عرف التاريخ العربي والإسلامي عدداً من الثورات أو حركات التمرد والانقلابات، بدءاً من الثورة على الخليفة عثمان بن عفان عام 35 هـ، التي سميّت بالفتنة، وتمثلت بخروج فصائل من الجيوش المرابطة في البصرة والكوفة ومصر إلى المدينة المنوّرة، حيث قامت بمحاصرة منزل عثمان لأربعين يوماً ومن ثم تسللت مجموعة منها إلى داخل المنزل واغتالت الخليفة. وكان خروج هؤلاء لأسباب عدة، إذ كانوا يطالبون الخليفة بعدد من الإصلاحات السياسية والاقتصادية، أهمها وقف تكدّس الأموال وفساد أقاربه والمساواة بين المسلمين في العطاء وقد أدى اغتيال عثمان، الذي أعقبه اختيار الإمام علي بن أبي طالب للخلافة، إلى ما سمي بالفتنة وانقسام المسلمين شيعاً وفرقاً.
مثّلت حركة الخوارج ضد الإمام علي تمرداً ذا خلفيات سياسية ودينية بسبب موقفهم من نتائج التحكيم بين الإمام علي ومعاوية بن أبي سفيان، وأدى هذا التمرّد إلى حرب النهروان التي انتصر فيها علي على الخوارج، من دون أن ينهي وجود الحركة على المستوى العقائدي.
ثورة الحسين بن علي عام 61 للهجرة في كربلاء في العراق، كانت الأشهر في التاريخ الإسلامي، على رغم محدودية نتائجها العسكرية ومدتها الزمنية. فالحسين قال إنه خرج للإصلاح في أمة جدّه رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فهي كانت ثورة ذات خلفية دينية وسياسية، ترفض مبايعة الخليفة الأموي يزيد بن معاوية بسبب انحرافه عن نهج الرسول والخلفاء الراشدين في الحكم والسلوك.
لكن ارتدادات مقتل الحسين مع مجموعة من أهل بيته وأصحابه كانت كبيرة ومستمرة، تجلّت بثورات لاحقة خرجت تطلب الثأر للحسين، بدءاً من ثورة التوابين بزعامة سليمان بن صرد الخزاعي عام 64هـ ومعركة عين الورد مع الجيش الأموي عند حدود الجزيرة الفراتية، والتي انتهت بمقتل زعيم الثورة وفشلها. ثم جاءت حركة المختار الثقفي التي أنشأت تنظيماً سرياً عقائدياً عرف بالكيسانية بايعت محمد بن الحنفية، نجل الإمام علي، وقامت بالثأر من قتلة الحسين وعلى رأسهم عبيد الله بن زياد.
لقد شكّل استشهاد الحسين نقطة تحوّل مهمة في التاريخ الفكري والعقيدي للتشيع، إذ تحوَّل التشيع من اتجاه سياسي وميل عاطفي إلى عقيدة دينية راسخة وتحوَّل الشيعة من مجرّد أنصار لآل البيت لا تجمعهم عقيدة مميّزة إلى فرقة لها عقيدتها الكلامية التي تميّزها عن بقية المسلمين. ويرى عدد من المستشرقين والباحثين في نشوء حركة التوابين ورفعها شعار «الثأر للحسين» ثم في نشأة حركة المختار الثقفي وانتقامه من قتلة الحسين وتأسيسه لفرقة كلامية بداية ظهور الشيعة كفرقة مستقلة.
كما عرف التاريخ الإسلامي ثورات وحركات تمرّد أخرى، أبرزها ثورة زيد بن علي ضد الحكم الأموي، وثورة العباسيين التي أطاحت بالحكم الأموي، إلى ثورتي القرامطة والزنج، وغيرها من الحركات الشيعية الزيدية والإسماعيلية في العراق وإيران والبحرين واليمن ومصر وشمال أفريقيا.
ثورة العباسيين
كانت قلوب الخراسانيين ملأى بالحقد على الأمويين، وجاء العباسيون لملء الفراغ إذ جندّوهم إلى دعوتهم، وهم رجال الجبال العتاة في القتال. يقول صاحب الدعوة العباسية محمد بن علي إلى رسوله في خراسان: «واستكثر من الأعاجم فإنهم أصل دعوتنا». ومن أسباب الثورة العباسية: الظلم والاستبداد الذي ألحقه الحكم الأموي بالناس، وخصوصاً الموالي والعجم، الظلم الذي تعرّض له أهل بيت النبي وأنصارهم، والفساد، والتمييز الطبقي والعنصري.
غدت الدولة الأموية ثوباً بالياً، لم يعد يجدي معه الترقيع نفعاً، واستعصى إصلاحه. وعندما أنس العباسيون تضعضعاً في الحكم الأموي، بدأوا العمل السري منذ عام 120هـ. وكان صاحب دعوتهم هو محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، وكان له ثلاثة أبناء هم إبراهيم، وأبو العباس، وأبو جعفر المنصور. توفي محمد بن علي عام 125 هـ فخلفه ابنه إبراهيم.
وأصبح إبراهيم بن حيّكان الذي أطلق عليه إمام الدعوة العباسية إبراهيم اسم عبد الرحمن، وكنّاه بأبي مسلم (الخراساني)، القائد المحنك الذي فوّض إليه إبراهيم شؤون الدعوة العباسية في خراسان. وقال عنه أبو العباس، شقيق إبراهيم، حين تولّى السلطة: «هو صاحب الدولة والقائم بأمرها».
استفاد العباسيون من جهود الشيعة، أنصار العلويين، وثوراتهم ضد الحكم الأموي، واستترت دعوتهم وراء الدعوة للرضا من آل محمد، فكسبت ولاء كثير من المسلمين الذين كانوا يريدون تحويل الخلافة إلى البيت الهاشمي، أي آل بيت الرسول، وبخاصة من الموالي الفرس. فخلال فترة انتشار الدعوة العباسية (100 – 132 هـ)، قامت ثورات شيعية عنيفة، قام بها زيد بن علي وإبنه يحيى، وعبد الله بن معاوية، وقد شغلت هذه الثورات الخلفاء الأمويين عن التفرغ لمواجهة الدعوة العباسية الآخذة في الاتساع والانتشار. كما استنفدت الكثير من جهود الدولة الأموية، مما دعم الدعوة العباسية وأفسح الطريق لها.
أحسن أبو مسلم الخراساني التدبير والتنظيم وبث الدعوة باسم آل محمد، من غير تحديد، لأن العباسيين جدهم العباس عم النبي، وهم من بني هاشم، وادّعوا الحق بالخلافة ونافسوا العلويين، من أحفاد علي بن أبي طالب. لكن الفريقين، جمعتهما في البداية معارضة الأمويين الذين نكلوا بهما، فاجتمع الفريقان في مكة، خلال العهد الأخير من الدولة الأموية، المضطربة الأحوال، وتباحثوا بالأمر. فقرّ رأيهم على مبايعة محمد عبد الله الملقب بالنفس الزكية، وهو علوي. وكان ممن حضر اللقاء أبو العباس السافح وأبو جعفر المنصور. وعندما نشطت الدعوة العباسية، نادت بالخلافة إلى الرضا من آل محمد من دون تحديد أحد بالاسم.
كان العباسيون منتبهين إلى تمييز أنفسهم في تحركهم الخفي عن أبناء عمهم، ويضمرون الاستئثار بالسلطة دونهم. يقول صاحب الدعوة العباسية لأبي هاشم بُكير بن ماهان: «وحذر شيعتنا التحرك في شيء مما تحرك فيه بنو عمنا من آل أبي طالب، فإن خارجهم مقتول، وقائمهم مخذول، وليس لهم في الأمر نصيب». وقد لزم العباسيون بيوتهم عندما خرج زيد بن علي في الكوفة وكان مصيره القتل والصلب. وكانت دعوة بني العباس محكمة في تكتمها وسريتها، وكانت من القوة بحيث أن موضوع استلامها الخلافة كان متوقعاً حدوثه لا محالة. ويروى أن الخليفة الأموي مروان بن محمد كان ينوي تولية إبراهيم الإمام الجزيرة وتزويجه من إحدى بناته، كي يبعده عن طلب الأمر له.
لقد مارس العباسيون التقية وكتموا الأمر لتهيئة القوى الكفيلة بانتزاع السلطة، إلى أن حانت ساعة الصفر، عندما كتب إبراهيم الإمام إلى أبي مسلم بإظهار الدعوة، فكان الانقلاب الذي أطاح بمروان بن محمد. وكان مروان قد اكتشف أن إبراهيم هو القائم بالدعوة، فأمر بحبسه ثم خنقه في السجن عام 132 هـ. وقد لبس العباسيون السواد كي يظهروا أنهم مثال الحديث المروي عن أصحاب الرايات السود الذين يخرجون للثأر ممن اغتصبوا الخلافة.
الانتقال من الأمويين إلى العباسيين كان أقرب إلى أن يكون مزيجاً من الانقلاب العسكري الذي تحقق خلال حرب أهلية، ويتحفظ بعض الباحثين على نعته بالثورة، لأن الثورة تعني التغيير السياسي والاجتماعي العميق والجذري. في حين أن السلطة العباسية كانت تاريخياً استمراراً صاعداً ومتطوّراً، كماً وكيفاً، لمؤسسة الخلافة الإسلامية.
وكانت موقعة الزاب قرب الموصل بقيادة عبد الله بن علي، أحد أعمام أبي العباس السفاح والمنصور، المعركة الفاصلة بين العباسيين والأمويين، حيث تهافت الحكم الأموي إلى غير رجعة.
الثورات في العهد العباسي
كانت ثورة محمد بن عبد الله بن الحسن الملقب بالنفس الزكية أول ثورة شيعية ضد الحكم العباسي، شهدها الخليفة أبو جعفر المنصور، حيث أعلن خروجه في المدينة المنورة عام 145 هـ وبايعه الناس خليفة وبدأ بإرسال ولاته إلى الأمصار، إلى أن جرت المواجهة العسكرية مع الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، الذي انتصر جيشه على جيش محمد النفس الزكية وانتهى القتال بمقتله وسيطرة العباسيين على المدينة.
بدوره، قام إبراهيم بن عبد الله، أخو النفس الزكية، بثورة في البصرة في رمضان عام 145 هـ، وتمكن من السيطرة على البصرة والأهواز وفارس. وانتهت الثورة نهاية مؤلمة في موقعة باخمرى بعد أشهر حيث قتل إبراهيم وحملت رأسه إلى الخليفة المنصور. كما شهد عصر الخليفة العباسي الهادي (169 – 170 هـ) ثورة شيعية أخرى تمثلت بخروج الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عام 169 هـ، وانتهت بمصرعه في فخ قرب مكة، وبإراقة دماء كثيرة من دماء آله وشيعته (133). في عهد المأمون، ظهرت حركة شيعية صغيرة في الكوفة عام 202 هـ بقيادة أبي عبد الله، أخي أبي السرايا، وكان زعيمها الروحي علي بن محمد بن جعفر الصادق. وكان مصير الحركة كمصير سالفاتها من الثورات الشيعية.
كما شهد الحكم العباسي ثورات شيعية في اليمن، بدءاً من حركة إبراهيم إبن الإمام موسى الكاظم عام 200 هـ، إذ نجح في السيطرة على بلاد اليمن وبدأ يحكمها. ثم جاءت ثورة عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عام 207 هـ. وقد تمكن المأمون من إخماد الثورتين.
الخليفة المعتصم شهد ثورة شيعية زيدية في الرقة تزعمها محمد بن القاسم بن عمر بن علي إبن الحسن بن علي بن أبي طالب، عام 219 هـ. وقد تمكن المأمون من إنهاء الثورة واعتقال زعيمها وسجنه، وكانت هذه الحركة خاتمة حركات الشيعة في العصر العباسي الأول.
_____________________________________________
* باحث في الفكر العربي والإسلامي