ـ القسم الثاني ـ
د. السيد أحمد سادات (*)
أنواع الجهاد عند السَّلَفية الجهادية
يرى أنصار السلفية الجهادية أن ثمّة نوعين من الجهاد: جهاد الطَّلَب؛ وجهاد الدَّفْع.
النوع الأوّل: جهاد الطَّلَب
وهو «أن تطلب الكفار في عقر دارهم، ودعوتهم إلى الإسلام، وقتالهم إذا لم يقبلوا الخضوع لحكم الإسلام. وحكم هذا النوع فرضٌ على مجموع المسلمين»([1]).
ويستشهد أتباع هذا التيار بالقرآن الكريم لإعطاء دلائل على مقولتهم حول جهاد الطلب بقوله الله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (التوبة: 5). وبقوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ (التوبة: 29).
ويعتقد أتباع التيارات السَّلَفية الجهادية أن الله عزَّ وجلَّ أمر بالخروج لقتال الكفار أينما وُجدوا، وأن ذلك الأمر لا يزال قائماً؛ كون الآيات الداعية لذلك هي «مُحْكَماتٌ من أواخر ما نزل، ولا ناسخ لها، وعليها سار النبيّ| والصحابة معه ومن بعده، حتّى فتح الله تعالى عليهم مشارق الأرض ومغاربها»([2]). وفي حديث بريدة الذي رواه مسلم أن رسول الله| «كان إذا أمَّر أميراً على جيشه أو سرية أوصاه في خاصّته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، ثمّ قال: اغزوا باسم الله، قاتلوا مَنْ كفر بالله، اغزوا ولا تَغُلُّوا ولا تغدروا ولا تمثِّلوا ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيتَ عدوَّك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال…»([3]).
وفي هذا المجال أيضاً يورد يوسف العييري أدلّةً قرآنية على وجوب جهاد الطلب([4]).
وكما هو واضحٌ فإن إيراد هذه الأدلة من القرآن الكريم والسنّة النبوية يأتي في إطار تدعيم وجهة نظر أتباع هذه التيارات؛ إذ يعتبرون هذه النصوص واضحة وصريحة في دعوتها للجهاد وقتال الكفار ابتداءً في بلدانهم، والقيام بدعوتهم إلى الإسلام، فإنْ لم يقبلوه فعليهم دفع الجِزْية، فإنْ رفضوا وجب قتالهم، وهو جهادٌ في سبيل الله؛ كونه فريضة محكمة غير منسوخة.
ويضيف العييري، فينقل عن ابن عمر وعبد الله بن الحسن والثوري بأن «جهاد الكفار ابتداءً تطوُّع… يريدون به أنه ليس فرضاً عينياً على كلّ مسلم، بل هو فرضٌ كفائي، ويستحب أن يجاهد المسلم تطوُّعاً إذا قام غيره بالفرض، ولا يجوز حمل كلامهم على غير هذا»([5]).
ويرى أتباع التيارات السَّلَفية الجهادية أن قتال المشركين من قبل المسلمين في عهد النبيّ| مرّ بمراحل عدة؛ إذ كان محرَّماً في البداية، ثم أُذن به لاحقاً، ثم أصبح واجباً عليهم التصدِّي لمَنْ بدأهم بالقتال من المشركين، وبعد ذلك أضحى القتال في صيغة الأمر ضدّ جميع المشركين، وذلك كفرض عينٍ على رأي البعض، وفرض كفاية على رأي أغلب فقهائهم.
والجهاد، بالنسبة إليهم، على مستويات عدّة؛ فهو يبدأ بالقلب؛ ثم باللسان؛ فبالمال؛ وأخيراً باليد أو بالنفس. وكلّ مسلم مكلَّف بأن يجاهد على مستوىً من هذه المستويات. أما الجهاد بالنفس ففرض كفاية، والجهاد بالمال فيه وجوبٌ؛ لأن الأمر بالجهاد به وبالنفس في القرآن سواءٌ، ويستشهدون على ذلك بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (الصفّ: 10 ـ 12).
وبعد القرآن الكريم يستندون إلى نصوصٍ منقولة عن بعض الصحابة؛ للتدليل على مذهبهم في الجهاد، «وأنهم يرَوْن جهاد الابتداء والطلب فرضاً على القادر… ولكن الذي يترجَّح لديَّ، والله أعلم بالصواب، هو مذهب الجمهور القائلين بأن جهاد الابتداء والطلب فرض كفاية، إذا قام به جماعةٌ من المؤمنين فيهم غناء لنشر الإسلام والدعوة إليه فليس على كلّ مسلم أن يخرج معهم… وإذاً تقرَّر أن غزو الكفّار في عقر دارهم ودعوتهم إلى الإسلام وقتالهم إنْ لم يقبلوه أو يقبلوا الجِزْية فرضٌ على المسلمين»([6]).
ويرى أتباع السَّلَفية الجهادية أن مَنْ ينكر جهاد الطلب، والقول بأن الإسلام لا يقاتل إلاّ للدفاع وردّ العدوان، هو «مُكَذِّبٌ بالآيات والأحاديث السابقة ونحوها، فقد قال تعالى: ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاّ الكَافِرُونَ﴾ (العنكبوت: 47). ومَنْ تعسَّف في تأويل ما وقع لسلفنا الصالح من جهاد الطلب، وقال: إنه كان لردّ العدوان، فقد ضلَّ ضلالاً بعيداً، إنْ كان لا يجهل هذه النصوص أو أحيط بها علماً فأعرض عنها وتعسَّف في تأويلها»([7]).
النوع الثاني: جهاد الدَّفْع
ويرى أتباع السَّلَفية الجهادية أنه «قتال العدو البادئ بقتال المؤمنين»([8]).
والأدلة على ذلك مستقاةٌ من القرآن الكريم، مثل: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ﴾ (الأنفال: 15)؛ وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ (البقرة: 190)؛ وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ (البقرة: 194).
والقتال هنا هو جهادٌ دفاعي؛ لردّ العدوان الخارجي. وفي هذا المجال يقول ابن تيمية: «وأما قتال الدفع فهو أشدّ أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين، فواجب إجماعاً؛ فالعدوّ الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له شرطٌ، بل يدفع بحَسَب الإمكان»([9]).
وعن حكم جهاد الدفع يقول يوسف العييري: إنه «فرض عينٍ على المسلمين عموماً، حتّى يندفع شرّ الأعداء. وهذا بإجماع علماء الإسلام»([10]).
ويصنّف ابن تيمية حال الذين خرجوا على أهل الإسلام، ويقسِّمهم إلى أربع طوائف: «كافرة باقية على كفرها، من الكرجن والأرمن والمغل… وطائفة كانت مسلمة فارتدَّت عن الإسلام وانقلبت على عقبَيْها، من العرب والفرس والروم، وغيرهم… وهؤلاء أعظم جرماً عند الله وعند رسوله والمؤمنين من الكافر الأصلي من وجوه كثيرة، فإن هؤلاء يجب قتلهم حَتْماً ما لم يرجعوا إلى ما خرجوا عنه، لا يجوز أن يعقد لهم ذمّة، ولا هدنة، ولا أمان، ولا يطلق أسيرهم، ولا يفادى بمالٍ ولا برجال، ولا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم، ولا يسترقّون، مع بقائهم على الردّة بالاتفاق، ويقتل مَنْ قاتل منهم ومَنْ لم يقاتل، كالشيخ الهَرِم، والأعمى، والزمن، باتّفاق العلماء، وكذا نساؤهم عند الجمهور. والكافر الأصلي يجوز أن يعقد له أمان وهدنة، ويجوز المنّ عليه والمفاداة به إذا كان أسيراً عند الجمهور، ويجوز إذا كان كتابيّاً أن يعقد له ذمّة، ويؤكل طعامهم، وتنكح نساؤهم، ولا تقتل نساؤهم إلاّ أن يقاتلْنَ بقولٍ أو عمل، باتّفاق العلماء. وكذلك لا يقتل منهم إلاّ مَنْ كان من أهل القتال عند الجمهور العلماء. كما دلَّت عليه السنّة. فالكافر المرتدّ أسوأ حالاً في الدين والدنيا من الكافر المستمرّ على كفره. وهؤلاء القوم فيهم من المرتدّة ما لا يحصي عددهم إلاّ الله، فهذان صنفان. وفيهم أيضاً مَنْ كان كافراً، فانتسب إلى الإسلام ولم يلتزم شرائعه، من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحجّ البيت، والكفّ عن دماء المسلمين وأموالهم، والتزام الجهاد في سبيل الله وضرب الجِزْية على اليهود والنصارى، وغير ذلك. وهؤلاء يجب قتالهم بإجماع المسلمين، كما قتل الصدِّيق مانعي الزكاة، بل هؤلاء شرٌّ منهم من وجوهٍ، وكما قاتل الصحابة أيضاً مع أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه الخوارج بأمر رسول الله|…، حيث قال|: «هم شرّ الخلق والخليقة، شرّ قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى مَنْ قتلوه»»([11]).
مبادئ السَّلَفية الجهادية، وممارساتها
يشكِّل القرآن الكريم الأساس الثابت والمركزي للبناء الإسلامي، ولكن التفسيرات المختلفة لآياته والقراءات المتعدّدة للسنة النبوية الشريفة، أدّت إلى تنوّع في الخطاب الديني الإسلامي على مدى العصور. فالمذاهب كلها تجد متّكأً لمشروعيتها من خلال تأويلها للقرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة، والحال نفسه ينسحب على التيارات والاتجاهات التي تنتج خطابها المناسب. وعلى هذا الأساس يسير التيار السلفي الجهادي، «فهو يحمل في داخله أبرز الطروحات والمفاهيم التي نادت بها، وروّجت لها، وعملت على تأصيلها، وعلى رأسها رفع شعار الالتزام بالدليل الشرعي، والدعوة إلى اتّباع السلف الصالح الذي يشمل ـ بعد النبيّ الرسول ـ الصحابة والتابعين وتابعيهم، ولكنّه مع ذلك يتميز عنها بانتقاله من الجانب التنظيري إلى الجانب العملي والسياسي، أي نقل المفاهيم السَّلَفية([12]) من مستوى الإيمان إلى مستوى الفعل، وتوظيفها توظيفاً معرفياً وعقائدياً للثورة على الأنظمة، والعمل على إسقاطها([13]). ومنظِّرو هذا التيار يصرِّحون برفض الأنظمة الحاكمة، ويقطعون بعدم شرعيتها عَلَناً، ويدعون إلى مقاومتها وإزالتها بالقوّة، ويحكمون بكفر الأنظمة والأمّة وجاهلية المجتمعات الإسلامية»([14]).
ويعتقد أتباع السَّلَفية الجهادية أن الخلافة الإسلامية هي النموذج الرائد للحكم الشرعي، ويستندون في ذلك إلى حشدٍ كبير من الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة الداعية إلى إقامتها. ويقرنون ذلك بالتمييز بين الإيمان والكفر، «فأتباع هذا الفكر يرَون أن الإخلال بركنٍ من أركان الإيمان وارتكاب الكبائر والبِدَع، أو السكنى في دار الكفر، هي خوارم للإيمان الكامل، وهو ما يستدعي مفاصلة المجتمع والخروج عليه؛ إذ يتحوَّل الاختلاف الفقهي إلى مصدر نزاعٍ حادّ يجب تغييره بالقوة؛ ليعود صاحبه إلى منهج السنّة»([15]).
كذلك يؤكِّدون على مسألة الولاء والبراء، ويعدّونها شرطاً لتحقيق الإيمان والدخول في جماعة المسلمين. وفي هذا المجال يقولون: «الولاء: وهو مناط الإيمان، وشرط الدخول في جماعة المسلمين، أما البراء فهو مقاطعة الكفّار، والشدّة عليهم، ويأخذ تأصيله الشرعي من قوله تعالى: ﴿لاَ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ (آل عمران: 28)، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ (المائدة: 51)»([16]).
ثمة مسألة محورية أخرى عند أصحاب هذا التيار، تتجلّى في استحضار مفهوم الجاهلية، وإسقاطه على الواقع الحالي، لجهة هجر أحكام القرآن الكريم وارتكاب الموبقات وشيوع الفساد، لذلك لا بُدَّ من إحياء واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، «وهو واجب على كل مسلم، وصفة ملازمة لإيمانه، لكنّ الفيصل هو في توصيفه: هل هو واجب كفائي أو عيني؟ وما هو مجال وقوعه؟ ومَنْ المسؤول عن القيام به؟ ففي الوقت الذي ترى فيه الجهات الرسمية ومَنْ لها الهيمنة على الشأن الديني أنها الوحيدة المكلَّفة بذلك، ومعرفة المصلحة والمفسدة في توظيفه، يذهب أتباع هذا التوجُّه إلى أنه لا يسقط عنهم، سواءٌ بالقلب أو اللسان أو اليد، إلاّ أن المبالغة في تنفيذه، بدون استحضار شروطه وآليات تنفيذه، تؤدّي إلى ممارسة العنف والتفجير والتكفير»([17]).
لقد سعى منظِّرو هذه التيارات إلى تأصيل بعض المفاهيم (كالحاكمية لله، وجاهلية المجتمع، وكفرانية النظم، والجهاد) من خلال إقامة الدلائل النقلية والعقلية عليها، وتوظيف كلّ المرجعيات العقائدية والفقهية لبناء منظومتهم الفكرية على المستوى النظري، والانطلاق إلى المستوى العملي.
أـ الحاكمية لله
لفظ (الحاكميّة) من الألفاظ المولَّدة القائمة على غير مثالٍ سابق في اللغة العربية. وأوّل مَنْ استخدمها في خطابه السياسي والديني هو أبو الأعلى المودودي، الذي يعدّ الأب التاريخي لمفهوم أو مبدأ (الحاكميّة لله)، في حين أصبح سيد قطب المروِّج والداعية الأكبر له، ولا سيَّما في كتابه الشهير (معالم في الطريق)، الذي وسَّع فيه عناصر ومكوّنات نظرية الحكم لله، أو الإسلام مقابل (حكم الجاهلية).
هذا عن أصل استعمال (الحاكمية) كلفظٍ في لغة العرب، وقد أصبحت مرادفة للحكم في اصطلاح كثير من المتأخِّرين. وإذا وقف الأمر عند حدّ إطلاق هذا المصطلح على المراد الشرعي منه، وهو إفراد الله بالتحكيم والتشريع، فلا بأس في ذلك؛ إذ لا مشاحّة في الاصطلاح، كما هو مقرَّر عند الأصوليين.
وقد أسهب أبو الأعلى المودودي بشرح هذا المفهوم، انطلاقاً من أن سيادة الله نهائية ومطلقة. فالله وحده يمتلك حقّ الإباحة والتحريم، والعبادة والطاعة. الله وحده هو المستحقّ للألوهية. كما يضيف المودودي بأنه ليس هناك فرد أو مؤسَّسة، أو حتّى البشرية كلها، يمكن أن تدّعي أي سيادة. فالملك لله وحده، وقانون الإسلام تجسيد لأوامره عزَّ وجلَّ، لذا فإنّ كل فرد أو مؤسسة تفرِّط بحاكمية الله تعيش (حياة الجاهلية).
الحاكمية هي حجر الرَّحى عند أتباع هذه التيارات؛ إذ يرَوْن أنها يجب أن تكون للقرآن الكريم والسنة النبوية، ويراد بها عند الإطلاق الشرعي: إفراد الله بالتحكيم والتشريع وتفويض الحكم إليه. كما أن الخلافة الراشدة هي مثال الحكم الإسلامي. ومدار القول حول هذا المفهوم هو الحديث النبوي: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة…». وفي شرح الحديث تفرَّقت السبل في النظرة المثالية إلى الحكم الإسلامي، والحكم العادل، وعلاقته بالملك الجبري. وقد تتعدَّد الإشكالات العقيدية في الفكر الجهادي لتلامس تصرُّفات أكثر غلوّاً، مثل: الشدة في تقويم الحكام، والتشنيع على المخالفين والحكم عليهم بالضلال، وتسويغ إراقة دمائهم، أو الالتزام بما يسمّى بظاهر الهَدْي النبوي في اللحية واللباس، ودون ذلك منظومة من المفاهيم الثقافية، يستدعي تفكيك بنيتها علوم الدنيا بمختلف تخصُّصاتها النفسية والاجتماعية والسياسية»([18]).
وقد أشار عددٌ من الباحثين في شؤون الحركات السياسية الإسلامية إلى أن وجهة النظر المذكورة تسمح لأصوليين متشدِّدين، مثل: أبي الحسن الندوي، والمودودي، وسيد قطب، بالدعوة إلى قتال كلّ نظامٍ سياسي أو فلسفي أو إنساني لا يجعل التوحيد منبعه. لذا يقسّم الأصوليون المتشدِّدون، مثل: المودودي وسيد قطب، البشر إلى منهجين: منهج الله ونظامه، وأتباعه هم أتباع الله أو حزب الله؛ ومنهج البشر ونظامهم، فهم بالتالي أتباع الملك أو الأنظمة البشرية أو حزب الشيطان. وتشكِّل الجماعة الأولى المجتمع المستقيم؛ أما الثانية فتمثِّل المجتمع غير المستقيم أو المجتمع الجاهلي([19]).
من هذه الزاوية يصنِّف منظِّرو الإسلام السياسي كلّ المجتمعات الحالية على الأرض (وبضمن ذلك المجتمعات العربية ـ الإسلامية) ضمن مقولة الجاهلية أو المجتمعات الجاهلية. وهكذا تصبح المهمّة الرئيسة للأصوليين توظيف مبدأ (التوحيد) أداة تقييم لأيّ نظامٍ اجتماعي واقتصادي وسياسي.
وانطلاقاً من هذه الرؤية الأحادية الأقصوية يأخذ عددٌ من الأحزاب والتنظيمات والجماعات والشخصيات المنتمية إلى تيار الإسلام السياسي على عاتقها مهمّة إنقاذ الإنسانية، أوّلاً، عبر إخراجها من الجاهلية.
وهو ما يعني على المستوى السياسي إنكار أيّ نظام سياسي غير منسجم بالمطلق مع الشريعة. «لذا فإنه يجب إزالة كلّ نظام سياسي أو اجتماعي له هذه الخاصّية. فمثل هذا النظام هو انتهاك للشريعة، وهي حالةٌ من انتهاك الألوهية»([20]).
وتبعاً لهذه القراءة المتشدِّدة فإن المجتمع الجاهلي هو كلّ مجتمعٍ لا يقوم على الشريعة الإسلامية في بنيته وقوانينه وفكره واقتصاده وتوجُّهاته السياسية والاجتماعية والثقافية. وبالتالي (يجب أن يواجه ويعدّل بموجب منهج الله وحده). ولهذا لا يتردَّد سيد قطب في الدعوة إلى إخضاع حقائق العالم كلّه (شرقاً وغرباً) إلى المعايير الإسلامية (وفق قراءته طبعاً) مهما كلَّف الأمر؛ لأن الاستسلام إلى وجود هذه المجتمعات (الجاهلية) ـ كما يرى ـ هو ضدّ روح الإسلام، التي تهدف أساساً للقضاء التامّ على الجاهلية([21]).
ونظرية (الحاكمية لله) تستند في ركيزتها الأساسية إلى بعض الآيات القرآنية، مثل: ﴿وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ (المائدة: 49 ـ 50). وأساس مفهوم الحاكمية لدى المودودي وسيد قطب ومَنْ تبعهما من منظِّري الإسلام السياسي يقوم على (العبودية التامّة لله، وبالتالي فإن حياة البشر تعود بجملتها إلى الله، فلا يقضون هم في شأنٍ من شؤونها، ولا في أيّ جانبٍ من جوانبها من عند أنفسهم، بل يرجعون فيه إلى حكم الله؛ ليتبعوه). وبرأيهم لا تكتمل صورة الحاكمية لله إلاّ بضدّها الذي يميِّزها، وهو (المجتمع الجاهلي)؛ إذ تتجلى فيه العبودية لغير الله أو حاكمية العباد للعباد.
ودعوة سيد قطب إلى إقامة دولة دينية شاملة تختلف عن (ثيوقراطية) الحكم الديني الكنسي الذي عرفته أوروبا في مراحل تاريخية معينة؛ لأنها تكليف وفرض على كل فرد مسلم، وليست مقتصرة على المؤسَّسة الدينية. لذلك هي تامّة، أي لا تترك أي جانب في الحياة لقيصر أو لغيره. ويقول أحد الباحثين في وصف هذه الحاكمية: «…فقد اتَّسع مفهوم السياسة، بحيث يمكنه ببساطة أن يستوعب جميع الأنشطة، من عباداتٍ ومعاملات وجهاد، في إطار مفهومٍ سياسي لله والدين… فالله يصبح حاكماً، ومطلبه الأول هو إقامة الدولة الإسلامية. ويصبح كلّ مكون من مكونات الدين خاضعاً لهذه الرؤية السياسية، ومن ثم يصبح هدف إقامة الدولة حاضراً حضوراً تلقائياً في كلّ ركعة، ومناقشة، ورياضة، وجمعية، ونظرة دون تشتُّت أو اضطراب»([22]).
إذن فإن هذا المفهوم، عدا عن كونه مرتكزاً أصولياً في منهجية السلفية الجهادية، معبرٌ ضروري لفهم وتحليل تلك الظاهرة التي بدأت في النصف الأول من القرن المنصرم مع الداعية الإسلامي أبي الأعلى المودودي، حيث أدخل هذا المفهوم في القاموس السياسي المعاصر، في إطار رفضه للفكر الغربي المهيمن، وكسلاح معرفي لمواجهة أنماط العيش والاجتماع والنظم السائدة في الهند وفي العالم. وقد أكَّد ذلك بقوله: «لا تستقيم المعايير والاخلاق، ولا تعود القيم إلى نصابها الطبيعي، إلاّ بالإسلام؛ لأنه الطريق الوحيد الموحى به من الله تعالى. لذلك يجب الرجوع في جميع أمورنا إلى «رسل الله الكرام، ويجب أن نؤمن برسالتهم، ونختار في حياتنا المنهاج الذي يرسمونه لنا… إن عبودية الإنسان لله واتّباع شريعته هي أساس الائتلاف والتعاضد بين الناس، لا ما يخترعه الإنسان من تلقاء نفسه من روابط، كالوطن أو القومية أو السُّلالة»([23]).
وفي ستينات القرن العشرين استعار المفكِّر المصري سيِّد قطب([24]) من المودودي هذا المفهوم، وأضاف إليه صبغة أكثر تشدُّداً، وتحدَّث عنه في أكثر من مناسبةٍ في كتابه (معالم في الطريق)، حيث يقول: «إن السمة الأولى المميِّزة لطبيعة المجتمع المسلم، هي أن هذا المجتمع يقوم على قاعدة العبودية لله وحده في أمره كلِّه… هذه العبودية التي تمثِّلها وتكيِّفها شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأن محمداً رسول الله. وتتمثَّل هذه العبودية في التصوُّر الاعتقادي، كما تتمثَّل في الشعائر التعبُّدية، كما تتمثَّل في الشرائع القانونية سواء»([25]).
وعن تصوُّره لكيفية نشوء المجتمع المسلم يقول قطب: «هذا المجتمع لا يقوم حتّى تنشأ جماعة من الناس تقرِّر أن عبوديتها الكاملة لله وحده، وأنها لا تدين بالعبودية لغير الله… لا تدين بالعبودية لغير الله في الاعتقاد والتصوُّر، ولا تدين لغير الله في العبادات والشعائر… ولا تدين بالعبودية لغير الله في النظام والشرائع… ثمّ تأخذ بالفعل في تنظيم حياتها كلّها على أساس هذه العبودية الخالصة… تنقّي ضمائرها من الاعتقاد بألوهية أحدٍ غير الله ـ معه أو من دونه ـ، وتنقي شعائرها من التوجُّه بها لأحدٍ غير الله ـ معه أو دونه ـ، وتنقّي شرائعها من التلقّي عن أحدٍ غير الله ـ معه أو من دونه. عندئذٍ ـ وعندئذ فقط ـ تكون هذه الجماعة مسلمة، ويكون هذا المجتمع الذي أقامته مسلماً كذلك… فأما قبل أن يقرِّر ناسٌ من الناس إخلاص عبوديتهم لله ـ على النحو الذي تقدَّم ـ فإنّهم لا يكونون مسلمين… وأما قبل أن ينظِّموا حياتهم على هذا الأساس فلا يكون مجتمعهم مسلماً…؛ ذلك أن القاعدة الأولى التي يقوم عليها الإسلام، والتي يقوم عليها المجتمع المسلم، وهي شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله، لم تقُمْ بشطرَيْها…»([26]).
ويتابع سيد قطب شرح هذا المفهوم، ويصل إلى نتيجةٍ مفادها أنه يعبر عن طبيعة الدعوة إلى الله منذ بدء الخليقة في السعي نحو الانعتاق من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ولا يتمّ ذلك إلاّ «بإخراجهم من سلطان العباد في حاكميتهم وشرائعهم وقيمهم وتقاليدهم إلى سلطان الله وحاكميته وشريعته وحده في كلّ شأن من شؤون الحياة… وفي هذا جاء الإسلام على يد محمد|، كما جاء على أيدي الرسل الكرام قبله… جاء ليرد الناس إلى حاكمية الله كشأن الكون كلّه الذي يحتوي الناس، فيجب أن تكون السلطة التي تنظِّم حياتهم هي السلطة التي تنظِّم وجوده، فلا يشذّوا هم بمنهج وسلطان وتدبير غير المنهج والسلطان والتدبير الذي يصرف الكون كلّه، بل الذي يصرف وجودهم هم أنفسهم في غير الجانب الإرادي من حياتهم. فالناس محكومون بقوانين فطرية من صنع الله في نشأتهم ونموهم، وصحتهم ومرضهم، وحياتهم وموتهم، كما هم محكومون بهذه القوانين في اجتماعهم، وعواقب ما يحلّ بهم؛ نتيجةً لحركتهم الاختيارية ذاتها، وهم لا يملكون تغيير سنّة الله في القوانين الكونية التي تحكم هذا الكون وتصرفه، ومن ثمّ ينبغي أن يثوبوا إلى الإسلام في الجانب الإرادي من حياتهم، فيجعلوا شريعة الله هي الحاكمة في كلّ شأنٍ من شؤون هذه الحياة، تنسيقاً بين الجانب الإرادي في حياتهم والجانب الفطري، وتنسيقاً بين وجودهم كلّه بشطرَيْه هذين وبين الوجود الكوني»([27]).
إن مفهوم الحاكمية الإلهية عند هذه التيّارات يقف في الموقع النقيض لمفهوم الدولة السائد في العصر الحديث. فهذه الأخيرة باتَتْ تمارس دور الشريك لله عزَّ وجلَّ في إحدى صفاته، وهي التشريع للناس، لا بل تخطَّتْ ذلك، بجعل نفسها ندّاً لسلطانه، ووصل بها الأمر حدَّ الكفر به. ولذلك فإن المودودي يراها كافرةً، ويصف واقع المجتمع بأنه يعيش حياة جاهلية. من جهته يبني سيِّد قطب خطابه على تكفير الدولة والمجتمع، ويصل إلى تكفير الأمّة؛ لأنها برضوخها وطاعتها لأحكام الدولة الكافرة اكتسبت صفة الشرك، وعليه فإن الأمة عادَتْ إلى الوثنية الجاهلية. إن قيام سيد قطب بعملية صهر مفهومَي الحاكمية والجاهلية كان بهدف إنتاج مجتمعٍ مؤمن يقوم بدوره الرسالي في التوحيد، بعد أن فقدت شهادة (لا إله إلاّ الله محمد رسول الله) معناها الحقيقي. وهكذا فإن الحاكمية عرَّتْ الدولة وأظهرت كفرها، والجاهلية كشفت الكفر والشرك اللذين وقع في براثنهما المجتمع، أما الأمّة المطيعة لغير ما أنزله الله فإنها جرَّدَتْ نفسها من الإسلام، فهي بخضوعها للدولة الكافرة افتقدت المعنى الحقيقي للشهادتين([28]).
ب ـ جاهلية المجتمعات
ارتبط مفهوم الجاهلية بشكلٍ طردي بمفهوم الحاكمية. وكان المودودي أول مستخدميه. إلاّ أن سيد قطب عمد إلى توظيفه في منظومته الفكرية([29])، فيما قام التيار السلفي الجهادي بتأصيله سياسياً، واستخدامه عملانياً.
لقد ربط المودودي بين مفهومي الوحدانية الإلهية واستخلاف الإنسان في الأرض، فأنتج مفهوم الحاكمية الإلهية، التي من شأن سلطتها عند وجودها حمل قداسة دينية. فالدولة الإسلامية يجب أن تقوم على أساس حاكمية الله الواحد الأحد، ذلك أن «الأرض كلّها لله وحده، وهو ربّها والمتصرِّف في شؤونها. فالحكم والأمر والتشريع… كلّها مختصّة بالله وحده، وليس لفردٍ أو أسرة أو طبقة أو شعب، بل ولا للنوع البشري كافة، شيء من سلطة الأمر أو التشريع، فلا مجال في حظيرة الإسلام ودائرة نفوذه إلاّ لدولةٍ يقوم المرء فيها بوظيفة خليفة الله»([30]).
وتَبَعاً لرؤية المودودي فإن المجتمع الذي تقوم فيه الدولة على أساس حاكمية البشر المبنية على النظريات الوضعية هو، بلا شَكٍّ، مجتمع جاهلي؛ لكونه «يحمل في طياته مضامين شركية. ولذلك فإن هذا المجتمع هو مصدرٌ للشرّ والرذيلة. فالإنسان إذا ما استقلَّ بشؤونه، واختار منهج حياته، من دون وازعٍ يردعه عن الموبقات، أو زاجر يزجره، فهو قائمٌ بأمره، وهو الذي يتولّى التشريع والتقنين لنفسه، وبيده كلّ زمام أمره، وإنْ كان مسؤولاً أمام أحدٍ فبين يدي نفسه وشهواته وأهوائه»([31]).
من جهته تابع سيِّد قطب خطوات المودودي، مستنداً إلى الآية الكريمة التي تقول: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ﴾ (المائدة: 44)، فوصل إلى نتيجة مفادها أن العالم يمرّ في مرحلة جاهلية مدمّرة؛ بسبب تجاهل مفهوم لا إله إلاّ الله، الذي يجعل الحاكمية لله وحده. وهو يرى أن «الجاهلية التي تقوم على حاكمية البشر للبشر، والشذوذ بهذا عن الوجود الكوني، والتصادم بين منهج الجانب الإرادي في حياة الإنسان والجانب الفطري… هذه الجاهلية التي واجهها كلّ رسولٍ بالدعوة إلى الإسلام لله وحده، والتي واجهها رسول الله| بدعوته…، هذه الجاهلية لم تكن متمثِّلة في نظريةٍ مجرَّدة، بل ربما أحياناً لم تكن لها نظرية على الإطلاق! إنما كانت متمثلة دائماً في تجمُّع حركي، متمثِّلة في مجتمع خاضع لقيادة هذا المجتمع، وخاضع لتصوُّراته وقيمه ومفاهيمه ومشاعره وتقاليده وعاداته، وهو مجتمع عضوي، بين أفراده ذلك التفاعل والتكامل والتناسق والولاء والتعاون العضوي الذي يجعل هذا المجتمع يتحرَّك ـ بإرادةٍ واعية أو غير واعية ـ للمحافظة على وجوده، والدفاع عن كيانه، والقضاء على عناصر الخطر التي تهدِّد ذلك الوجود وهذا الكيان بأيّ صورةٍ من صور التهديد. ومن أجل أن الجاهلية لا تتمثَّل في نظريةٍ مجرَّدة، ولكن تتمثَّل في تجمُّع حركي على هذا النحو، فإن محاولة إلغاء هذه الجاهلية، وردّ الناس إلى الله مرّةً أخرى، لا يجوز ـ ولا يجدي شيئاً ـ أن تتمثَّل في نظريةٍ مجرَّدة، فإنها حينئذٍ لا تكون مكافئة للجاهلية القائمة فعلاً، والمتمثِّلة في تجمُّعٍ حركيّ عضوي، فضلاً عن أن تكون متفوِّقة عليها، كما هو المطلوب في حالة محاولة إلغاء وجود قائم بالفعل؛ لإقامة وجود آخر يخالفه مخالفة أساسية في طبيعته، وفي منهجه، وفي كلِّياته وجزئياته، بل لا بُدَّ لهذه المحاولة الجديدة أن تتمثَّل في تجمُّع عضوي حركي أقوى في قواعده النظرية والتنظيمية وفي روابطه وعلاقاته ووشائجه من ذلك المجتمع الجاهلي القائم فعلاً»([32]).
ويعتقد سيِّد قطب أن الربوبية هي لله وحده. وهذا الاعتقاد يقود حكماً إلى الثورة على حاكمية البشر، الذين يجعل بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله. ولذلك «لا بُدَّ من تحطيم مملكة البشر؛ لإقامة مملكة الله في الأرض… ومملكة الله في الأرض تقوم بانتزاع السلطان من أيدي مغتصبيه من العباد، وردِّه إلى الله وحده، وسيادة الشريعة الآلهية، وإلغاء القوانين البشرية»([33]).
ويقدِّم سيِّد قطب تعريفه الخاص للمجتمع الجاهلي، فيقول: إنه «كل مجتمع غير المجتمع المسلم! وإذا أردنا التحديد الموضوعي قلنا: إنه هو كلّ مجتمع لا يخلص عبوديته لله وحده… متمثِّلة هذه العبودية في التصوُّر الاعتقادي، وفي الشعائر التعبدية، وفي الشرائع القانونية… وبهذا التعريف الموضوعي تدخل في إطار المجتمع الجاهلي جميع المجتمعات القائمة اليوم في الأرض فعلاً! تدخل فيه المجتمعات الشيوعية… والمجتمعات الوثنية… كذلك تدخل فيه بإقامة أنظمة وشرائع، المرجع فيها لغير الله وشريعته… وأخيراً يدخل في إطار المجتمع الجاهلي تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها «مسلمة»! وهذه المجتمعات لا تدخل في هذا الإطار لأنها تعتقد بألوهية أحد غير الله، ولا لأنها تقدِّم الشعائر التعبُّدية لغير الله أيضاً، ولكنَّها تدخل في هذا الإطار لأنها لا تدين بالعبودية لله وحده في نظام حياتها، فهي ـ وإنْ لم تعتقد بألوهية أحدٍ إلاّ الله ـ تعطي أخصّ خصائص الألوهية لغير الله، فتدين بحاكمية غير الله، فتتلقّى من هذه الحاكمية نظامها، وشرائعها، وقِيَمها، وموازينها، وعاداتها وتقاليدها…، وكلّ مقومات حياتها تقريباً! وهذه المجتمعات بعضها يعلن صراحةً «علمانيته»، وعدم علاقته بالدين أصلاً، وبعضها يعلن أنه يحترم الدين، ولكنَّه يخرج الدين من نظامه الاجتماعي أصلاً، ويقول: إنه ينكر الغيبية، ويقيم نظامه على العلمية، باعتبار أن العلمية تناقض الغيبية! وهو زعمٌ جاهل، لا يقول به إلاّ الجهّال، وبعضها يجعل الحاكمية الفعلية لغير الله، ويشرِّع ما يشاء، ثم يقول عمّا يشرِّعه من عند نفسه: هذه شريعة الله!… وكلّها سواء في أنها لا تقوم على العبودية لله وحده… وإذا تعيَّن هذا فإن موقف الإسلام من هذه المجتمعات الجاهلية كلّها يتحدَّد في عبارةٍ واحدة: إنّه يرفض الاعتراف بإسلامية هذه المجتمعات كلّها وشرعيتها في اعتباره»([34]).
إلاّ أن خطاب قطب لم يكن معتمداً لدى جماعة الإخوان المسلمين في مصر، ولا يمكن القول بأنه يعبِّر عن فكرها. وهذا ما أكَّدته الحوارات المفتوحة التي دارت بين أمين عام الجماعة حسن الهضيبي وسيِّد قطب، كما أن كتاب الهضيبي (دعاة لا قضاة) هو عبارةٌ عن بحوثٍ ردَّ فيها على طروحات المودودي بشكلٍ صريح. وممّا يذكر أن هذا الكتاب يدين الخطاب التكفيري، ويؤسِّس لقطيعةٍ مع منظومة الأفكار التي ترتكز عليها الحاكمية والجاهلية الجديدة([35]).
ج ـ كفرانية النظم
لمّا كانت عقيدة التوحيد تقضي بالإيمان بالله الواحد الأحد الذي وضع القانون السماوي فإن الارتباط بأيّ قانون من صنع البشر، أو اعتماد أيّ نظام سياسي لا يحكم وفق الشريعة الإسلامية، ينظر إليه أتباع هذا التيّار بأنه كفرٌ. ولذلك أعلنوا وجوب الجهاد لإسقاط الأنظمة الكافرة التي تحكم بغير ما أنزل الله. فالأنظمة الوضعية، من اشتراكية وديمقراطية وغيرها، هي من اختراع البشر، ولا يجوز اعتمادها والكفر بالنظام الإلهي، ومَنْ يفعل ذلك من الحكّام المسلمين يصنِّفونه كمرتدّ، وقتاله واجبٌ حتّى يرجع إلى حكم الله ورسوله؛ عملاً بالآية القرآنية «﴿أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ (المائدة: 50).
يقول سيِّد قطب في كتابه «مقوّمات التصوُّر الإسلامي»: «وليقرر إلى جانب هذا أنَّ الحكم بما أنزل الله كان دائماً ـ وفي جميع الأديان والأزمان ـ هو مناط الإيمان والإسلام، وأنَّ الإيمان والإسلام ينتفيان عمَّنْ لا يحكم بما أنزل الله ـ كلّه، لا بعضه ولا معظمه ـ فهذه قاطعةٌ في الكفر البواح الذي عند المسلمين فيه سلطان من الله… إن هذا معناه ومقتضاه أن لا يتلقّى الناس الشرائع في أمور حياتهم إلاّ من الله، كما أنهم لا يتوجَّهون بالشعائر إلاّ لله؛ توحيداً للسلطان الذي هو أخصّ خصائص الألوهية، والذي لا ينازع الله فيه مؤمنٌ، ولا يجترئ عليه إلاّ كافرٌ… إن الناس في جميع الأنظمة التي يتولّى التشريع والحاكمية فيها البشر ـ في صورةٍ من الصور ـ يقعون في عبودية العباد… وفي الإسلام ـ وحده ـ يتحرَّرون من هذه العبودية للعباد بعبوديتهم لله وحده. وهذا هو تحرير الإنسان في حقيقته الكبيرة… وهذا ـ من ثم ـ هو ميلاد الإنسان… فقبل ذلك لا يكون للإنسان وجوده الإنساني الكامل بمعناه الكبير الوحيد»([36]).
د ـ الجهاد المسلَّح وسيلة التغيير
بعد تأصيل مفهومَيْ حاكمية الله وجاهلية المجتمعات المعاصرة تبيَّنت لأتباع السَّلَفية الجهادية كفرانية الأنظمة الحاكمة. وهكذا تمّ تشخيص الحالة من كلّ جوانبها. وبالتالي توصَّل أتباع هذه التيّارات إلى الحلّ الذي يقضي بوجوب إزالة الأنظمة الكافرة عن طريق الجهاد، الذي اعتبروه فرض عينٍ على كلّ مسلم، فقرَّروا خوض غمار القتال المسلَّح لإسقاط الطواغيت الذين يحكمون بغير شرعية الإسلام، انطلاقاً من أن هذه الأنظمة، وإن ترأَّسها مسلمون، هي ـ برأيهم ـ أنظمةٌ جاهلية؛ كونها تستند إلى مرجعيات فكرية علمانية معادية للدين الحنيف، وهي موالية لأعداء الإسلام، ولا تجوز مهادنتها. فالحكم الشرعي يقضي بمقاومتها والخروج عليها، أو في الحدِّ الأدنى نبذها وعدم طاعتها. فمن واجبات الإنسان المؤمن الانضمام إلى الجهاد ضدّ الدولة الكافرة؛ لإسقاطها وإقامة نظام الخلافة الإسلامية. ويرفضون بشكلٍ قاطع المشاركة في العملية السياسية، والدخول إلى المجالس البرلمانية، ويعدُّون المشاركة في الانتخابات إقراراً بشرعية الديمقراطية وبالأنظمة الحاكمة، ما يعني الإقرار بالفكر الكافر وحكم الكفّار. ويرَوْن أن ذلك يمثِّل تعاوناً على الإثم والعدوان. والمسلم الحقيقي والصادق لا يتعاون مع أيّ حكمٍ كافر، بل من واجبه جهاد الكفّار والمرتدّين.
«بعض الحركات السَّلَفية (التي) تقزِّم وتحصر دعوة التوحيد على شرك التمائم والتولة والقبور، ولا تتعرَّض من قريب أو بعيد إلى شرك الحكّام والمشرِّعين والقوانين والقصور، بل قد تكون ممَّنْ يسير في ركاب الحكام، ويعمل على تثبيت عروشهم»، أو تلك التي عبَّرت عنها أطروحات: «بعض الحركات الجهادية (التي) تبوتق جهادها وتحصره في منطلقات وطنية، وترفض رفضاً جازماً وحاسماً أن تتعدّى بجهادها حدود الوطن»([37]).
وعطفاً على ما انتهى إليه المقدسي: «فالتيار السَّلَفي الجهادي يخالف هؤلاء وهؤلاء. ومن أجل ذلك فهو يدعو إلى التوحيد بشموليته، وفي كل مكان، فحيث وجد الخلق شرعت دعوتهم إلى التوحيد بشموليته، وحيث وجدت هذه الدعوة وجد الجهاد من أجلها وفي سبيلها… ولذلك فأنتَ ترى أن هذا التيار لا يحصر جهاده في بقعةٍ معينة من الأرض من منطلقاتٍ قومية أو أرضية، بل ميدانه هي الأرض كلها، فتجد أبناءه يجاهدون في شتّى بقاع الأرض… فرق بين الاجتهادات النابعة من السياسة الشرعية وبين الثوابت والأصول النابعة عن الوطنية أو نحوها من الموازين الجاهلية»([38]).
وتحت عنوان ﴿وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ﴾ يقول سيِّد قطب: «إن هذا الكون بجملته لا يستقيم أمره، ولا يصلح حاله، إلا أن يكون هناك إلهٌ واحد يدبِّر أمره، و﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا﴾… وأظهر خصائص الألوهية بالقياس إلى البشرية تعبُّد العبيد، والتشريع لهم في حياتهم، وإقامة الموازين لهم. فمَنْ ادَّعى لنفسه شيئاً من هذا فقد ادَّعى لنفسه أظهر خصائص الألوهية، وأقام نفسه للناس إلهاً من دون الله. وما يقع الفساد في الأرض كما يقع عندما تتعدَّد الآلهة في الأرض على هذا النحو، عندما يتعبَّد الناس الناس، عندما يدَّعي عبدٌ من العبيد أن له على الناس حقّ الطاعة لذاته، وأن له فيهم حقّ التشريع لذاته، وأن له كذلك حقّ إقامة القِيَم والموازين لذاته، فهذا هو ادّعاء الألوهية، ولو لم يقُلْ كما قال فرعون: ﴿أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى﴾، والإقرار به هو الشرك بالله أو الكفر به…، وهو الفساد في الأرض أقبح الفساد»([39]).
وفي ردٍّ على سؤالٍ بشأن العمل العلني السلمي، وحملات العنف ضدّ الحكومة المصرية، قال أيمن الظواهري: «لا تسعى الجماعة لتحقيق أهدافها عن طريق حملات العنف، وإنما تسعى الجماعة لتغيير النظام عن طريق العمل الشامل. وما نقوم به من عمليات جهادية نهدف منه إلى أهدافٍ معينة تهيِّئ للتغيير الشامل الذي ننشده، مثل: ردع النظام، وتحطيم معنوياته، ورفع معنويات الشباب المسلم. فنحن نؤمن، كما بيَّنّا في نشراتنا المختلفة، أن هذا النظام يجب تغييره شرعاً، وإنْ أدّى ذلك إلى قتاله، ولذا فنحن ملزمون شرعاً بقتاله، ثمّ إننا قد حملنا السلاح بعد أن سُدَّتْ كل أبواب التغيير السلمي منذ عقودٍ في مصر، فالحركة الإسلامية في مصر تتلقّى الضربات منذ عهد النقراشي حتّى عهد حسني مبارك»([40]).
يتبيَّن ممّا سبق أن التيار السَّلَفي الجهادي اتَّكأ على الماضي لاستخراج منظومته الفكرية والقيمية، في محاولة لإيجاد حلٍّ للمأزق الحضاري الذي تمر به البلدان الإسلامية. وقد وجد ضالّته في منهجٍ تكفيري يستحضر العصر الجاهلي السابق للإسلام؛ لمحاكاة العصر الحالي، فأنتج أدواته المقدَّسة في التشخيص التي كشفت عن نوعين متصارعين من القِيَم، وجود أحدهما يلغي حتماً وجود الآخر. وعليه وجد أنصار هذا التيار أنه لا سبيل للإصلاح المرحلي أو المتدرِّج، وإنَّما لا بُدَّ من هدم المجتمع الجاهلي، ومواجهة الأنظمة التي يعتبرونها كافرة، فعمَّموا قِيَم الانغلاق وكراهية أبناء مجتمعاتهم، الذين أضحَوْا، بالنسبة إليهم، غرباء وأعداء يتبرّأون منهم، وروَّجوا قِيَم القطيعة والمفاصلة والتقويض، فشطروا العالم إلى شطرين لا يمكن التعايش بينهما، وكرَّتْ سلسلة الثنائيات المقدَّسة، فغدا الحقّ في مواجهة الباطل، والله مقابل الطاغوت، الخير والشر، الشرك والتوحيد، الإيمان والكفر، القِيَم الإسلامية والقِيَم الجاهلية، مملكة الله ومملكة الأرض، الحاكمية لله والحاكمية للبشر، عبودية الله وعبودية العباد للعباد، طهرانيّة المجتمعات السالفة وكفرانيّة المجتمعات الحاضرة، دار السِّلْم ودار الحرب، الإسلام والمادّية، الثابت والمتحوِّل، الآلهي والتاريخي، الاتّباع والإبداع، العقيدة الدينية المطلقة والعلم الإنساني النسبي..
وفي ضوء هذه «الحقائق»، التي اعتقدوا أنهم وجدوها، شرعوا بتنفيذ عمليات الجهاد المسلَّح لتغيير الأنظمة والمجتمعات والعالم، فأعلنوا الجهاد العالمي.
غايات الجهاد عند السَّلَفية الجهادية
يتبيَّن من خطاب التيارات السلفية الجهادية أنّها تسعى لأهداف تعتبرها سامية؛ لكونها تتعلَّق بإحقاق أمر الله، وتطبيق شريعته، والجهاد في سبيله؛ لتحقيق مرضاته والفوز بجنَّته وتجنُّب غضبه. ويرَوْن أنهم لتحقيق ذلك لا بُدَّ من تنفيذ الأوامر الإلهية الواضحة في القرآن الكريم، حيث يقول تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ﴾ (البقرة: 190). كما أنه «لا خلاف بين العلماء في أن الجهاد ـ القتال ـ كان محظوراً قبل أن يهاجر النبيّ| إلى المدينة، وكان المسلمون مأمورين حينئذٍ بالصفح والعفو عمَّنْ خالفهم، وكان أوّل الأمر بالقتال ـ على الراجح ـ بعد الإذن به هو هذه الآية، ذلك أن الله تعالى أمر بقتال مَنْ انبعثت همَّته لقتال أهل الإسلام وآذاهم، والكفّ عمَّنْ ليس من أهل القتال، وبيَّن الله تعالى أن مخالفة هذا الحكم اعتداء لا يرضاه الله عزَّ وجلَّ، وقال تعالى: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ (البقرة: 191). وهذه الآية الكريمة توجب قتل الكافرين حيثما كانوا، وأينما وجدوا، وعلى أيّ حال كانوا، وإخراجهم من ديارهم وأرضهم بالقتل أو الإجلاء، كما فعلوا مع أهل الإيمان ويفعلون دائماً، فقد أخرجوهم من ديارهم بغير جُرْمٍ اقترفوه إلاّ أن يقولوا ربنا الله، وتبيِّن الآية الكريمة أنّ ما عليه أهل الشرك والكفر والمحاربة، من عنادهم للحقّ وعبادتهم لغير الله ومقاتلتهم أهل الإيمان، أعظم ممّا يقع من بعض المقاتلين من خطأ أثناء قتالهم لهم»([41]).
ويعتقد أتباع هذه التيّارات بأن ما تحدَّثت عنه الآيات السابقة كان مختصّاً بمرحلة انقضت، ولكن بعد «انتهاء المشركين عن كفرهم وشركهم، ورفع شعائر الإسلام عالية، وإقامة أحكام الشريعة على الخلق كلِّهم، وإرغام أنف الكافرين، قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ فَإِنْ انْتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ (البقرة: 193)، وهذه الآية الكريمة توضِّح الهدف من فرض القتال على أهل الإيمان، وهو أن لا يبقى في الأرض أيّ مظهرٍ من مظاهر الشرك أو الكفر، وأن ترتفع كلّ مظاهر الإكراه المادي والمعنوي عن المستضعفين في الأرض، وأن يكون كل الناس أحراراً في اختيارهم، وتحمُّل تبعات ما يختارونه من دينٍ؛ لأن معنى الفتنة شامل للمعنيين. وتدلّ الآية أيضاً على أن أهل الكفر إنْ انتهوا عن كفرهم وشركهم فلا سلطان لأحدٍ عليهم، إلاّ مَنْ أصاب حدّاً أو جرماً، فقد ظلم نفسه، وجعل لغيره عليه سلطاناً»([42]).
كذلك فإن للجهاد، برأيهم، وظائف أخرى، من أهمِّها: اختبار الناس من قبل الله، ومعرفة صدقهم و«تمحيص المؤمنين، وتطهير الصفّ، ومحق الكافرين، وفضح المنافقين وإظهارهم. قال تعالى: ﴿وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾ (محمد: 4)، أي أمركم بالحرب والقتال ليبلو ويختبر بعضكم ببعض، فيعلم المجاهدين والصابرين، ويعلم الفارّين والمنافقين([43])، وقال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ (محمد: 31)، وقال تعالى: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ﴾ (آل عمران: 141)، أي ليبتلي المؤمنين، فيثبِّتهم ويكفِّر عنهم من ذنوبهم ـ إنْ كانت لهم ذنوبٌ ـ، وإلاّ رفع لهم درجاتهم بحَسَب ما أصيبوا به، ويمحق الكافرين أي «يستأصلهم بالهلاك»([44])، وقال تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ﴾ (آل عمران: 167)، أي ليظهر إيمان المؤمنين بثبوتهم في القتال، وليظهر كفر المنافقين»([45]).
وينظرون إلى الجهاد على أنه فرصةٌ للمؤمنين؛ لنيل الدرجات العليا في الجنّة، كما أن مرتبة الشهداء هي من أرفع المراتب في الدارين الدنيا والآخرة. والجهاد في سبيل الله لا يرقى إليه عملٌ، ولو كان بدرجة خدمة ضيوف الرحمن في موسم الحجّ، وحتّى في بناء بيت الله في الحَرَم المكي، فثواب الجهاد أكبر، ولا يمكن مقارنته بأيّ عملٍ آخر. وفي ذلك يستشهدون بقوله تعالى: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (التوبة: 19). ومناسبة هذه الآية المباركة «أنّ قوماً قالوا: إن سقاية الحجيج وخدمتهم وعمارة البيت الحرام، الذي هو أطهر بقاع الأرض، بالذكر والصلاة والدعاء والاعتكاف هي أفضل الأعمال مطلقاً، فأنزل الله تعالى هذه الآية؛ توبيخاً لهم، وردّاً لمقالتهم، وبيَّن تبارك وتعالى أن الجهاد في سبيل الله تعالى بعد الإيمان به لا يعدله ما ذكروه من الأعمال، وإنْ كانت عظيمةً عند الله وعند الناس»([46]).
ويؤكِّدون أن غايات الجهاد أيضاً الدفاع عن أماكن العبادة، وتمكين الناس من ممارسة الشعائر الإسلامية، مستشهدين بقوله تعالى: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحجّ: 40). وهذا، برأيهم، يدلّ على أنه لولا قيام المجاهدين في وجه المشركين والكفّار لما بقي مكان صالح لعبادة الله سبحانه([47]).
وفي اعتقادهم أن من مقاصد الجهاد أيضاً معاقبة المجرمين الذين عاثوا في الأرض فساداً، والانتقام منهم، ودَرْء خطرهم، ففي ذلك تعزيزٌ لهيبة المسلمين، وشفاءٌ لما أصابهم من شرور الظالمين، وإذهابُ غيظهم([48]).
كذلك يرى أتباع هذه التيّارات أن الجهاد يوفِّر الرزق، ويستشهدون على ذلك بالآية الكريمة: ﴿وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً﴾ (الأحزاب: 27).
وفي رأي السَّلَفيِّين الجهاديين أن من شأن الجهاد أيضاً ردع المشركين والكفار عن القيام بالاعتداء على المسلمين في دينهم وأموالهم وغيرها، مستدلِّين على ذلك بقوله تبارك وتعالى: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً﴾ (النساء: 84). وينقلون عن ابن تيمية قوله، ردّاً على سؤالٍ عن قتال التتار ومَنْ تحيَّز إليهم من عسكر المسلمين: «إذا كانت السنَّة والإجماع متَّفقين على أن الصائل المسلم إذا لم يندفع صوله إلاّ بالقتل قتل، وإنْ كان المال الذي يأخذه قيراطاً من دينار، كما قال النبيّ| في الحديث الصحيح: «مَنْ قتل دون ماله فهو شهيدٌ، ومَنْ قتل دون دمه فهو شهيدٌ، ومَنْ قتل دون دينه فهو شهيدٌ، ومَنْ قتل دون حَرَمه فهو شهيدٌ»، فكيف بقتال هؤلاء الخارجين عن شرائع الإسلام، المحاربين لله ورسوله، الذين صولهم وبغيهم أقلّ ما فيهم، فإنّ قتال المعتدين الصائلين ثابتٌ بالكتاب والسنّة والإجماع، وهؤلاء معتدون صائلون على المسلمين في أنفسهم وأموالهم وحرمهم ودينهم، وكلٌّ من هذه يُبيح قتال الصائل عليها، ومَنْ قتل دونها فهو شهيدٌ، فكيف بمَنْ قاتل عليها كلّها… ولذلك قال الشيخ عبد الله عزّام&: وقد اتَّفق الأئمّة الأربعة على وجوب دفع الصائل على الأعراض، وأما الصائل على النفس والمال فيجب دفعه عند الجمهور، ولو أدّى إلى قتل الصائل المسلم. قال الجصاص: لا نعلم خلافاً أن رجلاً لو شهر سيفاً على رجلٍ ليقتله بغير حقٍّ أن على المسلمين قتله. قال الشيخ عزّام: وكم كلَّف جهل هذا الحكم الشرعي المسلمين من ضحايا؛ لأن المخبر يأخذ زوجته في منتصف الليل، ولا يقتله؛ خوفاً من سفك دم امرئٍ مسلم»([49]).
الخلاصة
تبيَّن معنا خلال هذا البحث أن السَّلَفية الجهادية الحالية تعود جذورها الفكرية إلى الدعوة التي أطلقها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نَجْد، إحدى أقاليم شبه الجزيرة العربية. وكان ابن عبد الوهّاب من أتباع مذهب الإمام أحمد بن حنبل([50]). وهدف ابن عبد الوهاب ومن بعده أتباعه (يطلق عليهم تسمية «الوهّابيين») من خلال حركتهم الدعوية إلى العودة لما تصوَّروا أنّها الأسس التي ارتكز عليها الإسلام، عبر الرجوع إلى السلف الصالح وفق اعتقادهم؛ لـ «تصحيح العقيدة الإسلامية».
تحوَّلت هذه الدعوة إلى أيديولوجيا دينية للكيان السياسي الذي تأسَّس في الجزيرة العربية، وأُطلق عليه اسم «المملكة العربية السعودية»، فصار للسَّلَفية الوهابية كيانٌ شرعي تبثّ من خلاله أفكارها، وتحقِّق انتشارها في العالم عبر الدعوة والتعليم والإعلام والروابط والمؤسَّسات العديدة التي أنشأتها. إلاّ أنّه في الربع الأخير من القرن الماضي شهدت السَّلَفية انقساماً على نفسها إلى أكثر من تيّارٍ داخل السعودية؛ بسبب استدعاء القوات الأجنبية الغربية إلى الأراضي المقدَّسة في شبه الجزيرة العربية، حيث برز تيّاران جديدان، إلى جانب المؤسَّسة الدينية الرسمية في المملكة، هما: التيار الإصلاحي؛ والتيار الجهادي. وفي الوقت الحاضر لم تَعُدْ السَّلَفية تياراً واحداً، بل يمكن الحديث عن تيارات متعدِّدة؛ منها ما هو تقليدي؛ وآخر يقدِّم نفسه كإصلاحي؛ ومنها الجهادي النظري؛ وآخرها الجهادي التكفيري، الذي استند إلى تنظيرات القيادي في حركة الإخوان المسلمين المصرية سيِّد قطب، التي أطلقها في ستينيات القرن الماضي، متأثِّراً بأفكار الشيخ الباكستاني أبي الأعلى المودودي، حول مفاهيم الحاكمية، وجاهلية المجتمعات، ومفهوم الولاء والبراء، وتقسيم العالم إلى دارين: واحدة للإسلام؛ وأخرى للكفر والحرب، بعد استحضار فتاوى ابن تيمية وابن القيِّم الجوزية. وفي أواخر السبعينات من القرن العشرين قدَّم محمد عبد السلام فرج كتيِّبه المشهور «الفريضة الغائبة»، وبعدها توالت الإصدارات بكثافةٍ هائلة خلال مراحل الحرب الأفغانية وحكومة الطالبان، وخاصّة مع إصدارات الشيخ عبد الله عزَّام في أفغانستان، والتي مثَّلت صميم فقه الواقع، الذي يجمع الباحثون على أنه أهمّ مصدر وأغنى تراثٍ استندت إليه تيّارات السَّلَفية الجهادية، وفيه خلاصة تجارب التنظيم السرِّي للإخوان المسلمين في مصر وبلاد الشام.
ويسعى أتباع السَّلَفية الجهادية إلى إعادة الخلافة الإسلامية، باعتبارها نموذج الحكم الشرعي، بعد أن ابتدعوا تفسيراً خاصّاً للتاريخ الإسلامي؛ لاستخراج منظومة فكرية تعتمد المنهج التكفيري، فاستحضروا العصر الجاهلي (الذي كان قبل الإسلام)، وأسقطوه على العصر الراهن، وأنتجوا أدواتهم المعرفية في التشخيص، فكشفوا عن نوعين متناقضين من القِيَم، ووجود أحدهما يلغي حَتْماً وجود الآخر، وتوصَّلوا إلى نتيجة مفادها: إنّه لا سبيل للإصلاح المرحلي أو المتدرِّج، وإنَّما لا بُدَّ من هدم المجتمع القائم؛ لأنه بمفهومهم جاهلي، ويجب هجره، والشروع في محاربة الأنظمة الكافرة؛ اعتقاداً منهم أن ذلك فرض عين على كلّ مسلمٍ لإسقاطها، ورفضوا رفضاً قاطعاً المشاركة في العملية السياسية، والدخول إلى المجالس البرلمانية، ورأَوْا أن المشاركة في الانتخابات هي إقرار بشرعيّة الديمقراطية، التي هي مخالفة لعقيدة التوحيد. فالديمقراطية برأي أيمن الظواهري تدعو إلى حاكمية الجماهير، في مقابل الشريعة المبنية على حاكمية لله. وقاموا بشطر العالم إلى قسمين، لا يمكن التعايش بينهما، وكرَّتْ سلسلة الثنائيات المقدَّسة: فغدا الحقّ في مواجهة الباطل، والله مقابل الطاغوت، الخير والشرّ، الشرك والتوحيد، الإيمان والكفر. وبعد كلّ هذه الحقائق التي اعتقدوا أنهم وجدوها شرعوا بالحرب لتغيير الأنظمة والمجتمعات والعالم، فأعلنوا الجهاد العالمي. كذلك فقد أوجبوا قتال المجتمعات الإسلامية الحالية؛ باعتبارها مجتمعات جاهلية لا يُطبَّق فيها ما يعتبرونه أحكاماً شرعية، ولا يغفر لتلك المجتمعات التزامها بإقامة الشعائر الإسلامية من صلاةٍ وصيام وحجّ وزكاة… فالقيام بالطقوس الدينية فقط لا يكفي لاعتبار المجتمع مسلماً يعيش حالةً إيمانية، فالامتناع عن تطبيق الأحكام الشرعية الإسلامية في ظلّ الدولة الحديثة يجعل المجتمع مجتمعاً جاهليّاً، لا بُدَّ من العمل على إعادته إلى جادّة الصواب بالقوة المسلَّحة، وبالحرب عليه لإخضاعه.
وهناك مسألةٌ ثانية دعَتْ إليها السَّلَفية الجهادية، وهي جهاد الطَّلَب، الذي يعني طَلَب غير المسلمين، الذين يصنَّفون كفاراً ومشركين، وذلك في عقر دارهم، ودعوتهم إلى الإسلام، وقتالهم إذا لم يقبلوا الخضوع لحكم الإسلام. ويحتلّ هذا النوع من الجهاد ضدّ المشركين والكفّار أولويّةً في فكر هذه الجماعات، ولذلك قام منظِّروها بجمع ما تيسَّر لهم من النصوص الدينية الإسلامية، وفسَّروها وفق مفاهيمهم الخاصّة، وتوصلوا إلى وجوب قتال أهل الكفر ما توافرت القدرة على ذلك، واعتبروا أن جهاد الكفّار ابتداءً تطوُّعٌ، وأنه ليس فرضاً عينيّاً على كلّ مسلمٍ، بل هو فرض كفائي. كما استحضروا الفتاوى من المذاهب الإسلامية السنِّية الأربعة؛ لتأكيد مشروعيّتها في قتال مَنْ وصفتهم بالكفّار أو مَنْ نعتتهم بالمشركين، سواء كانوا داخل البلاد الإسلامية أو خارجها، وذلك في إطار الجهاد الابتدائي، واعتبرت أن مجرَّد كفرهم أو شركهم كافٍ لتبرير شنِّ الحرب عليهم، وإدخالهم في الإسلام، ولا يشترط قيامهم بأعمال عدائية ضدّ المسلمين.
ونشير أخيراً إلى أنّ الأفكار المتشدِّدة لدى تلك الجمعات لم يمنعها من الاتصال المباشر أو غير المباشر ببعض القوى التي تصنِّفها في أدبيّاتها ضمن خانة الكفار والمشركين، وتلقّي الدعم المادي والحماية منهم؛ لتنفيذ مشاريعهم. وفي هذا الصدد نذكر أنه في ثمانينات القرن الماضي كلَّفت السلطات السعودية (بإيعازٍ أميركي) أسامة بن لادن بإنشاء تنظيم القاعدة كإطارٍ عسكري؛ لتجهيز المقاتلين من البلدان العربية والإسلامية، وإرسالهم إلى أفغانستان؛ لمحاربة السوفيات، الذين كانوا يحتلُّونها. ولكن بعد اندحار القوات السوفياتية عن أفغانستان، وبعد اجتياح صدام حسين للكويت، وبناء تحالف عسكري غربي للهجوم على العراق، واستقدام قوات عسكرية غربية إلى السعودية؛ لتحرير الكويت، وإقامة قواعد عسكرية في شبه الجزيرة العربية، تغيَّرت العلاقة بين تلك الجماعات السَّلَفية والنظام في السعودية والدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتَّحدة، وشكَّلت هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 على بُرجَيْ مركز التجارة العالمي في نيويورك إيذاناً بأن الصدام بين الطرفين قد وصل في تلك المرحلة إلى نقطة اللاعودة. وتبع ذلك احتلال كلٍّ من: أفغانستان والعراق من قبل التحالف الغربي تحت ذريعة محاربة الإرهاب.
الهوامش
(*) حائزٌ على دكتوراه في الدراسات الإسلامية (الفكر السياسيّ)، وأستاذٌ محاضِر بكلّية دراسات العالم ـ جامعة طهران. من إيران.
([1]) يوسف العييري، حكم الجهاد وأنواعه (http://www.tawhed.ws/r1?i=2957&x=vz8kosys).
([2]) عبد القادر بن عبد العزيز، رسالة العمدة في إعداد العدة: 288.
([4]) يستشهد العيري بقول الله تعالى: ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (التوبة: 5)، وقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ (التوبة: 36)، وقوله تعالى: ﴿انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (التوبة: 41)، إلى غير هذا من الآيات. ويدلّ على ذلك قول الرسول|: «أُمِرتُ أَن أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشهَدُوا أَن لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُم وَأَموَالَهُم إِلاّ بِحَقِّ الإسلام وَحِسَابُهُم عَلَى الله». (رواه البخاري)؛ وقوله|: «اغزُوا بِاسمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ. اغزُوا وَلا تَغُلُّوا وَلا تَغدِرُوا وَلا تُمَثِّلُوا وَلا تَقتُلُوا وَلِيداً. وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِن المُشرِكِينَ فَادعُهُم إلى ثَلاثِ خِصَالٍ أو خِلالٍ، فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقبَل مِنهُم، وَكُفَّ عَنهُم. ثُمَّ ادعُهُم إلى الإسلام؛ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقبَلْ مِنهُم، وَكُفَّ عَنهُم. ثُمَّ ادعُهُم إلى التَّحَوُّلِ مِن دَارِهِم إلى دَارِ المُهَاجِرِينَ، وَأَخبِرهُم أَنَّهُم إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُم مَا لِلمُهَاجِرِينَ وَعَلَيهِم مَا عَلَى المُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَن يَتَحَوَّلُوا مِنهَا فَأَخبِرهُم أَنَّهُم يَكُونُونَ كَأَعرَابِ المُسلِمِينَ، يَجرِي عَلَيهِم حُكمُ اللهِ الَّذِي يَجرِي عَلَى المُؤمِنِينَ، وَلا يَكُونُ لَهُم فِي الغَنِيمَةِ وَالفَيْءِ شَيءٌ إِلاّ أَن يُجَاهِدُوا مَعَ المُسلِمِينَ، فَإنْ هُم أَبَوْا فَسَلهُم الجِزيَةَ، فَإِنْ هُم أَجَابُوكَ فَاقبَل مِنهُم، وَكُفَّ عَنهُم، فَإِنْ هُم أَبَوْا فَاستَعِنْ بِاللهِ، وَقَاتِلهُم». (رواه مسلم). (انظر: العييري، حكم الجهاد وأنواعه).
([5]) يقول صاحب شرح فتح القدير، بعد تقريره لفرضية الجهاد بالأدلة: «وبهذا ينتفي ما نُقل عن الثوري وغيره أنه ليس بفرضٍ، ويجب حمله إنْ صحَّ على أنه ليس بفرض عين» (شرح فتح القدير 5: 437). ويقول الجصّاص: «إن مذهب ابن عمر في الجهاد أنه فرض على الكفاية. وإن الرواية التي رويت عنه في نفي فرض الجهاد إنّما هي على الوجه الذي ذكرنا، من أنه غير متعيِّن على كلّ حال في كلّ زمان» (تفسير الجصّاص 3: 116). ولم يذكر ابن قدامة، ولا ابن القيِّم، عند كلامهما عن حكم الجهاد، سوى الفرضية، ولم يشيرا مطلقاً إلى ما رُوي عن ابن عمر والثوري، ممّا يدل على أن ما نُسب إليهما لم يصحّ عندهما، أو أنهما لم يفهما عنهما سوى الفرضية الكفائية. (انظر: المغني 8: 346؛ وزاد المعاد 3: 71). وقد نقل ابن عطية في تفسيره الإجماع على فرضية جهاد الابتداء والطلب، فقال&: «واستمر الإجماع على أن الجهاد على أمة محمد| فرض كفاية، فإذا قام به مَنْ قام من المسلمين يسقط عن الباقين، إلاّ أن ينـزل العدوّ بساحة الإسلام، فهو حينئذٍ فرض عين. وذكر المهدوي وغيره عن الثوري أنه قال: الجهاد تطوّع… وهذه العبارة عندي إنّما هي على سؤال سائلٍ وقد قِيم بالجهاد فقيل: هذا تطوّع» (تفسير ابن عطيّة 2: 43). (المصدر نفسه).
([6]) العييري، حكم الجهاد وأنواعه، مصدر سابق.
([7]) رسالة العمدة في إعداد العدة: 289.
([8]) محمد حامد الفقي، الاختيارات الفقهية لابن تيمية: 309؛ دار المعرفة.
http://www.almeshkat.net/books/open.php?cat=25&book=1622
([9]) الفقي، الاختيارات الفقهية لابن تيمية: 309.
([10]) ينقل العييري عن الجصّاص قوله: «ومعلوم في اعتقاد جميع المسلمين أنه إذا خاف أهل الثغور من العدوّ، ولم تكن فيهم مقاومة، فخافوا على بلادهم وأنفسهم وذراريهم، أن الفرض على كافّة الأمّة أن ينفر إليهم مَن يكفّ عاديتهم من المسلمين. وهذا لا خلاف فيه بين الأمّة؛ إذ ليس من قول أحدٍ من المسلمين إباحة القعود عنهم حتّى يستبيحوا دماء المسلمين وسبي ذراريهم» (تفسير الجصّاص 3: 114]. وقال القرطبي: «إذا تعين الجهاد؛ بغلبة العدوّ على قطر من الأقطار، أو بحلوله بالعقر، فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافاً وثقالاً، شباباً وشيوخاً، كلٌّ على قدر طاقته، مَنْ كان له أبٌ بغير إذنه، ومَنْ لا أب له، ولا يتخلَّف أحدٌ يقدر على الخروج من مقاتل أو مكثر، فإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدوِّهم كان على مَنْ قاربهم وجاورهم أن يخرجوا لما لزم أهل تلك البلدة، حتّى يعلموا أن فيهم طاقةٌ على القيام بهم ومدافعتهم. وكذلك كلّ مَنْ علم بضعفهم عن عدوِّهم، وعلم أنه يدركهم، ويمكنه غياثهم، لزمه أيضاً الخروج إليهم. فالمسلمون كلهم يدٌ على مَنْ سواهم، حتّى إذا قام بدفع العدوّ أهل الناحية التي نزل العدوّ عليها واحتلّ بها سقط الفرض عن الآخرين. ولو قارب العدوّ دار الإسلام، ولم يدخلوها، لزمهم أيضاً الخروج إليه حتّى يظهر دين الله وتحمى البيضة، وتحفظ الحوزة، ويخزى العدوّ. ولا خلاف في هذا» (تفسير القرطبي 8: 151). ولا أطيل بذكر نصوص العلماء في هذا الشأن؛ فإن كون جهاد الدفاع فرض عين محلّ إجماع. (أهمّية الجهاد: 124 ـ 135).
ـ العييري، حكم الجهاد وأنواعه.
([11]) ابن تيمية؛ إلى مَنْ يصل إليه من المؤمنين (1)، مجموع الفتاوى 28: 226.
http://www.tawhed.ws/r?i=ngq3s2tb
كتب أحمد بن تيمية هذه الرسالة لما قدم التتار، سنة تسع وتسعين وستّمائة، إلى حلب، وانصرف عسكر مصر، وبقي عسكر الشام، يحثّ المسلمين فيها على الصمود في وجه التتار ومَنْ شايعهم من المرتدّين، والجهاد في سبيل الله.
([12]) المفاهيم السَّلَفية تمّ استقاها من التراث السَّلَفي الذي ساهم في صياغته كلٌّ من: أحمد بن حنبل، وابن تيمية، وابن قيِّم الجوزية، ومحمد بن عبد الوهّاب، ولا سيَّما أبو الأعلى المودودي وسيِّد قطب، اللذان أسَّسا الأرضية الفقهية للجهادية بصورتها الحالية.
([13]) يُذْكَر هنا محاولة الإخوان المسلمين بقيادة سيِّد قطب الانقلاب على حكم جمال عبد الناصر، ثم المواجهات التي حصلت مع النظام السوري في الثمانينات، والنظام الجزائري في التسعينات. ثم اتَّخذت لاحقاً شكلاً جديداً بنقل المعركة من الداخل إلى الخارج، ولا سيَّما بعد إنشاء الجبهة الإسلامية العالمية، برئاسة السعودي الوهّابي أسامة بن لادن، والمصري القطبي أيمن الظواهري. وكانت ساحتها أفغانستان (حركة طالبان والأفغان العرب)، والآن ساحتها الأساسية العراق.
([14]) رشيد أمّون، المنظومة الفكرية والقيمية للسَّلَفية الجهادية التكفيرية، جريدة النهاراللبنانية، بتاريخ: 10/6/2007.
([15]) لخلافة عبدلاوي، المرتكزات العقيدية للفكر الجهادي… توصيف الحالة المغربية، بتاريخ: 17/3/2009،
http://islamyoon.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&cid=123650891418&pagename=Islamyoun%2FIYALayout
([16]) عبدلاوي، المرتكزات العقيدية للفكر الجهادي.
([22]) شريف يونس، سيِّد قطب والأصولية الإسلامية: 210، القاهرة، دار طيبة، 1995.
([23]) أبو الأعلى المودودي، الإسلام والجاهلية: 41، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
([24]) قال أيمن الظواهري: «إن سيد قطب هو الذي وضع دستور «الجهاديين»!، وأن سيِّد قطب هو مصدر الإحياء الأصولي، وأن كتابه العدالة الاجتماعية في الإسلام، يُعَدّ أهمّ إنتاج عقلي وفكري للتيارات الأصولية، وأن فكره كان شرارة البدء في إشعال الثورة الإسلامية ضدّ أعداء الإسلام في الداخل والخارج، والتي ما زالت فصولها الدامية تتجدَّد يوماً بعد يوم». (الظواهري، الديناميت: معالم في الطريق، صحيفة الشرق الأوسط، العدد 8407، بتاريخ: 19/9/1422هـ).
([25]) سيِّد قطب، معالم في الطريق، فصل لا إله إلاّ الله منهج حياة:
http://www.tawhed.ws/r1?i=1418&x=mf0etkyq
([28]) يتحوَّل مفهوم الحاكمية الإلهية على يدي سيِّد قطب إلى أيديولوجيا تقوم بشحن مصطلحات قديمة بدلالاتٍ حديثة، معيدة ترتيبها وتصنيفها من جديد، وفق منظومة من المفاهيم المتراصّة في تسلسل محكم، القادرة بحدّ ذاتها على إنتاج وتوليد مفاهيم جديدة مستقاة من مصطلحات قديمة. فالقضية تبدأ بتكفير الأمّة والمجتمع، وبمقتضاها تتحوَّل دار الإسلام إلى دار حربٍ، عندها يموت التاريخ، ليبدأ مشهدٌ جديد يرفض اعتبار المجتمعات القائمة اليوم مسلمة؛ لأن القبول بهذه التسمية يُستعمل كـفخٍّ يُراد منه إحداث ممانعة للخطاب الإسلامي الانقلابي التكفيري. إذن نحن أمام مشهد جاهلي جديد، من الخطأ ـ وربما من التآمر ـ تلوينه أو تجميله أو تمويهه. (عماد عبدالغني، إنشاء الخطاب وتفكيك النصّ:
http://www.balagh.com/mosoa/fekr/cy05os26.htm
([29]) رغم أن معظم المصادر تشير إلى الأثر الفاعل للمودودي على سيِّد قطب، فإنّ ذلك يظلّ شيئاً لا يمكن إثباته بدقّة، وإن كان من المرجَّح أن يكون سيِّد قطب قد اطَّلع على كتابات المودودي. لكن يصعب إثبات أن يكون أخذ مفهومي الجاهلية والحاكمية من المودودي خلال صياغته لنظرية تكفير المجتمع والدولة.
([30]) أبو الأعلى المودودي، نظرية الإسلام وهَدْيه في السياسة والقانون والدستور: 78، دار الفكر، دمشق، 1969.
([31]) المودودي، الإسلام والجاهلية: 111، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
([32]) سيِّد قطب، معالم في الطريق، فصل لا إله إلاّ الله منهج حياة.
([33]) سيِّد قطب، العدالة الاجتماعية في الإسلام: 182، دار الشروق، بيروت، 1993.
([34]) سيِّد قطب، معالم في الطريق، فصل نشأة المجتمع المسلم خصائصه
http://www.tawhed.ws/r1?i=1418&x=mf0etkyq
([35]) أبرز ما جاء في هذا الكتاب:
أـ إن حكم الناطق بالشهادتين «أن نعتبره مسلماً تجري عليه أحكام المسلمين، وليس لنا في مدى صدق شهادته؛ إذ إن ذلك أمر لا سبيل للكشف عنه، والتثبُّت فيه».
ب ـ يعتبر الهضيبي «أن حكم الله أن يُعتبر الشخص مسلماً في اللحظة ذاتها التي ينطق فيها بالشهادتين. ولا يشترط أن تكون أعمال الشخص مصدِّقة لشهادته حتّى يحكم بإسلامه، وأنّه في حال نطقه بالشهادتين يلزمنا اعتباره مسلماً، ويحرم علينا دمه وماله… ». ويضيف: «مَنْ تعدّى ذلك إلى القول بفساد عقيدة الناس بما يخرجهم من الإسلام قلنا له: إنك أنت الذي خرجْتَ عن حكم الله؛ بحكمك هذا الذي حكمْتَ به على عموم الناس».
ج ـ وحول شيوع المعاصي كدليلٍ على أن المجتمع الحالي جاهلي وكافر يقول الهضيبي: «…ليست المعالنة بالمعاصي وشيوعها، وليست الظواهر العامّة التي ركن إليها دعاة التكفير، ممّا يجيز لهم شرعاً أن يصدروا حكماً على عموم الناس بخروجهم من الإسلام إلى الكفر أو بعدم دخولهم في الإسلام أصلاً رغم النطق بالشهادتين».
د ـ وحول مصطلح الحاكمية يقول: «…إنه لم يَرِدْ في أيّ آيةٍ من الذكر الحكيم، ولا في أي حديث. والغالبية التي تنطق بالمصطلح هي لا تكاد تعرف من حقيقة مراد واضعيه إلاّ عبارات مبهمة سمعتها عفواً هنا وهناك، أو ألقاها إليهم مَنْ لا يحسن الفهم، ويجيد النقل والتعبير… وهكذا يجعل بعض الناس أساساً لمعتقدهم مصطلحاً لم يَرِدْ له نصٌّ من كتاب الله أو سنّة رسوله…، أساساً من كلام بشرٍ غير معصومين، وارد عليهم الخطأ والوَهم، وعلمهم بما قالوا في الأغلب الأعمّ مبتسر (=مغلوط)».
هـ ـ وفي ردّه على سيِّد قطب والمودودي، حول مسألة اختصاص الله بالتشريع، وأنّ مَنْ وضع تشريعاً فقد انتزع لنفسه أحد صفات الله، وجعل نفسه ندّاً لله تعالى، خارجاً على سلطانه، يقول الهضيبي: «إن الحكم لله وحده صاحب الأمر والنهي، دون سواه، هذه عقيدتنا… لكنّ الله عزَّ وجلَّ قد ترك لنا كثيراً من أمور دنيانا، ننظمِّها حَسْب ما تهدينا إليه عقولنا، في إطار مقاصد عامّة، وغاياتٍ حدَّدها لنا سبحانه وتعالى، وأمرنا بتحقيقها، بشرط أن لا نحلّ حراماً أو نحرِّم حلالاً، ذلك أن الأفعال في الشريعة إما فرضٌ أو حرام أو مباح… ولا يجوز لأحدٍ أن يزعم أن تشريعات تنظيم المرور هي من تشريع الله عزَّ وجلَّ…».
و ـ ولمَنْ ربط أو اشترط (إسلام) الشخص بضرورة استيعابه لمعنى الشهادتين قال الهضيبي: «إن المسلمين في عهد الصحابة والتابعين فتحوا بلاد الفرس والبربر والترك والهند والأندلس وأجزاء من البلقان، وكلّها شعوب لم تكن تعرف العربية. وكان إجماع الصحابة والكافّة على قبولهم الإسلام بشهادة (أن لا إله إلاّ الله)، وعصمت بها دماؤهم وأموالهم، دون أن يُطالَبوا بشيءٍ ممّا أتى به المودودي وغيره… ».
وقد استند الهضيبي هنا إلى الحديث النبوي: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله …»، وإلى عتاب النبيّ لأسامة بن زيد عندما قتل مشركاً نطق بالشهادتين؛ ظنّاً منه أن أراد بذلك أن يفلت من القتل، حيث قال النبيّ مقولته الشهيرة، مستنكراً: «هلاّ شقَقْتَ على قلبه؟… ما تصنع بـ (لا إله إلاّ الله)؟».
اعتبر الهضيبي بعد استعراض أحاديث وآيات عديدة أن اشتراط استيعاب معنى الشهادة لاعتبار المسلم مسلماً شرطٌ زائد، وقال: «إن من أحدث تلك التفرقة، وأتى بذلك الشرط الزائد، فقد خالف نصّ حديث رسول الله، واليقين الثابت من عمله والمعتبر شريعة بلا خلاف، وأتى بشريعةٍ غير شريعة الله، مستحدثاً في الدِّين ما لم يَرِدْ فيه نصٌّ من كتاب أو سنّة».
ز ـ ولمَن يعتبر أن المرء يخرج من الإسلام إذا لم يكن عمله مصدِّقاً لشهادته ـ وهو قول المودودي وسيِّد قطب ومَنْ تبعهما ـ يقول الأستاذ الهضيبي: «نقول للذي اشترط أن تكون أعمال الشخص مصدِّقة لشهادته حتّى يحكم بإسلامه: إن في ما قدَّمناه يثبت فساد ذلك القول. فقد أقمنا الأدلة القاطعة على أن حكم الله تعالى يعتبر الشخص مسلماً في ذات اللحظة التي ينطق فيها بالشهادتين، وأنه في حال نطقه بالشهادتين يلزمنا اعتباره مسلماً، ويحرم علينا دمه وماله، فمن أين جاء الشرط الذي يفرض وجوب عملٍ ما، وتعليق حكم إسلام مَنْ نطق بالشهادتين حتّى يأتي بعملٍ يعتبر مصدِّقاً لشهادته؟!».
واستشهد الهضيبي بما جرى وقت احتضار أبي طالب في فراش الموت، عندما جلس الرسول إلى جواره يلحّ عليه في أن ينطق بالشهادتين، ثمّ تساءل: «ما جدوى هذه الشهادة وقيمتها؟ وما الداعي لأن يطلبها الرسول من عمِّه إنْ كانت بذاتها لا تُخرج قائلها من الكفر وتدخل به في الإسلام؟».
ثم يوجِّه الهضيبي سؤالاً إلى مَنْ قال بتعليق حكم إسلام المَرْء على عمل يؤدِّيه فوق النطق بالشهادتين قال فيه: «حدِّدْ لنا العمل الذي تريد أن تجعله مصدِّقاً لقول الناطقين بالشهادتين حتّى نحكم بإسلامه. وحدِّدْ لنا صفة ذلك العمل ومقداره… ولا سبيل إلى ذلك أبداً، إلاّ أن تأتي بشريعةٍ من عند ذات نفسك، ولم يأذن بها الله تعالى».
ح ـ ويرفض الحكم على الناس بالمظاهر، وخاصّة في ما يتعلَّق بواقع حياة الناس الذين ينهجون في حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مناهج تخالف شريعة الله، فيقول: «قد يكون الكثيرون منهم عاصين لأوامر الله، ولكن مَنْ تعدّى ذلك إلى القول بفساد عقيدة الناس بما أخرجهم عن الإسلام قلنا له: إنك أنتَ الذي خرجْتَ على حكم الله؛ بحكمك هذا الذي حكمْتَ به على عموم الناس. وإنّ استدلالك على فساد عقيدة الناس بما يخرجهم عن الإسلام ظنٌّ لا يرقى إلى الجَزم اليقين». ويضيف: «إننا لا نكفِّر مسلماً بمعصيةٍ».
كان هذا هو الردّ الرسمي للمؤسَّسة التي خرج منها سيِّد قطب، وتتلمذ على أيدي بعض علمائها. ولم يتوقَّف الأمر عند هذا الحدّ، بل تتابع سيل الردود من داخل التيار الفكري التنظيمي الذي ينتمي إليه سيِّد قطب. ومن أبرز هؤلاء: الدكتور يوسف القرضاوي، وهو من قادة الإخوان المسلمين، الذين غادروا مصر عام 1954، وعاش منذ ذلك الحين في أقطار الخليج الفارسي، وأصبح عميداً لكلية الشريعة في قطر، وعاد إلى مصر في مرحلة الانفتاح (الساداتي)؛ ليلعب دوراً هامّاً في إعادة تأسيس الانطلاقة. (حسـن الهضـيبي، دعـاة لا قضـاة
www.almeshkat.net/vb/showthread.php?t=62689
([36]) سيِّد قطب، خصائص التصوُّر الإسلامي ومقوّماته، موقع منبر التوحيد والجهاد:
http://www.tawhed.ws/r1?i=4982&x=gw6pdum2
([40]) أيمن الظواهري، نصّ حوار، جريدة العربي الأسبوعي.
([41]) عبد الحكيم حسّان (أبو عمرو)، تعريف الجهاد وبيان مقاصده: 24.
([43]) راجع: تفسير الطبري 26: 40؛ تفسير القرطبي 16: 230؛ تفسير ابن كثير 4: 175.
([44]) راجع: تفسير القرطبي 4: 220؛ تفسير ابن كثير 1: 409.
([45]) حسّان، تعريف الجهاد وبيان مقاصده: 37.
([46]) المصدر السابق: 37 ـ 38.
([47]) قال القرطبي: أي لولا ما شرَّعه الله تعالى للأنبياء والمؤمنين من قتل الأعداء لاستولى أهل الشرك، وعطَّلوا ما بينه أرباب الديانات من مواضع العبادات، لكنّه دفع بأن أوجب القتال ليتفرّغ أهل الدين للعبادة، فالجهاد أمرٌ متقدِّم في الأمم، وبه صلحت الشرائع، واجتمعت المتعبدات، فكأنّه قال: أذن في القتال فليقاتل المؤمنون، ثمّ قوى هذا الأمر في القتال بقوله: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ…﴾ الآية، أي لولا القتال والجهاد لتغلَّب على الحقّ في كلّ أمة، فمَنْ استبشع من النصارى والصابئين الجهاد فهو مناقضٌ لمذهبه؛ إذ لولا القتال لما بقي الدين الذي يذبّ عنه. وأيضاً هذه المواضع التي اتّخذت قبل تحريفهم وتبديلهم وقبل نسخ تلك الملل بالإسلام إنما ذكرت لهذا المعنى، أي لولا هذا الدفع لهدم في زمن موسى الكنائس، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع، وفي زمن محمد× المساجد. قال ابن عطية: هذا أصوب ما قيل في تأويل هذه الآية. (حسّان، تعريف الجهاد وبيان مقاصده: 39).
([48]) ويستدلّون على ذلك بقوله تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِب غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة: 14 ـ 15)، فهم يرَوْن في هذه الآية «دليلاً واضحاً على أن كل عمل يذهب غيظ المؤمنين وحنقهم على أهل الكفر، ويَشْفِ صدورهم، فهو من مقاصد الجهاد ومطلوب شرعاً، وذلك مثل: اغتيال أئمة الكفر، ومَنْ له اليد الطولى في حرب المسلمين وأذيّتهم، والذين يذيقون أهل الإسلام العذاب ألواناً، فإنّ قتل هؤلاء مذهبٌ لغيظ قلوب مَنْ ظلموهم من أهل الإسلام، ومشفٍ لصدروهم ممّا فيها من الوجد عليهم». (حسّان، تعريف الجهاد وبيان مقاصده: 40).
([49]) حسّان، تعريف الجهاد وبيان مقاصده: 48 ـ 49.
([50]) مذهب الامام أحمد بن حنبل هو أحد المذاهب السنِّية الأربعة، ويُعْرَف بـ (المذهب الحنبلي).