إيمان شمس الدين
صناع التاريخ تبقى شخصياتهم تحت مبضع التشريح دون حدود زمنية، لمعرفة خصوصياتها و أسرارها و أسباب نجاحها الذي غير الزمن، كي تبقى نموذجا لقدوة صالحة للأجيال تدفع باتجاه المثابرة نحو المجد.
وشخصية الإمام الخميني من الشخصيات التاريخية الممتدة في أثرها، والمتجاوزة في عطائها و إنجازها التاريخ زمانيا ومكانيا، خاصة لو قرأنا الإنجاز ضمن مجموعة الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وحاولنا عمل مقارنات علمية ما قبل الإنجاز وما بعده.
أسس الإمام في نضاله الثوري لمنهج عميق ارتكز في جوهره على حادثة تاريخية مهمة في أبجديات الشيعة وهي واقعة كربلاء، وخاصة شخصية الإمام الحسين (ع) و الظروف التي أحاطت عصره.
وكان تأسيسه ليس ماضويا، بل مزج ثوابت الماضي المستمرة بمتغيرات راهنه و معطياتها، و كان سر نجاح هذه الخلطة السرية مفتاح أسمه الإخلاص الشديد.
إخلاصه للفكرة بكل أبعادها وعلو همته وعزيمته في تحقيقها.
أسس الإمام منهجا للثورة تكون مآلاته الحقيقية قيام الدولة.
وهو ما يعني امتلاكه رؤية كاملة حول مشروعه النهضوي، من انطلاق الثورة ومنهجها وأدواتها، إلى ما بعدها حيث امتلك رؤية إجمالية تأسيسية عن أي دولة ستكون إيران وما هي معالمها، أي من أين وفي أين وإلى أين.
الثورة في فكر الإمام:
تميزت ثورة الإمام برؤية ناهضة اعتمدت على تكتيكات جمعت بين استنهاض إرادة الشعب، وإدارة النخبة لحركة الشعب، واتصال مستديم بين القيادة وأتباعها اتصال وعي محوره حب القائد لشعبه واحترامه لكينونتهم الإنسانية ولغة بسيطة وعميقة تنويرية ونهضوية.
فجمعت الثورة عناصرها كاملة:
- إرادة شعبية رافضة
- رؤية وهدف
- نخبة رائدة ومثقفة
- قيادة متواضعة بسيطة وعميقة الخطاب ومتواصلة مع النخب والشعب.
تميزت ثورة الإمام بسلميتها ووضوح أهدافها وبرز ذلك جليا في إجابة الإمام الخميني في لقاء له في التلفزيون الفرنسي القناة الأولى حينما كان في فرنسا في نوفل لوشاتو، في ٢٧ تشرين الأول من عام ١٩٧٨ م أي قبل انتصار الثورة بأشهر تقريبا حول أسباب مطالبته بخروج الشاه فأجاب :
- قبل أكثر من خمسين عاما فرضت علينا الدول الأجنبية والد الشاه الحالي ملكا علينا وكذلك الشاه نفسه وأعترف الانجليز بأنهم من أجلس الشاه السابق على العرش عبر إذاعة دلهي.فنحن مقموعين ومضغوطين منذ خمسون عاما.
- نفتقر إلى ثقافة مستقلة فثقافتنا فرضها علينا الشاه بأمر آخرين، ونفتقر كذلك جيش مستقل، وتقتصادنا مريض واجواؤنا السياسية غير سليمة.
- مدارسنا غالبا ما تكون معطلة والأوامر تقضي بإبقاء الطلبة متأخرين للحيلولة دون بروز مفكرين وعلماء في البلاد.
- صحافتنا ووسائل إعلامنا التي يفترض أن تكون في خدمة الإعلام والحقيقة أصبحت وسائل لخدمة الشاه طوال الخمسين سنة الماضية.
- حرم الشعب من أبسط حرياته، فليس لدينا مجلسا وطنيا خلال النصف قرن الأخير
- لقد سد الشاه منافذ التقدم أمام شعبنا ومنع ثقافتنا الوطنية من الارتقاء، وجعل جيشنا أداة بيد الجيوش الأخرى يتحكم فيه المستشارون العسكريون الأمريكان.
- تحطيم الاقتصاد وتدميره بشكل كبير رغم ما نملكه من ثروات.
- ولم يعد للزراعة وجود في إيران رغم ثراء تربتها.
- تبديد الثروة النفطية.
ومن هنا يتضح جليا حضور فكرة الدولة بأسسها كاملة في ذهنية الإمام، فهو ثار ولديه مشروع بديل لما ثار عليه، مشروع دولة برزت معالمها بعد سقوط الشاه.
الدولة في فكر الإمام:
فقد ركز في إجابته على التعليم والأمن والاقتصاد والسياسة وهي ركائز قيام الدول، وبين بشكل جلي مكامن الخلل والفساد في دولة الشاه، وكان قد قال كلمة في ختام لقاء صحفي له مع مراسلون بريطانيون وفرنسيون وألمان في باريس في نوفل لوشاتو في ٧ نوفمبر ١٩٧٨م وضح فيه بعد أن بين مكامن الفساد في دولة الشاه في اللقاء السابق، وضح نوع الحكومة التي يقترحها في إثبات واضح لاكتمال مشروع الدولة البديل بعد الثورة حيث قال:
“بالنسبة لنوع الحكومة التي نقترحها فهي جمهورية إسلامية مبنية على مبدأ احترام حرية البلاد واستقلالها وإقامة العدل وإصلاح جميع مؤسسات الدولة. وعند تحقيق هذه الأهداف سيرى العالم بأم عينه حقيقة تلك الجمهورية” صحيفة الإمام ج ٤ ص ٣٥٣ إلى ٣٥٤.
وقد كان الإمام رحمه الله درس رؤيته حول الحكومة الإسلامية في النحف الأشرف في فترة إقامته فيها أي بدايات الثورة، وهو ما يوضح جليا أنه ثار ولديه مشروع دولة متكامل، وأهداف واضحة وأدوات صالحة، ورغم عدد الشهداء الكبير الذي سقط في سبيل قيام الجمهورية التي أراد، إلا أنه لم يفتي بحمل السلاح بل دعا إلى حمل الورود في وجه الجيش الإيراني والذي كان له أثرا كبيرا في تداعي كثير من أبناء الجيش لثورة الإمام والانضمام إليها.
واليوم يقف الإنسان على عتبات التاريخ ليرى ويقارن أين كانت إيران قبل الثورة وأين أصبحت، وهل فعلا حقق الإمام وعده بأننا سنرى بأم عيننا حقيقة تلك الجمهورية؟
لقد عَبَرَ الإمام بثورته إلى دولته التي أراد، ثقافة مستقلة غير تابعة نابعة من وحي القرآن وتضحيات عاشوراء، وجيش مستقل قوي غير تابع لأي جهة عظمى في العالم، وإنجازات علمية متقدمة على كافة المستويات، وديموقراطية تم تفصيلها وفق ثقافة إيران وانتمائها الاسلامي والجغرافي جمعت بين المشروعية والمقبولية، أي بين الله والناس. فكل ما ركز عليه الإمام من أسباب للثورة في إزاحة الشاه، حوّلها إلى نجاحات وإنجازات، امتلكت فيها إيران المكنة والاقتدار والاستقلال، حتى باتت اليوم دولة مستقلة يحسب لها ألف حساب في العالم، وتلعب دورا مهما في تحرير الشعوب من استعمار الخارج والداخل.
ومن أهم ركائز نجاح الثورة هو عدم إسقاط الأشخاص فقط والإبقاء على الفساد الذي أسسوه في الدولة، أي على نظام دولتهم، فالإمام رحمه الله أسقط الشاه ورجالاته ونظامه الفاسد، واستبدله بنظام دولة مغاير ابتدأه من اسم الدولة إلى دستورها إلى مؤسساتها الديموقراطية إلى العلم المعبّر عن الدولة، إلى عقيدتها ومبانيها، أي هو استبدال شبه كامل للشخصيات والمنهج والنظام، وإقامة دولة بنظام وقواعد جديدة. وهذا هو أحد أهم أسرار نجاح ثورة الإمام.
فكلنا يعلم أن الثورات التي حدثت في السنوات الأخيرة فشل أغلبها، والأسباب الرئيسية للفشل هو غياب مشروع دولة بديل، وغياب القيادة الصالحة، و إسقاط الأشخاص مع الإبقاء على منهج ونظام الحكم المسقط، أي بقاء الفساد ورجالاته.
هذا فضلا عن عدم السعي نحو امتلاك المكنة والاقتدار والاستقلال، والاعتماد على الذات، أي عدم وجود أدوات صالحة للثورة وكذلك أهداف واضحة جلية.
إن ما حققه الإمام الخميني من تغيير لمسار التاريخ هو إنجاز عالمي، حرف أطماع ومخططات المستعمرين في الهيمنة على الثروات واستعبادنا وأربك كل مخططاتهم، وسار بإبران مسارا آخرا قدم نموذجا لمنطقة غنية بالثروات، نموذجا يعلم الدول والشعوب كيف تستقل وتنهض وتتحرر وتصبح دول وشعوب جديرة بالحياة والوجود. بل جديرة بالحرية والاستقلال ليس فقط كشعار وإنما كحقيقة. ستدرك الإجيال اللاحقة أكثر مع التقادم حجم الإنجاز التاريخي الذي حققه الإمام رحمه الله.