د. عبد الكريم سروش(*)
نبذةٌ مختصرة ــــــ
تعرّض كاتب السطور إلى بيان أسباب تخلُّف المسلمين. وقد ذكر لذلك ثلاث نظريات:
أـ إن سبب انحطاط المسلمين يكمن في العامل الديني.
وقد أنكر الكاتب هذا الرأي قائلاً: إن الانحطاط لا يختصّ بالمجتمعات الإسلامية.
ب ـ حيث إن المسلمين يرَوْن أن الدين يلبّي كلّ احتياجاتهم فقد أدّى ذلك إلى موت روح البحث والتحقيق فيهم. ومن هنا فقد افتقروا إلى الحيوية في هذا المجال.
وهذا ما التزم به الكاتب بالنسبة إلى القائلين بالدين في حدِّه الأقصى، بعد تقسيم المتديِّنين إلى قسمين. ورأى أن إحدى الآفات المترتِّبة على القول بالدين في حدِّه الأقصى هي ضياع النزعة إلى الاستفهام والتساؤل.
ج ـ عدم اهتمام المسلمين بالعلوم التجريبية؛ إذ إن من النظريات المطروحة في بيان أسباب إخفاق المسلمين أن التعاليم الدينية هي التي أوصلت المسلمين إلى هذا المصير. وهناك من المفكِّرين، ممَّنْ عاش تجربة الحكومة الدينية وعاصر إخفاقاتها ـ وخاصّة بعد انتصار الثورة الإسلامية ـ، مَنْ يعمد أحياناً إلى اعتبار أن الدين هو السبب في هذه الإخفاقات.
وفي الردّ على هذه النظريات يجب القول: إن الإخفاق التاريخي لا ينحصر بالمسلمين، بل إن هذا الإخفاق يعمّ جميع البلدان النامية، بما في ذلك المسلمين وغير المسلمين على السواء.
إن لاتّهام التديُّن بإخفاق المسلمين تصويراً أكثر تعقيداً، يمكن التوصّل إليه من خلال مؤلَّفات المعاصرين، وهو أن التديُّن يجري في أنفسهم مجرى الدم من عروقهم، وهذا يجعلهم من التعبُّد بحيث يقتل فيهم روح الاستفهام والتعمُّق في الأمور.
يجب القول: إن رؤية هؤلاء لا تنبثق عن التأمُّل التاريخي، بل هي رؤيةٌ انتزاعية، حتّى أنّنا نجد فيلسوفاً مثل: هيجل ـ رغم ما يتمتّع به من مكانة فلسفية رفيعة ـ لا يعدو أن يكون بروتستانتياً مؤمناً ومدافعاً عن الثالوث المسيحي في مواجهة سائر الأديان الأخرى.
إن التفكير الديني غير منحصر بـ (هيجل)، حيث يمكن التمثيل بنسبة ابن سينا والسهروردي وصدر المتألِّهين الشيرازي إلى الدين. بل حتّى أولئك الذين أبدعوا العلوم الحديثة، من أمثال: ديكارت، ونيوتن، كانوا من المسيحيين المعتقدين.
لستُ هنا بصدد استنتاج حسن الدين، بل الذي أرومه هو القول بأن هؤلاء الأشخاص كانوا من أكثر المتديِّنين حبّاً للمعرفة، ونَهَماً إلى الاستطلاع العلمي في العالم.
وأرى أن ظاهرة الاستهانة بالدين أمرٌ طارئ، لم يظهر إلاّ في المرحلة المتأخِّرة.
إن الذين غيَّروا العالم؛ بسبب نهمهم العلمي، كانوا من المتديِّنين، ولا يمكن القبول باتّهامهم بالافتقار إلى العقل.
إن التديّن المعرفي لا يتهرّب من الوقوع في الشكّ، بل على العكس من ذلك تماماً، فهو يتعمّد أن يقع فيه. أما التديّن الذي ينزع إلى ضمان المعاش فقط (الدين في حدِّه الأقصى) فإنه يتهرَّب من الاستفهام والتساؤل.
إن من الآفة أن نتصوَّر إمكان تلبية جميع احتياجاتنا في الدنيا والآخرة من خلال الرؤية الأكثرية (الدين في حدِّه الأقصى)، وتجاهل الأفكار البشرية المطروحة، قائلين بأن الدين قد وفَّر لنا كلّ ما نحتاج إليه. ولو لم تكن لدينا رؤيةٌ أكثرية تجاه الدين كان هناك متَّسع لتبلور النَّهَم إلى التساؤل وحبّ الاستطلاع، وبالتالي الحصول على إجاباتٍ جديدة.
من الخطأ إرجاع تخلُّف المسلمين التاريخي إلى ماهية التقليد أو الحداثة. وإن التعريف بخصائص الحداثة يوصلنا إلى الإجابة بشكلٍ أسرع.
إن للحداثة ثلاث خصائص، وهي:
الأولى: الكهرباء، حيث تعدّ الشرط اللازم للحداثة.
الثانية: ظهور مفهوم الحقّ في حقل الأخلاق والسياسة، وهو أمرٌ لم يكن موجوداً في العالم التقليدي.
الثالثة: العلوم التجريبية، فقد تركت تأثيراً جَذْرياً وجوهرياً على العالم المعاصر.
إن من أسباب إخفاق المسلمين تجاهل المفكِّرين المسلمين وعدم اهتمامهم بالعلوم التجريبية.
هناك مَنْ يقصر الاتجاه الحداثوي على السياسة، بمعنى القهر والغلبة.
ولا بُدَّ من القول لهؤلاء: ليست الحداثة، ولا العقلانية، بل العلوم التجريبية هي التي منحت العالم صورته الراهنة، ونفخت فيه هذه الروح الهندسية. وبعبارةٍ أخرى: إن هذه الغلبة تكمن في ماهية العلوم التجريبية. ففي القرون الوسطى عاشت أوروبا ظروفاً مماثلة، بَيْدَ أن العلم كان تحت سلطة النزعة الأرسطية، وقد وجد طريقه إلى عصر النهضة بفعل طبيعته التجريبية. في حين أن المسلمين قد تبنّوا السياسة الأفلاطونية، ولم يترجموا سياسة أرسطو أبداً؛ حيث كانت جمهورية أفلاطون هي التي ترجمت إلى لغة المسلمين منذ البداية.
تنويهٌ ــــــ
1ـ إن مسألة صعود ونزول الحضارة الإسلامية، وأسباب تخلُّف المسلمين، من المسائل الهامّة التي حظيت باهتمام العلماء والمفكِّرين على الدوام، وطرحت مختلف الآراء بشأنها.
ولكنْ كما يرى كاتب السطور فإن أسباب التخلُّف، أيّاً كانت، لا تعود إلى تعاليم الإسلام. والشاهد على ذلك أن الإسلام قد اجتاز تجربة قيادة العالم من خلال تعاليمه السامية لخمسة قرونٍ بمنتهى النجاح. وهذا أمرٌ يقرّ به الكثير من المفكِّرين أيضاً([1]).
2ـ إن العلاقة بين الدين في حدِّه الأقصى وحبّ التساؤل غير واضحة، بل يبدو أن لا علاقة بينهما أبداً. إن هذا الحكم انتزاعيٌّ وبعيد عن الواقعية التاريخية.
ألم يكن النبي الأكرم|، الذي أسس لهذه الحضارة الكبرى، يرى الدين في حدِّه الأقصى، ولعب فيه دوراً بوصفه قائداً سياسياً واجتماعياً؟!
وقد عمد الإمام الخميني& في العصر الراهن ـ وهو من القائلين بالدين في حدِّه الأقصى ـ إلى بعث الروح إلى المجتمع الإيراني من جديد، وازدهرت المراكز والمؤسَّسات العلمية والجامعية في عهده بشكلٍ لم يسبق له نظير، بحيث أخذ العامة والخاصة يشهدون بإبداعات وإنجازات جيل الثورة.
3ـ كما أن دعوى تجاهل المسلمين للعلوم التجريبية لا تنسجم مع الواقعية التاريخية أيضاً. فقد اهتمّ المسلمون في مرحلة ازدهار الحضارة الإسلامية بالطبّ والبيطرة والصيدلة والفيزياء والميكانيك وما إلى ذلك من العلوم، إلى جانب اهتمامهم بالفلسفة والأدب والفلك والرياضيات والفقه وغيرها من العلوم. واستمر الأمر على هذه الوتيرة حتّى القرن الهجري الخامس. وقد بدأ عصر انحطاط الحضارة الإسلامية بعد القرن الخامس. وكان السبب في ذلك يكمن في أمور أخرى تمَّتْ دراستها في موضعها.
الهوامش
(*) مفكِّرٌ ديني بارز، ومعروف بطروحاته الفلسفية والدينية.
([1]) انظر: جرجي زيدان، تاريخ التمدُّن الإسلامي: 247؛ جوستاف لوبون، تمدُّن إسلام وعرب (الحضارة الإسلامية والعربية): 701.