحة وأرضى بالعبء وأدنى إلى الكفاية الجامعة لشروط الفضل والبر والتقوى وصدق النظر، وإذا اختار هذا الانتخاب العادل فرداً من ذلك المجموع الصالح كله للقيادة أذعن الجميع راضين محبورين، وآثر المختار سواه، وأشفق ألاَّ يكون قادراً على النهوض بالمهمة كما يجب، فالجميع «يستشرفون في الزعامة مركز المصلحة لا مصلحة المركز، ويستقبلون قيادة الكرسي لا كرسي القيادة»، وهذا، كما يضيف، هو سرّ النهضة العلميَّة، وما يؤسف له هو أن شبحاً كريهاً يحاول أن يقبض على تلك الأحلام المحقّقة ليخنقها، وما يضاعف الأسف أنه شاهد تلك الدولة إبان عظمتها… (راجع: 2/78)، فما يريده السيِّد هو أن تعود دولة العلوم الإسلاميَّة، لتتحقق النهضة بتحقّق سرّها.
وفي موضع آخر يتحدَّث عن أهمية العلم ورؤية الإسلام إليه، فيستشهد بالآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبويَّة الشريفة التي تدلّ على أنه ليس من دين يفهم من أسرار العلم ما يفهمه الإسلام الحنيف (راجع: 2/120 و121). ويرى أن الغرب دهمنا بخيله ورجاله، فاستحوذ علينا دخولاً في مدارسه وإصغاءً في وساوسه، فاندفعنا نزج بأفلاذ أكبادنا إلى أحضانه حتى إذا خرج الفوج الأول من شبَّان الجيل المأمول علمنا أن الخسارة أكبر من الرِّبح والإثم أكبر من المنفعة،… وفي سبيل تحصيل علم يرجع لنا اليقظة التي بُني عليها تاريخنا المجيد، وفي مصارعة هذا التيَّار أوحى إليه الواجب الديني أن يقوم بتأسيس المدرسة الجعفريَّة على الشرط الذي كان يفكِّر فيه من بعيد…،
ويمكن أن نجد، في كلامه على طرائق التدريس، قراءةً على والده (2/64) ومباحثةً في الحوزة العلميَّة (2/71) ما يقدِّم وثيقة تاريخيَّة تربويَّة، من نحوٍ أول، وطرائق يمكن أن تتم الاستفادة منها من نحوٍ ثانٍ، ذلك أننا نجد في هذه الطرائق عناصر ممَّا يسمَّى اليوم «التعلُّم الذاتي»، فقد كان الطالب، على سبيل المثال، يعود إلى كتب النحو ليعرف إعراب العبارة وتفسيرها قبل الدرس كل يوم، وكان يعود إلى القاموس ليشرح غريب أبيات الشعر التي يحفظها، هذا على مستوى المرحلة الأساسيَّة في التعليم، أما في المراحل الأخرى، فقد كان الأستاذ الشيخ يستفزّ الطالب إلى إعمال النَّظر في معضلات المسائل؛ حيث تختلف أنظار العلماء، ويدفعه إلى مناقشة حجته ومعارضتها…، وهذه الطرائق سوى التلقين، ويمكن لنا أن نفيد منها، ما يعني ضرورة العودة إلى تاريخنا التربوي لنفيد منه لا أن نكتفي بما يقدَّم لنا جاهزاً، فنقبل عليه مستهلكين.
ما علينا فعله هو أن نعود إلى تراثنا ونعرفه، ثم نعرف ما يفِد إلينا، ونرى إلى حاجاتنا، ونصوغ، من ثمّ، ما ينهض بأداء هذه الحاجات وفاقاً لمنظور تكوّنه منظومتنا التربوية التي أسهم السيد شرف الدين وأمثاله في وضع أسسها، انطلاقاً من الرؤية الإسلامية الشاملة.
في الكتاب مختارات شعريَّة كثيرة، وقد مرَّ بنا أن السيِّد كان يجيد الاختيار، ويمكن أن نتبيَّن طريقته في الاختيار من تعليق له على الشعر الذي كان يتبادله الأخوان السيد صالح والسيد محمد شرف الدين في رسائلهما، يقول في هذا الصدد: «غير أن نظمهما لم يكن مما يجب أن يؤثر في شرع الأدب، ولذا ضربنا عنه صفحاً، على أنه لم يكن منحطاً عن أكثر ما أنشىء من الشعر في ذلك العصر» (1/446). ففي هذا القول: أولاً حكم على مستوى المراسلات الشعريَّة المتبادلة بين الأخوين بأنها نظم لا يؤثر في شرع الأدب، وثانياً حكم على ما كان يتم تداوله في ذلك العصر من نظم تحت اسم الشعر، فهو أكثر رداءة من النظم الذي ضرب عنه صفحاً، والسيّد هنا يبدو مؤرخ شعرٍ يستند في تأريخه إلى النقد الأدبي، وعلى أساس هذا النقد يختار ما يتضمّنه كتابه، واللافت في اختياره، وكنا قد تحدَّثنا عن أنموذج في ما سبق، تنوّع المختارات، بين شعر سهلٍ تفرضه أهمية الموضوع والشهرة كقول السيد صدر الدين ابن السيد إسماعيل ابن السيد صدر الدين بمناسبة هدم مقام أئمة البقيع F من قِبَل الوهَّابيين:
لعمـري إنَّ فاجعـة البقيـع
|
|
يشيـب لهولها فـود الرضيع
|
وشعرٍ تُميِّزه الصناعة الفنيَّة، كهذا الأنموذج من الشعر المشجَّر الذي يُقرأ على تسعة عشر شكلاً تبدأ كلها بالكلمة نفسها وتشترك مع سواها في عدد من كلمات البيت، (1/246)
وشعر يمكن أن يُعدّ وثيقة تاريخية، فهو يقول مسوِّغاً إثبات رسالة الشيخ محمد علي مروة التي يعزِّيه فيها بوفاة والدته، والمتضمِّنة قصيدة طويلة: "نكتفي بإثباتهما لأنهما تصوّران تلك المرحلة من تاريخ البلاد"؛ إذ إن القصيدة تذكر ما حدث للسيِّد عندما فاجأه رجال الأمن العام في دارته يريدون تفتيشها بزعم أن فيها ما يعارض سياسة المستعمرين، وقد صوَّب أحدهم، وهو ابن الحلاَّج، مسدَّسه نحوه، فركله برجله ثم ضربه بحذائه، ففرَّ هو وأصحابه، وكان أن ارتاعت والدته بوقوع هذه الحادثة وقضت نحبها بعدها بيومين، ومما جاء في هذه القصيدة:
مـصـعِّـد حقد الغـيِّ للرُّشـد صـوَّبـا
|
|
رمى الدِّين سهماً قوَّض الصَّون والخب([2])
|
وشعر تقتضي ذكره أصول الترجمة، ومنه مختارات للمترجَم له، ومختارات ممَّا قيل في مدحه وتأبينه ورثائه.
وهكذا، كما يبدو، يتضمن هذا الكتاب من الشعر ما يجعله مصدراً من مصادره على مستويي التأريخ له وتدوين نماذج مختارة من نصوصه.
يؤرِّخ السيِّد للكثير من الأحداث السياسيَّة في سياق ترجمته لهذا العلم أو ذاك، فالحدث التاريخي يقتضيه السياق المعني، وليس أي أمر آخر، ولمَّا كان أصحاب التراجم ينتمون إلى عدَّة بلدان كانت الأحداث التي تضمّنها هذا الكتاب تنتمي إلى تاريخ هذه البلدان، ومنها: لبنان والعراق وإيران.
نجد، في هذا الكتاب، تأريخاً لثلاثة أحداث بالغة الأهمية في تاريخ جبل عامل (لبنان الجنوبي في التَّسمية الحديثة) أولها نكبة الجزَّار، وثانيها النهوض بمدينة صور، وثالثها مقاومة الاحتلال الفرنسي.
ففي ما يتعلَّق بنكبة الجزَّار يجمل السيِّد الحديث عنها تحت عنوان: "مجمل الفتن" (1/131 – 135). ويلاحظ في إجماله أولاً اعتماده العرض المركَّز، وثانياً ذكر التواريخ بدقَّة، وتحقيق المختلف فيه منها، مثل تاريخ وقعة شحور، فيذكر أنها كانت يوم الثلاثاء الثالث عشر من رجب سنة 1198هـ، ويضيف ما قيل من أنها كانت سنة 1197هـ، ويعلِّق في الهامش مؤكداً صحة القول الأول، مؤيداً ما يذهب إليه بأقوال عدد من المؤرخين، ويحيل إلى مؤلفاتهم، وثالثاً بيان الأسباب التي جعلت كلاً من ناصيف النصَّار وحمزة بن محمد النصَّار يُقدِم على قتال الجزّار، وهو يعرف نتائج المعركة، ففي ما يتعلق بناصيف يقول: «وكان جيش الجزّار أكثر عدداً ومدداً وأوفر عتاداً، لكن ناصيفاً لم يكن لينكل عن خطته ولا لتثبط عقله، وقد عصفت في رأسه النخوة فأخذته حمية الإسلام وحفيظة العرب»، وفي ما يتعلق بحمزة يقول: إن الظالم أمعن في بغيه وطغيانه في استئصال شأفة الشيعة، فآثر الثائر الموت في مناجزته، فثار عليه برجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وهكذا كما يبدو، فإن الدافع لدى الرجلين هو حمية الإسلام وحفيظة العرب ومقاومة الظالم الذي يريد استئصال شأفة الشيعة، وهذا هو شأن الرجال الذين يريد السيد أن يُقتدى بهم، ورابعاً، ملاحظة أن الجزار ركَّز على استئصال الزعماء ونهب المكتبات وإحراقها، وهذا هو الهدف الحقيقي لهجمة الجزار، إنه يريد الناس قطعاناً جاهلة، وما كان هذا ليتم في عاملة، فقد لجَّ الظالم في غوايته، فقتل وشرَّد وهجَّر ودمَّر…، فقاوم الناس، ثم عادوا وأعادوا بناء قراهم وحراثة حقولهم وإعمار مدارسهم ومكتباتهم، وهذه الدورة تكاد تكون سنَّة في عاملة تتكرر على مدار تاريخها، وخامساً، إثبات بعض الوقائع التاريخية، وإن كان بعض المؤرخين ينكرها، والمعني، هنا، ممالأة العامليين لنابليون الذي حاصر عكا سنة 1212هـ، ظناً منهم أنه سينتصر، فيتم الخلاص من عسف الجزار (1/135)، وسادساً، الاستطراد إلى التأريخ الشِّعري، فيذكر ممن امتحن الله قلوبهم في تلك المحن الشيخ إبراهيم يحيى، ويستشهد بنماذج من شعره أملتها تلك الأحداث، ثم يذكر نماذج من شعره، وينتهي إلى القول: «وهذا القدر من أقواله كافٍ لتصوير صبره على تلك المحن، وتوكله فيها على الله تعالى"، فكأن ما ذكر من أقوال الشيخ كان من أجل بيان صبره على المكاره وتوكله على الله، وهو ليس فرداً في هذا، فرجالات عاملة قاتلوا وضحّوا وصبروا، ومنهم السيد صالح الذي جاء هذا البحث كله في سياق ترجمته، إذ هُجِّر ونُهب بيته وأُحرق، وفيه مكتبته، ثم قُتِل ابنه هبة الله أمامه، وسُجن في عكا مع من اعتُقل من العلماء والرؤساء، نحواً من تسعة أشهر، ثم تسنَّى له الفرار هو والشيخ سليمان بن معتوق العاملي من السجن والهرب إلى العراق سنة 1199هـ، ويفسِّر السيِّد توفقهما إلى ذلك بقوله: إنَّ الله عزَّ وجلَّ فرَّج عنهما بتضرعهما وابتهالهما إليه بدعاء الطائر الروحي الذي يرويه السيد ابن طاوس في كتابه «مهج الدعوات» (1/134).
وفي ما يتعلَّق بالنهوض بمدينة صور يتحدث عن تجربته الشخصيَّة، فيعرض ما كان عليه واقع هذه المدينة، فيقول: «… لا جامع لنا، ولا مجمع، ولا جماعة، ولا جمعية، ولا جمعة، ولا عيد، ولا أذان، ولا عنوان، ولا مدرسة، ولا، ولا، يدخل الأجنبي صور، وهي عنوان الإمامية في البلاد العامليَّة، فلا يحسّ منهم بأحد، ولا يسمع لهم ركزاً، يراهم – وهم الأكثرية – في معزل عن المسجد الحافل بغيرهم من المسلمين…»، ويذكر أنه تحدَّث إلى وجوه القوم في هذا الأمر واستصرخهم برفق، ثم يتحدث عن الصعوبات التي واجهها، وأبرزها من المتنفّذين والمتزعّمين، وقد مُني منهم «بخبط وشماس وتلوّن واعتراض»، ثم يعرض مسار سعيه في تحقيق النهوض بالمدينة…، وفي هذا تأريخ يصوِّر، أولاً ما كان عليه واقع مدينة صور، وهو يمثِّل أنموذجاً لما كان عليه واقع عاملة من تردٍّ ومن إرادة متزعِّميه على إبقائه في هذا التردِّي…، وثانياً السعي إلى تغيير هذا الواقع على الرغم من العراقيل التي يضعها هؤلاء المتزعِّمون. وفي هذا حثٌّ على المضي في سبيل النهوض بالبلاد مهما كانت الصِّعاب.
وفي ما يتعلق بمقاومة الاحتلال الفرنسي، يعرض السيِّد تجربته الشخصيَّة في مواجهة أحداث المرحلة التاريخيَّة الحاسمة التي ابتدأت بالحرب العالمية الأولى وانتهت بإعلان استقلال لبنان، مروراً بعهد الحكومة العربيَّة فزمن الاحتلال الفرنسي ومقاومته.
إبَّان نشوب الحرب العالميَّة الأولى عرف جبل عامل محناً كثيرة، منها: التجنيد، السُّخرة، الاضطهاد، الفقر، الجوع، المرض، الوباء…، ويعبِّر السيِّد عن موقفه في هذه الآونة، فيقول: «ولكن ما كان لنا ولسائر المخلصين للدِّين والقوميَّة والوطنيَّة أن نستكين…» (2/147). من سنن «تاريخ الأجيال» الذي تخطّه هذه الكتابة «لا استكانة في مواجهة القوَّة» أيّاً تكن. وعندما هزمت الدولة العثمانيَّة، وتبيَّنت أهداف الحلفاء، بدأت مقاومة مشروع الاستعمار، وفُوِّض السيّد والشيخ حسين مغنيَّة بتمثيل عاملة أمام لجنة الاستفتاء الأميركيَّة، وكان القرار الذي تبلور هو «الوحدة السوريَّة المستقلَّة، بحكومتها الدستورية اللامركزية، وأن يكون على رأسها الأمير فيصل ملكاً»، ورفض «أن يكون لأية دولة أجنبيَّة يدٌ في حكم، أو دخل في انتداب، ولا سيما الحكم الافرنسي»، وطلب «مساعدة أميركا لكونها دولة غنية قوية، بعيدة [آنذئذٍ] عن مطامع الاستعمار» (2/148 و149).
على أثر هذا الموقف ازداد الطين بلَّة مع الفرنسيِّين، وبدأت المواجهة، بالبرقيات والعرائض وإذاعة التصريحات، ثم وقعت حادثة ابن الحلاج المعروفة، وقد مرَّ ذكرها،…، ولم تلبث الثورة أن قامت نتيجة هذه الأجواء، وسعى الفرنسيون إلى إثارة فتنة طائفية، فسلَّحوا المسيحيين والمسلمين، وكان لا بد من اتخاذ موقف حاسم ولا سيما من الزعماء السياسيين، فأرسل زعماء الثورة العربية من عشائر الفضل إلى كامل الأسعد يخيّرونه بين أمرين: إما أن ينضم إليهم أو أن يكون هدفاً لحربهم، فأجاب الأسعد بأنه لا يستطيع التفرّد بالرأي ولا بد من المشورة، وتمَّ بعد التداول مع العلماء والأعيان أن يعقد مؤتمر في وادي الحجير وعقد المؤتمر يوم السبت 5 شعبان سنة 1338هـ، الموافق 24 نيسان سنة 1920م، (راجع: 2/153 و2/439 و440). أسهب المؤرخون في الكلام على مؤتمر الحجير، ونكتفي هنا بذكر مقرَّراته، وهي:
1 – تأييد مقرَّرات المؤتمر السوري في رفض تقسيم سوريا والانتداب الفرنسي، وإعلان الدولة العربيَّة في سوريا، وتتويج فيصل ملكاً عليها.
2 – انضمام جبل عامل للدولة العربيَّة (الوحدة السورية) ومبايعة الملك فيصل على تطهير البلاد من الاحتلال الفرنسي.
3 – المحافظة على النصارى وحقوقهم وحلف اليمين على ذلك.
4 – تفويض العلماء السيد عبد الحسين شرف الدين والسيد محسن الأمين والسيد عبد الحسين نور الدين بالبحث في مصير الجبل مع جلالة الملك فيصل في الشام.
ويلاحظ أن الوثيقة التي يثبتها محقِّق الكتاب عن مقررات المؤتمر تختلف عما ذكره السيد في أمرين: أولهما تقول الوثيقة: إنَّ المؤتمر فوَّض السيدين شرف الدين ونور الدين و«زعيم جبل عامل كامل الأسعد» (2/441)، في حين يقول السيد شرف الدين أن الاجتماع تمخَّض «عن تفويض الأخوين العلامتين السيد محسن الأمين والسيد عبد الحسين نور الدين (1/153)، وثانيهما أن الوثيقة تذكر أن مهمة الوفد تتمثَّل في «تمثيل البلاد لدى الملك فيصل ومفاوضته في موضوع تنفيذ هذا المقرر…»، في حين يذكر السيد أن المهمة كانت البحث في مصير الجبل، وفرقٌ بين المهمتين كبير، فالسيِّد يرى أن المهمة تتمثَّل في البحث في مصير الجبل الذي لم يحدَّد بعد، وليس في موضوع تنفيذ المقرَّرات.
يجمل السيِّد ما حدث بعد ذلك، من لقاء الملك فيصل، واشتعال الثورة في جبل عامل، وإخفاقها، ونفيه وعودته، واحتفالات بهذه العودة خلَّدها الشعر، ويسوِّغ تدوينه للشعر بحجَّة تصدر عن الرؤية التي تتبين موقع أي نشاط إنساني، ومنه الشعر، ودوره في البنية الاجتماعية، يتحدث السيد عن هذا الأمر فيقول: «وكنت أؤثر أن أتجاوز هذا كله لولا أن يفرض ذكره الوفاء لتلك العواطف والمكافأة عليها بتخليده إرثاً أتركه، لا أترك سواه لعقبي وبلدي، فإن فيه من تاريخ هذه المرحلة من مراحل الجبل صفحة جهاد غرّاء تنضم إلى صفحات هذا الجبل الجياد، وتثبت استمراره حرَّاً تتحرك في صدور أبنائه عوامل الخير طامحة إلى وجود أفضل" (2/171).
ومن نماذج الشعر الذي قيل فيه، ويبيِّن أن النهضة التي قادها هي نهضة الدين نقرأ للشيخ محمد حسين شمس الدين:
…عـلـم الإله بأن نهضتـه
|
|
للدِّيـن، وهـو لـديـنـه بـطـل
|
…فما فرَّ، إذ فرَّ، خوفاً أجلٍ
|
|
لأمــرٍ تـدبَّــره مـن عــرف
|
وفي رؤيته لأحداث العراق يقرِّر حقيقةً لا نزال نلمسها حتى اليوم، إذ يقول: "ولكن أحداثاً لم تكن بالحسبان، وإن كانت أحداث العراق لا تخضع لحساب" (1/376).
يتحدث، في كتابه، عن فتنة سامراء (2/69 – 71)، فيبين أولاً طبيعتها، فقال: إن شذَّاذ العشائر في سامراء تألَّبوا على إمام الأمة في دنيا الحنيفية السمحاء وشيخ الإسلام الشريف الحسيني الشيرازي…، «فكانوا كما تكون الرذيلة في مقابل الفضيلة»، وثانياً أهميتها، فقال: إنها أقامت وأقعدت العراق وإيران والعالم الإسلامي…، وثالثاً إثارتها نهم الطامعين في العراق من دول الاستعمار، ومن هنا أسرع سفير بريطانيا إلى سامراء يطرق أبواب الشريف الإمام بكل خشوع حاملاً إليه من دولته رسالة التطوع لأوامره على أي وجه يشاء، ورابعاً موقف السيِّد المدرك بفكره الثاقب ورأيه السديد كنه الرسالة وسرّها، فانتهى إلى ما يجب من الحيطة على الإسلام والإخلاص لللأمَّة والذود عن حياضها…، فردَّ السفير البريطاني وأفهمه أن ما حدث هو من قبيل جموح الولد المدلّ على والده العطوف…
وهذا أنموذج آخر من الرجال – الأجيال الذين تؤرّخ لهم هذه الكتابة. وللسيِّد الشيرازي مواقف كثيرة يتحدث الكتاب عن «حادثة التنباك» منها، وهي معروفة. كما يتحدَّث عن ثورة العشرين، فيوضح أنه لا يتخذ سبيل المؤرخ، وإنما يتبيَّن طبيعة الثورة وأهميتها، وصفات قادتها، ومنهم السيد محمد بن السيد حسن الصدر، وكنا قد قدَّمنا الصورة التي رسمها السيد له، بوصفه القائد الأنموذج في ما سبق من قول، واللافت هنا، هو أن السيِّد شرف الدين كان في الوقت الذي نُفي فيه السيد محمد الصدر من العراق، منفياً من لبنان، ما يدلّ على حقيقة هؤلاء الرجال في أي مكان وجدوا فيه، وفي أي زمان، فالمعروف أن السيد صالح، جد آل الصدر، التجأ إلى كهف في وادي شحور من طغيان الجزار، وقد التجأ إلى الكهف نفسه السيد شرف الدِّين، في ما بعد، من طغيان الفرنسيين.
وتتيح زيارة الإمام أبي الحسن الرِّضا B في إيران للسَّيد أن يتعرف إلى أحوال البلاد في عهد الشاه رضا، فيقول، في ما يقوله عن هذا الطاغية: "… وكنا نسمع من المتحدِّثين عن عهود الظلم الفاحش أن للحيطان آذاناً مبالغة في الخوف من جواسيس الإرهاب، ولكنَّا رأينا هذه الآذان حقّاً لا ريب فيه في إيران.."، ثم يتبيَّن طغيان الدكتاتوريَّة وآثارها، ويكشف في صورة دالَّة عن موقف هذا الطاغية، فيقول: إنه «يختص رجال العلم بعداوة حاقدة، يصوِّرها ما قد بلغنا عنه من أنه كان يكفي في إثارة أعصابه – إثارة ضارية مخيفة – أن يرى من النافذة عمامة تمرّ في الشارع، فإذا لمحها كان القصر – إذاً – معرَّضاً لشرٍّ عظيم وبلاء منكر»، والسبب في ذلك يعود إلى أن العلماء، وهم في إيران، ذوو نفوذ كبير، عارضوه في كثير من تصرفاته الخارجة على سنن الدِّين والعرف…»، وفي مواجهة العنف الهائل الذي مارسه ضدَّهم، صبروا و«في ضمائرهم نار يطبقون على وهجها شفاههم طباقاً محكماً» (راجع: 2/241 – 254).
ولم يطل الإطباق المحكم على وهج النار، إذ قُيِّض لإيران مجدِّد من أولئك الذين يأتون ليغيِّروا ويصلحوا ويجدِّدوا، هو الإمام الخميني (رضوان الله عليه)، وقاد الثورة الإسلامية إلى النصر وتأسيس الجمهورية الإسلاميَّة التي توالي تحقيق إنجازاتها في جميع المجالات، وباطّراد.
وهكذا، كما يتبيَّن لنا، فإن كتاب «بغية الراغبين في سلسلة آل شرف الدين» يقدِّم كتابةً تؤرِّخ لأجيال، وهي كتابة متنوِّعة بين ترجمة وسيرة وتاريخ سياسي وأدبي وعمراني، وأخلاق، وموحَّدة الهدف والوظيفة، إذ إنها ترمي إلى تبيّن معالم الجادَّة – سبيل المؤمنين، أو الطريقة المثلى التي وضعها العلماء الأعلام على المستويين النظري والعملي بغية الإصلاح والنهضة، وتؤدَّى هذه الكتابة بلغة أدبيَّة جميلة تنهض بأداء مهمتها إبلاغاً وإمتاعاً كأنها عنصر آخر: اللغوي، من عناصر النهضة الشاملة.
* * *
الهوامش
_________________________________
أستاذ في الجامعة اللبنانية
([1]) الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين، بغية الرّاغبين في سلسلة آل شرف الدين، بيروت: الدار الإسلامية، ط. 1، 1411هـ، 1991م.، وتلافياً للتكرار سنضع رقم الجزء وأرقام الصفحات بين قوسين في المتن.
([2]) مصعِّد: المهاجم، الرشد والدين: المهاجَم، الصون والخبا: ذات الصّون، السيِّدة الوالدة.
([3]) ابن الحلاج، واسمه جبران، من رجال الأمن العام، اقتحم دار السيِّد كما ذكر أعلاه ضحى يوم الثلاثاء 21 ربيع الثاني سنة 1337 الموافق 14/12/1919.