"الإسلام السياسي"، هو أحد العناوين الملتبسة التي أُثيرت حولها زوبعة من الاختلافات والجدل في عصرنا الراهن، خصوصاً منذ النصف الأخير من القرن العشرين، وما رافق ذلك من أحداث ومنعطفات كبرى أثّرت بشكل كبير في حاضر المنطقة العربية بخاصة والإسلامية بعامة. وكون الفكر الديني يمثل أحد أبرز العوامل الفاعلة في تشكيل اتجاهات الرأي العام وتحريكه، حيث تعتبر الفتوى المتفاعلة مع التحولات السياسية، عنصراً مؤثراً بشكل كبير في ذهنية العقل الجمعي، انقسمت الدعوات بين من يدعو إلى فصل الدين عن الدولة كخيار أمثل لبناء الدولة الحديثة، ومن يدعو إلى اتخاذ المنظومة الفكرية الإسلامية ونقلها من الإطار الفقهي النظري إلى ميدان الواقعية السياسية، مع لحظ أن هذا التوجه يقتضي مراجعة فكرية ونقدية شاملة للتأسيسات الفقهية التي لا تنسجم والواقع المعاصر.
ويأتي هذا الكتاب الذي صدر عن مركز (ابن إدريس الحلي) للتنمية الثقافية والفقهية، والذي جاء بعنوان "الفكر السياسي عند السيد محمد حسين فضل الله"، لبيان واقعية الفكر السياسي عند شخصية دينية مرموقة، امتلكت رؤيةً فكريةً، ووعياً سياسياً مكتملاً بالبعد العقائدي، إذ يعدُّ سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله (ره) من أبرز المفكرين الإسلاميين المعاصرين.
وكما يوضح مؤلف الكتاب، نزار محمد جودة الميالي، في هذه الدراسة التي تعدُّ – حسب رأيه -سابقةً علمية، والأولى من نوعها على مستوى الطرح الأكاديمي في كلية العلوم السياسية – جامعة بغداد، كونها تناولت الفكر السياسي المعاصر لمفكر كان مازال على قيد الحياة عندما أُعِدَّت.
وقد قُسّمت الدراسة إلى مقدمة ومدخل تمهيدي وثلاثة فصول وخاتمة.
بدايةً، تطرَّق المؤلف في التمهيد إلى السيرة الذاتية لسماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله (ره)، معتبراً أنه، ولدراسة أيّ فكر أو مدرسة فكرية، لها منطلقاتها على الصعيد الاجتماعي والديني والسياسي، لا بدَّ من تفكيك العوامل التي دفعت لولادة ذلك الفكر. ولذلك، فإن معالجة فكر سماحة السيد محمد حسين فضل الله (ره) اقتضت التعرف إلى طبيعة البيئة الاجتماعية التي ترعرع فيها، وأبرز المؤثرات التي أسهمت في صياغة أفكاره وتصوراته، فكان ذلك في مبحثين؛ يتناول الأول السيرة الذاتية لسماحة السيد فضل الله (ره)، ولادته ونسبه، نشأته العائلية، تحصيله الدراسي، وأهم مؤلَّفاته ونتاجاته الفكرية الغزيرة التي تناولت شتَّى المجالات، منها القرآنية، والاجتماعية، والأدبية، والسياسية، والفقه، والسيرة… والتي عكست بطبيعة الحال ثوابته(ره) ورؤاه، وذلك في ثلاثة مطالب.
فيما اهتم المبحث الثاني بتناول أبرز المؤثرات التي أسهمت في صياغة معالم الفكر السياسي عند سماحته(ره)، وأهمها العوامل البيئية، حيث عاش سماحته نمطين من الأنماط البيئية التي تركت بصماتها على أُفقه المنفتح، وقد عالج المؤلف هذه المسألة من خلال مطلبين؛ شُغل الأول بالحديث عن تأثير البيئة النجفية في آراء سماحته (ره) السياسية وعلاقته بحزب الدعوة، فيما ذهب الآخر إلى البحث في تأثير البيئة اللبنانية في فكر سماحته بعد عودته إلى لبنان، متناولاً في هذا الإطار موقف سماحة السيد فضل الله من الأزمة اللبنانية، وتحليلاته لها ومتطرقاً إلى موقفه (ره) من التنظيمات الدينية والسياسية التي شهدها لبنان ومنها تأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، ومسألة علاقته (ره) بحزب الله حيث رفض سماحته(ره) أن يقيّد نشاطه ويحصره في إطار حركة أو تنظيم محلي، لأنه كان يعتقد أن مكانته ومسؤوليّته كمفكر إسلامي أكثر سعة وطموحاً، ولكنه في الوقت ذاته، أبقى على علاقته بتلك التنظيمات والحركات الإسلامية في إطار التشاور والحوار وخصوصاً حول القضايا السياسية.
ومن الأمور التي تطرَّق إليها المؤلِّف أيضاً، محاولات الاغتيال التي تعرض لها سماحة السيد فضل الله(ره) والتي كان أخطرها متفجرة بئر العبد عام 1985م، والتي راح ضحيتها العشرات ما بين قتيل وجريح.
في الفصل الأول من الكتاب، يبحث المؤلف في موضوع السلطة في فكر سماحة السيد فضل الله (ره)، محدداً بدايةً مفهوم السلطة السياسية بدلالتها اللغوية والاصطلاحية بشكل عام، ومفهوم السلطة في الإسلام ومصدر شرعيتها، ومن ثم يُعرّج على خلفيات ومتبنيات السلطة السياسية في فكر سماحة السيد فضل الله(ره)، وموقفه من النظريات المادية لتفسير السلطة.
متناولاً ذلك في مبحثين:
المبحث الأول: يتحدث فيه عن رؤية سماحة السيد(ره) حول ولاية الفقيه، مشيراً إلى معنى ولاية الفقيه حسب رأي سماحته، حيث إنه يعترف بشرعية ولاية الفقيه المحدودة، وهو يؤمن بها على أساس التكامل ما بين المعرفة الفقهية وحركية الواقع التي تتطلب الحفاظ على المنهج الإسلامي بأحكامه الفقهية، والانفتاح على التطور في بناء النظام السياسي؛ إلا أن الخلاف عنده يقع عند سعة الصلاحيات لدى الولي الفقيه التي يقول بها بعض الفقهاء، فيشدِّد في هذا الإطار بأن ولاية الفقيه يجب أن تنطلق في الدائرة التي يملك فيها الفقيه السلطة لا أن تشمل البلاد الإسلامية كافةً، أو أيّ بلدٍ مختلط لا يملك فيه الفقيه السيطرة الاقتصادية والاجتماعية. ودور الولي الفقيه عنده يأتي في دائرة حفظ النظام، إضافةً إلى كونه دوراً رقابياً لمراقبة أداء النظام السياسي، وليس له دور تشريعي أو تنفيذي بشكل مطلق.
ومن ثم يُعرِّج الكاتب على الشروط اللازمة للتصدي للولاية العامة، محدداً مفهوم المرجعية وشروطها، كعنوان أول، وفي عنوان ثان، يبرز الفرق بين مرجعية الفتوى ومرجعية الولاية العامة، لينتقل في العنوان الثالث للتطرُّق إلى الإشكاليات التي تُطرح حول نظرية ولاية الفقيه، وكان أهمها:
– إشكالية الوحدة والتعدد
– إشكالية تصدي المرأة للقضاء ورئاسة الدولة.
وينصرف الكاتب في المبحث الثاني إلى عرض الرؤى النقدية للمدارس المادية الماركسية والرأسمالية، تلك المدارس التي جاءت بنظريات شاملة لمعالجة الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للمجتمع، ووقفت موقفاً مناهضاً للدين منطلقة من الدور والأداء السلبي للمؤسسات الدينية الذي سبق أن أدَّته في مجتمعاتها من استغلال للدين وتجيير نصوصه لمصالح فئة خاصة. فيتناول المؤلف في مطلبين اثنين على التوالي المدرسة الماركسية ومنطلقاتها الأساسية، وأهم الانتقادات التي يوجهها إليها سماحة السيد وكذلك الأمر بالنسبة للمدرسة الرأسمالية.
وأما بالنسبة للفصل الثاني من الكتاب، حيث سعى الكاتب لتبيان موقف سماحة السيد فضل الله من التعددية الحزبية، موزعاً هذا الفصل إلى ثلاثة مباحث؛ فيتطرق بداية في المبحث الأول إلى مفهوم الحزب والتعددية الحزبية، ومن ثم يبيّن موقف الفكر الإسلامي من التعددية الحزبية، وأبرز الاتجاهات الفكرية التي ناقشت هذا الموضوع والتي تنوّعت ما بين مؤيد للتعددية ومعارض لها.
ومن ثم يعرض رأي سماحة السيد فضل الله حول التعددية الحزبية، حيث يعتبر سماحته أن الرأي الإسلامي يعد الحزب الإطار العملي الواقعي لعملية التغيير، ويرى أن عملية التنظيم الحزبي يعد أساساً للنمو والتطور والوصول إلى نتائج حاسمة، مؤكداً على ضرورة وأهمية التنظيم في العمل الإسلامي والحاجة إليه على مستوى العمل الفكري في خط الدعوة، مؤيداً مأسسة العمل السياسي. وفي المطلب يستعرض الكاتب الردود التي يقدمها سماحة السيد فضل الله على الطروحات التي ترفض التعددية الحزبية، ويتصدى لها بالدراسة والنقد والتحليل. وفي المطلب الثالث يعدِّد الكاتب مكاسب الأحزاب السياسية ووظائفها في النظام الإسلامي من خلال رؤية سماحة السيد فضل الله الذي حدَّد دور الحزب السياسي في ظل نظريتين أساسيتين في مسألة القيادة الشرعية وهما نظرية الشورى ونظرية ولاية الفقيه.
ويذهب الكاتب في المطلب الثالث إلى تناول مشروعية التحالف مع الأحزاب العلمانية، وكيفية تكييف العلاقات بين القوى الإسلامية في ظل الأنظمة الوضعية بهدف حفظ النظام العام.
وجاء الفصل الثالث تحت عنوان علاقة المسلم بالدولة الإسلامية، ومن خلاله يوضِّح الكاتب محددات فكر سماحة السيد فضل الله(ره)، وإبراز مكوناته من خلال توظيف النص الديني لينسجم والتحولات والمتغيرات الحداثوية. ومن هنا يُقسِّم الكاتب هذا الفصل إلى ثلاثة مباحث، يبحث في الأول ماهيَّة المواطنة وتطورها التاريخي، ومن ثم يعالج إشكالية المواطنة في الفكر الإسلامي المعاصر، ويحدِّد بعدها المواطنة في فكر سماحة السيد فضل الله، حيث أن تعامل سماحته مع قضية المواطنة ينبع من إدراكه لطبيعة التنوّع المجتمعي ، وهو يدعم حركة التنوّع من خلال توظيفه النصوص الدينية التي تنص على مشروعية حركة التنوع في ظل الدولة الإسلامية، وإعطاء مساحة لهذا التنوع بشكل يضمن حقوق الأقليات الدينية موصلاً ذلك بدورهم في النشاط السياسي داخل الخط العام للنظام الإسلامي.
ومن ثمَّ يتناول في المبحث الثاني الرقابة الشعبية على السلطة السياسية عند سماحة السيد فضل الله(ره) مقسِّماً هذا المبحث إلى أربعة مطالب، عالج في الأول الإطار النظري لمفهوم الرقابة الشعبية على السلطة السياسية، وتناول في الثاني دور الأمة في العملية الرقابية عند سماحة السيد فضل الله(ره) الذي أكد شرعية الأداء الرقابي للأمة وأهميته.
ويدور المطلب الثالث حول الإشكاليات التي تتعلق بالمعارضة السياسية.
ينهي الكاتب دراسته هذه، بخاتمة تضمنت جملة من الاستنتاجات التي خلُص إليها من خلال المحاور التي تم تناولها ودراستها بشكل مفصَّل في هذه الرسالة حول الفكر السياسي عند سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله (ره).
تجدر الإشارة إلى أن هذه الدراسة التي أعدها الباحث نزار محمد جودة الميالي هي عبارة عن أطروحة جامعية تقدَّم بها الميالي لنيل شهادة الماجستير في العلوم السياسية من جامعة بغداد، وقد بذل الكثير من الجهد في سبيل إنجاز هذه الدراسة، فقام بالسفر مرات عديدة إلى الشام من أجل لقاء سماحة السيد فضل الله(ره) للاستفسار منه بشكل مباشر حول آراءه وأفكاره المرتبطة بالشأن السياسي، علماً بأنه من ذوي الاحتياجات الخاصة.
ختاماً إن هذا الكتاب يُشكِّل إضافةً مهمةً وضرورية للاطلاع على النظريات والرؤى السياسية لمفكر إسلامي معاصر، لطالما ملأ الساحة الإسلامية علماً وفكراً وجهاداً وحركة في خط المسؤولية في مختلف المستويات.