نقد وتحليل
الشيخ محمود طاهري
يقول الشيخ حيدر حب الله: (النقطة الأخرى هي أنّه من الضروري وضع الخطباء المنبريين في حجمهم الطبيعي، وذلك عبر تحريض العلماء والمفكّرين والمجتهدين لنقدهم أمام الملأ وبصورة واضحة، إذ السكوت عنهم هو الذي جعلهم يتصوّرون أنّهم قادرون على قول ما يريدون ولو من غير دليل معتبر في مدارس الاجتهاد الإسلامي العريقة، لقد أخذ هؤلاء موقعاً أكبر من حجمهم الطبيعي بسبب سكوت العلماء في هذا المجلس وذاك عن تصويب حركتهم بطريقة بنّاءة لا تستهدف تشويههم ولا التنقيص من شأنهم، ومن الطبيعي أنّنا نتحدث هنا عن الحالة الغالبة، وإلا ففي الخطباء أنفسهم علماء ومفكّرون بارزون والحمد لله) (حوارات ولقاءات: 161).
قرأتُ هذه الكلمات للشيخ حيدر حبّ الله، وشممت منها اللغة السلبيّة والتي قد تُحمل على التحريض والمحاربة للخطباء! بل الإنصاف يقتضي أن أقول بأنّ: (التحريض واضحٌ وبألفاظه الصريحة).
ومؤدّى كلماته هي المواجهة العلنية، والتي من لوازمها أولاً: الإفضاح والتشهير من خلال النقد العلني، بحجّة أنّ السكوت عن النقد هو الذي جعل الخطباء يتصوّرون بأنهم قادرون على قول ما يريدون، على حدّ تعبيره.
وإن كان ظاهر هذا الكلام هو النقد بغرض الإصلاح وتقنين الخطاب الديني المنبري؛ وذلك لكونه – أي الخطاب المنبري – أبلغ مادّة مؤثرة على عقول الناس وعواطفهم، وهذا الأمر مخيف في حدّ ذاته لدعاة الإصلاح الديني والمعرفي، مما يعني: التفكير بآلية معينة لغرض صدّ التجاوزات التي قد تحصل على منبر الإمام الحسين (ع)، وقد ذكر الكاتب الموقّر الشيخ حب الله حيثيّة جوهرية وهي التحريض، إلا أنّها مقيدة ومركّبة بعنصرين مقومين للمادة الرئيسية، والتي هي التحريض:
أوّلها: أن يكون “أمام الملأ”، وثانيها: أن يكون التحريض المقيد بكونه أمام الملأ صورته واضحة.
ولديّ هنا في هذا المقام بعض التعليقات على هذه الكلمة، وغرضي من ذلك نقد هذه العبارات بصورة واضحة، وأمام الملأ الفيسبوكي وغيره من أدوات التواصل الإجتماعي، ولكن بعيداً عن لغة التحريض والتهويل التي دعا إليها الشيخ حيدر حب الله، وذلك لأنّ التحريض له موضوعه الخاص وبحسب تشخيصي في مقام الردّ على هذه الكلمات، لا أراه منجزاً وفعليّاً.
فأقول مستعيناً بالله ومتوكلاً عليه، ومستمداً المدد من أئمتي وسادتي أهل بيت الطهارة (عليهم السلام):
أولاً: ما دعاني للردّ والكتابة على هذه الأحرف المسطورة، هي كلمة أطلقها نفس الكاتب الموقّر قبل كم سنة، ومشهورة عنه (هداه الله)، وادعاء القطع في إسنادها إليه وجيهٌ وقريب، ألا وهي كلمة: وهابيّة الشيعة.
ويريد بهذا المصطلح التعريض بفئة من الشيعة، فيهم أعلام وجهابذة كبار ومراجع عظام لهم فكرهم الخاص في الأمور الولائية المرتبطة بأهل البيت (ع)، وقد يكون أبرزهم من الأحياء أستاذنا المعظم آية الله العظمى الشيخ الوحيد الخراساني (دامت إفاضاته)، وغيره من الفضلاء والإخوة الذين يسلكون مسلكاً معيّناً في الولائيات، ولست في مقام تقييم هذا المنهج، وإن كنت اختلف معه في بعض الحيثيات والتي يعود بعضها لمادة الخطاب، والبعض الآخر لهيئته، إلا أنني أقبل بأدبياته واستدلالاته في الجملة وبنسبة ٨٠ بالمئة.
وأرى فكر الفقيه المجدد السيد روح الله الخميني في العقديات والمعارف المرتبطة بالأئمة (عليهم السلام)، ملائم للقواعد الاجتماعية والحياتية، وخصوصاً أنّنا نعيش في محيط عام فيه من يختلف معنا، وترتيب الولائيات وفق بعض القوانين مهم وأمر ضروري.
ولست هنا في مقام التخلّي عن عقائدنا وقناعاتنا مجاراةً لفئة لا تعطينا الاهتمام، بل الغرض عقلانية الطرح ودراسة الزمان والمكان لبث الفكر العقدي والولائي الخالص والأصيل، والذي يهدف إلى تعميق وتقوية روح الشباب والمجتمع بساداتهم وأئمتهم (سلام الله عليهم).
وكيفما كان، فهذه القناعة الموصوفة (بالوهابية)، أصبحت اليوم مدرسة وقراءة معيّنة للفكر الولائي، وتجاوزها ليس بالسهل اليسير، وإن وفقنا الله في كتابات لاحقة سنذكر بعض معالم هذه المدرسة، والتي قد تتفق معها ( المدرسة التفكيكية المشهديّة).
وما يهمّني فعلاً هو تساؤلي لصاحب كلمة (وهابية الشيعة):
هل لغة التحريض والمواجهة العلنية والنقد بصورة واضحة، والتي دعا إليها الشيخ حب الله موافقة لفكر الشيعة الوهابية – الذي نظّر له ـ أم لا؟ فإن كان جوابه ب ( نعم )، فصار الكاتب الموقر (شيعيّاً وهابياً)، وبذلك وقع في الحفرة التي رماها بالتطرف والتعصب، وان كان الجواب ب( لا )، فلنسأل أيّ عاقل: ماذا تفهم من كلمة التحريض والمواجهة؟
مع الالتفات إلى أنّ العبارة الواردة في كلامه (تصويب حركتهم بطريقة بنّاءة لا تستهدف تشويههم والتنقيص من شأنهم) والتي تعتبر تعليلاً لحيثية التحريض لا تشفع للكاتب، ولا ترفع مادة الإشكال وذلك لأن التحريض المذكور له لوازم كثيرة منها:
عدم حفظ مقام الخطيب الحسيني، حيث بعد كون النُقّاد في مقام الحرب عليه ومواجهته فلا تبقى له حينئذ قيمة اجتماعية ورمزية، مضافاً إلى فتح الباب لغير العلماء من العوام والجمهور، اذ هي الطبقة المُخاطبة أولاً وبالذات، مما يعني أن يكون لهم الحق في مواجهة الخطباء وخدام الحسين (ع) من دون وجود ضابطة ومعيار في النقد، وبذلك يحصل الهرج والمرج، وتحصل الإهانة والسخرية بأهل المنبر، وإن كانت دعوى التحريض في بداياتها للعلماء والنخب، ولكن لا يوجد ضمان لعدم سرايتها إلى غيرهم من غير أهل التخصص؟! وذلك لأنّ التحريض يحمل معاني المبارزة السلبية والمرجوحة، فحينئذٍ سيكون لسان حال العامي: إذا كان العلماء لا يحترمون الخطباء ويواجهونهم أمام الناس، فمن نكون نحن لنحترمهم؟.
وبالتالي: تحصل الإهانة ويتحقّق التحقير وان لم يكن مقصوداً، وذلك لأنّ الإهانة من الأمور القهرية، والتي لا تتقوّم بالقصد كما تقرّر في محلّه.
ولا أعتقد بأنّ أهل الانفتاح الفكري والإصلاحي والذي منهم الشيخ حيدر حب الله يقبل بهذه اللوازم التي ستحصل يوماً ما إن دعونا لفكرة (المواجهة التحريضية)، وأتصوّر أنّ هذا الفكر سيوقع الشيخ حب الله فيما أراد أن يفرّ منه، كيف لا وهو الداعي للاحترام والألفة والاحتواء، والحال أنّ التحريض بكلّ جوانبه مناقض لتلك الأسس والمبادئ التي رسمها في مقالاته ومصنفاته.
وهنا لا بأس أن أسأل هذا السؤال: هل سماحة الشيخ يقبل بالمواجهة التحريضية لأفكاره وقراءاته المنشورة في الكتب والمجلات؟! وخصوصاً أنّه يعيش في أجواء المدرسة القميّة، والتي ليس من السهل الفرار من أسلوبها الصعب والفتاك في مواجهة الإشكاليّات العقديّة؟ وأعتقد أنّه عاش في بعض هذه الأجواء التهديدية، وليس ببعيد أنها هي التي دعته لتأسيس وتوصيف لفظ الوهابيّة للفئة المؤمنة الموالية. وبالتالي: قليل من التمهل والتروي كي لا يكون الإنسان متناقضاً في سلوكياته وأفكاره.
ثانياً: ليست التجاوزات محلّها الوحيد المنبر والخطابة الحسينية، بل خطب الجمعة وغيرها من أدوات التبليغ والتي تحمل رمزية مهمة وضرورة إقناعية لعقول الناس، وها نحن نرى المجازر والبراكين غير المُتحملة والمبرّرة. وأفضل مثال نذكره للشيخ حيدر حب الله، هو الشيخ ياسر عودي، الذي هو عضو الهيئة الشرعية لمؤسسة السيد محمد حسين فضل الله، ولا يخفى على أي أحدٍ مخالفته للقوانين العامة في الفقه والعقيدة، ولم نرَ أحداً من دعاة الإصلاح حرّض عليه، أو دعا حتى لفكرة التحريض عليه، مع ان تهكماته بالعلماء المتخصصين واستحقاره بالادبيات الشيعية من الأمور الواضحة والصريحة بمكان، وباعتقادي هو أولى من غيره بأن يكون من المُحرّض عليهم وأمام الملأ وبصورة واضحة؟! والحال: أنّ المؤسسة الحاضنة للشيخ عودي إعلاميّاً وعلميّاً تلزم الصمت، وإن تكلمت فبكلمات مخجلة لا تصل الى حد المسؤولية والردع؟!
وعليه: أين الشيخ حب الله والمؤسسات الدينية الإصلاحية من مواجهة هذه الأفكار الانحرافية، المتمثلة في ياسر عودي، وبلغة التحريض التي شيد أركانها الشيخ الكاتب؟!
إذن: لا تستعجلوا ولا تُنظّروا لأمور لا يمكنكم الالتزام بها والعمل على وفقها، لأنّ هذا قبيح عقلاً وشرعاً، وخصوصا إذا كان مصدرها طالب العلم.
وقد تقول: يُفهم من الكلام السكوت عن نقد الواقع الخطابي المنبري الشيعي بالرغم من التجاوزات والاشكالات المطروحة عليه؟
أقول: نقد الواقع المنبري الخطابي والخطباء من الأمور المهمة والواجبة، وخصوصاً على العلماء والفضلاء الذين يحملون أفكار سليمة وعقائد نقية، إلا أنّ آلية النقد لا بد أن تكون في أطر محصورة ومدروسة يتم من خلالها ترقية الخطيب وتصويبه علميّاً ومعرفيّاً، وإلا ثقافة التحريض تجعل للخطباء ردات فعل عنيفة على الحوزات والعلماء مما يعني خسارتهم وانقطاع الوصلة بينهم وبين الفئة التي تريد أن تصحّح المسار العلمي الخطابي المنبري، ورأيت ذلك بأمّ عيني من خلال بعض التصرفات التي قد تكون قاسية، مما جعل بعض الأخوة الخطباء ينفرون من أجواء الحوزة والعلم.
أكتفي بهذا المقدار والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.