بين الأمل وخيبة الأمل
د. السيد حسين المدرسي الطباطبائي(*)
ما نضعه بين أيديكم نصّ الخطاب الذي ألقاه البروفيسور حسين المدرِّسي الطباطبائي مطلع شهر تشرين الثاني، بحضور مجموعة من الطلبة المسلمين، في مدينة مونتريال ـ كندا.
الموضوع الذي نودّ تداوله اليوم ليس موضوعاً نظرياً، بقدر ما هو تعبير عن واقع يمرّ به المذهب الشيعي في يومنا الصعب هذا. فالحديث يدور عن تنامي وتقدُّم تيّار غاية في التطرُّف، والانحراف، والتحجُّر، والتخلُّف، على حساب أكثر مدرسة علمية وعقلانية، بل وأقوى مدرسة فكرية ومذهبية في العالم الإسلامي.
لقد تسبَّبت هذه الظاهرة بالعديد من الأضرار الجسيمة لمجمل المصالح والأهداف السامية التي قام عليها المذهب، وهي اليوم تهدِّد منظومته الفكرية والنظرية والعملية برمّتها، وترسم صورة قاتمة لمستقبل التشيُّع.
ولنبدأ بالحديث تأريخياً: فمنذ العصور الإسلامية الأولى شهد المذهب الشيعي ظهور اتجاهين أو تيارين، على غرار ما ظهر في المذهب السنّي وغيره من المِلَل والنِّحَل.
الأوّل: اتجاه علمي، يرى أن الأئمة الأطهار هم الأَوْلى بخلافة النبيّ، وهم أحقّ بقيادة الأمّة سياسياً وعلمياً ومعنوياً، والمرجع الأعلى المسؤول عن بيان العقيدة والمعارف والأحكام، وهم المظهر الأبرز والتجلّي الأكمل للبُعْد المعنوي والأخلاقي. ويبني هذا الاتجاه رؤاه على العقل والاستدلال والاعتدال والتعاطي مع العالم الخارجي للمجتمع الشيعي، متفاعلاً مع الواقع العلمي والثقافي الذي يعيشه.
والآخر: اتجاه شعبي جماهيري، ينطلق من العلقة والعاطفة الشديدة تجاه أهل بيت النبيّ، ويستمدّ مادته الفكرية عبر تجليل شخوصهم، وإبراز فضائلهم ومقاماتهم، واستشعار الألم بسبب ما تعرَّض له (الأئمّة الأطهار) من ظلمٍ. ويستند في معتقده على تحليلٍ تاريخي خاصّ به، وكذلك على مسموعات تحكي فضائلهم ومقاماتهم، والمصائب التي وقعت عليهم.
وخلافاً للاتجاه الأول، فإنّ الاتجاه الثاني اتجاهٌ انطوائي متقوقع. وبسبب ما يحمله من شحنة عاطفية كبيرة، ذات إطار عقائدي ونظري، فهو ينعكس على سلوكه وممارساته، مما يدفعه أحياناً للاصطدام بالآخرين أو اللجوء إلى العنف، بنمطَيْه: اللغوي؛ والجسدي.
وبمرور الوقت استطاع كلٌّ من الاتجاهين التعايش جنباً إلى جنب، والمساهمة ــ كلٌّ بحَسَب دَوْره ــ في نمو وتطوّر الفكر الشيعي.
فالاتجاه الأول وضع أسس الفكر الشيعي، فيما تولّى الاتجاه الثاني إيقاد شعلة المحبة تجاه أهل بيت النبيّ، وحاول بأيّ شكلٍ من الأشكال إبقاءها متَّقدة على مدى العصور، ومن أجل ذلك اضطرّ لدفع ثمنٍ باهظ، كلَّفه العديد من الأرواح في بعض الأحيان.
إن العامل المشترك الذي يجمع كلّ أتباع أهل بيت النبيّ هو الاتفاق على فضائلهم المعنوية، وحقّهم الإلهي بخلافة النبيّ. هذا بالرغم من الاختلاف في تقييم بعض المصادر والأخبار، وبتبع ذلك حدود الولاية المعنوية التي يرسمها كلُّ اتّجاه لهؤلاء العظماء، ممّا يؤدِّي أحياناً إلى التصادم بين الاتجاهين.
فالاتجاه الثاني؛ ونظراً للتعلّق العاطفي الشديد بالأئمّة الأطهار، يرى أنّ أولوية التشيّع تتلخَّص في التركيز على فضائلهم ومقاماتهم، وبذلك يرحِّب بكلّ ما يرده من مسموعات تروي كراماتهم ومعاجزهم، وكلّ جيل يضيف عليها من ذلك شيئاً ما.
ومن جهةٍ ثانية يأمل هذا الاتجاه من كلّ أتباع أهل البيت أن يسيروا وفق منهجه، ويفكِّروا كما يفكِّر، ويرجئوا العقبات النظرية، كموازين النقد العلمي للأخبار والأحاديث، إلى مجالاتٍ أخرى غير ما يتعلَّق بمسألة أهل البيت. وينسبون حديثاً إلى الأئمّة، تأييداً لرؤيتهم هذه: (نزِّهونا عن الربوبية، وقولوا فينا ما شئتم).
أمّا المنهج الأول فيضمّ نخبة العلماء والمفكِّرين ودعاة الاعتدال والعقلانية في المجتمع الشيعي. ويرى هؤلاء أن من واجبهم الحفاظ على المعتقد، وحماية الأسس الفكرية للمذهب الشيعي، والتصدِّي لـ «تحريف المغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين». لكنّ هاجسهم الأكبر خطر تعرُّض أتباع المنهج الثاني للابتذال والتطرُّف والانحراف؛ نتيجة تركيزهم على المحبّة والعاطفة الشديدتين.
ولطالما وجدت النخب أن معتقدات وسلوك هذه المجموعة تتناقض مع الأسس الكلامية والموازين العلمية، لذا دأبت على دعوتهم للاعتدال، ورعاية الأسس، الأمر الذي قُوبل غالباً بالرفض والامتعاض.
لكنْ مع كلّ ذلك، ما لم يكن يطرأ موضوعٌ خلافي حادّ فإنّ التعايش السِّلْمي بين الاتجاهين كان هو السائد غالباً، يستوعب أحدهما الآخر، ولا يُقْدِم أحدهما على إخراج الآخر من دائرة التشيُّع، أو يكفِّره، أو يهدر دمه.
فعلى سبيل المثال: نجد الشهيد السعيد والعالم الجليل القاضي نور الله الشوشتري، الذي كان مستبسلاً في الذَّوْد عن ولاية أمير المؤمنين×، ينفي بشدّة في «أسئلته اليوسفية» الاعتقاد بعلم الإمام على نحو العلم الحضوري والكشف التفصيلي لسائر أنحاء الوجود (لا على نحو الاكتساب و«التعلُّم من ذي علمٍ»، والذي هو أيضاً كان على نطاق محدود، وليس بكافة تفاصيل الواقعة أو الحَدَث)، ومع ذلك ليس هناك مَنْ يصفه بالمعاند أو المكابر، أو المنكر لفضائل الأئمّة الطاهرين؛ بسبب عقيدته هذه.
كما لا نجد مَنْ يتطاول بالإهانة على المحقِّق الجليل والفقيه الإصفهاني البارز في العصر القاجاري، السيد محمد باقر الخوانساري، صاحب كتاب (روضات الجنات)؛ بسبب ما أورده في كتابه هذا، في ذيل حديثه عن سيرة الحافظ رجب البرسي، من تشكيكٍ في وثاقة واعتبار كتب الفضائل القديمة، وتطرُّف مؤلِّفيها، الذي تسبَّب بظهور تياراتٍ كالشيخية والبابية.
في ربيع هذا العام قام الناشر السابق لمؤلَّفاتي بإعداد وثيقةٍ تضمّ مجموعة مقالات كنتُ قد نشرتُها قبل هجرتي، وقد أرسلها لي؛ بغية مراجعتها وتدقيقها. فوجدتني كتبت في إحدى هذه المقالات، وتحديداً قبل أربعين عاماً، حول الحافظ رجب البرسي، واقتبست كلاماً للعلاّمة الأميني (الذي كان حينها لا يزال على قيد الحياة)، والذي أورده في غديريته في إطار سرده لسيرة الحافظ البرسي، يشرح فيه كيف أن هذين الاتجاهين عاشا جنباً إلى جنب على مدى قرون، والخدمات الجليلة التي قدَّمها العلماء للتشيُّع، بالرغم من أنّه «لم تَزَلْ الفئتان على طرفي نقيضٍ، وقد تقوم الحرب بينهما على أشدّها».
ولفترةٍ طويلة، لم يكن هناك اختلافٌ يذكر بين الاتجاهين، سوى في أرجاء بعض المصادر والمنقولات، وكذلك في التفسير المضيّق أو الموسّع لبعض النصوص الدينية، والذي كان يُعبَّر عنه أحياناً بالسعة والضيق في بيان مناقب الأئمّة وفضائلهم. واستمرّ الوضع على هذا الحال إلى أن ظهر مؤخَّراً تحليلٌ فلسفي ـ باطني، تبنَّتْه مجموعة شيعية من روّاد المدرسة الفلسفية، يحمل في طيّاته أيديولوجيا جديدة، تمثِّل إلى حدٍّ ما إحياءً لفكر «المفوّضة»، الجماعة الشيعية التي اشتهرت في عهدٍ سابق.
وبمقتضى هذه الأيديولوجيا فإن المرتبة الوجودية التي يحتلّها أئمّة أهل البيت من سلسلة مراتب عالم الوجود هي مرتبة المشيئة الإلهية، بمعنى أنّهم يجسِّدون عملياً إرادة الحقّ تعالى في عالم الخلقة. واللازم الحتمي لذلك هو الاعتقاد بخالقيّة ورازقيّة الأئمّة الأطهار، منذ الأزل وإلى الأبد، وعلمهم اللامتناهي والفعلي بما كان وما يكون وما هو كائنٌ، وقدرتهم المطلقة وتصرُّفهم بسائر عالم الوجود.
أمّا ما نشاهده في يومنا هذا من محاولات نفي أو إنكار مثل هذه المعتقدات، يقوم بها بعض المنتمين لهذا الاتجاه، مستندين إلى كلمات كبارٍ لم تكتب لهم الحياة ليشاهدوا إلى أيّ مدى وصل إليه طغيان هذا التيار المتطرِّف، أو ما نلاحظه من تسطيح للفكرة، فما هي إلاّ ممارسات ذكية لتعزيز الفكرة التي تستلزم حتميّة الاعتقاد بخالقيّة الأئمّة ورازقيّتهم وقدرتهم وعلمهم المطلق، وتكريسها تدريجياً.
إلى ما قبل نحو قرنين من الزمن لم نكن نلاحظ على الصعيد الاجتماعي وجود مثل هذا التيار المتطرِّف، سوى ضمن نحلة مذهبية خاصة، تمثِّل أقلِّية تستوطن قريتين من قرى إيران، وتتبع وجهاً آخراً لهذه العقيدة. وبالرغم من المبرِّرات الواهنة وغير المعقولة التي يسوقها أتباع هذه الاتجاه، إلاّ أنهم ـ وعلى ما يبدو ـ يدركون منافاة هذه الفكرة مع أصل التوحيد، الذي يقوم عليه الإسلام والتشيُّع الصحيح.
إن الفكر الديني المعاصر (أيّ فكر ديني سماوي متمحور حول وجود الله سبحانه) يرفض بأيّ شكلٍ من الأشكال فكرة الوحدانية القائمة على تفويض مجموعة مؤلَّفة من أربعة عشر شخصاً بشرياً، يسكنون هذا الكوكب الموسوم بالأرض، شأن خلق وإيجاد جميع الكائنات، منذ الأزل وإلى الأبد، ضمن وجود عابر للزمن، بالرغم من انتهائه إلى الله سبحانه، وكذلك شأن رزقهم وتدبير أمر الكون بكافّة أجزائه.
وفي العقود المتأخِّرة، وتحديداً منذ ظهور كتاب «الشهيد الخالد» في نهاية العقد الرابع من القرن الماضي، بدأ هذا الاتجاه الباطني المتطرِّف بالإعلان عن نفسه، بعد أن كان يخشى إظهار معتقداته أمام عامّة الناس. ونظراً لالتقاء الأفكار والمصالح مع متبنّيات الاتجاه الشيعي الراديكالي المتطرِّف ومصالحه قرَّر هذان الاتجاهان تشكيل جبهةٍ واحدة؛ لتأليف اتّجاهٍ نضاليّ جديد، عُرف فيما بعد بـ «الاتجاه الولائي»، أو «الولائيون».
وبمرور الوقت (وخصوصاً في السنوات التي أعقبت الثورة في إيران، وبغياب النخب الثقافية والفكرية، التي كانت بعيدةً عن الواقع النظري؛ لانشغالها بالواقع العملي، الذي كان منصبّاً على تغيير نظام الحكم آنذاك) استغلّ هذا الاتجاه مشاعر الشيعة وعواطفهم تجاه أهل بيت النبيّ، لتكريس خطاب المغالين السابقين، وتجذيره في بنية المجتمع الشيعي.
والملفت أنني اليوم قد سمعتُ من بعضكم، برغم البعد، وبالرغم من وجودنا في دولةٍ ومجتمع غير إسلاميّ، ولا يشكِّل الشيعة فيه سوى أقليّة قليلة، أنّ البعض منهم يحاول جاهداً الترويج للفكر المغالي، وتشجيع السلوكيات المتطرِّفة؛ ليساهم في شقّ الصف الشيعي، بوضع الشيعة مقابل الشيعة، ثمّ يتفاخر بما أقدم عليه، وفي الوقت ذاته يتجاسر على وليّ أمر المسلمين، الذي يدعوهم بكلّ شفقةٍ للاعتدال ونبذ التطرُّف!
إن هذا الاتّجاه على المستوى الديني والعقيدي (الداخل ـ ديني) يصرّ بما لا يقبل الجَدَل على محورية ما يطلق عليه «الولاية التكوينية»، معتبراً أن تفسيره المتطرِّف هذا هو الركن الأساس، بل أهمّ ركنٍ من أركان التشيُّع الفاصل بين الحقّ والباطل، وكلّ تفسير أدنى من ذلك، أو لا يتَّفق معه، فهو تفسيرٌ معاند لأهل بيت النبيّ، ومخالف لضروريات المذهب، ومَنْ يشكِّك في صحَّته فهو ملعونٌ؛ لإنكاره فضائل الأئمّة الطاهرين، وهو موسومٌ بالسنّي أو الناصبي أو اليزيدي أو الوهّابي.
وأما على المستوى السلوكي (الخارج ـ ديني) فهو يشجِّع الناس ويحملهم على التجاهر بالبراءة من مقدَّسات أكثر من مليار مسلم، ويحملهم على هتكها عَلَناً جهاراً، وقد يحدث ذلك أحياناً على مرأى ومسمع منهم، وأمام أنظارهم (كما يحدث في الهند وباكستان أيّام عاشوراء)، متجاوزين بذلك كلّ المبادئ الأخلاقية، والمصالح الإسلامية، في زمنٍ هو من أشدّ الأزمان ضراوةً على الإسلام والمسلمين.
ما الذي تفعلونه بالتشيُّع؟ وأين تريدون أن تأخذوا بالمذهب الطاهر لأهل البيت؟ وهل التشيُّع سوى التفسير الأصلي الأصيل للإسلام؟ أليس الإسلام هو الرسالة الخاتمة والحلقة الأخيرة من سلسلة حلقات الرسائل السماوية الممتدّة، التي تتّفق جميعها على مبدأ التوحيد وحُسْن الخلق؟ ثمّ ألا يمثِّل الأنبياء وأوصياؤهم الطريق إلى الله؟ إذن ما الذي جعل الأنبياء في قاموسكم يمثِّلون الطريق الى الله، بينما أصبح الأولياء يمثِّلون الذاتيّة، بحيث نسبتم لهم الخالقيّة والرازقيّة والقدرة على التصرُّف الفعلي في عالم الكون، إلى درجة أنكم أَوْلَيْتُم هذه العقيدة كلّ الأهمِّية، وجعلتم منها محور الدين، وأَوْلى أوْلويّاته، واعتبرتم كلّ ما سواها أموراً هامشية فرعية ثانوية؟!
واليوم، في ظلّ سكوت النخب الثقافية المسؤولة عن تقويم المجتمع وإرشاده نحو الصواب، وسكوت كبار المسؤولين عن التصدّي لهذا النمط من القضايا، والوقوف بوجه التطرُّف، يبدو أن المجتمع الشيعي قد أصحر فريداً، وأضحى أحادي الاتجاه، فما من صوتٍ يسمع سوى صوت جمهور ذلك التيّار المتطرِّف.
وكمسلمٍ شيعي، أعتقد وأؤمن أنّ سيطرة هذا الاتجاه على مذهب أهل البيت يُعَدّ تهديداً خطيراً، وأقول، دون أيِّ محاباةٍ أو وَجَلٍ: إنّ التصدّي لذلك الاتجاه وتقويضه علمياً لا بُدَّ أن يكون أَوْلى أَوْلَويّات المذهب، وأبرز تحدّياته التي يواجهها على الصعيد العالمي اليوم.
إن تفرُّد هذا الاتجاه بالمسرح العقيدي للطائفة، دون رادعٍ أو منازع، وضمّ طبقة من العوامّ والسذَّج والفوضويين ومثيري النزاعات والمشاكل إلى جمهوره، وزجِّهم تحت عباءته، وإعطائهم الضوء الأخضر للتطاول على المقدَّسات، كلَّف المذهب خسائر جمّة لم تتوقَّف إلى اليوم.
إنّ من أهمّ الخسائر التي يمكن أن نشير لها بوضوح هو النموّ التدريجي ـ والعلني ـ للتيار الأخباري، واستحواذه على الفكر الشيعي. وهذا لا يعني أنّنا غادرنا أصول الفقه، وأهملناه. كلاّ، فنحن نمضي أعواماً طويلة في تدارسه والبحث فيه، لكنّ الخلل يكمن في أنّنا أخذنا إرثنا العلمي بكلّ أبعاده وجوانبه وألقينا به في مستنقع الفكر الأخباري، وقيَّدنا منظومتنا الفكرية الرائدة والغنيّة بشباك الدور والتسلسل، من خلال الجمود والتقوقع على الحَدَث التاريخي، الذي طَوَتْه العصور الغابرة.
ولا يخفى أن لهذه الأزمة جذوراً فكرية ومنهجية عميقة. لكنْ بالإجمال نقول: إنّ من أبرز أسبابها مخالفة هؤلاء العوامّ لمنهج أساطين العلم، وكبار المذهب، المبنيّ على الاحتياط الشديد، والتروّي، والفطنة، في أخذ الخبر أو ردّه، وإفراطهم، وتسامحهم الأعمى، وإصرارهم في الاعتماد على كلّ نصٍّ عربي؛ فقط لأجل أنه عربيّ، حتّى لو كان مجهولاً سنداً وزمناً واعتباراً (وكأنّ عربية النصّ تنزِّله منزلة القرآن في رأي هؤلاء)، ليكون أفضل ما يعتمدونه في أحسن الأحوال هو خبر الآحاد.
ثمّ من الأمور السلبية الأخرى، الناتجة عن ضيق أفق وسطحية وتخلُّف وجمود وتقوقع هؤلاء، الركود المزمن الذي مُني به المذهب، وجعله محبوساً في نقاط جغرافية محدَّدة، عاجزاً عن الانتشار والتوسُّع.
لماذا يا ترى ينتهى المطاف بهذا المذهب، الذي كان إلى ما قبل قرنين من الزمن يشهد قفزات نوعيّة على صعيد الدعوة والتبليغ في العراق وشبه القارة الهندية، أن يصبح اليوم، في ظلّ التقدُّم الهائل لتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، عاجزاً عن إعادة تجربته الرائدة، وقاصراً عن إدراك الباحثين عن الحقيقة واستقطابهم؟!
بل حتّى في إيران اليوم تشير إحصائيات النموّ السكاني، والتقارير الواصلة، والتي تعكس حجم الاستثمارات والخطط الاستراتيجية التي تستهدف تغيير الواقع الديموغرافي، عبر امتلاك الأراضي، وتهجير السكّان الأصليين من بعض المناطق، تشير إلى أن هناك خطراً يهدِّد مستقبل التشيُّع في ذلك البلد.
إذن عندما نعجز عن تقديم أيّ خطاب تجديدي، ونحاول تكميم أيّ فيهٍ يريد أن ينطق بما عنده، وعندما تمرّ الأعوام تلو الأعوام وليس هناك أيّ جديد على صعيد المعرفة، أو على صعيد الفكر الشيعي، وفي الوقت ذاته تصدر مئات الكتب في المعجزات والكرامات والمصائب والمراثي، بمضامين مكرَّرة، تفتقر لأيّ إبداعٍ أو ابتكار أو دقائق أو لطائف فكرية، وعندما نعجز عن التصدّي لـ «الشبهات»، وتقديم الحلول المنطقية لأبسط الأسئلة التي لا يُعَدُّ طرحها والإجابة عنها حقّاً لكلّ مكلَّفٍ فحَسْب، وإنما هي مسؤولية تقع على عاتقه، وعندما نعتمد سياقاً معرفياً مستقى من ثنايا الأخبار التي تضجّ بها المصادر الضعيفة أو المجهولة، أو مسبوكاً بنسج العوام وأساطيرهم، ولا يساوي قرشاً في ميزان المعرفة… حينئذٍ هل توقّفنا لحظةً لنتساءل: لماذا أصبحنا نراوح أماكننا؟ وأين موضع الخلل؟ بعد كلّ ذلك يا ترى هل سنأمل أن يدخل الناس في دين الله أفواجاً أفواجاً؟!
والملفت أننا قد نبدو سعداء حين نسمع بين الحين والآخر أن أحدهم تشرَّف باعتناق المذهب الشيعي، لكنْ يا ترى هل نعي كم هو عدد الأشخاص من أبناء المذهب الشيعي، وفي عاصمة التشيُّع، الذين ساقهم تفسيرنا المغلوط للدين إلى الانحراف عن الصراط الحقّ في ذات الفترة؟
إذن، لو استمرّ الحال على ما هو عليه، ولم يبادر أحد الكبار، أو أحد الشخصيات العلمية المعتبرة، أو أحد الرموز الفكرية أو المعنوية، ويأخذ على عاتقه التصدّي لهذا التيار المدمِّر والمتطرِّف والمتخلِّف، فمن المحتمل جدّاً أن نشهد تدريجياً استشراء ظاهرة التشيُّع الحيدرآبادي (وهو أكبر مركز للشيعة في الهند يضمّ أكثرية شيعية تتبنّى تفسيراً مغلوطاً لبعض الأخبار، كقوله|: «حبّ عليٍّ حسنة لا تضرّ معها سيئة»، حيث أباحوا فعل المنكرات، وأهملوا المناسك والعبادات، كالصلاة وغيرها، بشكلٍ عَلَني، متفاخرين بذلك، حيث قرنوا بين المتمسِّك بالولاية وبين تارك الصلاة)، وبالتالي اضمحلال أهمّ الأركان العبادية التي نصَّتْ عليها الشريعة الإسلامية، والتي تشكِّل حدّاً فاصلاً بين الإيمان والكفر، والتي تعتبر شعار المسلمين وعنوانهم ورمز وحدتهم، وانضواءها تحت هيمنة بعض الطقوس والشعائر، التي باتت تعرف اليوم بـ «الولاية»، أو «الإخلاص للصدِّيقة الطاهرة أو سيد الشهداء أو وليّ الأمر (سلام الله عليهم أجميعن)»، ومحاولة تكريسها، لتستحيل شيئاً فشيئاً إلى أهمّ شعيرةٍ من شعائر المذهب، وأبرز دعامة من دعاماته، إلى درجة أن الناظر من خارج دائرة الإسلام إلى هذه الشعائر والطقوس قد يجد في المستقبل صعوبةً بالغة في العثور على عاملٍ مشترك بين هذا المجتمع وبين المجتمع الإسلامي الأكبر.
وما لم يتمّ إيقاف حريق الجهل والتخلُّف هذا فلا نستبعد أن تتحوَّل المنطقة، التي كانت يوماً ما تشهد تجسيداً لصورةٍ طاهرة نقيّة عقلانية رفيعة، مثَّلَتْ مفهوم أهل البيت عن الإسلام، أن تتحوَّل هذه البقعة إلى شبه جزيرة هندية، ينتشر في أرجائها مئاتٌ من مدَّعي النبوّة أو الألوهية، ولكلٍّ منهم أشياع وأتباع تجري خلفه.
وحينما كان التشيُّع قبل عشرين عاماً يعيش تحدّي الانتشار في الخارج من جهة، وتفشّي مظاهر التطرّف والجهل والتسطيح والسعي لحبس المذهب في الداخل من جهةٍ أخرى (وغالباً ما كان يتمّ بواسطة أطراف لم تكن تجد في نفسها القدرة على مواجهة التحدِّيات، أو أطراف كانت تلهث وراء الشهرة وكسب الجماهير، أو أطراف كانت تنوي الانتقام من الثورة؛ لأسباب شخصية ودواعٍ نفسية، فساهمت جميعها في تكريس الجهل والتطرُّف والتسطيح العلمي، على حساب المصلحة العليا للإسلام والتشيّع)، لطالما وقفتُ وتأمَّلْتُ مع نفسي، فلربما يمكن الوقوف بوجه الإعصار من خلال إحياء الفكر الثقليني، وبالتالي العودة إلى شيءٍ من الاعتدال والعقلانية، التي كانت تسود أجواء مدرسة قم في عهد السيد البروجردي.
وانطلاقاً من هذه الفكرة قضَيْتُ عامين كاملين في تتبُّع المصادر، واستقصاء الموادّ؛ للخروج بكتابٍ يحتوي حقيقة التشيُّع بحَسَب ما أراه، لكنّ إصابتي في عيني بداية ربيع هذا العام حالَتْ دون إتمام المشروع. لكنْ وبصراحةٍ أقول: إنّ التجربة أثبتت خطأ هذه الرؤية، فإنّي اليوم لا أجد في الأفق أيَّ أَثَرٍ لما كنتُ أطمح إليه.
إن أتباع التيّار المنحرف، الذين استحوذوا اليوم على التشيُّع، فكراً وممارسةً، وأصبح لكلمتهم نفوذٌ، ولسلوكهم صدىً، لا تثنيهم فتوى عالم أو إرشاد مرشد، ليسوا من ذوي الرأي والحوار، استمالوا السُّذَّج من الناس، وتدرَّعوا بهم، كمَّموا أفواه المخالفين بكل الوسائل، فلا يكاد من العلماء أو زعماء الفكر الشيعي من يجد نفسه اليوم قادراً على ردع هذا التيّار أو الوقوف بوجهه.
وهذا الواقع قد يقطع لدينا الأمل في حصول تطوُّرٍ ما، أو ظهور نسق فكري شيعي أكثر تألُّقاً وشمولاً، وأقدر على العودة بالواقع الحالي إلى عهد العقلانية والاعتدال، على الأقلّ لا أظنّ حصول ذلك في السنوات التي بقيَتْ من عمري، ولا أتوقَّع حصوله في عهدكم أيضاً.
(*) من أشهر وأبرز الباحثين في التراث الشيعي وتطوُّراته التاريخيّة، وأحد أبرز الأساتذة الإيرانيّين في الجامعات الأمريكيّة اليوم. له أعمالٌ علميّة تراثيّة تحقيقيّة مشهودة.