السيد محسن الموسوي الجرجاني(*)
مقدّمة ــــــ
تقوم بعض المراكز البحثية المحترمة والموقّرة ـ والتي هي من وجهة نظرنا نادرة أو فذّة في عصرنا ـ في كلّ عددٍ من أعدادها بطرح أسئلةٍ في موضوع محدَّد، ثم ترسل تلك الأسئلة إلى عدد من العلماء والمفكِّرين، لتقوم بعد ذلك بنشر إجاباتهم على صفحاتها، مع مقالات أخرى في ذات الموضوع تقريباً.
لا يخفى ما لهذه الطريقة من النفع والفائدة، بَيْدَ أننا مع ذلك نرى بعض المجيبين عنها لا يراعون قاعدة «الجواب على قَدْر السؤال»؛ لأنهم يجيبون عن جزء من السؤال، ويتركون الجزء الآخر مهملاً. وأحياناً بدلاً من الجواب عن السؤال يسلكون أوديةً أخرى لا علاقة لها بالسؤال من قريبٍ أو بعيد! والأنكى من ذلك أن الكثير منهم يلجأون في مختلف الموارد، ومن دون مناسبةٍ، إلى استخدام المصطلحات الأجنبية أو الألفاظ الوحشية والغريبة، الأمر الذي يزيد الموضوع تعقيداً. وللإنصاف فإن هذا الأسلوب لا يبدو من العدل في شيء؛ إذ إننا كثيراً ما نوجِّه اللوم والعتاب لعلمائنا المتقدمين، ونتعجب أحياناً من أسلوبهم العلمي، متسائلين: لماذا يصبّون المسائل العلمية التي لا يمكن فهمها بسهولة في قالب الجمل والعبارات المغلقة والمعقَّدة؟! ألا يرد هذا الإشكال بعينه على أولئك الذين يجعلون كلّ همّهم في تزويق كلماتهم بالمصطلحات الغربية وغير المألوفة؟ يبدو أننا إذا كنا نكتب من أجل إرشاد وهداية الآخرين وإيضاح الحقيقة يجب علينا تغيير أساليبنا، وأن يكون كلّ همّنا وسعينا إلى بيان مرادنا بشكل ميسَّر ومبسَّط، وأن يكون كلامنا مفهوماً من قبل الجميع.
وعلى أيّ حال فقد تم طرح عشرة أسئلةٍ بشأن «فلسفة الفقه»، نرى من اللازم بيان بعضها هنا. وبعد الإجابة عنها نشير باختصارٍ إلى بعض ما أسلفناه في الأسطر المتقدّمة.
ممّا جاء في السؤال الأول: «هل هناك علمٌ اسمه (فلسفة الفقه)، أو يمكن أن يكون له وجود؟ إذا كان الجواب: نعم، فما هو تعريف هذا العلم؟».
يبدو أن مراد السائل من هذا السؤال هو الجزء الأخير منه، دون الجزءين الأول والثاني؛ إذ لا شَكَّ في عدم وجود مثل هذا العلم حتّى الآن؛ إذ قلما يكون هناك مَنْ لا يعلم أن المراد من العلم في هذا السؤال هو مجموعة من القضايا المنسجمة والمتناغمة، والتي تنظر بأجمعها إلى موضوعٍ واحد تقريباً، وإنها تهدف إلى بيان غرض وهدف واحد. وعليه كيف يُتصوَّر أو يغلب الوَهْم على أن السؤال يقصد فهم الوجود والعدم الفعلي لفلسفة الفقه، والحال أن السائل يعلم قطعاً بأن لا وجود لهذا العلم بالصفات المذكورة في العالم الخارجي. إذن فالمراد هو الجزء الثاني من السؤال، الذي تمّ عطفه على السؤال الأول بحرف العطف «أو»، ومفاده: هل يمكن أن يكون لدينا علمٌ باسم فلسفة الفقه؟ أي: هل يمكن أن يكون لهذا العلم من وجودٍ أم لا؟ بل يمكن حتّى القول بضرسٍ قاطع: إن السائل يعلم جواب هذا السؤال سَلَفاً، وإن مراده من طرح هذا السؤال هو الوصول إلى جزئه الأخير، الذي هو (تعريف فلسفة الفقه).
ويمكن لجواب هذا السؤال أن يكون متنوّعاً ومختلفاً، وأن يكون لكل شخص رؤيةٌ خاصّة بشأن هذا السؤال، أو يمكن توظيف الإجابة عنه في المراحل التالية؛ إذ لو كان المراد من «فلسفة الفقه» ـ كسائر الفلسفات المضافة ـ علماً ناظراً إلى المضاف إليه، أو أن يُخضع ـ مثلاً ـ علماً خاصاً للبحث والتدقيق، وأن يبحث ـ بحسب المصطلح ـ عن عوارضه المنشودة، من البديهي حينها أن يكون للفقه ـ بوصفه علماً ثابتاً، ومعترفاً به ـ فلسفته، بمعنى أنه من الواضح جدّاً أن يكون للفقه علم مدوَّن يبحث بشأن الفقه، وأن يكون موضوعه هو علم الفقه. كما تمّ تدوين مثل هذه الفلسفة للكثير من العلوم.
إذن يبدو أن لا مجال لهذا السؤال القائل: هل يمكن أن يكون لدينا علم باسم فلسفة الفقه أم لا؟ إذ إن الجواب عنه واضحٌ جداً، وهو إمكان وجود مثل هذه الفلسفة، كما تحقّق ذلك بالنسبة إلى الكثير من العلوم الأخرى. وفي الحد الأدنى يبدو من البديهي ـ بالنظر إلى ما يتمتّع به السائل من العلم والفضل ـ أن مراده الرئيس هو الجزء الأخير من سؤاله، وأنه لم يذكر الشطر الأول من سؤاله إلاّ تمهيداً ومقدمة للوصول إلى الشطر الأخير.
وعلى أيّ حال فإن الإجابة عن هذا الشطر الثاني من السؤال ـ كما أسلفنا ـ واضحةٌ، ولا داعي إلى تطويل الكلام فيها؛ إذ عندما يمكن أن يكون لدينا علم باسم «فلسفة التاريخ»، و«فلسفة الأخلاق»، ولا سيَّما «فلسفة العلم»، يمكن أن يكون لدينا علم باسم «فلسفة الفقه» بداهةً؛ لأن الفقه بدوره واحدٌ من العلوم، وله موضوع ومحمول، ومبادئ تصديقية وخصائص يمكن بحثها في علم آخر يُصطلح عليه «فلسفة الفقه»، وبذلك يتمّ التأسيس لعلم تحت عنوان «فلسفة الفقه».
وعلى هذا الأساس يُحتمل قوياً أن لا يمثِّل الجواب عن هذا السؤال المطلب المهم للسائل، رغم إمكان التشكيك ـ طبقاً للحسابات الدقيقة ـ في صحّة تدوين بعض العلوم الظاهرة حديثاً في الساحة، والمناقشة في الوجود المستقلّ لها، ومنها: فلسفة الفقه، وذلك بالقول: إذا كان تدوين العلوم ـ ولا سيَّما العلوم غير العقلية ـ تابعاً لاعتبار واستحسان العقلاء ـ كما هو الحقّ ـ أمكن القول: في كلّ علمٍ يتمّ البحث في تعريفه وتعريف موضوعه ومحمولاته وتقسيم مسائله ومبادئه التصديقية ـ مضافاً إلى عوارض موضوعه ـ أيضاً؛ إذ طبقاً لذلك الحساب لا يوجد أيّ إلزام بأن يكون هناك بحثٌ في عوارض موضوع كلّ علم، أو عن خصوص العوارض الذاتية لموضوع ذلك العلم؛ لأن الملاك في تدوين العلوم يكمن في ارتباط مسائل كلّ علم ببعضها، وتحسين واعتبار العقلاء. ولذلك لو أن العقلاء لم يعتبروا المسائل المرتبطة بالمبادئ التصورية والتصديقية لعلم شيئاً، أو لم يجدوها جديرةً بالأهمية، لا يبعد أنهم سيكتفون بطرحها في ذلك العلم، ولا سيَّما إذا قلنا بأن علماء كلّ علم يحتاجون إلى معرفة مسائل فلسفة علمهم أيضاً.
وعلى هذا الأساس لا مكان للتشكيك في أنه لا يوجد هناك مبرِّر لتدوين علم مستقلّ ومنفصل، بل يمكن دراسة المسائل المتعلقة بالمبادئ التصورية والتصديقية لعلم ضمن فصل من ذلك العلم، أو التعرّض لها ضمن مناسبة بعينها، إلاّ إذا كانت أهمّيتها الكمّية والكيفيّة بحيث تقتضي تدوينها ضمن علمٍ مستقلّ، وعندها لا شَكَّ في وجوب تدوين ذلك العلم، ولا مانع من تسميته فلسفة لذلك العلم.
ولكن يبدو أنه لا توجد حاجة إلى تدوين فلسفة الفقه، كما أنه لم يتمّ حتى الآن تدوين مثل هذا العلم. وإن الفقه قد واصل تكامله على مدى السنوات المتمادية على خير وجهٍ دون أن تكون هناك فلسفةٌ له. وإن هذا الاستمرار المحسوس، بالالتفات إلى نُخَب الفقه والتفقُّه، وعدم اهتمامهم بمثل هذا العلم، خير دليلٍ على عدم الشعور بالحاجة إلى فلسفة الفقه. ولو توقف علم الفقه على مثل هذه الفلسفة لكان هؤلاء ـ الذين هم بحار الفقه الزاخرة بحقٍّ، والمفعمون بأفكار الفقه والأصول ـ أوّل مَنْ يلتفت إلى هذه المسألة.
أجل، كما تقدّم أن أشرنا يمكن طرح المسائل ـ التي لا تعدّ من علم الفقه، ومع ذلك تتعلّق به ـ بشكلٍ مستقلّ، والعمل على شرحها وبسطها، وتسمية هذه المسائل بـ «فلسفة الفقه».
ويبدو أن عدد هذه المسائل بالمقدار الذي يُشكّل علماً صغيراً. ويقع تدوين مثل هذا العلم مورداً لقبول العقلاء. وربما على أساس من هذا التصوُّر عمد مَنْ صاغ هذا التساؤل إلى القول: هل هناك علمٌ باسم «فلسفة الفقه» أم لا؟
وخلاصة الجواب: إنه لا وجود لمثل هذا العلم في الوقت الراهن، وإنْ كانت هناك مسائل يمكن إدراجها ضمنه إنْ وجد.
إذن يمكن لمثل هذا العلم أن يوجد، بمعنى أنّه بالإمكان جمع المسائل والقضايا التي تحوم حول الفقه، إلا أنها مع ذلك ليست من مسائل الفقه، ويمكن تسمية هذه المجموعة باسم «فلسفة الفقه». كما لا مانع من بحثها ضمن مسائل علم الفقه، أو في بداية ذلك العلم، والاستفادة من فوائدها وآثارها؛ إذ لا ضرورة إلى طرحها على شكل علمٍ مستقلّ ومنفصل.
وأما في تعريف فلسفة الفقه فيمكن القول: «إن فلسفة الفقه عبارةٌ عن مجموعة من القضايا الدائرة حول المبادئ التصورية والتصديقية، وغاية وتقسيمات وتفريعات الفقه، ومسائل من هذا القبيل، ممّا لا يكون جزءاً من المسائل الفقهية والأصولية والكلامية والحديثية والأخلاقية». ويبدو أن هذا التعريف لا يشمل أيّ واحدة من مسائل العلوم الأخرى، كما أنه يشمل جميع المسائل الداخلة في فلسفة الفقه [بمعنى أنه تفسيرٌ جامع ومانع].
وفي ما يلي نلقي نظرة على ما قاله المجيبون عن هذا الاقتراح:
ليست غايتنا الإشكال على كلّ شاردة وواردة كتبوها، وإلاّ فإن القائمة ستطول، إنما نرمي إلى بيان بعض الملاحظات؛ أملاً في مراعاتها من قبل المقترحين في كلماتهم اللاحقة، والتخلّي عن أساليبهم السابقة.
عمد أحد المجيبين إلى الإجابة عن هذا السؤال بما يتجاوز 10 صفحات. وقال في معرض الإجابة عن الجزء الأوّل من السؤال المذكور: «في ما يتعلق بالمرحلة الأولى التي تسأل عن وجود فلسفة الفقه يجب القول: يوجد علم يتمتّع بالخصائص العامة والإشراف التفسيري الذي يمكن وسمه بـ (فلسفة الفقه والمعرفة الفقهية)»([1]).
لا شَكَّ في كون هذا الكلام جزافاً؛ إذ لو كان معنى العلم بالنسبة لنا واضحاً فيمكن لنا الإقرار ـ وكلّنا ثقةٌ ـ بعدم تدوين مثل هذا العلم حتّى هذه اللحظة. وإن إطلاق العلم على القضايا المتفرّقة، والتي من شأنها أن تكون جزءاً من مسائل ذلك العلم لو تمّ تدوينه، إنما هو إطلاقٌ غريب، لا يصحّ إلاّ على نحو المجاز.
فإنْ قلتَ: يجوز استعمال الإطلاقات المجازية. وعليه يجوز هذا الإطلاق.
قلتُ: إن هذا الإطلاق إنما جاء في معرض الجواب عن سؤالٍ لا شَكَّ في عدم بحثه عن الوجود المجازي لفلسفة الفقه. من هنا لن يكون الجواب متناسباً مع السؤال؛ إذ يكون السؤال عن معنىً حقيقي، والجواب عن معنىً مجازي!
ونفس هذا المجيب يتصدّى بعد ذلك إلى الاستدلال على إمكان وجود فلسفة الفقه!
مع أنه بالالتفات إلى الجواب الذي أوردناه يتّضح أنّه بالإمكان الترديد والتشكيك في تدوين فلسفة الفقه، وأن المراد من التشكيك وعدم الإمكان ـ بطبيعة الحال ـ هو عدم الإمكان العقلائي دون العقلي. هذا أوّلاً.
وثانياً: لو غضضنا الطرف عن شبهتنا لن يكون هناك أيّ مجال للتشكيك في إمكان وجود مثل هذا العلم، كما لا يمكن التشكيك ـ على افتراضٍ ـ في أن الفقه، مثل بعض العلوم الأخرى، يمكنه أن يكون موضوعاً لعلم آخر.
وثالثاً: لو أن شخصاً أيقن بوجود شيءٍ، واعتبره أمراً مسلّماً، هل يكون بحاجة إلى بيان المقدّمات للاستدلال على إمكان ما أيقن بوجوده؟ فهل من المنطقي أن أكون موقناً بوجود الإنسان وفي الوقت نفسه أستدل على إمكان وجوده، وأضع المقدّمات والأدلة لإثبات إمكان أن يكون للإنسان وجودٌ خارجيّ؟
ثم انتقل هذا المجيب المحترم إلى الإجابة عن الجزء الثالث من السؤال، قائلاً: «هنا نعمد أوّلاً إلى تعريف الفقه، ثم نصير إلى تعريف فلسفة الفقه. أما بالنسبة إلى الفقه فهناك عددٌ من التعاريف التي تقدَّم بها المحقِّقون في الفقه والأصول؛ نجد بعضها في الكتب الفقهية؛ وبعضها الآخر في كتب أصول الفقه.
ومن خلال الاستعانة بالتعاريف التي تمّ تحقيقها، ولا سيَّما الطريق الثاني والثالث للتعريف، نصل إلى تعريفٍ آخر للفقه… إن الفقه عبارةٌ عن: العلم الشرعي بالأحكام والوظائف والموضوعات والمحمولات والآثار الشرعية التأسيسية أو الإمضائية، من طريق العناصر الآلية الأصولية المشتركة من الأدلّة الأربعة: الكتاب؛ والسنّة؛ والعقل؛ والإجماع، بواسطة الأدلة التفصيلية الشرعية العامّة والخاصة لآحاد العناوين المحدَّدة في متعلّق العلم الشرعي الواقع في مستهلّ التعريف»([2]).
وبعد أن ذكر هذا التعريف ينتقل إلى ذكر تعريف فلسفة الفقه. بَيْدَ أن تعريف فلسفة الفقه لا يحتاج إلى كلّ هذه المقدّمات مع ذكر تعريف الفقه. هذا أوّلاً.
وثانياً: إذا كان البناء على تعريف الفقه فالذي يجب تعريفه هو الفقه الذي أوجده الفقهاء، وبذلوا من أجله الغالي والنفيس. وبالتالي يجب كمقدّمة لتعريف فلسفة الفقه أن يذكر التعريف الذي أبداه الفقهاء لفقههم، وليس الفقه الموهوم الذي يتمّ تعريفه من الخارج.
وثالثاً: إن هذا التعريف المذكور تعريفٌ خاطئ، ويحتوي على الكثير من الإشكالات، نشير في ما يلي إلى بعضها:
فعلى سبيل المثال: لقد عدّ العلم بالموضوعات والمحمولات جزءاً من علم الفقه، في حين أنه لا إشكال في أن العلم بالموضوعات لا شأن له بعلم الفقه؛ فالفقه إنما يبحث في حدود الأحكام فقط. نعم، إذا كان المراد مجرَّد الموضوعات المستنبطة التي تقع في دائرة المسائل الفقهية وجب حينها تقييد إطلاق اللفظ.
وأما المحمولات فإنْ كان المراد منها هي الأحكام والوظائف فإنّ ذكر الأحكام والوظائف يكفي لإفادة المطلب وزيادة؛ وإنْ كان المراد أشياء أخرى فيجب بحثها خارج المسائل الفقهية.
والمثال الآخر الذي جاء في التعريف: «…من طريق العناصر الآلية الأصولية المشتركة من الأدلّة الأربعة: الكتاب؛ والسنّة؛ والعقل؛ والإجماع، بواسطة الأدلة التفصيلية الشرعية العامة والخاصة…».
ومن الواضح أن الذي عرَّف علم أصول الفقه بأنه «العلم بالعناصر المشتركة في الاستدلال الفقهي» لم يُرِدْ غير ذلك، وأن الأدلة الأربعة وما يرتبط بها عناصر مشتركة يستفيد منها الفقيه في جميع أبواب الفقه. من هنا يكون علم الفقه هو العلم الذي نحصل عليه من طريق العناصر المشتركة. وعليه لا معنى للقول: «من طريق العناصر الآلية الأصولية المشتركة من الأدلّة الأربعة». والأسوأ من ذلك ما ذكره بعد هذه الكلمات المشوّشة، وهو قوله: «بواسطة الأدلّة التفصيلية الشرعية العامة والخاصة…»، فهو يمثِّل حقّاً معجزة المعاجز التي أوصلتنا إلى مثل هذه الاكتشافات الحديثة!
وهنا نتجاوز هذه المقولة التي تستدعي الكثير من موارد الإشكال والنقاش، وننتقل إلى دراسة جوابٍ آخر.
إن المجيب الثالث، بعد أن يسرد عدداً من المفردات الأجنبية، حيث يقحم ما يقرب من عشرة مصطلحات أجنبية في تضاعيف كلامه، قال: «إن أحسن وأصحّ تعبير في تعريف الفلسفة المضافة هو القول: إن فلسفة الفقه مجموعة من الأفكار النظرية والتحليلية حول ظاهرةٍ ما. وبهذا التعريف لا يمكن أن نحصل على «فلسفة الماء» (أو في الحدّ الأدنى لا يوجد لدينا مثل هذا الشيء حتّى هذه اللحظة)؛ لأن المسائل المرتبطة بالماء ليست تحليلية أو نظرية، بل هي تجريبية»([3]).
أوّلاً: من الواضح أن «مجموعة من الأفكار النظرية والتحليلية حول ظاهرةٍ ما» إنما تمثِّل النشاط النفسي المرتبط بما يقوم به المفكِّرون. وهذا غير العلم؛ لأن العلم إما هو مجموعة من القواعد والأصول الخاصة؛ أو ملكة وقوّة خاصة يمكن لنا من خلالها حلّ الكثير من المسائل ورتقها.
وثانياً: إذا كانت مجموعة الأفكار النظرية والتحليلية حول ظاهرةٍ ما تشكل فلسفة تلك الظاهرة فلماذا لا يمكن أن نحصل على «فلسفة الماء»؟ فعلى الرغم من وجود الأبحاث التجريبية بشأن الماء، إلاّ أن الأبحاث المتعلِّقة بالماء لا تنحصر بالأبحاث التجريبية فقط، بل توجد الأبحاث التحليلية والنظرية في الماء ونظائره أيضاً. وعليه طبقاً لهذا التعريف يمكن تدوين أبحاث نظرية وتحليلية لظاهرةٍ مثل: الماء، مهما كان حجمها صغيراً، ولا ينطوي بحثها على فائدة، وتسمية هذه الأبحاث «فلسفة الماء».
وثالثاً: إذا لم نستطع الحصول على «فلسفة الماء»؛ لأن الأبحاث المرتبطة بالماء إنما هي أبحاث تجريبية، وليست نظرية أو تحليلية، لا يبقى هناك معنىً للعبارة القائلة: (أو في الحد الأدنى لا يوجد لدينا مثل هذا الشيء حتّى هذه اللحظة)؛ إذ لو كان الأمر كذلك فلماذا لا يمكن أن يكون لدينا فلسفة باسم «فلسفة الماء»؟!
ورابعاً: بالالتفات إلى هذا التعريف المذكور، لو كانت فلسفة الفقه مصطلحاً معقولاً تماماً، كما جاء في نهاية ذلك التعريف، وإذا كان الجواب عن السؤال بشأن ما إذا أمكن الحصول على فلسفة الفقه، وما هو تعريفه عند الإثبات، بحاجة إلى كلّ هذه المقدّمات والأدلة لإثباته، فما هو الداعي إلى العبارة القائلة: «وإنْ كان اعتبار فلسفة الفقه مغايراً لعلم الأصول موضع تشكيك»؟!
وإذا كان تمايز العلوم بالموضوعات، أو بالأغراض، أو باعتبارات المعتبرين، فلماذا يبقى هناك مجالٌ للتردُّد والتشكيك في تدوين علمين، مع وجود موضوعين وغرضين؟!
وأما التناقض الواضح الآخر فهو الذي نراه في «تلخيص المطلب» من قبل هذا المجيب، حيث يقول: «يمكن القول على نحو الإجمال: إن الفلسفة المضافة تعني المباني والقواعد. كما يستعمل مصلح «foundation» في العالم الغربي للتعبير عن قواعد الرياضيات. فعلى سبيل المثال: إن عنوان كتاب الأخلاق الذي ألَّفه الأستاذ (مور) هو «Principa ethica»، بمعنى قواعد الأخلاق، ومراده بذلك فلسفة الأخلاق. فالمعنى المراد هو القواعد والمباني بمعناها الموسَّع، بحيث يمكن حتّى لقواعد اللغة أن تكون متصوَّرة بمعنى من المعاني، كما يمكن تصوُّر قواعد الفنّ. أرى أن أفضل تعبير هو هذا الذي ذكرته، أي سلسلة الأفكار النظرية والتحليلية. ويمكن للفقه ـ بطبيعة الحال ـ أن يكون له مثل هذه الفلسفة»([4]).
لا يخفى أنه إذا كانت الفلسفة المضافة، مثل: فلسفة الفقه، بمعنى القواعد والمباني فإن معنى فلسفة الفقه سيكون هو قواعد الفقه ـ وربما هذه المسألة هي التي أدَّت بالكاتب المذكور إلى التردُّد في كون فلسفة الفقه غير أصول الفقه ـ. وفي هذه الحالة لا يبقى هناك موضعٌ للقول: إن أفضل تعبيرٍ لفلسفة الفقه هو أنه سلسلة من الأفكار النظرية والتحليلية حول الفقه؛ لأن هذا التعبير، حتّى إذا تخلّص من الإشكالات السابقة، لن يكون قابلاً للجمع مع القول بأن فلسفة الفقه تعني قواعد الفقه، إلاّ إذا عمدنا بشكلٍ اعتباطي إلى تعميم كلمة القواعد من هذه الناحية ـ كما عمَّمناها من جهةٍ أخرى ـ لتشمل جميع مسائل فلسفة الفقه، وهو أمرٌ سيكون في غاية الإعجاز.
ثمّ انتقل هذا المجيب، بعد هذا الكلام، إلى الإجابة عن السؤال عن فلسفة الفقه؟ فخاض في كلامٍ طويل، ضاع فيه الجواب في تضاعيف ركام الكلمات المشتّتة بالكامل.
وخلاصة ذلك الكلام: لا بُدَّ لمعرفة فلسفة الفقه من أن ندرك ما هو المراد من الفقه؟ هل المراد من علم الفقه مجموعة من القضايا التي يكون موضوعها فعل المكلَّف، أم المراد منها نشاط العلماء من التحاور بشأن المسائل والمناقشة في ردّها وإثباتها، والجلسات التي يعقدونها لهذه الغاية، أم المراد منها الوجود الساري عبر الزمن، أم الوجود الخاصّ بمقطعٍ زمني محدَّد؛ إذ يمكن لعلم الفقه أن يُطلق على كلّ هذه المعاني، وبالتالي يمكن تدوين فلسفة خاصّة لكلّ واحد من هذه الأمور؟
إلاّ أن المهم هو أن نعلم ما هي الفلسفة الفقهية الهامّة بالنسبة لنا؛ لكي نعمل على تدوينها والاستفادة منها. ويبدو أنه يجب علينا تدوين فلسفة فقه هذا المقطع الزمني الذي نعيش فيه؛ إذ ليس هناك أيّ فائدة ترتجى من الرؤية التاريخية، وليس للفقه أيّ حاجة للرجوع إلى تاريخ الفقه ومصادره، وإنما هو تابعٌ للحجيّة، وإلى مصادر الفقه والاجتهاد. وهذا لا يختصّ بالفقه؛ إذ إن فلسفات العلم في الغرب لا علاقة لها في الغالب بتاريخ العلم. وعليه فإن المفيد والنافع هو فلسفة الفقه في مقطعٍ زمني خاصّ، وهو هذا المقطع الزمني الراهن.
هذه هي خلاصة المطالب التي استهلكت ما يزيد على 15 صفحة من المجلّة. فهل كانت الإجابة عن القسم الأخير من ذلك السؤال الذي ذكرناه في مستهلّ المقالة يحتاج إلى كلّ هذا الكلام الطويل؟
وعلى أيّ حالٍ نطوي هذه المسألة، وننتقل إلى ذكر موارد أخرى، فربما حصلنا على فائدةٍ.
ومن تلك الموارد: ما هو المراد من هذه العبارة الواردة في تعريف الفقه، والتي تقول: «نشاط العلماء من التحاور بشأن المسائل والمناقشة في ردّها وإثباتها، والجلسات التي يعقدونها لهذه الغاية»؟! فهل هذه الأمور هي التي تشكِّل علم الفقه؟! وهل الفقه عبارةٌ عن الجلسات التي يعقدها الفقهاء، وردودهم، وإثباتاتهم، وما إلى ذلك؟!
إذا كان البناء على تعريف الفقه على هذا النحو إذن يمكن تعريف الفقه أيضاً بأنه عبارةٌ عمّا يرتديه الفقهاء من الثياب، أو القول بأن الفقه عبارةٌ عن الأقلام والقراطيس والمداد وما إلى ذلك. إذن لا يمكن لهذا المعنى أن يكون هو المنشود، ولا سيَّما أن الفقه ليس له سوى ماهيةٍ واحدة، وهي أنه سنخٌ من العلوم، وليس الردود والإثباتات والجلسات، التي ليست لها أيّ مسانخةٍ مع العلوم.
وربما كان مراد المجيب من القول بأن الفقه عبارةٌ عن نشاط العلماء هو مجرّد الاصطلاح، وفي هذه الحالة يجب القول: ليس البحث في الاصطلاح، ولا يمكن تدوين فلسفة لمصطلحٍ أبداً. وعلى هذا الأساس فإن هذا الكلام المذكور مهما كان رائجاً في الأسواق الغربية، إلاّ أنه ليس من نوع البضاعة التي تستهوي أحداً من العقلاء عندنا. ومن الخير أن لا نعمل على استيراد أيّ بضاعة رأيناها في تلك الأسواق؛ بغية تسويقها في الداخل؛ إذ لن يكون مصير التجارة غير المدروسة سوى كساد البضاعة، وخسارة الصفقة والتجارة.
إذن لا بُدَّ لفهم ماهية الفقه من الرجوع إلى الفقه المدوَّن، والحصول على حدوده وثغوره من هناك.
كما يجب للوصول إلى حقيقة كلّ شيء من العمل على تجزئته وتحليله، أو الرجوع في الحدّ الأدنى إلى أقوال مَنْ قام بتجزئته وتحليله.
ولا يخفى أنه لا مقتضى تجزئة وتحليل الفقه ـ الذي هو حقيقة ذاتية، وليست أمراً نسبياً ـ، ولا عدد من الحقائق الخارجية أو الانتزاعية، هو الذي يوصلنا إلى نتيجةٍ مفادها أن الفقه متعدِّد. وإن كلام الذين أنفقوا جميع عمرهم في هذا المجال لا يحكي عن أن علم الفقه عبارةٌ عن أربعة علوم، أو أربع حقائق، وأنها بحيث يمكن أن نكتب لكلّ واحدٍ منها فلسفته الخاصة، كما نلاحظ في هذا الاكتشاف الجديد؛ إذ لو لم يكن المراد هذا النوع من التعدُّد والاختلاف، وكان للفقه ماهية واحدة، ووجود واحد، كيف يمكن أن نكتب له أربع فلسفات فقهية؟!
وإذا كان المراد هو الوجوه المتنوّعة لحقيقة واحدة فيجب القول: الإنصاف هو أن جميع تلك الوجوه ليست وجوهاً لعلم الفقه. وعلى فرض أن تكون جميع تلك الوجوه وجوهاً لحقيقة واحدة فيجب أن نكتب لتلك الحقيقة الواحدة فلسفةً تراعي تلك الوجوه المتنوّعة؛ إذ في تدوين فلسفة شيءٍ لا بُدَّ من لحاظ مختصّاته وعوارضه.
والسؤال المطروح هنا: هل هناك لكلّ واحدٍ من هذه المراتب العديدة ـ التي اعتبرتموها للفقه ـ عددٌ من القضايا التي تستوجب وجود علمٍ من وجهة نظر العقلاء؟
إذا كنتم تصرّون على صحّة وجهة نظركم فعليكم إثباتها. والحال أن هذا الأمر ليس بمقدور أحدٍ؛ إذ لا وجود لهذا النصاب حتّى بالوجود الاعتباري، ناهيك عن وجوده الحقيقي. وإلاّ فهذه هي الساحة وهذا هو الميدان، فليدخلوه ويثبتوا أن لجميع هذه المراحل مسائل معتدٌّ بها، وأن يطرحوا مسائل كلّ واحدةٍ من المراحل ضمن قوائم على شكل فهرست في الحدّ الأدنى.
إن من الأمور الأخرى التي تستحقّ الذكر هي أن هذا المجيب المحترم، بعد بيانه أن الفقه يمكن أن يكون عبارةً عن نشاط العلماء، أو الأصول والقواعد الخاصّة، أو الوجود السيّال في التاريخ، أو الوجود المرحلي، قال: إن الذي يهمّ في البين هو أن نعرف فلسفة أيّ فقه هي التي تنفعنا؛ لكي نعمل على تدوينها، ونستفيد منها؟
والحقّ هو أن فلسفة الفقه المرحلي هي التي تكون نافعةً ومجدية، وهذه الفلسفة هي فلسفة فقه المرحلة الراهنة، دون غيرها. وهناك الكثير ممّا يمكن قوله في هذا الشأن. ثمّ أضاف قائلاً: إن المجتهد ـ من وجهة نظري ـ لا يحتاج إلى تاريخ الاجتهاد، ولا إلى تاريخ الأصول، وتاريخ الفقه. كما أن الرؤية التاريخية لا تنطوي على فائدة. لنفترض أننا بحثنا في المسار التاريخي فوجدنا جميع الفقهاء ـ مثلاً ـ قد اعتمدوا في استنباطهم على علم الرياضيات فلن يُشكِّل هذا دليلاً بالنسبة لنا؛ إذ من المحتمل أن يكونوا بأجمعهم على خطأ في ذلك. وفي حدود علمي إن فلسفة العلم المطروحة في الغرب لا شأن لها بتاريخ العلم. إن الذي يكتب فلسفة الأخلاق لا شأن له بالتاريخ.
والذي يجدر التذكير به في ما يتعلَّق بهذا الكلام هو أنه لا معنى لتدوين فلسفة فقه المرحلة الراهنة، بمعنى فلسفة فقه هذا المقطع الزمني؛ إذ إن علم الفقه ـ كما أشرنا سابقاً ـ حقيقةٌ واحدة لم تتغيَّر ماهيتها طوال تاريخ تحقُّقها، ولم تتغيّر بحيث يكون فقه عصر الشيخ الطوسي من نوعٍ آخر مغاير لفقه عصرنا، حتّى نبحث في ضرورة فلسفة فقه نافع وناجع، وأن هذه الفلسفة تكمن في هذا الفقه دون ذلك الفقه.
والشاهد الآخر على صحّة هذا الكلام هو ما قاله هذا المجيب نفسه في معرض جوابه عن السؤال السابع لمجلّة (نقد ونظر)؛ إذ قال في الجواب عن السؤال القائل: «ما هي أهمّ مسائل فلسفة الفقه في رأيكم؟»: هناك من وجهة نظري ثلاث مجموعات من المسائل الهامّة في هذا الشأن، وهي: المجموعة الأولى: تعود إلى موضوعات الأحكام الفقهية؛ والمجموعة الثانية: تعود إلى محمولات الأحكام الفقهية؛ والمجموعة الثالثة والأخيرة (وهي الأهمّ): تعود إلى تصديقات القضايا الفقهية، حيث يشمل هذا البحث طيفاً واسعاً من الأبحاث الفلسفية والكلامية والأصولية وغيرها. وقد رأى تحت عنوان محمولات القضايا الفقهية ضرورة بحث أمور لا ربط لها بمرحلةٍ خاصة من مراحل الفقه، من قبيل: البحث عن ماهية الحكم الفقهي، ومن أيّ مقولة هي؟ والبحث في ما هي الأحكام الفقهية المختلفة؟ وما هي ـ مثلاً ـ حقيقة الوجوب والاستحباب والكراهة؟ وما هو الفرق بين هذه الأمور؟ والبحث عن ماهية الإنشاء والإخبار، وما هو الفرق بينهما؟ والبحث عن الفرق بين الأحكام الوضعية والأحكام التكليفية، وهل الأحكام تابعةٌ للمصالح والمفاسد أم لا؟ وما هي علاقة الأحكام بالغايات؟ وهل للأحكام غايات أم لا؟ كما بحث تحت عنوان موضوعات القضايا الفقهية مسائل من قبيل: هل موضوع الأحكام الفقهية يتعلّق بأفعال المكلَّفين أم لا؟ وهل هناك فعل إنتاجي أم لا؟ ورأى ضرورة بحث بعض الأمور تحت عنوان تصديقات القضايا الفقهية، من قبيل: ما هي الدعامة التي يقوم عليها تصديق حكم فقهي من قبل الفقيه؟ أو البحث بشأن الحجج الفقهية والمسائل المتعلِّقة بدلالات الألفاظ، وما إلى ذلك.
لا يخفى أن جميع هذه المسائل ترتبط بالفقه بما هو فقهٌ، الشامل لجميع مراحله وأطواره، وليس منها ما يختصّ بزمانٍ دون زمان؛ كي يتمّ طرحها بوصفها مسائل لفلسفة فقه هذا العصر بالذات. فما هذا التناقض العجيب الذي نشاهده في كلمات هذا المجيب؟!
ويبدو أن منشأ هذا النوع من الكلام، الذي نشاهده منه بكثرةٍ، يعود إلى الخلط الكبير العارض عليه؛ حيث لا يميّز بين تاريخ العلم والعلم في التاريخ. فهو يتصوّر أن تاريخ العلم الذي تنتفي الحاجة إليه في فلسفة العلم ـ وتمسّ الحاجة إليه في فلسفة الفقه قطعاً ـ هو ذاته العلم في التاريخ، الذي تنتفي الحاجة إليه في فلسفة الفقه. في حين أن الفرق بينهما من الثَّرى إلى الثُّريا، وكأنّ هذا الأمر هو الذي أدَّى به إلى القول بما لا يُقال، وإلاّ كيف يمكن القول: في ما يتعلّق بفلسفة الفقه يقتصر نظرنا على الفقه الراهن والمعاصر، وليس لنا أيّ شأن في ما جرى على هذا الفقه عبر الزمن، وأن يقتصر اهتمامنا على أن هذا الخبر هل هو حجّة في هذا العصر أم لا؟ وهل يحمل دلالةً لهذا الفقيه أم لا؟ في حين أننا لو علمنا ما إذا كان يتمّ العمل بخبر الواحد في العصر المتقدِّم ـ أي في عصر النبيّ والأئمة^ ـ أم لا، وأن سيرة العلماء إلى عصر الأئمّة كانت قائمة على العمل بهذه المسألة، وكيف كانت دلالات الألفاظ في ذلك العصر، فإن وضع الحجية عندنا سوف ينقلب رأساً على عقب. وهكذا الأمر بالنسبة إلى عشرات المفاهيم من هذا القبيل، في ما يتعلَّق بهذه المسائل الثلاث التي سيكتنفها الإبهام إذا لم نحقّق في خلفيتها التاريخية. وعليه يمكن القول بوضوح: لا حقيقة للفقه المرحلي، ولا الفقهاء وفلاسفة الفقه في غنى عن القواعد والأسس الفقهية القديمة.
أما الشخص الآخر الذي أجاب عن ذلك السؤال، بعد أن قال ما حاصله: نعم، يمكن أن يكون هناك علمٌ باسم فلسفة الفقه، فقد عمد إلى بيان المسألة بشكلٍ تفصيلي، حيث قام بتقسيم مسائل فلسفة الفقه إلى أربعة فصول.
وفي الفصل الأول جعل الأمور التي تؤدّي إلى القطع أو الظنّ القوي ـ لدى الفقيه ـ بوثاقة النصوص الدينية المقدَّسة على رأس مسائل فلسفة الفقه. ثمّ صار إلى ذكر سلسلةٍ من الأسئلة التي يمكن اعتبارها نوعاً من مساءلة الفقهاء ومحاكمتهم، ثمّ قال في الختام: هذه هي المسائل التي يجب بحثها في فلسفة الفقه.
وكما قيل: إنّ ما يقبله هؤلاء [الفقهاء] في باب الخبر المتواتر، والخبر المحفوف بالقرائن، والإجماع الكاشف، وبناء العقلاء أو سيرة المتشرِّعة الكاشفة عن رأي المعصوم، وارتكاز المتشرِّعة، وما إلى ذلك، يرتبط في الحقيقة بأجمعه بمنهج العلوم التاريخية، وعليه لا يمكنها أن تلزم الحياد بالنسبة إلى مسائل وفرضيات العلوم الجديدة في مناهج العلوم التاريخية.
ثمّ قال: هناك في ما يتعلّق بفرضيات الفقهاء الكثير من الأسئلة والإشكالات التي لا ينبغي الجهل بها، أو تجاهلها، من قبيل: أن البعض يتشدّد كثيراً في وثاقة الروايات وصحّتها، والبعض الآخر بعكسه، حيث نجده كثير التساهل في هذا الشأن. وهذا يثبت أن منهجهم التحقيقي في التعاطي مع الأسانيد والمصادر التاريخية لم يكن منضبطاً أو علميّاً.
أو في ما يتعلّق بعلم الرجال، وما إذا كان يعمل على الكشف عن الوضع والتدليس وتعمّد الكذب فقط، أم يتعدّاه إلى بيان السهو والخطأ والانخداع والغباء والافتقار إلى المعلومات الكافية للوصول إلى كلام المعصوم أيضاً؟… وهل يتمّ الاهتمام الكافي والوافي بمسألة الحبّ؟ ألا يؤدّي كون جميع الرواة من المسلمين أو الشيعة إلى أن يكونوا أصحاب مصلحةٍ أو رغبة أو ميل نفسيّ واحد مشترك؟ وهل المصلحة والميل النفسي المشترك تؤدّي في الغالب إلى الصدق أم الكذب؟
وفي ما يتعلق بقبول خبر الواحد أو رفضه ألا يجب التفريق بين ما إذا كانت طبيعة الواقعة تقتضي تعدُّد الشهود، وما إذا لم تقتضِ الطبيعة مثل ذلك؟([5]).
يبدو أنه لا يخفى على أهل الفنّ أوّلاً: إن أكثر هذه المسائل ترتبط بفلسفة أصول الفقه، ولا ترتبط بفلسفة الفقه؛ لأن تقسيمات وتعريفات وغايات موضوع علم أصول الفقه ـ الذي هو علمٌ منفصل ومستقلّ ـ تمثِّل جزءاً من مسائل فلسفة ذلك العلم. وعليه فإن البحث عن مباني حجّية الكتاب والسنّة والإجماع والعقل ـ التي تشكِّل موضوع علم أصول الفقه ـ جزءٌ من مسائل فلسفة ذلك العلم، وليست جزءاً من مسائل فلسفة الفقه، إلاّ إذا اعتبرنا علم أصول الفقه علماً من الدرجة الثانية، وعين فلسفة الفقه، وقلنا بأن فلسفة العلم الآخر لا فلسفة له.
وكلتا هاتين الفرضيتين غير واضحة، ولا مستدلّة، وخاصّة بالنسبة إلى هذا المجيب الذي يعتقد بعدم وجود فلسفةٍ للفقه بشكلٍ مدوَّن؛ إذ إن علم أصول الفقه ليس هو فلسفة الفقه ـ رغم اشتراكهما في بعض المسائل ـ، كما أنه لا دليل لدينا على أن فلسفة العلم لا فلسفة لها.
وثانياً: إن هذا السؤال لا يقتضي اشتمال الجواب عنه على استجواب الفقهاء وحشرهم في قفص الاتهام.
وثالثاً: كان من الأجدر ـ على سبيل المثال ـ ذكر نموذج أو نموذجين من المعطيات الجديدة لمناهج العلوم التاريخية، مع بيان حاجة الفقيه إلى تلك المعطيات في البرهنة على حجّية الخبر المتواتر، أو الإجماع الكاشف، أو بناء العقلاء، وما إلى ذلك، ثم الانتقال بعد ذلك إلى محاكمة الفقهاء على غفلتهم عن هذا العلم الجديد، وتجاهلهم لمصادره القيّمة!
ورابعاً: إن اختلاف الفقهاء في شرائط حجّية خبر الواحد في حدّ ذاته يحكي عن أن كلّ واحد منهم قد اعتمد قواعد خاصّة به، يرى تماميتها، وأنه إنّما يتوصّل إلى القول باعتبار خبر الواحد انطلاقاً منها. وهذا دليلٌ على وجود ضابطة منهجية لديهم، وليست دليلاً على أنّهم كانوا يتصرَّفون دون اعتماد على منهجٍ أو ضابطة خاصّة.
وخامساً: إذا كان الإسلام والتشيُّع والوثاقة والعدالة تمثِّل شرطاً في حجّية خبر الواحد، وإن الفقهاء قد التزموا بذلك، مع بعض التغييرات الطفيفة، فما هو الداعي إلى الهجوم عليهم؛ بسبب عدم اهتمامهم بماهية الحُبّ، ولماذا لم يدقِّقوا فيما إذا كان اشتراك هؤلاء في المصالح يؤدّي بهم إلى التواطؤ على وضع الحديث؟ ألا تضرّ هذه التشكيكات بواقع الناس الذين لا يتمتَّعون بثروة علمية؟! أفلا نعلم ما الذي تعنيه وثاقة وعدالة الراوي؟! أليس في اجتماع العدول على الكذب مخالفة للعدالة والوثاقة؟! إذا تمّ عندنا أصل «صدق العادل» ـ والفرض قائمٌ على ذلك ـ هل يبقى هناك مجالٌ لمثل هذه التشكيكات؟!
ونفس هذا المجيب قال في الجزء الثاني من تقسيمه الخاصّ: إن المقدّمات التي تؤدّي بالفقيه إلى القطع بأحقّية أقوال وأفعال وتقارير أئمّة الدين والمذهب من مسائل فلسفة الفقه أيضاً. إن هذه المقدمات هي التي جعلت الفقهاء يعتقدون بعصمة أئمّة الدين والمذهب. وإن ما قيل بشأن المعجزة، والنصّ من قبل الأنبياء السابقين، وجمع الشواهد والقرائن التي يتمّ الاستناد إليها لإثبات صدق دعوى نبوّة النبيّ الأكرم|، وما قال به فقهاء الشيعة في باب عصمة أربعة عشر شخصاً بأعيانهم^، وحجّية أقوالهم وأفعالهم وتقريراتهم، يعود بأجمعه إلى هذا الأمر، كمفاهيم من قبيل: النبوّة والإمامة والعصمة وعلم الغيب والمعجزة وإمكان المعجزة، وما إذا كانت المعجزة قد حدثت على طول التاريخ، وهل اجترح النبيّ محمد| معجزةً؟، وعلى ماذا يدلّ حدوث المعجزة: هل تدلّ على وجود الله، أو صدق مدّعي النبوة ومجترح المعجزة في ادعائه النبوّة، أو على كون دينٍ على حقٍّ، أو على تفوّق قوم على أقوام أخرى، أو لا تدلّ على أي شيء من ذلك، وتدلّ فقط على علمٍ أو قدرة يمتلكها الشخص الذي يجترح المعجزة، ولا يمتلكها مخاطبوه؟([6]).
نرى أنه حيث لم يتمّ تدوين فلسفة الفقه بعد، ولم يقُمْ العقلاء بتحديد إطار هذه الفلسفة طبقاً للحاجة الخاصّة، يمكن لكلّ شخص أن يتصوّر أموراً في ذهنه، ويتوهّمها جزءاً من مسائل ذلك العلم من الدرجة الثانية.
ولكنْ لو تمّ التدقيق أكثر، وألقينا نظرةً على موضوع العلم، مع الالتفات إلى أن كلّ أمرٍ مرتبط بموضوع علم لا يمكنه أن يكون جزءاً من مسائل ذلك العلم، وفي الحدّ الأدنى تدوين العلوم، الذي هو أمرٌ عقلائي يتمّ على أساس ملاكٍ ومعيار خاصّ، لن يتمّ إيراد الكلام على هذه الشاكلة؛ لأن الكلام بهذا الشكل يحكي عن تصوّر أن كلّ مسألة لها أدنى ارتباط بموضوع علم تكون جزءاً من مسائل ذلك العلم، فلا يكون المنشود هو كون المسائل عَرَضاً، ولا كونها عَرَضاً ذاتياً، ولا الارتباط الوثيق بين محمولات المسائل بموضوعات العلم.
ومن البديهي أنه طبقاً لهذا الرأي تتداخل مسائل أكثر العلوم. من هنا فإن هذا المجيب لم يجد في الإجابة عن السؤال الثاني مناصاً من رؤية تداخل مسائل علم الكلام وأصول الفقه وفلسفة الفقه وما إلى ذلك. وهذا نوع من الهرج والمرج في تبويب العلوم وتقسيمها. وإن مفاهيم من قبيل: الله والنبوة والمعاد والإمامة والمعجزة وصدور المعجزة عن النبيّ الأكرم وحدّ دلالة المعجزة هي أوّلاً من الأمور البديهية التي تعتبر من ضروريات الدين أو المذهب. والأمر المسلَّم والبديهي لا يمكن أن يكون من مسائل علمٍ ما؛ لأن المسألة العلمية هي القضيّة التي تحتاج إلى إثباتٍ، والتي تثبت في علمٍ على أساس مبدأ تصديقي، وليس كلّ قضية.
وثانياً: إذا كان هذا النوع من الأمور جزءاً من مسائل فلسفة الفقه وجب إدراج إثبات الله والنبوّة والمعاد والدين والإمامة وأكثر مسائل الفلسفة والمسائل الأخرى التي ليس بينها وبين مبادئ الفقه أدنى ارتباط، من قبيل: الصرف والنحو والمعاني والبيان والبديع واللغة والتاريخ وما إلى ذلك، بأجمعها ضمن مسائل فلسفة الفقه. وهذا ما لا يمكن القول به.
وجاء في الفصل الرابع ما يلي: «إن المقدّمات التي تقوم عليها صحّة تفسير الفقيه للنصوص المقدَّسة هي (المقدّمات التفسيرية). إن هذه المجموعة الرابعة من المقدّمات هي على نحو اليقين أخصّ مقدّمات علم الفقه. ومن هنا يحتمل أن تكون من أهمّ المقدمات. ومن جهةٍ أخرى لا شَكَّ في أن مهمة الفقيه هي تفسير تلك المجموعة من القضايا الموجودة في النصوص الدينية والمذهبية المقدّسة التي تعبِّر عن وظائف الناس. ومن خلال الاستعانة بهذا التفسير نحصل على منظومةٍ من وظائف الإنسان. ومن ناحيةٍ أخرى لا يمكن الشكّ في ما هي الزاوية التي يجب النظر من خلالها إلى القرآن والروايات والنبيّ الأكرم| والله سبحانه وتعالى؟ يمكن تفسير مجموع القضايا المعبّرة عن الوظائف بأشكال مختلفة، ومن التفاسير المختلفة يكون التفسير الصحيح أو الأصحّ هو التفسير القائم على مقدّمات يمكن الدفاع عنها. من هنا فإن التدقيق والتأمُّل في هذه المجموعة من المقدّمات أمر ضروريّ يقع على عاتق فلسفة الفقه»([7]).
إن هذا الكلام ـ الذي استهلك المؤلِّف ما يربو على 10 صفحات في بيانه وإيضاحه ـ ينطلق في تصوُّرنا من مغالطةٍ شائعة يرتكبها الكثيرون، ودفعها أن الفقيه في استنباطه للوظائف والأحكام من النصوص الدينية المقدّسة لا يستند إلى تفسيرها، ولا يستنبط الحكم من خلال تفسير النصّ، ولا يعمد إلى بناء منظومةٍ من خلال تفسيره؛ كي يقال: إذا كان الأمر كذلك يعمد كلّ شخص ـ من خلال رؤيته الخاصة إلى الله والنبيّ والقرآن والروايات ـ إلى تفسيرٍ خاصّ من النصوص المقدّسة، وتكون له رؤيته وفهمه الخاصّ، ومن هنا يجب أن نرى أيّ التفاسير هو الأصحّ؛ كي نتّخذه وسيلةً إلى الاقتراب من الواقع؛ لأن هذا لا يعني سوى التشكيك وتنكُّب الطريق، وإذا وصل بنا الأمر إلى هذا المطاف لن يكون لدينا أيّ ملاكٍ ومعيار للوصول إلى الواقع، إلاّ إذا أنكرنا الواقع، واعتبرنا الظنون الحاصلة من تفاسيرنا المختلفة والمتنوِّعة هي الملاك في تحديد الوظائف. ويبدو أن هذا المجيب لم يُرِدْ هذا المعنى. وفي الحقيقة إن الطريق الوحيد الماثل أمام الفقيه في مقام استفادة الوظائف والأحكام من النصوص المقدّسة هو اللجوء إلى النصوص والظواهر، بمعنى أنّ النصّ الذي يرجع إليه الفقيه إذا كان صريحاً في بيان الوظيفة لا يكون هناك أيّ موضع للتأمُّل والتردُّد لدى أيّ شخص، وبذلك تثبت الوظيفة التي يدلّ عليها ذلك النصّ لبعض الأفراد أو لعموم المكلَّفين بلا إشكال. وأما في حالة عدم التصريح ـ وهو الغالب في النصوص ـ لا يبقى أمام الفقيه سوى النظر إلى ظاهر النصّ بذهنه العرفي، دون اللجوء إلى إعمال النظر والتفسير بالرأي، حتّى إذا تجلّى له شيءٌ صار إليه بوصفه هو المعنى المراد من النصّ؛ ليستخرج على أساسه الوظيفة والحكم الثابت عليه وعلى مقلِّديه. إن هذا هو الطريق الوحيد الماثل أمام الفقيه لاستنباط الأحكام من النصوص المقدّسة. وهذا الطريق غالباً ما يتكلَّل بالنجاح. إن السرّ في انحصار طريق الاستفادة من النصوص الدينية ـ بعد النصّ والتصريح ـ بالاستظهار يكمن في أن النصوص المعبِّرة عن وظائف وأحكام الناس قد أُلقيت إليهم دون الإشارة إلى أنها قد سلكت منهجاً خاصّاً لبيان مقاصدها. بل الأمر على العكس من ذلك تماماً، حيث يوجد الكثير من الشواهد والعلامات الدالّة على أن النصوص الدينية المقدّسة في إفادتها للمعاني ليست استثناءً من محاورات الناس والعقلاء في العالم. والنتيجة القطعية التي نحصل عليها من هذه المقدمات، دون أدنى شكّ، هي: كما أن ظواهر كلام الناس في مقام التحاور وغير التحاور فيما بينهم حجّة ومعتبرة كذلك يكون الحال بالنسبة إلى ظواهر النصوص الدينية، حيث تكون حجّةً ومعتبرة لجميع المخاطبين بتلك النصوص.
من هنا ذهب بعض المحقِّقين إلى الاعتقاد بأن مسألة حجّية الظواهر ليست جزءاً من مسائل علم الأصول؛ لأن القضية إنما يمكن أن تكون جزءاً من قضايا علمٍ ما إذا كانت بحاجةٍ إلى إثبات، وحيث إن مسألة حجّية الظواهر أمرٌ بديهي، وقد عمل بها النبيّ والأئمة وأصحابهم، لا تبقى هناك حاجةٌ إلى إثباتها؛ لتكون مسألةً من مسائل علمٍ ما. وإن الفقيه في مقام الاستنباط من النصوص يستفيد من هذه الطريقة ـ التي هي طريقةٌ متعارفة ومألوفة ـ في حدود إمكانياته. وإذا كان النصّ مجملاً في بعض الموارد لا يلجأ إلى تفسيره لاستخراج الحكم منه؛ إذ كما تقدّم أن ذكرنا ليس هناك أيّ ملاك لصحّة تفسير أو فهم من النصوص المقدّسة. ولذلك إذا كان النصّ مجملاً لا يكون هناك من طريق سوى الرجوع إلى غيره، سواء في ذلك الأدلة الاجتهادية أو الأدلة الفقهية، إلاّ إذا كانت القرائن والشواهد من الكثرة بحيث تورث الاطمئنان، وفي هذه الحالة سيكون قد سلك طريقاً لا يمكن إنكار حجّيته واعتباره القطعي. وعليه فإن الفقيه في مقام الاستنباط من النصوص المقدّسة لا يقف على مفترق طريقين؛ ليكون أمره دائراً بين هذا التفسير أو ذاك التفسير، ويكون لذلك بحاجةٍ إلى مقدّمة لا بُدَّ من طرحها وبحثها في فلسفة الفقه. وإذا حدث أن وقف على مثل هذا المفترق لن يكون هناك أيّ مقدمة بمقدورها تحديد الطريق الصحيح والأقرب إلى الواقع بالنسبة له.
يذهب بنا التصوُّر إلى أن بعض الناس يشكِّكون في ظهور ظواهر النصوص المقدّسة. وإن هذا التشكيك ـ مثل سائر التشكيكات الأخرى ـ هو من معطيات الغرب في العصر الراهن. وللأسف الشديد لم تكن حتّى أذهان المتديِّنين بمنأى عن التأثيرات السلبية لأفكار الغربيين. وعلى أيّ حالٍ إذا كان المراد أن النصوص الدينية المقدّسة لا تحتوي بالنسبة لنا على أيّ ظهورٍ؛ بسبب انتمائها إلى الأزمنة الغابرة، وجب القول: في مثل هذه الحالة لا يصل الدَّوْر إلى تفاسير تلك النصوص، بل سوف تكون المسألة من باب انسداد باب العلم والعلمي، وهنا يكون مطلق ظنّ الفقيه بالأحكام والوظائف مبنىً لاستنباطه، وعلينا أن نكرِّر ونقول: لا تصل النوبة إلى تفسيرٍ خاصّ يكون هو الأصحّ من بين سائر التفاسير؛ إذ عندما تتوفّر مقدّمات الانسداد سيكون الظنّ الشخصي للفقيه هو الملاك في استنباط واستخراج الأحكام والوظائف، دون الظنّ النوعي الحاصل من تفسيرٍ خاصّ.
وفي معرض توضيح وتقسيم المقدّمات المذكورة في الفقرة «أ» (من الأمور التي ذكرها هذا المجيب المحترم) تمّ تناول المقدّمات المتعلّقة بحقل الفقه، وما إذا كان حقل الفقه شاملاً للأفعال فقط، أم أنه بالإضافة إلى الأفعال يشمل الأوضاع أيضاً؟
وفي ما يتعلق بالأفعال هل يشمل الأفعال الظاهرية والجوارحية فقط، أم يشمل الأفعال الباطنية والجوانحية أيضاً؟
هل يتناول الفقيه جميع الأفعال (الظاهرية والباطنية) أم يتناول بعض الأفعال؟ وإذا كان يتناول بعض الأفعال فما هي تلك الأفعال؟
وهل لتعيين هذا البعض من الأفعال ضابطةٌ عامة أم لا؟
وإذا تجاوزنا ذلك هل الفقه يعمل على تعيين الأحكام أو الوظائف في بادئ النظر (Primafacia) فقط، أم مضافاً إلى ذلك يعيّن الأحكام والوظائف في مقام العمل (actual) أيضاً، أم بالإضافة إلى هذين الأمرين يعمل على بناء نظام أيضاً، أم بالإضافة إلى هذه الأمور الثلاثة لديه تخطيطٌ ومشروع أو… أيضاً؟ وما الذي تعنيه شمولية الفقه؟([8]).
وهكذا يبدو هنا أن غفلةً أو تغافلاً أدّى إلى كلّ هذه الإثارات والتساؤلات؛ إذ بعد تعيين موضوع الفقه في فلسفته أو في ذات الفقه يبحث الفقيه عن العوارض الذاتية، أو مطلق عوارض ذلك الموضوع، ويعمل على تقييمها؛ بمعنى أنه عندما يكون الفقيه بصدد البحث عن أفعال المكلَّفين، والحصول على حكم فعل المكلَّف، لا يبقى هناك موضعٌ للسؤال عمّا إذا كنا نبحث عن الأفعال الجوارحية أم الأفعال الجوانحية أم نبحث عن المجموع؟ أو عمّا إذا كان بحثنا يدور حول الأحكام والوظائف في بادئ النظر، أو الأحكام والوظائف في مقام العمل، أو كلاهما؟؛ لأن جميع أنواع الفقه المدوَّن يقوم في الحدّ الأدنى على أنه يبحث في مطلق هذه الأمور؛ إذ عندما يكون الفقيه باحثاً عن الأحكام والوظائف لن يختلف الأمر عنده بين حكم وحكم آخر. أجل، حيث تقدَّم أن ذكرنا أن تدوين العلوم أمر عقلائي يمكن تقسيم ذات هذا الفقه الذي يعنى بالعثور على الأحكام والوظائف، والعمل في فلسفة الفقه على تحديد الأقسام وتشخيص الموضوعات، إلاّ أن هذا غير طرح الأسئلة في موضعٍ ما حتّى بعد اتّضاح معنى الفقه؛ سعياً وراء الحصول على إجاباتها، والدخول في حقل الفقه بعد تحليلها وتفصيلها. ولا يخفى أن أكثر الأسئلة المطروحة في الفقرة «ب» هي من هذا القبيل. ومن هنا يبدو عدم الحاجة إلى مزيدٍ من البحث بشأنها.
إن الذي لا مندوحة من بحثه في فلسفة الفقه، والعمل على دراسته وتقييمه، هي المبادئ التصديقية للفقه، والتي يمكن التعبير عنها بمصادر الفقه. بَيْدَ أن لهذا البحث إطاره الخاص، وليس بحيث يجب طرح المباحث المرتبطة بكلّ شاردة وواردة فيه، والعمل على تحليلها وتفصيلها. وكذلك فإن بعض هذه المسائل هي من الأمور البديهية والمفروغ منها، فلا يكون ذلك هو موضعها، رغم ارتباطها بمصالح الفقه. وعلى هذا الأساس فإن الكثير من الأمور المذكورة في الفقرة «ج» من الفصل الرابع من الإجابات مورد البحث لا يبدو مقبولاً. فقد ورد هناك على سبيل المثال: «ما هو البرهان القائم على أن النصوص الدينية المقدّسة (أي القرآن والسنّة) غير كافية ولا وافية بتحديد جميع وظائف وتكاليف الناس، حتّى تمسّ الحاجة إلى التماس مصادر أخرى، مثل: العقل والإجماع؟ وما هي اللوازم المترتِّبة على القول بعدم كفاية القرآن والروايات؟ هل يعلم الفقهاء ويلتزمون بجميع هذه اللوازم؟»([9]).
إن الذي يجب قوله في رفع الإبهام عن هذا الكلام هو أن الرجوع إلى العقل والإجماع ليس بسبب نقصٍ في النصوص الدينية المقدّسة، فهذا ما لم يقُلْ به أحدٌ. بل إن عدم إمكان الوصول إلى تلك المصادر الكافية والوافية، مع غيبة الحجّة الإلهية من جهةٍ، وقيام البرهان القاطع على حجّية العقل من جهةٍ أخرى، يفرض علينا الرجوع إلى العقل عندما نعجز عن استنباط حكم من النصوص المقدّسة، كأنْ نعمل بالاحتياط أو نجري أصالة البراءة مثلاً.
وفي الحقيقة فإن الإجماع والعقل يكشفان عن وجود الحكم في النصوص المقدّسة بالمعنى الأعمّ، مما يمكن الاستفادة منه في الوضع الراهن. وعلى هذا الأساس فإن الكلام لا يدور حول كفاية وعدم كفاية النصوص الدينية المقدّسة، بمعنى ما أنزله الله؛ لتبيين أحكام ووظائف المكلَّفين، الأعمّ من القرآن الكريم والسنّة الشريفة.
نعم، هناك كلامٌ في أن عقل العقلاء بما هم عقلاء إذا أدرك حكماً هل يجب مع ذلك أن يتعرَّض الله سبحانه وتعالى إليه ضمن النصوص المقدّسة أم لا؟
ويبدو أنه لا وجه للتعرّض له، إلاّ إذا كان المقام يقتضي التأكيد، وإلاّ إذا كان الأمر واضحاً فما هي الحاجة إلى البيان؟!
والجدير بالذكر هنا أن هناك فرقاً بين كفاية أو عدم كفاية النصوص الموجودة حالياً بين أيدينا، وكفاية أو عدم كفاية النصوص المقدّسة الصادرة من قبل الشارع المقدّس.
والذي لا يمكن الالتزام بلوازمه هو عدم كفاية النصوص المقدّسة بالمعنى الثاني، دون النصوص المقدسة بالمعنى الأول؛ إذ لا شَكَّ في أن الكثير منها يحتاج إلى تفسيرٍ صحيح لا يمكن أن يصدر إلاّ عن حجّة الله، وهو للأسف الشديد خارج عن قدرتنا.
إذن رغم وجود الحكم في النصوص الدينية المقدسة، إلاّ أننا لا نمتلك صلاحية الاستفادة منها. كما أن الكثير من هذه النصوص قد تمّ إتلافها على مرّ التاريخ، وإن الحكومات الجائرة قد طمست معالمها إلى الأبد، كما صنعوا مع الأئمّة، وتسبَّبوا في غيبة صاحب الأمر# وحجّته الناطقة.
وهذا ليس من الأمور القابلة للشكّ، والتي لا يمكن الاعتقاد بلوازمها.
أجل، لا يمكن القبول بأن النصوص الدينية المقدّسة ـ الأعمّ ممّا كان منها بالقوّة أو بالفعل ـ هي في صُلْب الواقع، بحيث لا تشمل جميع أحكام ووظائف المكلَّفين طوال التاريخ؛ لأن هذا المعنى يشتمل على لوازم لا يمكن الالتزام بها.
وفي ذلك الموضع نفسه بعد سرد الكثير من التساؤلات حول مصادر فقه الفقهاء، وأكثرها قابلٌ للردّ، قال: «بمعزلٍ عن ذلك ألا يعني اعتبار العقل بوصفه واحداً من المصادر اعترافاً بالحقوق الطبيعية والفطرية؟ إذا كان هذا يعني الاعتراف بالحقوق الطبيعية يجب التساؤل: هل يمكن للفقيه أن يلتزم بجميع لوازم هذا الاعتراف؟ وإذا لم يكن بمعنى الاعتراف بهذه الحقوق يجب التساؤل: إذن أين حلّت الملازمة بين ما حكم به العقل وما حكم به الشرع؟… كما هناك الكثير من مواطن الغموض والتساؤلات والإشكالات في سائر المصادر الفقهية. ففي باب العرف ـ على سبيل المثال ـ كيف لا يكون لدى الفقيه حساسية تجاه تغيُّر العرف؟ وهل يمكن لتقسيم العرف إلى: عرف صحيح؛ وعرف فاسد أن يحلّ عقدة المشكلة، أم أنه يزيد الوضع تعقيداً؟»([10]).
والجدير بالذكر أن هذا المجيب المحترم لم يكلِّف نفسه حتّى عناء الرجوع إلى كلمات الفقهاء في الكتب الأصولية؛ ليقف على ما هو المراد من العقل الذي يشكِّل واحداً من مصادر الفقه!
فعلى الرغم من أن الفقهاء يقولون بأن العقل يشكِّل واحداً من مصادر الفقه يقولون أيضاً بعدم إمكان إدراك الأحكام الإلهيّة بواسطة العقل. وإن منشأ هذين القولين يعود إلى الروايات المأثورة عن أهل البيت^ أنفسهم. فقد ورد في بعض الروايات: «إن لله على الناس حجّتين: حجّة ظاهرة؛ وحجّة باطنة. فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة^؛ وأما الباطنة فالعقول». وعليه فقد تمّ اعتبار العقل في هذه الرواية واحداً من الحجج الإلهية. ولكنْ يوجد في مقابل هذا النوع من الروايات روايات أخرى، من قبيل: «إن دين الله لا يُصاب بالعقول». وعليه لا بُدَّ من تحديد ما هو العقل الذي يكون واحداً من مصادر التشريع. وهذا ما قد تمّ ـ بالمناسبة ـ بحثه من قبل الفقهاء. وأنا أحيل هذا المجيب المحترم إلى كتب الفقهاء الأصولية، مثل: الفصول، والجزء الثاني من القوانين، وحاشية الشيخ محمد تقي على المعالم، ونظائر هذه الكتب، أو في الحدّ الأدنى إلى كتاب أصول الفقه، الذي هو من الكتب البسيطة، والتي يمكن الحصول عليها بسهولةٍ، ليدرك أوّلاً ما هو معنى الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، ويتّضح له أيضاً ما هو العقل الذي يكون مصدراً للأحكام، ويكون حجّة فيها؛ ليقف بعد ذلك على أن فلسفة الفقه ليست موضعاً لطرح مثل هذه التساؤلات.
أجل، لو تمّ بيان حدود العقل المصدر في حقلٍ خاصّ، مثل: فلسفة الفقه، فإن مثل هذا النوع من الإبهامات سوف يزول من تلقائه.
وأما أنواع الغموض والأسئلة والإشكالات الكثيرة حول سائر المصادر الفقهية، من قبيل: العرف، والحساسية تجاه تغيُّر العرف بالنسبة إلى الفقيه، فيبدو أنها ليست من الأمور الجديرة بالاهتمام؛ لأن مصدرية العرف الذي ذُكر بوصفه نموذجاً للإشكال ليس بالأمر الذي يقول به أحدٌ، فليس هناك فقيهٌ واحد يقول بأن العرف واحدٌ من مصادر الفقه؛ كي يقال: إن العرف قد يتغيَّر على طول الزمن، وكيف يمكن لهذا العرف أن يكون مصدراً من مصادر الفقه؟
أجل، إن المطروح في الفقه هو أن الأحكام الإلهية في الكثير من الموارد يتمّ حملها على الموضوعات العرفية. وعليه يجب أن نرى ـ مثلاً ـ ما الذي أراده العرف من «البيع»، ليتمّ حمل الحكم المستنبط عليه.
ومن البديهي أن هذا لا يعني أن العرف قد أضحى مصدراً من مصادر الفقه؛ لأن الفقه عبارة عن المحمولات الشرعية المتعلقة بوظائف المكلَّفين وما إلى ذلك.
وعلى الرغم من أن الموضوعات المستنبطة هي من الفقه أيضاً، إلاّ أن الموضوعات العرفية ـ على أيّ حال ـ موضوعات الأحكام الشرعية، والفقه يتكفَّل باستخراج الأحكام الشرعية الفرعية. ولو تنزَّلنا وقلنا: إن هذا يعني اعتبار العرف مصدراً، مع ذلك لا يكون هناك موضع للحساسية المذكورة من الإعراب؛ لأن العرف مورد البحث هو العرف الثابت والمستقرّ في عصر صدور النصوص المقدَّسة.
فعلى سبيل المثال: علينا في ما يتعلّق بذات المثال المتقدِّم أن نرى ما هو المراد من «البيع» في عصر نزول قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾. وإذا اتّضح معنى البيع في ذلك العصر سوف يتّضح لنا موضوع حلّية البيع بالنسبة لنا، سواء أكان معناه قد تغيَّر في عصرنا، حتّى لم يعد يعتبره «بيعاً»، أو لم يتغيَّر، ولا يزال معنى البيع يحمل نفس معناه في ذلك العصر. ولا يخفى أن الملاك في الرجوع إلى العرف إذا كان هو عرف عصر صدور النصوص المقدسة ـ وهو قَطْعاً كذلك ـ فإن العلم بتغيُّر المعنى لن يؤثِّر في الاستفادة منه أبداً، فضلاً عن احتمال الحساسية تجاه التغيير الذي يمكن لشخصٍ أن يبقيه من خلال التمسُّك باستصحابه.
ومن الموارد الفقهية التي يتمّ فيها توظيف العرف فهمُ معاني الألفاظ.
وكان المثال المتقدّم يشير إلى ذلك، رغم أن هذا المورد أعمّ من المورد السابق. ويجب الالتفات إلى أن المراد من العرف في هذا المورد هو عرف عصر صدور الألفاظ والمفردات، ولا شَكَّ في أن التغيير في العرف هنا لا يؤثِّر في القصد؛ إذ عندما نعرف المعنى الذي كان يدلّ عليه لفظٌ بعينه في عُرْف العصر الذي كان يعيش فيه النبيّ الأكرم| أو الإمام الصادق× مثلاً فلا بُدَّ من حمل اللفظ الوارد في القرآن أو الرواية المأثورة عن ذلك المعصوم على ذلك المعنى، سواء كان ذلك اللفظ يستعمل في العرف الراهن في ذلك المعنى حقيقة أو لا.
أجل، إن المشكلة تكمن في كيفيّة إمكان معرفة المعنى الخاصّ للفظ في عصر النبيّ الأكرم| والأئمّة^ فيما لو كان المعنى الراهن للألفاظ ينطوي في العرف الحالي على معاني خاصّة مغايرة لمعانيها في العصور السابقة. وبعبارةٍ أخرى: إن الذي نقدر عليه هو معرفة معاني الألفاظ في الوقت الراهن، وأمّا ما هو المعنى الذي كانت تحمله هذه الألفاظ في الأزمنة الماضية فهو ليس بالأمر الذي يمكن التوصُّل إليه بسهولة، وإنْ كان الفقهاء قد ذكروا حلولاً لتجاوز هذه العقبة.
وفي الفقرة «د» من الفصل الرابع من مقال هذا المجيب ورد ذكر بعض هذه المقدّمات: «إن من المقدمات الرئيسة للفقهاء أنه ليس هناك فعلٌ من الأفعال الاختيارية للإنسان إلا وهو مورد لحكم من الأحكام الخمسة، وهي: الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والإباحة»([11]).
وبعد بيان الحساسيات والشكوك في هذا الأمر الديني الثابت الذي لا يسع المجال لتوضيحه وتفصيله قال: «بغضّ النظر عن الأسئلة التي يمكن طرحها في دائرة هذه المقدّمات… فإن المسألة التي تبدو هنا هي: ما هو الطريق لاكتشاف أن العمل الفلاني واجبٌ أو مستحب، حرام أو مكروه؟ هل يمكن القول: إن صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب، وصيغة النهي ظاهرة في الحرمة؟ يبدو أنّه لو كان ادّعاء الظهور قابلاً للتحقيق من خلال الرجوع إلى عُرْف أهل اللغة فإن الجواب عن ذلك سيكون هو النفي. إلاّ إذا قيل: إن النصوص الدينية المقدّسة غير تابعة للقواعد الصرفية والنحوية واللغوية الحوارية لعامّة الناس، وإنّها إلى حدٍّ ما تابعة لعلاماتها الدلالية (semiotics) الخاصّة… وعلى أيّ حال فإن أصل هذا الكلام القائل بأن الأحكام تختلف فيما بينها من حيث الشدّة والضعف، كما أن تعيين مصاديق الواجب والمستحب والمباح والمكروه والحرام، يقوم على مقدّمات يقع تحقيقها على كاهل فلسفة الفقه»([12]).
وللإنصاف فإن هذا الكلام لم يُراعِ قاعدة «الجواب على قَدْر السؤال» أبداً، لا في هذا الموضع ولا في المواضع الأخرى؛ لأن السؤال كان يقول: هل يمكن أن تكون لدينا فلسفة فقه؟ وإذا كان ذلك ممكناً فما هو التعريف الذي يمكن تقديمه لذلك؟
وكما هو واضحٌ فقد تمّ في الجواب طرح مسائل فلسفة الفقه مقرونةً بالشكّ والترديد، بل يمكن القول: إنه تمّ الخوض فيها مقرونةً بالكثير من التشكيكات، حتّى أن المرء يقع أحياناً في الشكّ.
فمثلاً: إن استفادة الوجوب من ظهور الأمر، والحرمة من ظهور النهي، ليست بالأمر الذي يمكن الشكّ فيه في العصر الراهن، فكيف يمكن التشكيك في هذا الأمر الثابت، سواء في العُرف السابق أو العرف الراهن، بل الذهاب إلى أكثر من ذلك، والقول: إن هذا المعنى غير قابل للتحقيق من خلال الرجوع إلى عُرْف أهل اللغة، بل هو مخالف للقواعد الصرفية والنحوية؟!
لا شَكَّ في أن هذا النوع من الكلمات المتشكِّكة تدعو إلى التشكيك؛ لأن المولى عندما يصدر أمراً لعبده ويأمره بفعل شيءٍ يجب على العبد المذكور ـ بحكم العقل والتبادر ـ أن يمتثل ذلك الأمر. ولذلك لا يسمح أيّ عبدٍ لنفسه بالتمرُّد على أمر سيده، والعقلاء بدورهم يرَوْنه ملزماً بإطاعة مولاه. ولذلك فإنه إذا تمرَّد عليه سوف يعتبرونه مستحقّاً للعقاب. وهنا يجب علينا أن نسأل: مَنْ هو اللغويّ الذي لا يفهم الوجوب من صيغة الأمر، ولا يقول بأن الأمر ظاهرٌ في الوجوب، والنهي ظاهرٌ في الحرمة؟! وما هي القاعدة الصرفية والنحوية المخالفة لهذا المعنى، والتي غفل المتخصِّصون في هذه العلوم عن اكتشافها حتّى هذه اللحظة، ولذلك كانوا يعتبرون الأمر ظاهراً في الوجوب، والنهي ظاهراً في الحرمة؟!
وعلى هذا الأساس، ليست الأحكام من حيث شدّتها وضرورتها عرضةً للتشكيك؛ لكي يتمّ تحديد مصيرها في فلسفة الفقه، ولا تحديد مصاديق الأحكام الخمسة مشتبه علينا، فنكون بحاجةٍ إلى مقدّمات يجب بحثها بالضرورة في فلسفة الفقه.
ثمّ قال بعد ذلك: «يمكن تكرار ما يُشبه هذا الكلام في باب سعة الأحكام أيضاً. إن كلّ حكم موجود في النصوص الدينية المقدّسة هو خطابٌ لشخص (أو أشخاص) كان مخاطباً (أو مخاطبين) مباشرةً لشخص أمر بذلك الحكم. والسؤال هو: ما هي الخصوصية أو الخصوصيات للمخاطب (أو المخاطبين) المباشر التي أدّت إلى صدور الحكم؟ ما دمنا لا نعلم جواب هذا السؤال بدقّةٍ لا يحقّ لنا تعميم ذلك الحكم الناشئ عن الأمر أو النهي إلى غير المخاطب (أو المخاطبين). إن هذا التعميم إنما يمكن فيما إذا أدركنا الخصوصية أو الخصوصيات الموجودة لدى المخاطب (أو المخاطبين) المباشر، والتي كانت السبب الكامن وراء صدور الأمر أو النهي؛ كي نتمكن من اعتبار كلّ شخصٍ آخر تتوفّر فيه تلك الخصوصية أو الخصوصيات مأموراً بذلك الأمر، ومنهياً بذلك النهي. والمشكلة تكمن في معرفة ماهية أسلوب اكتشاف هذه الخصوصية أو الخصوصيات»([13]).
أوّلاً: إن هذا التعبير القائل: «إن كلّ حكم موجود في النصوص الدينية المقدّسة هو خطاب لشخصٍ (أو أشخاص)» تعبيرٌ خاطئ؛ إذ في الكثير من الموارد لا تكون الأحكام الشرعية مبيّنة على شكل خطاب، من قبيل قوله تعالى:
ـ ﴿وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً﴾ (الفرقان: 48).
ـ ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (التوبة: 34).
ـ ﴿…أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ (التوبة: 104).
ـ ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ…﴾ (التوبة: 60).
ـ ﴿…الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ…﴾ (البقرة: 274).
ـ ﴿…ولله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً…﴾ (آل عمران: 97).
ـ ﴿… الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ…﴾ (البقرة: 275).
ـ ﴿…وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا…﴾ (البقرة: 275).
ـ ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ (المطففين: 1 ـ 3).
وما إلى ذلك من الآيات التي يصعب إحصاؤها؛ لكثرتها. هذا فضلاً عن الروايات الكثيرة المشتملة على أحكام المكلَّفين، ولا تخصّ فرداً أو عدداً من الأفراد بعينهم، بل تشمل بإطلاقها أو عمومها جميع أفراد المكلَّفين.
وثانياً: إن من ضروريات الدين أنه لا يوجد أدنى فرقٍ بين المخاطبين بالآيات والروايات الدينية وبين المتأخِّرين عن تلك الخطابات، وأن الجميع مشتركون في الأحكام الواردة في النصوص المقدّسة. وعليه فالجميع ـ طبقاً للقاعدة ـ مشتركون في الأحكام، إلاّ إذا قام دليلٌ خاصّ وأثبت اختصاص الحكم بهذا المورد. ولهذا السبب نجد الأحكام الخاصّة بالنبيّ| إنما كانت خاصّةً به على أساس من الأدلة الخاصّة، لا من جهة أن الخطاب كان موجَّهاّ إلى النبيّ حصراً. ولذلك في الكثير من الأحيان يكون الخطاب موجَّهاً إلى شخص النبيّ فقط، ولكنْ مع ذلك لم يقُلْ أحدٌ باختصاص ذلك الحكم به، وما ذلك إلاّ لتلك الضرورة الدينية القائلة باشتراك كافة المكلَّفين في جميع الأحكام، إلاّ في المورد الذي يدلّ عليه دليلٌ خاص، وهذا الدليل لا يمكن أن يكون خطاباً خاصّاً؛ إذ من الثابت في الشريعة المقدّسة عدم وجود فرق بين المخاطبين والغائبين، وأن الجميع مشتركون في الأحكام؛ إذ في الغالب لم يكن المخاطبون للنبيّ أو الأئمة^ يتعدّون بضعة أشخاص، ومع ذلك لم يقع الغائبون عن مجلس الخطاب في شبهة عدم شمول فحوى الخطاب لهم، واختصاص الأحكام المذكورة بالسامعين والحاضرين في مجلس الخطاب فقط. ولذلك لم يسبق لأحدٍ من الغائبين أن توجَّه إلى النبيّ أو الإمام ليسأله عمّا إذا كان هذا الحكم أو الأحكام التي ذكرت في ذلك الخطاب شاملاً للغائبين أيضاً أم لا؟ وكأنّ عدم طرح هذا السؤال من قبل الغائبين عن مجلس الخطاب يعود إلى ضرورة اشتراك الأحكام بين جميع المسلمين. وربما كان ذلك لإدراك ملاك الحكم، وحكم العقل ببديهة عدم الفرق بين الحاضرين والغائبين. وعلى أيّ حالٍ إذا لم يكن هناك فرقٌ بين المخاطبين والغائبين في ذلك العصر ـ وهو كذلك ـ لن يكون هناك فرقٌ بين المخاطبين والمعدومين في وقت الخطاب أيضاً، ويكون الملاك بالنسبة لهما واحداً.
وثالثاً: بالإضافة إلى هذه الأمور الثلاثة، هناك الكثير من الأدلّة النقلية الدالة على اشتراك جميع الناس مع المخاطَبين في الأحكام. وفي ما يلي نكتفي بالإشارة إلى آيتين من القرآن الكريم في هذا الشأن، فهي ظاهرةٌ في الاشتراك، وهما قوله تعالى:
1ـ ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ ِلأَنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ (الأنعام: 19).
لا نرى حاجةً إلى القول بعدم وجود فرق بين الإنذار والبشارة، فإذا كان الإنذار الوارد في القرآن يعني الجميع فإن البشارة بدورها تعني الجميع أيضاً؛ إذ لا معنى لأن يكون جميع الأفراد والمكلَّفين مشتركين في الإنذار القرآني، ولا يكونون مشتركين في بشاراته. ثمّ إن مجرّد اشتراك الجميع في الإنذارات القرآنية يكفي لاشتراكهم في جميع الأحكام الواجبة والمحرَّمة، وبذلك يثبت المطلوب.
2ـ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (سبأ: 28).
وكما يبدو جلّياً من هذه الآية فإنها ظاهرةٌ أيضاً في اشتراك جميع الناس في الإنذار والبشارة الواردة عن النبيّ|. فالنبيّ ليس بشيراً ونذيراً لفئةٍ أو طائفة خاصّة من الناس، بل جاء لجميع الناس. ومن الواضح أن التأكيد بكلمة «الناس»، وهي لفظٌ عامّ، مع إضافة كلمة «كافّة»، التي تدل بدورها على العموم أيضاً، إنما هو لقطع الطريق على أدنى تشكيكٍ في الدلالة على العموم. وعليه فإن هذه الآية تشتمل على تأكيدٍ لجميع الذين لا يعلمون بأن النبيّ نبيٌّ للجميع، ولا يختصّ بجيلٍ دون جيل. ولا يخفى أن دلالة الآية على هذا المقدار تثبت تعميم الأحكام والتعاليم الواردة عن النبيّ| لجميع أفراد الناس. غاية الأمر أن هذا الأمر إنما يثبت بالعموم أو الإطلاق. وإن سحب اليد عن هذا العموم والإطلاق إنما يكون ممكناً إذا ورد دليلٌ خاصّ يقوم على تخصيص حكمٍ بفرد أو أفراد بعينهم.
ولو قيل: ما هو الإشكال في تخصيص هذا العموم بالأحكام الخطابية، بأن نقول: إن التعميم الذي يُستفاد من هذه الآية إنّما يتعلّق بموارد الأحكام التي يتمّ بيانها بغير صيغة الخطاب؛ لأن ظاهر الخطاب اختصاص الأحكام بالمخاطبين، وعليه يكون هذا الظاهر بمنزلة المخصِّص الذي يقيِّد ذلك العموم.
والجواب عن ذلك: أوّلاً: إن لسان هذا العموم من التأكيد بحيث يأبى التخصيص.
وثانياً: إن تخصيص جميع الناس من ذلك الحكم، باستثناء المخاطبين، تخصيصٌ للأكثر، وهو مخالفٌ لمحاورات أصحاب اللغة. بل يمكن القول: إن تخصيص الأكثر قبيحٌ. ولذلك لا يمكن حمل الكلام الفصيح والبليغ عليه.
وثالثاً: يبدو من هذه الآية أنها حاكمةٌ على سائر الآيات، ولا سيَّما الخطابات القرآنية، ولذلك لا يمكن جعل بعض الآيات مخصِّصة لها.
يتَّضح من هذا الكلام أن اختصاص حكم بفردٍ أو أفراد مخالف للأصل، وليس تعميمه. من هنا فإن الاختصاص المذكور هو الذي يحتاج إلى دليلٍ خاصّ، وليس التعميم المذكور.
كان ما تقدم مجرَّد إشارة إلى بعض ما ورد في الإجابات عن السؤال الأول المقترح. وكما تمّ التنويه في بداية هذه المقالة فقد تمّ في مقترح ذلك العدد طرح عشرة أسئلة، وقد قدَّم هؤلاء المجيبون في الغالب إجابات على هذه الشاكلة. ولولا خشية الإطالة لكانت لنا إشاراتٌ عابرة بشأنها أيضاً. ولكنْ حيث كانت غايتنا هي النصيحة فإننا نكتفي بهذا المقدار.
الهوامش
(*) باحثٌ وأستاذ البحث الخارج (الدراسات العليا) في الحوزة العلمية في مدينة قم.
([1]) انظر: مجلّة نقد ونظر، العدد 12: 4.
([2]) انظر: المصدر السابق: 10.
([3]) انظر: المصدر السابق: 15.
([4]) انظر: المصدر السابق: 19.
([5]) انظر: المصدر السابق: 39 ـ 41.
([6]) انظر: المصدر السابق: 42.
([7]) انظر: المصدر السابق: 43.
([8]) انظر: المصدر السابق: 43 ـ 44.
([9]) انظر: المصدر السابق: 44.
([10]) انظر: المصدر السابق: 46.
([11]) انظر: المصدر السابق: 47.