أ. د. عبد الأمير كاظم زاهد(*)
مدخلٌ
يهدف هذا البحث إلى اكتشاف دور النصّ الديني في خلق القيم العامة التي تشكل العقل المعرفي الإنساني، والقيم السلوكية، سواء بمعطياتها المباشرة أو بإمكان تداولها التأويلي، واستنباط الرؤية للآخر الديني أو العرقي من خلالها.
كما يهدف إلى تلمّس الإجابة عن سؤال مهم، وهو: هل الوسط (الديني) وسط تنمو فيه الأصوليات أكثر من الوسط (غير الديني)؟
ويهدف البحث إلى البرهنة على أن ظهور الأصوليات في دينٍ ما أو في عصر من العصور لا يسوِّغ القول: إن ذلك الدين هو دين أصولي في منابعه وأسسه. لذلك سيكون هذا البحث الحلقة الأولى من ثلاث حلقات تبحث في الأسس الاعتقادية للأصوليات في الأديان الإبراهيمية، سواء كانت هذه الأسس نصوصاً مرجعية مباشرة أو نصوصاً تفسيرية أو مؤولة، أو كانت تجارب تاريخية سلوكية، لجماعةٍ أو أفراد، تحوّلت فيما بعد إلى مستند ديني.
ولقد أخذنا في الاعتبار أن في داخل رجال الدين في كل الأديان تيّار يدعو إلى التسامح ونسبية المعرفية وتعدُّدية طرق الخلاص. ولكن هذا التيار جزءٌ من الأغلبية الصامتة.
سيقف البحث على المفهوم المعاصر للأصولية، والنشأة المبكِّرة للأصولية اليهودية، ومنظومة المعتقدات اليهودية ونصوصها التوراتية…، وأثر ذلك كلّه على خلق النزعة الأصولية، مشيراً إلى السمات العامة للنزعة الأصولية اليهودية، التي نفترض أننا قد نجدها في الأصولية الإنجيلية أو الأصولية الإسلامية، في الحلقتين الثانية والثالثة من هذا البحث.
أوّلاً: المفهوم المعاصر للأصولية
يعود مفهوم الأصولية في التداول المعجمي إلى المراد من لفظة أصل. فقد قال الجرجاني في التعريفات: إن الأصل هو ما يبنى عليه غيره. والأصول جمع أصل. وهو في اللغة عبارة عمّا يفتقر إليه غيره، ولا يفتقر هو إلى شيء. وهو ما يثبت حكمه بنفسه، ويبنى عليه غيره([1]). ومنه جاءت تسمية الأسس والقواعد العامة بالأصول. وقد سُمِّيت بذلك لأنها أسس يفتقر إليها، وتصلح دليلاً على ما يؤسَّس عليها، وهي قواعد عامة مبرهن عليها… فالأصولية إذن مصطلحٌ مشتقّ من لفظة الأصل، الذي يرتكز عليه الشيء ويُبْنى، فيكون بمعنى القاعدة أو الركيزة التي يرتكز عليها الشيء([2]). قال في المحيط: الأصل أسفل الشيء([3])، ويُراد به أيضاً مفهوم الأساس. وهنا تظهر دلالة أخرى هي البدايات الأولى لنشأة الأفكار.
وقد ورد في لسان العرب أن الأصولية في اللغة مأخوذة من الفعل أصَّلَ. وأصَّل الشيء يؤصِّله إذا عاد به إلى الأصول الأولى والثوابت؛ لأن أصل الشيء أساسه الذي يقوم عليه. والنسبة إليه أصولي([4]).
إذن يكون معنى التأصيل الكشف عن هذا الأصل، وتحديد طبيعة الانتساب إليه، أي تحديد هويته من حيث النشأة. أي إن الفكر الراهن ناتج عن الأسس التي تقوم عليها الظواهر أو الواقع الاجتماعي المعين. ويسمّى الشيء أصيلاً إذا كان ينتمي إلى الأصل أو يتمسك به.
أما في الاصطلاح التقليدي فقد استخدم الأصل بما يقابل الفرع، واستعمله أهل اللغة وعلوم الأولين بمعنى الدليل، أو المستند([5]). فإذا قيل: إن أصل المسألة كذا أي دليلها كذا. وقيل: هو المبدأ الذي نشأ عنه نمطٌ من الفكر الراهن أو النظرية التي تنتسب إليه، فيكون بمعنى الجذر أو السبب أو الشرط لرؤية فكرية متأخِّرة عنه ومؤسّسة عليه. وتكون الأصولية على ما تقدَّم من معانٍ معجمية واستعمالية هي الآراء والأفكار والنظريات المنتسبة إلى أصلٍ فكري، سواء كان دينياً أم فلسفياً أم أصولاً ثقافية تأسيسية أخرى.
أما الاستعمال المتداول في هذه الأيام فقد اتّخذ منحىً آخر، بحيث اختلفت دلالته بحسب بنية الثقافة التي يستعمل في نطاقها المفاهيمي. فالمصطلح المعاصر لم يكن من منتجات الثقافة العربية، ولم يتدرّج معناه في عرف التخاطب العربي. أما الإطلاق المعاصر فقد نشأ في رحم الثقافة الغربية، وانتقل معناه من الثقافة الغربية إلى ثقافة العرب والمسلمين، وكان معناه في المنشأ الثقافي له هو الرؤية الفكرية المعاصرة التي تتّخذ من الأصل التأسيسي مرجعاً أساسياً لها، وسنداً مطلقاً ونهائياً، سواء أكان ذلك الأصل دينياً أم سياسياً أم عرقياً؛ ليكون الأساس في مفاهيمها والضابط لسلوكها([6]).
وطبقاً لهذا التعريف فإن الاتجاهات الدينية جميعاً هي اتّجاهات أصولية؛ لأنها جميعاً رؤية تتّخذ من أصولها الدينية مرجعاً أساسياً، وسنداً مطلقاً ونهائياً. ولعل هذا هو سبب نزعة أغلب الباحثين والكتّاب عندما يربطون هذا المفهوم بالأديان. وكان بعضهم قد أطلقه على التيارات الدينية المتشدِّدة، أو غير المتشدِّدة. وهذه النزعة تتعامل مع كلّ المنظمات الدينية بوصفها منظمات أصولية، فيكون المراد بالأصوليات على هذا الفهم أن الأصوليات هي التيارات أو الجماعات الدينية كافّة. وعلى هذا المعيار فإن كلّ منتسبٍ إلى فكرٍ تراثي قديم يتمسَّك به كرؤية للحاضر هو أصوليّ. ولوجود هذا المعنى في مختلف المذاهب الدينية فكلّ الرؤى ذات الأسس الفكرية رؤى أصولية، بينما الواقع الماثل أمامنا ليس كذلك، مما نعتقد معه أن التباساً تداولياً أصاب المصطلح مفهوماً وتجسيداً.
فلقد ظهرَتْ في القرن الماضي في العالم الإسلامي حركات إحيائية تدعو إلى إعادة فهم الإسلام وتطبيقه في الحياة المعاصرة، ولكنّها لم تكن تتّخذ كلمة الأصولية اسماً لها، ولم يطلق عليها آنذاك هذا الاسم، ولم تتّسم بالتشدُّد والعنف والذهنية التغييرية الانقلابية. وربما أطلق على بعضها (الاتجاهات السَّلَفية)، إلاّ أن الباحث المدقِّق لا يرادف بين مصطلح السلفية ومصطلح الأصولية، إلاّ إذا وقع في الالتباس، أو كان يُراد باللفظ العودة إلى الأصول، والعمل بمقتضاها. إلاّ أن هذه الجماعات لم تَتَسَمَّ بالأصولية، ولم تكن كلّها متشدِّدة تفرض مقولاتها بكلّ الوسائل على الغير. وكان لبعضها منهجٌ إصلاحيٌّ، كحركة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. إضافة إلى أنها لا ترى استعمال الوسائل القَسْرية طريقاً لنشر الفكر أو نشر الدين.
لهذه الأسباب، ولما تقدَّم من الالتباس في دلالة المصطلح، فقد صار ضرورياً الكشف عن أثر مواطن نشأة المصطلح على المعنى الذي يحمله، أو المراد المقصود؛ لأن مفهوم الأصولية من المفاهيم التي استعملت استعمالاً غير دقيق من جهة المعنى والدلالة؛ لأن هذا المفهوم لا يخلو من العمومية. وعليه فإن التحقيق في مفهومه ودقّة استعماله أصبح حاجة معرفية. ففي الثقافة الإسلامية التقليدية مثلاً كان ولا يزال يستعمل لفظ الأصل والأصول بمعناه اللغوي المعجمي، ويُراد به الأسس، ومنه: علم أصول الدين، أي أسسه ومرتكزاته وحقائقه الأولى والمبادئ العامّة له؛ ومنه: علم أصول الفقه، أي المصادر الأساسية التي يستقي منها التشريع الإسلامي، أو هو قوانين الاستنباط الأساسية للفقه الإسلامي. ولم نجد في تراثنا العربي المعنى المستعمل حالياً للأصولية. فمصطلح الأصولية الذي يستعمل اليوم مصطلحٌ نشأ في أروقة ثقافة الغرب مؤخَّراً بمعناه الحالي الذي نشأ في رواق ذلك الفكر.
يقول جيل كيبل: لقد ظهر المصطلح على أثر نشر سلسلة من اثني عشر مجلداً في الولايات المتحدة بين (1910 ـ 1915)، تحت عنوان الأصول. وكانت تلك المجلدات تضمّ تسعين مقالة حرَّرها اللاهوتيون البروتستانت المعارضون للمصالحة مع الحداثة([7]). وقد استخدمت هذه الرسائل لتبيان العناصر التقليدية للعقيدة المسيحية، والثوابت التي يراها الأصوليون أركانَ المسيحية الأولى. وبذلك يؤكِّد كيبل أنّ المصطلح نشأ في رواق الفكر الغربي، وأحضان الفكر الديني المسيحي، ثمّ نقل من ثقافة الغرب إلى الواقع المعرفي الإسلامي، ليطلق مصطلحاً على الجماعات الإسلامية التي تتبنّى الظواهر المتشدِّدة في الثقافة الإسلامية. لذلك شكا كثيرون من تعدُّد التداعيات الدلالية في استعماله كوصف للظواهر الدينية الإسلامية المتعدّدة([8]).
ولتغاير الثقافتين الغربية والإسلامية، ولاختلاف نشأة المصطلح ومجاله التداولي، فقد صار معناه متغيراً متفاوتاً بحسب الاستعمال (إرادة الخطاب)([9]). ففي أمريكا كان معناه اسماً لأولئك الذين آمنوا والتزموا بما جاء بالسلسلة التي صدرت مطلع القرن الماضي، وتكوّنت أفكارهم ورؤاهم بناء عليها. أما في أوروبا الغربية فيرى روجيه غارودي أن المصطلح لم يدرج في المعاجم والقواميس الشهيرة، كمعجم روبير الكبير، والموسوعة العالمية الفرنسية، حتّى 1966، وبعدها عرَّفه قاموس لاروس الصغير بأنه موقف أولئك الذين يرفضون تكييف أي عقيدة مع الظروف الجديدة. وكان قد أطلقه قاموس لاروس على الكاثوليكية([10])، وذلك بعد عام 1966. وعرفها قاموس أُكسفورد بأنها عبارة عن (التمسُّك الصارم بالمضامين الأرثوذكسية التقليدية، وبحرفية النصوص المقدّسة، ومعاداة الليبرالية والحداثة)([11]).
وتعتبر نهاية السبعينيات من القرن الماضي البداية الزمنية لانتشار مصطلح الأصولية في المجال التداولي العربي الإسلامي، إذ في عام (1980) كانت الصحف الأمريكية تنشر الكثير عمّا تسمية بالمدّ الأصولي الإسلامي، ولا سيَّما بعد ظهور التجربة الإسلامية في إيران على مسرح الحَدَث العالمي([12])، ثمّ عمم بعد ذلك فصار مصطلحاً دالاًّ على جماعات الإسلام السياسي ذات البعد المحلي والإقليمي والدولي([13])، من دون أن نجد دقّة في تصنيف هذه الجماعات بحسب السِّمات العامة والتفصيلية التي يتفاوت توفُّرها والالتزام بها في هذه الجماعات.
وينبه روجيه غارودي إلى أن من السِّمات المهمة للأصولية أنها ترتبط دائماً بزمنٍ ماض، وتقوم على معتقد مؤسّس في عصر سابق([14]). وهنا يتعمد غارودي أن لا يفرق بين كون المعتقد معتقداً تاريخياً أو معتقداً دينياً ماضوياً؛ إيماناً منه بوجود أنواع متعدِّدة من الأصوليات، أو ربما لأنه لا يفصل بين الحقائق الدينية والحدث التاريخي حين يتحوّل إلى مستند للتدليل والبرهنة على قيمة أفكار الحاضر. وإن هذا الارتباط بالماضي ليس ارتباطاً تاريخياً، كبقية ظواهرنا المعاصرة، إنما الارتباط عبارة عن تحول الحدث التاريخي إلى نصٍّ ديني، ويجري استمداد المقولات والأفكار منه، وبذلك يتحوَّل ذلك الماضي إلى أنموذج يفرض على أتباع تلك الاتجاهات وأنماط الفهم الخاص للمعتقدات والأفعال، وجعل ذلك كلّه معياراً للحاضر، ودليلاً للمواقف إزاء الأفكار والآراء والنظريات المعاصرة في مجالات بناء الإنسان والدولة.
وأعتقد أن ما يصحّ إطلاق مصطلح الأصولية عليه هو الجماعات التي تعتمد على أصول أساسية (كعقيدة وتعاليم)، نصّاً أو تأويلاً، وتؤمن بأن تلك الأصول هي الحقيقة التامة والمطلقة والخالدة، وأن الدفاع عنها والالتزام بفرضها على الغير واجب إلهيّ، وتؤمن بطريقة تغييرية شاملة للمجتمع، وبالوسائل كافّة، وتعتبر التجربة العملية الأولى لتلك الأصول النظرية هي التجربة المعيارية، وتقرأ التطوُّرات الحضارية اللاحقة بناءً عليها بمنهجيّة حرفية نصوصية ماضوية متعصِّبة، رافضة لكلّ التطورات المدنية والتحديث، وبحيث يستحيل عليها التكيُّف مع ضرورات الأزمنة.
ومن التعريف يظهر أن المعتقدات الدينية أو الأسطورية التي تشكِّل حضوراً قوياً في الذهن والسلوك، وتعامل كأنها الحقائق النهائية والخالدة والنموذج المتطلَّع إليه والمعيار، هي الأساس للأصوليات المعاصرة، سواء كانت دينية أو سياسية أو عرقية أو ثقافية…، إلخ. لكنّ هذا التوصيف أكثر ما يصدق على الاتجاهات الدينية الحركية القائمة اليوم، والتي تسعى لبناء عالمٍ جديد على تصوّراتها الماضوية، وكذلك ظهرت أصوليات في الوسط اليهودي المسيحي والإسلامي.
أما الأسس الدينية لليهودية فإن اليهودية ديانة سماوية مشتقّة من اليهود، وهم سلالة إبراهيم× الذي هاجر مع جماعته، وهم رعاةٌ، من أور الكلدانية إلى أرض كنعان في 1850ق.م. وسمِّيت هذه الجماعة بالعبرانية، نسبة إلى عبرى، التي تحمل معنى الرحيل والهجرة؛ وقيل: لأن إبراهيم عبر نهر الفرات أو نهر الأردن([15])، فكلمة عبري مثل كلمة بدوي؛ وقيل: سمّوا بالعبريين لعلاقتهم بالصحراء. ثم هاجر هؤلاء القوم إلى مصر 1656ق.م؛ بسبب القحط أو بأمرٍ إلهي؛ للالتحاق بعزيز مصر. فقد جاء في سفر الخروج أنّ الله قال ليعقوب: (أنا الله إله أبيك. لا تخَفْ أن تنزل إلى مصر، فسأجعلك أمة عظيمة هناك)، (أنا أنزل معك إلى مصر، وأنا أصعدك منها. ويوسف هو الذي يغمض عينيك ساعة تموت)([16]). لقد كان بنو يعقوب وأحفاده قوماً بزعامة يعقوب×، الذي أسموه بإسرائيل، ونسبوا إليه، فسمّوا أنفسهم بني إسرائيل. وعادوا بعد دعوة موسى× إلى أرض كنعان في (1290ق.م)، إلى فلسطين، وقيل: سنة 1213ق.م([17]).
وفي سنة 930ق.م أقام أسباط يهوذا وبنيامين، الموالين لرحبعام بن سليمان بن داوود مملكة يهوذا، نسبة إلى مَنْ تناسل من يهوذا، فغلبت عليهم تسمية اليهود([18]). تقول التوراة في سفر الملوك الأول: «وكان شعب يهوذا وإسرائيل في الكثرة كرمل النجر، يأكلون ويشربون».
ويعتقد اليهود استمراراً لموثوقية اليهودية أن التوراة خالدة وثابتة، ولا تنسخ. وهي دعوى ضدّ الأديان الأخرى، ولا سيَّما المسيحية بوصفها الوحي التالي لليهودية، فهي عندهم (اللوجوس الإلهي) (the divine logos)، والتعبير عن الحكمة السرمدية، وهي ثابتة مثل ثبات الله. أما اللاهوت اليهودي فهو أقلّ اعتماداً على المعرفة الإغريقية. ويسمّي اليهود أنفسهم شعب التوراة. ومحتويات التوراة في رأيهم ليست ديناً أو عقيدة أو أخلاقاً أو تشريعاً أو علماً فقط، إنما هي حياتهم ودنياهم وماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم.
كما يعتقدون أن التوراة أقدم من هذا العالم، ولأجلها خلق الله الدنيا([19]). وبعد التوراة يُعَدّ التلمود النصّ المرجعي الثاني.
والتلمود هي الروايات الشفهية التي تناقلها الحاخامات من جيلٍ إلى جيل. وقد جمعت متأخّرة باسم المنشأ، أي الشريعة الثانية. وشرحت فيما بعد شروحاً سُمِّيت جمارا، ومن المنشأ وجمارا يتكوّن التلمود. ويعتبره أكثر اليهود كتاباً منزلاً، ويضعه بعضهم بمنزلة أكبر من التوراة.
وهنا أدرج نصوصاً تلمودية؛ لبيان أثر النصوص في صياغة العقل الأصولي([20]).
فقد جاء في التلمود:
1ـ إن الإسرائيلي معتبرٌ عند الله أكثر من الملائكة.
2ـ إن اليهودي جزء من الله، فمَنْ ضربه فقد ضرب العزة الإلهية.
3ـ الفرق بين اليهودي وغيره كالفرق بين الإنسان والحيوان.
4ـ لليهودي أن يطعم الكلب، وليس له أن يطعم غير اليهودي.
5ـ غير اليهود بالضرورة هم أعداء لليهود، وعلى اليهود أن يغشّوا مَنْ سواهم، ويقتلوهم.
6ـ لايجوز لليهود أن يحيوا غير اليهود مالم يخشَوْا شرَّهم.
7ـ اليهود ـ تَبَعاً لله ـ يملكون كلّ ما في الأرض من ثراء، ولا يملك غير اليهود شيئاً. فلو سرق اليهودي مال غير اليهودي فقد استردّ ما استلب منه([21])، وغير مسموح لليهودي أن يقرض الأجنبي إلاّ بالرِّبا؛ لاستنزاف ثروة الآخرين.
8ـ ينصّ التلمود أن من العدل أن يقتل اليهودي كلّ أممي؛ لأنه بذلك يقرِّب قرباناً([22]) لله.
9ـ في التلمود إساءة لسيِّدنا عيسى×، وإساءة للكنائس المسيحية والمسيحيين جميعاً.
من النصوص التلمودية المتقدّمة نلحظ أن التمييز والسيادة على بني البشر كانت القاعدة الأساسية للعدوان على بقية شعوب الأرض، دون أن ترتكب تلك الشعوب أيّ أعمال ضدّ اليهود، سواء كان عدواناً على أرواحهم أو حرّياتهم أو ممتلكاتهم. ويلاحظ أن الإساءة إلى الأديان والمعتقدات الأخرى فيها دلالة على تفكير متدنٍّ تركِّزه النصوص الدينية لدى اليهود.
وعلى أساسٍ من تلك النصوص المرجعية مباشرةً ـ وليس على تفاسيرها والتأويل المستند إليها ـ يتشكَّل العقل الأصولي اليهودي، والقِيَم الأصولية العدوانية المتجسِّدة في السلوك الفردي لعصابات القتل، أو السلوك الدولي لإسرائيل.
لقد تكلَّم سفر القضاة عن الفترة الأولى من دخول بني إسرائيل إلى أرض كنعان، وآنذاك لم تتشكَّل أمة اليهود أمة موحدة، بل لا يزالون أتباعاً لاثني عشر سبطاً على نظام الجماعات البدوية المتركّزة حول مفهوم القبيلة.
فقد خرج موسى بهم من مصر في 1210ق.م، وتزعّمهم مع يوشع بن نون ثمانين سنة، حتّى 1130ق.م، وبعد ذلك جاء عهد القضاة، وامتدّ قرناً من الزمن.
ثمّ انهار نظام القبلية، كما ورد في سفر صموئيل الأول، فانتقلوا إلى عهد الملوك.
يقول د. سليمان مظهر: إنّ الفرس هم الذين أطلقوا على بني إسرائيل اسم اليهود، وأطلقوا على عقيدتهم([23]) اليهودية. وصارت كلمة اليهودي تعني مَنْ اعتنق اليهوديّة، وإنْ يكن من بني إسرائيل([24]).
أما الذي يحقق التغيير في معتقداتهم فهو عصر المسياه (المشيح) أو المسيح الآتي، وهو عندهم غير عيسى×. ويعدّ المسيح عندهم نهاية التاريخ اليهودي للعالم الدنيوي… فقدومه عندهم يعني تحرّرهم من الاضطهاد، وعودتهم إلى وطنهم (القديم)، واستعادتهم لمملكة داوود، وإعادة بناء الهيكل، وإجبار كلّ الأمم على الاعتراف بدعوى إسرائيل بأن اليهود هم شعب الله المختار.
ويرَوْن في ظهوره الخلاص الدنيوي، وأنه مرتبط بهزيمة قوى الشرّ، وهم كل الأقوام من غير اليهود. لذلك فإن المسيانية تحظى باهتمام كبير في اللاهوت اليهودي. وليس المسيح المنتظر هو المخلص فقط، إنما ظهوره دلالة على أن الله أنجز لهم عمله العظيم، وأوفى لهم حقّ السيادة والامتياز على البشر.
لهذه العقائد عارض اليهود الحداثة إبان عصر التنوير الأوروبي؛ لئلاّ يضيع العنصر المتفوّق بين الشعوب الأخرى الأقلّ منهم شأناً([25])، كما يعتقدون. ولا يزال هذا الاعتقاد سارياً؛ إذ تزعم الصهيونية أن يهود اليوم هم النسل المباشر ليهود التوراة؛ لتبرير اغتصاب فلسطين، على الرغم من أن الواقع التاريخي صريح في أنهم ينتمون إلى عدد كبير من السلالات البشرية؛ إذ ينكر علم الأنثروبولوجيا زعمهم بأنهم أمّة، فهم من أجناسٍ مختلفة لا تربطها رابطة عرقية([26]).
لقد تكوَّنت الشخصية أو النزعة النفسية لليهود تحت هذه المؤثِّرات الاعتقادية، وفي ظلّ قسوة (الإله) الذي صوّره عزرا عند كتابته للتوراة، فهو يهدِّد شعبه بالإبادة إنْ لم يلتزموا بوصاياه. (ويهوه) إلههم لا يحبّ الرآي الآخر، ولا مكان في رعيّته لحرّية المعتقد، فقد صوّرته التوراة إلهاً قبلياً دموياً.
ولم يستند التعصُّب اليهودي إلى فكرٍ ديني مفسّر لنصّ التوراة، إنما من المقولات التوراتية نفسها، والمثبتة في كتاب ديني، اعتبره أصحابه (سفر الحضارة الخالد)، فتحوّل التعصب إلى إرهاب منظم وتاريخي منذ ثلاثة آلاف سنة، ولا يزال مستمراً طالما بقي هدف اليهود إخضاع العالم لإرادتهم([27])، بدءاً بفلسطين وانتهاءً بكل أنحاء العالم. فلقد ربطت الأيديولوجيا الأصولية لليهود بين فكرة الشعب المختار وأرض الميعاد ربطاً وجودياً([28])، لايتحقّق كلٌّ منهما في الواقع إلاّ بتحقُّق الآخر، وهكذا تولدت عن اليهودية موجات من الأصوليات الدينية المتعاقبة.
وتعدّ اليهودية من أقدم الديانات الإبراهيمية. والتوراة هو الكتاب العبراني المقدس المعروف بالعهد القديم. وهذا النص الديني هو الأساس لليهودية، ونعني به أسفار موسى الخمسة، التي يعتقد اليهود أنها وحيٌ من الله، فإن هذا الكتاب (النص المقدس) ذاته يؤسّس للموجات الأصولية بالأفكار والمضامين التي وجدت فيه، وسواء قرأناه بوصفه وحياً سماوياً أو بوصفه وثيقة تاريخية، ففي كلتا الحالتين يمكن أن نكتشف أثر هذه النصوص على الأحداث التاريخية أو طريقة تجاوب المؤمنين به. وعلى هذه النصوص نرصد نوع العلاقة التي حصلت مع الآخرين، ولا سيَّما بعد أن استقر هذا الكتاب بوصفه أساس الإيمان للشعب اليهودي، وهم أصحاب العهد الخالد من الله([29]). وبالرغم من المحن والويلات والتجارب القاسية فإن عقائدهم ظلت ديناً مرتبطاً بالشعب اليهودي ارتباطاً عرقياً، فهو أكثر من ارتباط المسيحية بالشعب الإيطالي، وأكثر من ارتباط الإسلام بالعرب؛ لأن الفوارق الاثنيّة معوّق ديني، وسببٌ من أسباب تعدد الاجتهادات الدينية داخل الدين الواحد. فإن اليهود يرَوْن أنّ كلّ قيمة دينية لا بُدَّ أن تكون مرتبطة بالعرق وبالتاريخ، وإنّ الحقيقة الاجتماعية للشعب اليهودي ملتصقة بالتوراة، وصانعٌ للتاريخ بالتلمود، فتضاءلت فرصة الفصل بين الديني والدنيوي عندهم، حتى أن أنبياء بني إسرائيل فسّروا الهزائم التي مُنُوا بها بأنّها نتائج فشل اليهود في تحقيق إرادة الله، وبذلك لم ينفصل الدين عن التاريخ في انتصاراته، وحتى في إخفاقاته. فقد كان التاريخ كلّه صانعاً للدين، والدين صانعٌ للتاريخ.
لقد أدخلتهم تجربتهم التاريخية كما يرَوْن في علاقة تعاهدية مع الله (ربّهم)، وهي علاقة خاصّة، وسارية المفعول، وشبيهة بعهد الله للطبيعة([30])، بحيث لو كفر اليهودي فلا يخلّ الكفر بذلك العهد، إنّما يُحاسَب كعاصٍ، ولايخرج عن اليهودية. وإن اليهود يشاركون الله المسؤولية في إدارة الأرض والعالم، ويشاركون في ملكية ثرواته، مع ضرورة الاستجابة لله بسماعه وطاعته والإصغاء؛ لأجل تحقيق إرادة الله. فالعلاقة مع الله علاقة انصياعٍ محض.
بعكس الرؤية الإغريقية التي تقرِّر أن الإصغاء إليه لأجل التأمُّل والاحتكام للعقل، وليس فقط لأعمال الإيمان. لذلك كانت الشعائر اليهودية شحنة من الحيوية تتخلّل في العلاقة بين الإنسان والدين، وهي في ذات الوقت استعادة واستذكار للأحداث التاريخية الكبرى في مسيرة التجربة الدينية للارتباط التامّ بالماضي. ولكي يتعامل اليهود مع تاريخهم بوصفه مجموع المعاني النهائية فإنهم يرتبطون به، حتّى ظنّ أكثر من واحدٍ أن اليهودية دينٌ يهتمّ بتشكيل القواعد العرقية المجتمعية التي تربط بين الفعل الإنساني والمشيئة الإلهية، بمعنى أنه دين عملي تشريعي أكثر منه ديناً لاهوتياً. فقد كان الرابيون مشرِّعين (Lawers)، حتّى شاعت المقولة الشهيرة: إن اليهودية لا تهتمّ بالإيمان الصحيح بقدر ما تهتمّ بالفعل الصحيح.
ويمكن القول: إن من أكثر الأسس الدينية لليهودية تأسيساً للأصولية هو الاعتقاد بأن اليهود الأمّة المختارة من الله، وهم شعبه المميَّز والمنتقى، وأن لهم ما ليس لغيرهم. وكمثالٍ على هذه العقيدة الدينية ما جاء في النصّ التوراتي في سفر اللاويين ما نصّه: «وتكونون لي قدّيسين؛ لأني قدّوس. أنا الربّ وقد ميّزتكم من الشعوب؛ لتكونوا لي»([31]). وهذا النصّ صريحٌ في تمييز بني إسرائيل على بقيّة شعوب العالم، وصريح في ربط التمييز بالله صدوراً وممارسة. وجاء فيه أيضاً، بعد عدّة وصايا، قوله: «وأكون لكم إلهاً، وأنتم تكونون لي شعباً»([32]). ويشير هذا النصّ إلى أن بني إسرائيل سيكونون طرفاً في علاقة تعاهدية مع الله فهو الإله، الذي تصوّره التوراة بصورة الملك، وهم الشعب، الذي تصوّره التوراة بأنه الشعب الخاصّ بذلك الإله. ويلاحظ أن هذه النصوص تثير في النفوس الشعور بالتفوّق والعلوّ والتمييز على الأمم الأخرى.
لقد نقل روهلبخ من التلمود نصّاً يقول: «إن الاسرائيلي معتبر عند الله أكثر من الملائكة، وإن اليهودي جزءٌ من الله، وإن الشعب المختار هم اليهود فقط، أما باقي الشعوب فهم حيوانات»([33]). وهذا النص التلمودي يدعم بقية النصوص والأفكار التي تؤسّس لاستعداد نفسي وعقائدي لتبنّي العقل اليهودي للأصولية، والأيديولوجيا المتشدّدة. ويمكن أن تتحوّل هذه المفاهيم إلى ممارسات عنيفة وثقافة عرقية ذات بُعْدٍ عنصري طالما كان لها مستندها الديني من التوراة والتلمود وتعاليم الحاخامات. وفي المحصلة إن الأصولية اليهودية ناتجٌ عن مركب أيديولوجي من نزعة عنصرية مؤسّسة على تفوق ديني، وتميز عرقي. وهذه الأيديولوجيا تحفز كلّ الاستعدادات النفسية الأخرى لتبنّي الأصولية([34])، والسير وفق مقتضياتها النظرية والسلوكية.
لهذا السبب في ما أظنّ ظهرت الأصولية بشكلٍ مبكِّر في المجتمع اليهودي. فقد جاء في قاموس الأديان الكبرى الثلاثة أن الوسط الديني اليهودي أفرز مبكراً حركة أصولية قديمة سُمِّيت بـ (المتعصِّبون). فقد ظهرت بين (66 ـ 70م) وكان همّها المحافظة على الحياة الدينية لليهود، وكانت تعارض اليهود الذين يسعَوْن للمصالحة والتعايش مع السلطات الرومانية. وتوسَّلَتْ هذه الجماعة إلى أهدافها بالتشدُّد والتمسُّك بالأصول، ونشرت اعتقاداتها من خلال تسويغها السلوك العنيف، ممّا دفع سلطات الرومان إلى شنّ الحرب على منطقة أورشليم، وسيطر الرومان عليه، وهدموا الهيكل عقاباً لهم([35]). وكان هذا هو التدمير الثاني للمدينة والمعبد، بعد التدمير الأول الذي أحدثه بختنصر، وتمّ إخماد الحركة الأصولية تلك بالقمع، كردٍّ من السلطات الرومانية آنذاك على الموجة الأصولية المبكّرة.
لكنّ هذا الإخماد لم يضع نهاية للمتعصِّبين اليهود، فقد تجمّع عددٌ منهم لتدبير عملية التمرّد ضدّ الرومان، وعند ذاك ألغى الرومان السلطة المحلية التي منحوها لليهود، وحكموا مناطقهم حكماً مباشراً، فلجأ المتعصِّبون إلى الاغتيالات ضدّ مَنْ يتعاون مع الحكم الروماني، وقاموا باعتداءات علنية على الرومان. وقد أطلق على هذه المجموعات التي تمارس العدوان «السفّاكون» (Assassins)، أي الذين مارسوا القتل، ولجأوا إلى النهب واللصوصية ضدّ مخالفيهم([36]) في الرأي من اليهود أنفسهم؛ لأنهم سالموا المخالفين لهم في الاعتقاد.
يقول د. شلبي: ومن أجل هذا يعدّ الباحثون هذه الفرقة ضمن الفرق السياسية أو فرق العصابات، رغم أنهم بدأوا حركتهم في إطار ديني، ولهدفٍ ديني([37]). وهذا الاستنتاج يؤيّد ما نذهب إليه من أن الأصوليات الدينية عبارة عن تحرّك سياسي يرتدي دائماً قناعاً دينياً، وقناع تلك الجماعات الأصولية المبكرة هو أنهم قد خوَّلهم الربّ السيطرة على أراضي الغير وأموالهم، وخوَّلهم استعمال أي وسيلة أخرى للاستحواذ على بلدانهم وثرواتهم، فصار من السائغ عندهم استعمال العنف وممارسة الإبادة باسم الشرايع. ويرَوْن أن نصوص التوراة تؤيِّدهم. وكمثال على ذلك: ما جاء في قصة يشوع الذي قام بإعمال الإبادة والقتل الجماعي تحت أهداف ومدّعيات دينية. فقد جاء في سفر يوشع: إنه بعد وفاة موسى قال الرب ليشوع بن نون: مات عبدي موسى، فقُمْ الآن واعبر الأردن، أنت وجميع بني إسرائيل، إلى الأرض التي أعطيتها لهم([38]). وقد جاء في سفر يشوع ما نصّه: «ولما انتهى بنو إسرائيل من قتل جميع سكان عاي في البرية، وطاردوهم، وأسقطوهم بحدّ السيف عن آخرهم، رجعوا إلى عاي، وقضوا أيضاً على مَنْ بقي فيها بحدّ السيف»([39])، ويقصد النساء والأطفال والذين لم يكونوا من المقاتلين الذين أبيدوا في الجولة الأولى من ممارسات العنف الديني.
جاء في سفر يشوع، الآية 11: واستولى يشوع على كلّ مدن أولئك الملوك، وضربهم بحدّ السيف، ولم يُبْقِ على أحدٍ. أما السكان فضربوهم جميعاً بحدّ السيف حتّى أفنوهم، ولم يبقوا على أحدٍ، كما أمر الربّ موسى، فهكذا أمر موسى يشوع([40]).
وجاء في سفر العدد: «وكلَّم الربّ موسى قائلاً: كلِّمْ بَنِيَّ وقل لهم: إنكم عابرون الأردن إلى أرض كنعان، فتطردون كل سكان الأرض من أماكنكم، وتمحون جميع تصاويرهم، وتبيدون كلّ أجناسهم المسبوكة، وتخربون مرتفعاتهم. تملكون الأرض، وتسكنون فيها؛ لأني أعطيتكم الأرض لكي تملكوها»([41]).
إن هذه النصوص تبيح العنف، بل الإبادة الكاملة للغير عدواناً على الأمم، بل هناك نصوص تؤسّس لقتل بعضهم بعضاً. فقد جاء في سفر الخروج أنّ موسى أمر اللاويين بقتل إخوانهم وجيرانهم من عَبَدة العجل، فقتل بذلك ثلاثة آلاف رجل، اختيروا عشوائياً، كعقابٍ ديني([42]). وبهذا نجد أن النصوص الدينية تؤسّس لممارسة دموية عنيفة، حتّى أن أيمانويل هيمان يقول: «إن هذه النصوص تفرض ديانة متوحِّشة ودموية»، إشارة إلى تأثير النصّ السوسيولوجي([43]) على البشر والقِيَم السلوكية.
إن هذا الهدر لحقوق الإنسان، كالحقّ بالحياة والأمن، ومصادرة اختياره للعقيدة والتعبير عنها، وتسويغ عمليات الإبادة، صادرٌ من عقل يعتنق تمييزاً صريحاً لمجموعة (عرقية دينية) على كلّ البشر الذين خلقهم الله أيضاً. فقد جاء في التلمود أن أرواح اليهود تتميز عن بقية الأرواح؛ لأنها جزءٌ من الله([44]). ويؤكِّد التلمود أن ثروات الأرض كلها لليهود فقط، وعلى كلّ يهودي أن يمنع تسلّط باقي الأمم في الأرض على الثروة؛ لتكون السلطة لليهود وحدهم. لذلك يعيش اليهود في حرب دائمية غير معلنة مع كلّ شعوب الأرض([45])، ممّا يعني أن أغلب اليهود يؤيِّدون، أو على الأقلّ لا يمانعون، تبنّي النزعة الأصولية والعنف. ويؤكّد التلمود أن الإسرائيلي معتبر عند الله أكثر من الملائكة، فإذا ضرب أميّ إسرائيلياً فكأنّه ضرب العزة الإلهية. ويعتقد اليهود أنّ الشعوب الأخرى أعداءٌ لهم، ولا يجوز أن يشفق اليهود على أعدائهم([46]). وبذلك تؤسّس علاقة حرب دائمة مع كلّ الأمم؛ نتيجة للنزعة الأصولية التي تؤسّسها النصوص التوراتية والتلمودية.
إن هذه النصوص تؤسّس لتنامي الأصوليات، وتحفز الميل البشري إلى التشدُّد. وكما ظهرت التيارات الأصولية لليهود القدماء، ولم تجد فرصة للمراجعة أو التراجع أو إعادة النظر بسلوكها الدموي، فقد استمرّت الدموية تتصاعد مع التاريخ اليهودي، وتظهر كلما حانت الفرصة ظهوراً لافتاً. فقد ظهر في القرن الثامن عشر مَنْ يتمسك بشدّةٍ بالأصول التوراتية([47])، ويعتقد بالتشدّد أكثر من القدماء، رغم فكر التنوير، ويرى أن اليهود هم صفوة الله، فوق كونهم شعبه المختار([48])، ويعلن تَبَعاً لما تقدّم أن لهم كلّ الحقّ أن لا يطبِّقوا القوانين التي يشرِّعها الإنسان، سواء أكانت من جنس المعاهدات الإقليمية أو الدولية؛ لأنهم يرتبطون عقائدياً وعملياً فقط بأقوال الحاخامات، الذي يعدّون وحدهم الناطقين عن الله. ويعلِّل الحاخام شلومو أفنير، الذي يُعَدّ من أبرز الشخصيات المنظِّرة للأصولية اليهودية، ذلك بقوله: «إن الوصايا الإلهية للشعب اليهودي تسمو على الأفكار الإنسانية»([49]). ولأنهم يعتقدون أن تعاليم العهد القديم والتلمود وشروح فقهاء الشريعة تنطوي على إجابات نهائية وصائبة لكلّ قضايا العصر، بقطع النظر عن ظروف صدورها التاريخي، فإنهم يتمرَّدون دائماً على الإجماع الأممي، وبذلك يرَوْن أن حركة التاريخ تزدهر عند لحظةٍ بعينها، هي لحظة انتصار اليهودية على كلّ المعتقدات الدينية الأخرى، وأن أحداث العالم المعاصر ليست إلاّ امتداداً للأحداث التي وقعت في الأزمنة السحيقة([50]) من الصراعات بين اليهود وبين بقية الأمم.
إن أخطر ما أشاعته الأصوليه اليهودية اعتقادها أن التقدّم في تاريخ العالم لا يحصل إلاّ بالقوة والحروب، وليس بالسلام؛ لأن السلام لا يحلّ على الأرض أبداً، كما تؤكد العقيدة اليهودية، إلاّ في نهاية الزمن، عند ظهور المسيح المنتظر، عندما يبيد كل الأقوام الشريرة. فالزمن الذي يسبق ذلك الظهور هو زمن مشحون بالحروب والصدام والمزيد من استخدام القوّة، وحروب الإبادات الجماعية. فعلى اليهود أن يحكموا السيطرة على القرار لسياسات دول العالم القوية، ومواطن القوة كافّة (المال، السلاح، ومراكز القرار، والإعلام…، إلخ)، وجعلها ضمن التوجُّه اليهودي.
مما تقدّم نلحظ أن المواجهة بين الأصولية اليهودية واتّجاهات الحداثة (في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر)، التي ظهرت فيها دعوات التسامح والمساواة، كانت مواجهة حادة؛ لأن الحداثة كانت تهدف إلى إخراج اليهود من الجيتو التاريخي (العزلة)، وتدعوهم إلى الاندماج بالمجتمعات الإنسانية، لكنّها لم تؤثِّر فيهم، وبقي اليهود في عزلتهم. لقد صوَّر الحاخامات تلك المواجهة بين هذين الاتجاهين أنّها مواجهة بين أمّة الله والجوييم، واعتبرت الأصولية هذه الرؤى التسامحية كارثة تؤدّي إلى فقدان الهوية اليهودية. وكان أهم المروِّجين لهذه التصورات حاخامات اليهود([51]). لقد أعطاهم التنوير فرصة لاسترداد الكرامة والمساواة بشرط أن يتخلّى اليهودي عن أن يكون مختلفاً، وأن يشارك في القيم المدنية، لكنّ الرابيون الأرثوذكس عارضوه، وقالوا: إنهم تحمّلوا المذابح والجيتوات لأنهم شعب الله المختار، فلم يتنازلوا عن الشعور بالتميُّز. ولم تنظم العلاقة بين عموم اليهود والعالم في ممارسة الانتظار، والانعزال عن الأمم لقبض مكامن المال، بظهور الحركة الصهيونية، التي جمعت أغلب اليهود في فلسطين، واعتبرتها الجيتو الكوني الكبير الذي سيتوسَّع من الفرات إلى النيل. لقد أوجدت لهم دولة خاصّة بهم كما يزعمون، ونظمت لوبيات يهودية في أغلب دول الغرب؛ للسيطرة على القرار الدولي ومؤسّسات والمال والإعلام، وساهمت مساهمة فاعلة في تشجيع المسيحية الإنجيلية([52]). وتضم إسرائيل حالياً أغلب يهود العالم. وتعتبر صهيونية هرتزل صهيونية سياسية؛ لأنها حوَّلت المشكلة اليهودية من صراع ديني إلى مشكلة سياسية ذات جذور دينية، وأوجدت حركه سياسية منظّمة، ومحدّدة الأهداف والوسائل، ثمّ تحوَّلت الحركة الصهيونية إلى دولة تمتلك أسلحة الدمار الشامل، وكانت فلسفتها هي العقيدة الصهيونية وأبعادها الدينية، كخلفية نظرية لهذه الحركة السياسية. لذلك يجد الباحثون أن «دولة الكيان الصهيوني» في فلسطين مثالٌ حيّ لممارسة الدولة اليهودية للسلوكيات الأصولية بكلّ تداعياتها وتحدّياتها المحلّية والإقليمية والعالمية. ومن أخطر أسس تلك التحدّيات الربط بين الدين والقومية لإنتاج أصولية مركّبة تسمّى أمة الله المختارة، التي تشرِّع لهم هدر القيمة الإنسانية، والسيطرة على ثروات الشعوب، والاستمرار بتهديد الأمن والسلم العالمي، وعدم التعاون مع الأمم؛ إذ يرَوْن أنّه لا بُدَّ من الانكفاء على الذات؛ للحفاظ على النقاء العرقي، وقطع الطريق نهائياً أمام فكرة قبول الآخر، حتّى أن العلمانيين اليهود داخل إسرائيل لم يتخلّوا عن هذه التصوُّرات رغم علمانيّتهم([53]).
يقول لوستيك: إن الخطر الرئيس الذي تتعرّض له الديمقراطية الإسرائيلية يكمن في الاتجاهات المتعصّبة المتمسّكة بحرفيّة النصوص، دون إعمال العقل أو تطوير الفكر الديني اليهودي، وتكييف النصوص لصالح التقدُّم([54]). ومن تداعياته ظهور جماعات أصولية شديدة التطرُّف، مثل: جماعة (إعودات) و(ينطوري كارتا) و(الحسيدية) و(غوش إيمونيم)([55]).
لقد أفرز الفكر الأصولي اليهودي مجموعة من الوصايا السياسية الدينية، ذات الأثر المهمّ على السياسات العالمية. وأبرز تلك الوصايا:
1ـ إن تحقيق مصلحة إسرائيل واجب ديني، وليست هناك استحقاقات تعارض هذه المصلحة المقدّسة للآخرين في فلسطين؛ لأن سكانها كفّار، ويستحقون القتل والإبادة. وهذا يجعل كل توراتيّي العالم صفّاً لمساندة إسرائيل بوصفها واجباً دينياً([56])، دون النظر إلى المظالم التي تلحق بالآخرين.
2ـ إن الاعتقاد بأن المسيح المنتظر سيظهر في القدس يؤسّس للاستعداد لظهوره، وذلك ببناء الهيكل، وتمكين الدولة اليهودية بامتلاك الأسلحة المدمّرة، وإضعاف الآخرين؛ تمهيداً لإبادتهم، كشرطٍ من شروط مجيء المسيح.
3ـ لقد وجدت إسرائيل بأمرٍ إلهي وبإرادة ربّانية، وصارت دولة يهود العالم أجمع، فلا بُدَّ من دعمها وحمايتها، وإنْ اقتضى ذلك تدمير الآخرين؛ لأن إرادة الربّ إرادة حتمية قهرية، تطبَّق على البشر، كما تطبق على الطبيعة.
4ـ اعتقادهم بأنهم شعب الله المختار. فهم لا يلتزمون بما تقرّره الهيئات الدولية؛ لأنها قرارت بشرية([57]). وبهذا نفسِّر عدم قبول إسرائيل الانضمام إلى المعاهدات الدولية، مثل: معاهدة حظر الأسلحة النووية، وغيرها، ونفسّر عدم التزام الكيان الإسرائيلي بعشرات القرارات الدولية، سواء صدرت من مجلس الأمن أو من الجمعية العامة للأمم المتحدة.
5ـ إن إضعاف الشعوب الأخرى، وعدم السماح لها بتملّك عناصر القوّة، كما في مواقف إسرائيل من المفاعل النووي العراقي والإيراني والقدرة العسكرية المصرية والسورية، يعدّ واجباً دينياً يهودياً؛ تمهيداً لإزالة وجودهم واستئصالهم. لذلك نشهد إصرار التوارتيين داخل إسرائيل وخارجها على حرمان دول العالم الإسلامي من تملُّك التكنولوجيا المتقدّمة، والتضامن مع إسرائيل عندما دمَّرت المفاعلات النووية في البلدان العربية والإسلامية، ومن ذلك تدميرهم المفاعل النووي العراقي، ومؤسّسات الدفاع السورية، وموقفها المتشدِّد حالياً من الملف النووي الإيراني.
ممّا تقدّم يظهر لنا:
1ـ أن أتباع الديانة اليهودية؛ وبسبب وجود النصوص الدينية التي تدعوهم إلى العنف، وتؤسّس لهم المشروعية الدينية له، ظهرت في أروقتهم النزعات الأصولية في الأزمان البشرية الأولى، وفي بواكير التجربة الدينية اليهودية. وكون التشدُّد ناتجاً مباشراً من النصّ فإنّه سيكون أقوى وأشد تأثيراً من الناتج من أروقة تفسير النصّ.
2ـ لقد أشار البحث إلى صراحة نصوص التوراة والتلمود على ما يثير النزعة الأصولية لدى اليهود. فإذا التزمنا بنتائج التحليل السايكولوجي لآثار النصّ الديني على العقل المعرفي والقيم السلوكية، وعرفنا سوسيولوجيا النصوص الدينية على الدوافع والسلوك، سيتبيَّن أثر النصوص على خلق النزاعات الأصولية.
3ـ لاحظنا أن باحثين يرَوْن أن الجماعات الأصولية موجودة في كلّ الأديان، بَيْدَ أنها ليست دينية، إنما أحزاب سياسية تدعم أيديولوجيتها وبرامجها بغطاءٍ ديني، سواء باستخدام النص الحرفي أو تأويل النصّ لصالح الأيديولوجيا الأصولية. ومن خلال تتبُّع هذا الاستنتاج في الممارسات الأصولية الفكرية كافّة تبين للباحث أن هذه الفرضية سمة عامّة موجودة لدى كلّ الأصوليات الدينية.
4ـ أن من آثار النصّ على امتلاك الحقيقة النهائية ظاهرة التمرّد اليهودي على الإجماع الأممي والشرعة الدولية، فهو مسوَّغ دينياً لدى اليهود، رغم خطورته عالمياً. وهو يجعل من الأصولية اليهودية بؤرة للتوتر الدولي، ويجعل من كيانهم نظاماً يزعزع السِّلْم والأمن الإنساني، في عالم اكتشف أخطر أسلحة الدمار الشامل.
5ـ أن الأصولية اليهودية تؤمن بتوقّف التاريخ عند لحظة انتصار اليهود على بقية الأمم. وهي في عرفهم الديني لحظة أنموذجية، تكون المعيار للتوجّهات والتصوّرات اللاحقة. وقد نجد هذا سمةً عامّة في سمات كلّ الأصوليات الدينية.
6ـ أن الأصولية اليهودية ترى أن الحروب هي التي تصنع المصير ونهايات التاريخ، وليس السلام والتعاون بين الأمم.
7ـ أن الارهاب الأصولي اليهودي إزاء الآخر إرهاب منظَّم من جهةٍ، ومتعدِّد الأنواع من جهة أخرى. فهو منظم لأنه ينطلق من خلال السيطرة اليهودية الممنهجة على الحركه الدولية للأموال، وعلى إمبراطوريات الإعلام، ودوائر صنع القرار السياسي؛ ومتعدِّد لأنّه يصدر من (دولة إرهابية أصولية) مثل: إسرائيل، بحيث يجسد إرهاب الدولة، كما يصدر من أحزاب وجماعات يهودية داخل إسرائيل وخارجها، بحيث يجسّد إرهاب الجماعات والمنظّمات.
8ـ أن الأصولية اليهودية ليست أصولية دينية فقط، كالأصولية الإنجيلية أو الإسلامية، وليست أصولية عرقية فقط، كالأصولية الألمانية، إنما هي أصولية مركّبة دينية عرقية معاً، وقد أنتجت مركباً بين العرق المتميّز عنصرياً والدين المدّعى أنه الطريق الأوحد للخلاص، فقد صاغت الصهيونية منهما أصوليةً مزدوجة.
9ـ ممّا تقدّم من عرض موجز للأصولية اليهودية وأسسها وآثارها يتعزّز القول بأن الأصوليات ظاهرة قابلة للنشوء والتطوّر في كلّ المنظومات الثقافية والدينية، وأن حصر الأصولية في دينٍ ما، أو ثقافةٍ ما، رأي غير سديد، ولا تسنده وقائع وتاريخ الأصوليات في العالم القديم والحديث.
الهوامش
(*) أستاذٌ جامعيّ بارز، وكاتبٌ في مجالات الفقه والفكر الإسلاميّين. من العراق.
([1]) الجرحاني، التعريفات 1: 8.
([2]) الصاحب بن عباد، المحيط في اللغة 3: 233.
([4]) ابن منظور، لسان العرب 13: 16، مادة أصل.
([5]) محمد تقي الحكيم، الأصول العامة للفقه المقارن: 35.
([6]) طيب تيزيني، الإسلام والعصر: 239، دار الفكر، سوريا.
([7]) روبن راتب، رؤية جديدة للدين الإسلامي، مجلة لوس أنجلوس، أبريل 1996، نقلاً عن: جيل كيبل، يوم الله: 66.
([8]) إيمانويل هيمان: الأصولية اليهودية: 11.
([10]) روجيه غارودي، الأصوليات المعاصرة: 37.
([11]) قاموس أُكسفورد، مفردة Fundamentals.
([12]) عبد الرحمن اللويحق، الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة: 174، مؤسّسة الرسالة، بيروت، ط2، 1992.
([13]) عماد علي عبد السميع حسين، الأصولية الإسلامية والأصوليات الأخرى: 176.
([14]) روجية غارودي، الأصوليات: 48.
([15]) أحمد شلبي، اليهودية: 54.
([16]) العهد القديم، سفر الخروج: 46.
([17]) أحمد شلبي، اليهودية: 73.
([18]) عمر رشدي، الصهيونية وإسرائيل: 3.
([19]) أحمد شلبي، اليهودية: 269.
([20]) روهلبخ، الكنـز المرصود في قواعد التلمود: 48 ـ 49.
([21]) المصدر السابق: 51 ـ 55.
([23]) سليمان مظهر، قصة العقائد: 318.
([24]) جواد علي، تاريخ العرب قبل الإسلام 6: 95.
([25]) ر. س. زينر، موسوعة الأديان الحيّة 1: 101.
([26]) إسماعيل أحمد ياغي، الإرهاب والعنف: 47.
([27]) وجدي المصري، البعد التوراتي للإرهاب الإسرائيلي: 499.
([28]) راجح خوري، منطق التوراة: 21.
([30]) انظر: سفر أرميا، الإصحاح 31، الفقرة 34 ـ 35؛ انظر: سفر أرميا، الإصحاح 33، الفقرة 20 ـ 26.
([31]) الكتاب المقدّس، سفر اللاويين 20: 26.
([33]) روهلبخ، الكنـز المرصود في قواعد التلمود: 111.
([34]) يقول د. هربرت لوي، الأستاذ في اللغة العبرية في أُكسفورد: إن اليهودية تقوم على أساسين، هما: الوحدانية؛ واختيار إسرائيل. (انظر: شلبي، اليهودية: 218).
([35]) نور الدين خليل، ناموس الأديان الكبرى الثلاث: 813، مؤسّسة حورس الدولية مصر، الإسكندرية، 2010.
انظر: أحمد شلبي، اليهودية: 95.
([36]) أحمد شلبي، اليهودية: 233.
([37]) المصدر السابق: 234، نقلاً عن:
the Jewish world in the time of Jesus. pp 169 ـ170.
([41]) العهد القديم، سفر العدد، الإصحاح 33، الفقرة 50 ـ 53.
([43]) إيمانويل هيمان، الأصولية اليهودية: 32.
([46]) أحمد شلبي، اليهودية: 273.
([47]) عماد علي عبد السميع، الأصولية الإسلامية والأصوليات الدينية الأخرى: 17.
([48]) انظر: روهلبخ، الكنـز المرصود في قواعد التلمود: 51، واستناداته إلى سفر اللاويين 20: 24 ـ 25.
روهلبخ مدرِّس بجامعة براغ. ترجم كتابه من الفرنسية إلى العربية د. يوسف نصر الله. (انظر: أحمد شلبي، اليهودية: 270).
([49]) هيمان: الأصولية اليهودية: 12.
([51]) ر. س زينر، موسوعة الأديان الحيّة: 98.
([52]) إيان لوستيك، الأصولية اليهودية في إسرائيل: 22.
([55]) عبد المجيد همو، الفرق والمذاهب اليهودية: 140.
([56]) سالم الكسواني، المركز القانوني لمدينة القدس.
([57]) انظر: عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية 4: 11؛ كذلك: منى إلياس، الأصوليون اليهود بين أساطير التوراة والعلم؛ إيمانويل هيمان، الأصولية اليهودية: 36.