د. الشيخ عبد الحسين خسروپناه(*)
الهرمنيوطيقا ــــــ
إن لماهية الهرمنيوطيقا من وجهة نظر القائلين بها ـ طبقاً لتقدّم التصوّر على التصديق ـ حقّ التقدّم. من هنا يجب قبل كل شيء التعرف على المعاني اللغوية والاصطلاحية للهرمنيوطيقا.
المعنى اللغوي للهرمنيوطيقا ــــــ
إن الـ «هرمنيوطيقا»([1]) مفردة إغريقية، مشتقة من الـ «هرمنيون»([2])، بمعنى التفسير. ويُعتبر الاسم «هرمنيا»([3]) بمعنى «التفسير»([4]). وقال الأستاذ «أنطوني كرباي»: إن جذور كلمة الهرمنيوطيقا تعود إلى الكلمة الإغريقية (Hermeneuein) التي تعني التأويل أو الترجمة، أو الإيضاح والبيان والشرح والتفسير([5]). كما قام «أرسطوطاليس» بتعريف جزء من منطق أرغنون، تحت عنوان «باري هرميناس»([6])، بمعنى «في مجال التفسير». كما يرتبط لفظ الهرمنيوطيقا بكلمة «هرميس»([7])، إله المراسلات في الأساطير اللاهوتية الإغريقيّة([8])؛ لأن هرميس يقوم بمهمة إبلاغ وبيان وإيضاح رسائل الآلهة، والحقائق البعيدة عن متناول فهم الإنسان، فيعمل هرميس على إبلاغ خطاب الآلهة بشكلٍ يجعله قابلاً لفهم الإنسان. وعليه يجب أن يكون هرميس على علم كامل بلغة الآلهة من جهةٍ، ولغات بني البشر من جهةٍ أخرى؛ كي يتمكن من القيام بمهمته. وتتّضح نسبه الهرمنيوطيقا إلى هرميس، من حيث إنها تسعى إلى بيان مسار وآلية فهم اللغة وقواعدها للمستفهمين، وتعمل على إيضاح مهمة هرميس في عملية فهم معاني الألفاظ والكلمات. إذن فاللغة ستكون واسطة انتقال رسالة الآلهة، وسوف يكون لها مكانة خاصة في أبحاث الهرمنيوطيقا. وبطبيعة الحال هناك ثلاث حقول للغة، وهي:
1ـ مجال إظهار وبيان العبارة.
2ـ مجال ترجمة العبارات من لغةٍ إلى لغة أخرى.
3ـ توضيح وتبيين العبارة.
والهرمنيوطيقا تهتمّ بجميع هذه الحقول الثلاثة([9]).
وقد تعرّض إفلاطون في رسالة كراتولوس أو كراتيلوس إلى بعض الأبحاث اللغوية والقواعد الهرمنيوطيقية، حيث نقل على لسان «كراتولوس» أن الاسم الصحيح لكل شيء هو الاسم الذي خلعته عليه الطبيعة، لا الاسم الذي تواضع عليه عدد من الناس في لغتهم؛ لأن لكل مفردة معنى طبيعياً. وهكذا فقد تحدَّث هرموغينس إلى سقراط بشأن التوافق والتواضع بوصفه معياراً لصحة المعنى([10]).
المعنى الاصطلاحي للهرمنيوطيقا ــــــ
هناك الكثير من التعاريف للهرمنيوطيقا، وكلّ واحدٍ منها يشير إلى مساحة ودائرة موسّعة أو مضيّقة للهرمنيوطيقا.
وقد بيّن «ريتشارد بالمر» هذه المعاني على النحو التالي([11]): يذهب ريتشارد بالمر إلى الاعتقاد بأن لفظ الهرمنيوطيقا رغم الاعتبار الشائع في رجوعه إلى القرن السابع عشر الميلادي، بَيْدَ أن آلية التفسير ونظريات التأويل ـ الديني والأدبي والحقوقي ـ تعود إلى العهود القديمة، بل هناك نسبة هرمنيوطيقية حتّى بين العهد القديم والعهد الجديد، إلى الحدّ الذي يقوم فيه السيد المسيح عيسى× ـ بالالتفات إلى نبوءات الكتب وشرائع الأنبياء ـ بشرحها لليهود. من هنا يمكن اعتبار علم الكلام ـ في مقام المؤوِّل والمفسر التاريخي للكتاب المقدّس ـ مساوقاً لعلم الهرمنيوطيقا.
علم الهرمنيوطيقا بوصفه منهجاً لتفسير الكتاب المقدّس ــــــ
لقد أصدر «دان هاوير»([12]) عام 1654م كتاباً للمرّة الأولى يحمل عنوان «الهرمنيوطيقا المقدّسة»، أو «تأويل النصوص المقدّسة»، حيث عمد إلى فصل علم الهرمنيوطيقا عن علم التفسير، بمعنى أن علم الهرمنيوطيقا هو بحكم منهج التفسير والتأويل؛ إذ يُبيِّن القواعد والأساليب التفسيرية، وأما علم التفسير فهو يباشر عملية تفسير النصّ بالفعل. وبهذا المعنى يكون علم الهرمنيوطيقا هو المنهج الذي يتبنّاه المفسِّر أو الذي يقوم بتأويل النصّ؛ للوصول إلى المعنى المكنون.
علم الهرمنيوطيقا بوصفه منهجاً لغوياً ــــــ
إن هذا الفهم حوَّل علم الهرمنيوطيقا من كونه نظرية في تفسير الكتاب المقدّس إلى ما يُساوق القواعد العامة للتفسير اللغوي، وجعل من الكتاب المقدّس واحداً من الموضوعات الممكنة لهذه القواعد؛ لأن ظهور العقلانية وعلم اللغة والمدارس النحوية والتاريخية في القرن الثامن عشر الميلادي أثبت أن المناهج التأويلية المستعملة في تفسير الكتاب المقدّس هي ذات المناهج المستعملة في الكتب الأخرى. وعلى حدِّ تعبير إسبينوزا: إن معيار تفسير الكتاب المقدّس لا يمكن له أن يكون سوى ذاك النور العقلي الذي يشترك فيه الجميع.
علم الهرمنيوطيقا بوصفه علم فهم اللغة ــــــ
يسعى هذا الفهم إلى الذهاب لأبعد من مفهوم الهرمنيوطيقا بوصفه ركاماً من القواعد، وتحويله إلى علمٍ منظّم ومنسجم. وبعبارةٍ أخرى: إن الهرمنيوطيقا علم يصف شرائط الفهم في كلّ عمليةٍ حوارية بين طرفين. وعليه فإن نتيجة هذا الفهم لا تقتصر على الهرمنيوطيقا اللغوية فقط، بل نتيجته أن يغدو علم الهرمنيوطيقا علماً عاماً، ويمكن لأصوله وقواعده أن تكون مبنى لجميع أنواع تأويل النصّ. إن هذه الرؤية التي قدّمها «شلاير ماخر» يجب تفصيل الكلام بشأنها ضمن عنوان مستقلّ.
علم الهرمنيوطيقا بوصفه قاعدة منهجية للعلوم الإنسانية ــــــ
إن علم الهرمنيوطيقا في مدرسة «ويلهم ديلتاي» علم مضبوط وجذري، يمكنه أن يشكّل قاعدة لجميع العلوم الإنسانية.
علم الهرمنيوطيقا بمنزلة الفينومينولوجيا([13]) لفهم الوجود ــــــ
عمد «مارتن هايدغر» ـ من خلال توظيفه لفينومينولوجيا أستاذه «هوسلر» ـ إلى مطالعة ظواهر الوجود، وكان من ثمار ذلك صدور كتابه «الوجود والزمان» سنة 1927م. إن علم الهرمنيوطيقا في مدرسة هايدغر لا يُعنى بقواعد التأويل، ولا بمناهج العلوم الإنسانية، وإنما يُعنى بتوضيح مظاهر وجود الإنسان، حتّى يصل بعلم الهرمنيوطيقا في نهاية المطاف إلى وجودية الفهم. وقد قام «هانس جورج غادامير» بإخراج علم الهرمنيوطيقا لهايدغر في إطار منظّم في مجال الهرمنيوطيقا الفلسفية في كتابه «الحقيقة والمنهج» عام 1960م. وكان هو أول مَنْ قدم تقريراً تاريخياً مناسباً لعلم الهرمنيوطيقا.
علم الهرمنيوطيقا بوصفه نظاماً تأويلياً ــــــ
قدّم «پول ريكور» في كتابه «في باب التأويل» تعريفاً للهرمنيوطيقا، يُشير إلى الاهتمام بتفسير النصّ بوصفه عنصراً متميِّزاً ومعرّفاً في علم الهرمنيوطيقا. إن مراد «ريكور» من الهرمنيوطيقا نظرية القواعد الحاكمة على التفسير، أو بعبارة أخرى: تأويل نصّ خاص أو مجموعة من الدلالات التي تتمّ ملاحظتها بمنزلة النصّ.
المسار التكاملي للهرمنيوطيقا ــــــ
اتّضح ـ ممّا تقدّم ذكره ـ المسار التكاملي الذي قطعه مصطلح الهرمنيوطيقا عبر التاريخ. كما حصلنا من كتاب «علم الهرمنيوطيقا»، لريتشارد بالمر، على المعاني الستة له أيضاً.
ويبدو لي أن بالإمكان بيان المسار التكاملي لهذا المصطلح على النحو التالي:
لقد كان أرسطوطاليس هو أول مَنْ استخدم مصطلح الهرمنيوطيقا، حيث عمد في باب منطق القضايا من كتاب أرغنون إلى تسميته «باري هرميناس»([14])، والذي يعني «في مجال التفسير». ولكنْ بعد ظهور عنوان الهرمنيوطيقا على يد «دان هاور» سلك طريقاً علمياً، وبدأ بالتحوّل والتطوّر، حتّى وصل إلى مرحلة الهرمنيوطيقا المعاصرة. وبطبيعة الحال يمكن العثور على جذور الهرمنيوطيقا المعاصرة في أفكار وكتابات «نيتشه»([15]). وقد كان لعلم الهرمنيوطيقا طوال تاريخه القصير تعاريف متنوّعة ومتفاوتة، وصار منشأً للكثير من الاتجاهات والمسالك؛ إذ قام كلّ تعريف بتعيين دائرة الهرمنيوطيقا وأهدافه ووظائفه الخاصة.
لقد استعمل مصطلح الهرمنيوطيقا في العصور الوسطى بمعنى تفسير وتأويل الكتاب المقدّس. فقد عرَّف «مارتين كلادنيوس(1710 ـ 1759م)» الهرمنيوطيقا بأنه فنّ التفسير والتوصّل إلى الفهم الكامل وغير المبهم للنصوص الشفهية والتحريرية.
وقد ذهب «أوغسط وولف»، في الأعوام من عام 1785 وحتّى عام 1807م، إلى أنّ الهرمنيوطيقا هي العلم بقواعد اكتشاف أفكار المؤلِّف والمتكلِّم.
واعتبره «شلاير ماخر(1768 ـ 1834م)» بمنزلة المنهج الذي يحول دون الوقوع في مخاطر سوء الفهم.
وقد استعمل «وليهالم دلتاي» الهرمنيوطيقا بوصفه وسيلة للتعرف على أساليب العلوم الإنسانية في مقابل معرفة أساليب العلوم الطبيعية.
وقد خصّص كلٌّ من: هايدغر وغادامير الهرمنيوطيقا بالفهم وتبيين ماهية الفهم، وعمدا إلى تحويلها من منهج إلى فلسفة. إن غادامير ـ على غرار هايدغر ـ لم يكن بصدد بيان أسلوب لفهم النص، أو معرفة أساليب العلوم الإنسانية، وإنما هو الآخر كان بصدد العثور على بنية لمعرفة الوجود، مع فارق أنه كان بصدد العثور على معرفة أنطولوجيا الفهم. وحيث إنه كان يرى الفهم تفسيرياً وتأويلياً([16]) على الدوام كان يتحدّث عن ماهية التأويل والتفسير أيضاً. وكان هايدغر يبحث في ماهية الفهم بوصفه هدفاً متوسّطاً، وفي ضمن تحليل البنية، ولغرض الوصول إلى الاستفهام عن معنى الوجود، في حين أن الهدف الرئيس الذي ينشده غادامير هو تبيين حقيقة الفهم وقواعده الأنطولوجية. إن غادامير ـ خلافاً لديلتاي ـ لم يعمد إلى السير نحو الحقيقة من خلال معرفة أساليب العلوم الإنسانية، وإنما كان يسعى إلى البحث عن معرفة الفهم والأساليب من خلال أنطولوجيا الفهم. ومن هنا فقد أطلق على كتابه عنوان «الحقيقة والمنهج»([17]).
وأما «پول ريكور» الفرنسي، وفي معرض تأثُّره بـ «هايدغر»، فلم يواصل تحليل الوجود، وواصل البحث عن الأنطولوجيا من طريق معرفة المفاهيم، ورأى أن الوصول إلى معرفة الوجود لا محالة يتمّ عبر معرفة المفاهيم([18]).
ومن هنا فقد تطوّرت التعاريف المختلفة للهرمنيوطيقا على النحو التالي: فنّ تفسير الكتاب المقدّس، وفنّ تفسير النصوص، والعلم بقواعد فهم النصوص، وأسلوب الحيلولة دون سوء الفهم، وتبيين ماهية الفهم.
وإن كل واحد من هذه التعاريف المتقدّمة تغيِّر من مساحة وأهداف الهرمنيوطيقا. لقد كانت الهرمنيوطيقا في بداية أمرها تسعى إلى الحصول على أسلوب يوصلها إلى الفهم الصحيح للنصوص الدينية والكتاب المقدّس، ثمّ واصلت طريقها في تفسير مطلق النصوص، لتنتقل في المرحلة الثالثة إلى التأسيس للقواعد المنهجية لفهم النصوص. فمنذ عصر «دلتاي» كان الهدف الرئيس للهرمنيوطيقا هو تدوين منهج للحصول على العلوم الإنسانية المعتبرة. وفي جميع هذه المراحل كان كشف مراد المتكلم أو المؤلف هو المهمّ. بَيْدَ أنه منذ عصر «هايدغر» و«غادامير» و«ريكور» و«دريدا» تمّ التأسيس للهرمنيوطيقا الفلسفية، حيث صاروا إلى تقديم رؤية توصيفية وأبستيمولوجية بالنسبة إلى ماهية الفهم، وشرائط حصوله، بعيداً عن صحّة الفهم أو سقمه.
وعلى هذا الأساس تكون الهرمنيوطيقا قد سلكت مرحلتين، وهما: الهرمنيوطيقا المنهجية؛ والهرمنيوطيقا الفلسفية. والنوع الأول من الهرمنيوطيقا قد تجاوز مساحات مختلفة، حيث كان في بداية الطريق يخصّ النصوص المقدّسة، وفي منتصف الطريق اتّسع ليشمل مطلق النصوص، وفي نهاية الطريق صار يشمل مطلق العلوم الإنسانية.
اتضح مما تقدَّم أن الهرمنيوطيقا الفلسفية أوسع شمولية من الأنواع الأخرى للهرمنيوطيقا المنهجية؛ لأن الهرمنيوطيقا الفلسفية تشمل جميع المعارف والعلوم الإنسانية والنصوص التحريرية، وحتّى الفنون وجميع الظواهر أيضاً، بينما تقتصر الهرمنيوطيقا عند «ديلتاي» على العلوم الإنسانية فقط، وتقتصر الهرمنيوطيقا عند «شلاير ماخر» على النصوص الأدبية، وتقتصر الهرمنيوطيقا عند «كلادنيوس» على النصوص الدينية المقدّسة.
وفي تقسيمٍ آخر تجاوزت الهرمنيوطيقا ثلاث مراحل على النحو التالي:
المرحلة الأولى: الهرمنيوطيقا التقليدية، التي كانت تسعى إلى تقديم أسلوب ومنطق لتفسير النصوص المقدّسة ومطلق النصوص.
المرحلة الثانية: الهرمنيوطيقا الرومنطيقية، التي بدأها «شلاير ماخر»، وسعى فيها ـ بدلاً من تقديم منهج للفهم ـ إلى تقديم منهج للحيلولة دون الوقوع في سوء الفهم، أو قام بطرح تفسير فنّي للهرمنيوطيقا. وبعد شلاير ماخر عمد «ديلتاي» إلى مواصلة مسار الهرمنيوطيقا الرومنطيقية، وقام بتعميمها على العلوم الإنسانية. وقد تأثّرت الهرمنيوطيقا في هذه المرحلة بالنهضة الرومنطيقية في القرن الثامن عشر الميلادي.
المرحلة الثالثة: الهرمنيوطيقا الفلسفية، التي بدأت بـ «هايدغر» في أوائل القرن العشرين الميلادي، واستمرّت بمساعدة كلّ من: «غادامير» و«ريكور» و«دريدا».
وقد ذهب «أنطوني كرباي» إلى القول: «تبدأ الهرمنيوطيقا ـ بوصفها أسلوباً ومنهجاً ـ من تأويل النصوص المقدّسة، وبذلك تقترب من فقه اللغة. وقد أدّى جدل الحركة الإصلاحية بشأن حكم الكنيسة الكاثوليكية ـ القاضي بأن الكنيسة هي وحدها مَنْ تتمتّع بصلاحية تأويل الكتاب المقدّس ـ من خلال إصرار البروتستانت على كفاية النصّ المقدّس بذاته، وعقدهم العزم على إثبات وضوح أساس الكتاب المقدّس، إلى بلوغ النتائج المطلوبة. إن الهيكل العام للنظرية والنتيجة الحاصلة من هذه المباحثات أدّى إلى التأسيس للهرمنيوطيقا. إن التنظيم التدريجي لهذه العناصر، وتحوّلها إلى أسلوب لتأويل النصّ في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، أضفى عليها شكل نظرية فلسفية أكثر شمولية، حيث كانت تؤكّد على الأهمية القاطعة لأكثر الجهود والثقافات البشرية، إذا لم نقُلْ: جميعها. لقد اكتسبت الهرمنيوطيقا بفعل زخم وقوّة المؤلفات الأولى لـ «مارتن هايدغر» صيغة فلسفة عامة للفهم الإنساني، حيث اشتملت على إشارات ودلالات لكلّ أسلوب وفرع يتعاطى مع التأويل أو اللغة أو المذهب أو أيّ معطى من المعطيات الإنسانية. وقد كان «فريدريك شلاير ماخر» هو أول باحث سعى إلى بناء نظرية عامّة للتأويل، بحيث يمكن تطبيقها حتّى في مورد النصوص غير الدينية. كما اكتسبت الهرمنيوطيقا على يد ألماني آخر وهو «ويلهالم ديلتاي» موقعاً أكثر شمولية، حيث ذهب ديلتاي إلى الاعتقاد بأن العلوم الإنسانية بأجمعها تخضع في المستويات الجذرية لمفهوم الهرمنيوطيقا في ما يتعلّق بتأويل الكلام الإنساني. وقد حظيت الهرمنيوطيقا في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي ـ ولا سيَّما في ألمانيا ـ؛ بوصفها أسلوباً فلسفياً لا يقتصر على النصوص القديمة، بل يشمل جميع الدراسات الإنسانية، باعتبارٍ كبير جدّاً. كما كانت الهرمنيوطيقا في القرن التاسع عشر الميلادي متَّهمة بإيمانها التاريخي أيضاً، والذي على أساسه لا نمتلك أي حقيقة خارجية؛ لأن تأويلاتنا تكون على الدوام محدودة بظرفنا التاريخي، وكذلك بالقيود التي تفرض نفسها على تصوراتنا وميولنا ورغباتنا الحقيقية. لقد أقام «هايدغر» نوعاً من الهرمنيوطيقا غير الذهنية، حيث يؤكّد على التقيُّد المكاني التام والكامل في التاريخ واللغة. وقام «غادامير» ـ تلميذ «هايدغر» ـ بمواصلة مسيرة أستاذه، وقال بأن هدف التأويل ليس هو نوايا المؤلِّف، وإنما هو ذات النصّ»([19]).
وأرى أن كلا نوعي الهرمنيوطيقا ضروريٌّ في العصر الراهن، سواء في ذلك الهرمنيوطيقا المنهجية ـ الأعمّ من معرفة أساليب النصوص المقدسة أو مطلق النصوص أو مطلق العلوم الإنسانية ـ والهرمنيوطيقا الفلسفية، في إطار تبيين ماهيّة فهمها وشرائط حصولها.
مسائل الهرمنيوطيقا ــــــ
إن اختلاف معاني الهرمنيوطيقا ومساحتها المفهومية يؤدّي إلى جعل دائرة المسائل الهرمنيوطيقية بدورها مختلفة أيضاً. لا شَكَّ في أن مسائل الهرمنيوطيقا في تعريف «هايدغر» و«غادامير» أوسع دائرة من تعريف «ديلتاي»، كما أن مسائل الهرمنيوطيقا في تعريف «ديلتاي» أوسع دائرة من مسائل الهرمنيوطيقا في تعريف «شلاير ماخر»؛ وذلك لأن الأسلوب اللغوي أضيق من الأسلوب الكلامي، والأسلوب الكلامي أضيق من أساليب العلوم الإنسانية، وأساليب العلوم الإنسانية أضيق من أساليب الفهم الإنساني. وعلى الرغم من ذلك فبالإضافة إلى توصيف وتبين وتحليل الاتجاهات المختلفة للهرمنيوطيقا، مثل: هرمنيوطيقا شلاير ماخر، وديلتاي، وهايدغر، وغادامير، وريكور، وهيرش، وغيرهم، لا بُدَّ من النظر في المسائل التالية في إطار الهرمنيوطيقا:
1ـ حقيقة وماهية الفهم، ومسار ظهوره ــــــ
يصل «هايدغر» من خلال البنية الوجودية والإنسان إلى رؤية خاصة للفهم، وتقدّم الفهم على اللغة، بل والتفسير أيضاً. وقد عمد «غادامير» من خلال طرحه للدور الهرمنيوطيقي إلى تفسير حقيقة الفهم باقتران أفقَيْ المعنى بين المفسِّر ونصّ التفسير.
والآن علينا أن نرى ما إذا كان يمكن تجريد حقيقة الفهم من أيّ نوع من الفرضيات المسبقة، والحصول على فهمٍ خالص للنصّ؟
وأساساً لا بُدَّ من التساؤل والقول: ما هو دور الفرضيات المسبقة في فهم النصّ؟ هل الفهم عبارة عن الحصول على المعنى الأخير للنصّ، أم هو مجرد مراد المتكلِّم؟ وهل للنصّ معنى واحد يقف عنده أو يمكن أن ننسب إلى النصّ ما لا نهاية له من المعاني؟
يتمّ بحث هذا النوع من الأسئلة ونظائرها في الهرمنيوطيقا.
2ـ معيار الفهم ــــــ
أما البحث الآخر فيعود إلى تقييم الفهم، وبيان ملاك الفهم الصحيح، وتمييزه من الفهم السقيم. هل أنّ هناك معياراً لاكتشاف الفهم الصحيح أم لا؟ وكيف يمكن الجواب عن النزعة النسبية في الفهم؟
3 ـ قواعد الفهم ــــــ
هناك قسمٌ هامّ من مباحث الهرمنيوطيقا يتعلق بقواعد الفهم المضبوط للنصّ، والسؤال عن القواعد الاستخراجية والاستنباطية والاستفهامية. وبعبارةٍ أخرى: ما هو منطق فهم اللغة؟
ويمكن لمباحث علم أصول الفقه والعلوم القرآنية أن تقدِّم الكثير من المعلومات لهذا القسم من المباحث الهرمنيوطيقية.
هرمنيوطيقا الأستاذ معرفت ــــــ
قال الأستاذ معرفت في بيان تعريف الهرمنيوطيقا: «عنوان أطلقه أصحاب الدراسات اللاهوتية تعبيراً عن مجموعة القواعد والمعايير التي يجب أن يتَّبعها المفسِّر لفهم النص الديني؛ ليكون مضبوطاً وقائماً على أسس حكيمة، دون التبعثر والتشتُّت في الآراء والأفهام. وأكثرها اعتباطٌ أو تحكيم للرأي على النصّ»([20]).
وبطبيعة الحال فقد كان الأستاذ معرفت منتبهاً إلى الدائرة المفهومية الواسعة لرقعة الهرمنيوطيقا، ومن هنا نجده يقول: «وقد اتّسع مفهوم هذا المصطلح في تطبيقاته الحديثة، وانتقل من مجال علم اللاهوت إلى دوائر أكثر اتّساعاً، ليشمل كافة العلوم الإنسانية، كالتاريخ وعلم الاجتماع والإنثروبولوجيا وفلسفة الجمال والنقد الأدبي والفولوكلور»([21]).
وقد عمد الأستاذ معرفت إلى التعريف بنوعين آخرين من أنواع الهرمنيوطيقا بلحاظ مفهوم النصّ:
الأوّل: الهرمنيوطيقا التي هي ـ تَبَعاً للحصول على المعنى ـ عبارةٌ عن طريق تجميع الأدلّة التاريخية واللغوية التي تساعد القارئ أو السامع على الفهم الخارجي للعبارة.
والثاني: يأتي تَبَعاً لتأويل النصّ والعبارة، لتغدو صالحة للاشتمال على المعنى في كل الظروف والشرائط، بحيث تكون نافعة لحل مشاكل الإنسان في جميع العصور.
وبطبيعة الحال فإن المفسِّر الإسلامي كان ولا يزال مهتماً بالقرائن التاريخية واللغوية في فهم النصوص، كما أنه لم يكن غافلاً عن التفاسير الاجتهادية وتأويل الآيات([22]).
يُشير الأستاذ معرفت إلى العناصر الثلاثة المتمثِّلة بـ «المؤلِّف»، و«النصّ»، و«المفسِّر»، أو القصد والنصّ والتفسير، وهي التي تقع مورد اهتمام الهرمنيوطيقيين.
وبعد بيان هذه العناصر الثلاثة قام سماحته بطرح الأسئلة القائلة: هل هناك من علاقة بين المؤلف والنصّ؟ وهل يمكن اعتبار النصّ الأدبي للمؤلف مساوقاً لقصده العقلي؟
وإذا كان الجواب بالإيجاب فهل يمكن الوصول إلى مداليل النصّ من خلال القواعد العامة للتحاور؟
وإذا تمّ إنكار التطابق التامّ بين قصد المؤلِّف والنصّ فهل يكون هذان العنصران متمايزان ومنفصلان عن بعضهما تماماً، أم يبقى هناك شيءٌ من الصلة بينهما؟
وبطبيعة الحال إذا اتجهت الأسئلة إلى العلاقة والارتباط بين المؤلِّف والنصّ والناقد أو المفسِّر فسيغدو البحث أكثر تعقيداً([23]).
وبعد بيان الأستاذ معرفت لرؤية «نصر حامد أبو زيد» و«شلاير ماخر» أشار إلى القواعد المختلفة لهرمنيوطيقا النص الديني، وذلك كما يلي:
1ـ قاعدة لغة الوحي ــــــ
لا شَكَّ في أن لغة الوحي هي لغة العُرْف العام؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول:
ـ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ (إبراهيم: 4).
ـ ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (الدخان: 58).
ـ ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ (لقمان: 17).
ـ ﴿قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ (الزمر: 28).
وقد روى أبو الفتح الكراجكي بإسناده عن رسول الله| أنه قال: «إن الله سبحانه أنزل القرآن عليَّ بكلام العرب والمتعارف من لغتها»([24]).
2ـ قاعدة مراتب المعنى ــــــ
إن لكلام ولغة القرآن الكريم دلالات طولية ومتراتبة ومترابطة؛ بعضها ظاهر وسطحي؛ وبعضها الآخر باطني وعميق. وهذا ما أشار له الله في محكم الذكر قائلاً: ﴿أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ (الرعد: 17).
وقد ذكر الأستاذ معرفت هذه الدرجات المختلفة والمراتب المتفاوتة لمعاني القرآن وأبعاده المعرفية عن الراغب الإصفهاني؛ إذ يقول: البلغاء يحصلون من القرآن على الفصاحة، والفقهاء على الأحكام الشرعية، والمتكلِّمون على البراهين العقلية، والمؤرِّخون على القصص القرآني، وهكذا الشأن بالنسبة إلى سائر أصحاب الاختصاصات الأخرى.
ورُوي عن الإمام الصادق× أنه قال: «كتاب الله ـ عزَّ وجلَّ ـ على أربعة أشياء: على العبارة، والإشارة، واللطائف، والحقائق. فالعبارة للعوام، والإشارة للخواص، واللطائف للأولياء، والحقائق للأنبياء»([25]).
إن مسألة ظاهر وباطن القرآن من الأمور التي أكَّد عليها النبيّ الأكرم| في مختلف المواطن، ولفت انتباه الأمة الإسلامية لها([26]).
3ـ قاعدة الجَرْي والتطبيق ــــــ
إن مسألة الجَرْي والتطبيق من المسائل الهامّة الأخرى في فهم النصوص الدينية. وعلى هذا الأساس يتمّ أوّلاً تأويل الكلام إلى مفهومه العام، ثمّ يُصار بعد ذلك إلى تطبيقه على موارده الذاتية ومصاديقه التامّة. فعلى سبيل المثال: جاء في حديث عن الإمام الصادق× في تفسير قول الله: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ﴾ (النحل: 43؛ الأنبياء: 7) أنه قال: «نحن أهل الذكر، ونحن المسؤولون»([27]).
إن حقيقة الأمر أن المفهوم في هذه الآية عامّ، بَيْدَ أن هذا المفهوم العام يتمّ تطبيقه على أئمة المسلمين^؛ بوصفهم المصداق الأكمل لهذا المفهوم، لا أن مراد الآية ينحصر في هذا المصداق الأتمّ([28]). إن قاعدة الجَرْي والتطبيق تساعد القارئ أو السامع على أن لا يفقد المفهوم العام للآية، وأن يعمل من خلاله على اكتشاف المصاديق الأخرى له من طريق الاجتهاد. وبذلك تكون هذه القاعدة من القواعد الهامة للهرمنيوطيقا المنهجية.
4ـ قاعدة مفهومية النصوص ــــــ
لقد عمد الأستاذ معرفت إلى رفض النظرية السفسطائية التي صدع بها بعض المستنيرين، والتي تفرِّغ الألفاظ والعبارات من أيّ مضمونٍ أو معنى؛ إذ قال في هذا الشأن: «نعم، كانت الحاجة إلى التفسير من قبل أنّ الوحي القرآني لمّا كان كتاب هداية وتشريع فرُبَما اقتطف من قصص الماضين مواضع العِبَر منها، كما اقتصر على بيان أصول التشريعات، وأحال التفصيل إلى بيان الرسول، وغير ذلك من أسباب أوجبت إجمالاً أو إبهاماً في طرفٍ من آي الذكر الحكيم، الأمر الذي يقوم بتبيينه وتفصيله المفسِّر المضطلع الخبير. وأوَّل المفسِّرين هو النبيّ الكريم|، حيث قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (النحل: 44)»([29]).
5ـ قاعدة تناسب آيات القرآن ــــــ
يذهب الأستاذ معرفت إلى الاعتقاد بأن آيات القرآن الكريم ـ رغم نزولها على مدى 23 سنة بشكلٍ تدريجي؛ طبقاً للمصالح الخاصة، وإنْ كانت حقيقة القرآن الكريم وروحه ولبابه قد نزلت على رسول الله| دفعةً واحدة ـ كانت آياته تنزل متفرّقة، وأحياناً على شكل مجموعات ونجوم من عشر آيات أو خمسين آية جملة واحدة، أو سورة كاملة، وفي زمنٍ خاصّ ومناسبةٍ خاصّة. وقد تكون مناسبة نزول آية تخالف وتغاير مناسبة نزول آية أخرى. بَيْدَ أن ضرورة وحدة الموضوع تقتضي أن تكون هناك مناسبة وسنخية بين آيات المجموعة الواحدة؛ لأنها قد نزلت في فترةٍ واحدة ومناسبة واحدة وعلى نحوٍ متتابع. ويقوم الافتراض على أن آيات هذه المجموعة الواحدة تمثِّل أجزاء كلام واحد، وعلى هذا الأساس هناك ضرورةٌ لأن تكون هناك مناسبة بين أجزاء تلك المجموعة. من هنا فإن وحدة الموضوع بين أجزاء المجموعة ومسانختها وانخراطها ضمن كلام واحد تبرزها على شكل كلام واحد، يرمي إلى تحقيق غاية واحدة، وبذلك يكتسب في حدِّ ذاته وعلى نحو الاستقلال وحدة ذاتية([30]).
وقد عمد الأستاذ معرفت إلى بحث ودراسة التناسب القائم بين آيات القرآن الكريم من زاوية مختلف الجهات التالية:
ـ أحياناً يكون البحث بشأن التناسب القائم بين الآيات التي نزلت دفعة واحدة وفي زمنٍ واحد.
ـ يتمّ البحث أحياناً بشأن الارتباط والتناسب القائم بين آيات سورة واحدة، حيث تكون آيات تلك السورة من بدايتها إلى آخرها مترابطة فيما بينها، ويكون بينها تناسب عقلائي؛ وذلك لأن السورة تعني أنها عبارة عن مجموعة واحدة، وقد ضمنت هذه الوحدة في إطار السورة، بحيث تضفي عليها كمّية وكيفية خاصّة، سواء من ناحية مراد الآيات أو من ناحية أسلوبها أو سنخيّتها. وعلى هذا الأساس يجب أن تكون هناك وحدة جامعة بين آيات السورة الواحدة بحيث تضمّ جميع هذه الآيات.
ـ وأحياناً يكون التناسب والترابط بين سياق كلّ آيةٍ والكلمة الأخيرة منها، أو بين سياق وفواصل الآيات؛ إذ إنّ التناسب بين سياق الآيات وكلماتها الأخيرة هو أمر ذاتي، بل هو ذات الارتباط والتناسب اللفظي والمعنوي الذي يرفع من شأن الآيات ومقام البلاغة والفصاحة فيها، ويعمل على تكميلها. وبشكلٍ عام فإنّ جمالية وحُسْن الآية يكمن في هذا الترابط والتناسب.
ـ لقد ذهب بعض علماء الإسلام إلى تصوُّر نوع رابع من التناسب بين الآيات، وقالوا بضرورة وجوده وقيامه بين الآيات، وهو عبارة عن ضرورة وجود التناسب بين خاتمة السورة السابقة وبداية السورة اللاحقة. بَيْدَ أن هذه المسألة لا يمكن أن تنطلق من غير التكلُّف، كما أنها لا تنطوي على فائدةٍ كبيرة. وبالإضافة إلى ذلك ليس هناك من دليل يُثبت قيام هذا النوع من التناسب والارتباط الخاصّ بين الآيات([31]).
وبالالتفات إلى هذه الضابطة يمكن الوصول إلى مرتبةٍ من مراتب الفهم، وعلى أساس هذا الفهم يتمّ اعتبار قاعدة التناسب بين الآيات من بين القواعد الهامة في الهرمنيوطيقا المنهجية.
6ـ قاعدة المحكَم والمتشابِه ــــــ
ذهب الأستاذ معرفت ـ طبقاً للآية السابعة من سورة آل عمران ـ إلى القول بأن بعض آيات القرآن الكريم تندرج ضمن المتشابِه الذي يتّخذ ذريعة من قبل البعض لإثارة الفتنة. إلاّ أن المسألة الأهم تكمن في ماهية الآيات المتشابهة. إن الآيات المتشابهة من وجهة نظر معرفت تقع في مقابل الآيات المحكَمة. والآيات المحكمة عبارة عن الآيات الثابتة والراسخة التي لا يمكن للشبهة والخلل أن ينفذ إليها. وعليه يكون معنى الآيات المتشابهة عبارة عن الكلام غير الثابت. وبطبيعة الحال فإن المتشابِه في القرآن ـ من وجهة نظر سماحته ـ قد استعمل بمعنيين:
الأوّل: التشابه والتساوي، كما ورد ذلك في سورة الزمر؛ إذ يقول تعالى: ﴿اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ…﴾ (الزمر: 23).
الثاني: التشابه بمعنى المثير للشبهة، كما هو الحال بالنسبة إلى الكلام أو السلوك الذي يقبل الكثير من الاحتمالات، ولا يُعْرَف المراد منها بالتحديد. وبهذا المعنى ورد قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا﴾ (البقرة: 70)، على لسان بني إسرائيل، حيث أمرهم الله بذبح بقرة، ولم يتبيَّنوا ماهية البقرة التي أمرهم الله بذبحها، وهل المراد منهم ذبح بقرة عادية أو هناك سرٌّ محتجب خلف ستار هذا الطلب؟
وبهذا المعنى تمّ استعمال كلمة «المتشابهات» في الآية السابعة عشرة من سورة آل عمران المباركة.
إن بعض الآيات؛ لاشتمالها على الوجوه المختلفة، تحتوي على ظاهر مثير للشبهة، الأمر الذي وجد فيه المغرضون مادّة للتأويل والفتنة؛ بهدف إضلال البسطاء من الناس؛ وذلك لخفاء الحقيقة، حتّى امتزج الحق بالباطل، واكتسب الكلام والسلوك الحقّ ثوب الباطل. وعليه فالمتشابه بالإضافة إلى الغموض يجب أن ينطوي على مادة لإثارة الشبهة والوقوع في الخطأ والفتنة([32]).
يذهب الأستاذ معرفت ـ بالالتفات إلى ما تقدَّم بشأن الآيات المتشابهة ـ إلى الاعتقاد بأن كلّ متشابِهٍ في القرآن الكريم يحتاج إلى تفسيرٍ لرفع الغموض، وإلى تأويل لدفع الشبهات([33]).
لقد أشار الأستاذ معرفت في كتابه «علوم قرآني» إلى نماذج مختلفة من الآيات المتشابهة. وبطبيعة الحال فإنه يرى أن التشابه في آيات القرآن على نحوين: التشابه الأصلي؛ والتشابه العرضي.
والتشابه الأصلي يعني أن قصور اللفظ يؤدّي بدوره إلى القصور في إفادة المعاني السامية، ويؤدّي أحياناً إلى إثارة الشبهة. وهذه الآيات ترتبط بأصول المعرفة، وهي قليلةٌ جداً.
أما الغالب في الآيات المتشابهة فهي من التشابه العرضي. ويحدث هذا التشابه بفعل اختلاف الآراء وتضارب العقائد وظهور المذاهب والاتجاهات المختلفة، وهو ما حصل في المجتمعات الإسلامية في الأزمنة المتأخرة من عصر النزول، حيث قام كلّ مذهب بالتمسك بآيات القرآن لإثبات أحقّيته، وبذلك تحوَّلت الآيات ـ التي كانت حتى الأمس القريب محكمة ـ؛ بسبب تفسيراتهم الاعتباطية، إلى آيات متشابهة. وإن أكثر الآيات التي تعرف حالياً بوصفها من المتشابهات هي من هذا القبيل([34]).
ومن هذه العبارة التي ذكرها الأستاذ معرفت يتّضح سبب ذهاب بعض المستنيرين إلى القول صراحةً بأن جميع آيات القرآن الكريم متشابهة؛ إذ عندما يتمّ التوهّم بأن نصوص وآيات القرآن صامتة، ويتمّ اعتبار جميع المعارف البشرية وغير الدينية بوصفها هي المؤثِّرة في استنطاق النصوص والمعارف الدينية، لا غرابة في أن تكون جميع الآيات متشابهة، ولن تكون هناك آية محكمة في البين([35]).
وقد عمد الأستاذ معرفت إلى بيان الصفات الإلهية، من قبيل: نفي التحيُّز، والعرش، والفوقية، ورؤية الله، والصفات الخبرية، من قبيل: اليد، والوجه، والساق، والإرادة والاختيار، والإضلال أو الخذلان، والختم والطبع، بوصفها من الآيات المتشابهة([36]).
7ـ قاعدة ضابطة التأويل ــــــ
إن للتأويل ـ كما هو شأن التفسير ـ ضوابط وقواعد، وإن الخطابات العامة المنتزعة من الآية إنما تكون صحيحة إذا كانت منسجمة مع هذه الضوابط والقواعد.
وقد بيَّن الأستاذ معرفت ضابط التأويل قائلاً: «وعليه فللقرآن ظهرٌ حسب التنزيل، وبطن حسب التأويل. وإنما عُبِّر عنه بالبطن لأن هذا المفهوم العامّ إنما استخلص من فحوى الآية استخلاصاً، بإعفاء جوانب الآية المرتبطة بالمناسبات، والتي كادت تجعل الآية خاصّة بها حسب ظاهر التنزيل؛ ليجلوا وجه الآية العام بعد إلغاء الخصوصيات الساترة. فقد كان بطن هذا المعنى العام لمَنْ قصر نظره على ملابسات الآية حسب تنزيلها. أما الذي تعمَّق النظر وتدبَّر فيجد الآية ذات مفهوم واسع سعة الآفاق، الأمر الذي يجعل من القرآن ـ في جميع آيه ـ [كتاباً] ذا رسالة خالدة… خُذْ لذلك مَثَلاً: قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (النحل: 43؛ الأنبياء: 7)، فقد نزلت بشأن المشركين، حيث تشكيكهم في موضع الرسول: هل يصحّ أن يكون من البشر؟ فالآية بمفادها الظاهري ـ حسب تنزيلها ـ نزلت بشأن إزاحة علّة المشركين بالذات، لكنها بفحواها العام تعمّ كلّ جاهلٍ بأصول الديانة أو فروعها، فعليه أن يراجع العلماء في ذلك. وهذه هي رسالة الآية الخالدة»([37]).
وقال سماحته في موضعٍ آخر: «طبقاً لهذا الضابط سوف تكون الكثير من التأويلات والمعاني الباطنية ـ التي ذكرتها الفرق الباطنية المعروفة، والكثير من تأويلات الصوفية المتطرِّفة، والنظريات الهرمنيوطيقية ـ فاقدة للاعتبار. ولن تكون مقبولة أبداً، لا لعدم مراعاتها الضابط المذكور، بل لكونها كذلك تعتبر إسقاطاً على القرآن، ونوعاً من التفسير بالرأي»([38]).
وبطبيعة الحال فإنّ الأستاذ معرفت يميِّز بين تأويلات كبار العرفاء وتأويلات المتطرِّفين من الصوفية.
ربما أمكن لنا أن نفهم من المعنى الأول للتأويل، الذي اختاره الأستاذ معرفت، أن الهرمنيوطيقا في المنظومة المعرفية للأستاذ معرفت لا تختصّ بدائرة الألفاظ فقط، وإنما يستوعب جميع الأعمال والأفعال أيضاً، بمعنى أن الهرمنيوطيقا لدى الأستاذ معرفت ليست أعمّ من الهرمنيوطيقا المنهجية التقليدية والهرمنيوطيقا المنهجية والرومنطقية لـ «شلاير ماخر» فحَسْب، بل هي أعمّ حتّى من الهرمنيوطيقا المنهجية والرومنطيقية لـ «ديلتاي» أيضاً؛ وذلك لأن إبراز حقيقة المراد يرتبط بدائرة الألفاظ والأقوال، ويرتبط أيضاً بدائرة السلوك البشري، وحتّى أفعال الله سبحانه وتعالى أيضاً، بمعنى أن جميع الظواهر البشرية والإلهية تندرج في دائرة الهرمنيوطيقا عند الأستاذ معرفت. وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار هرمنيوطيقا الأستاذ معرفت من حيث السعة مساوقاً ومساوياً للهرمنيوطيقا الفلسفية لهايدغر وغادامير، رغم الاختلاف الكبير والجوهري بين القولين من حيث المحتوى، ولا سيَّما في الناحية المعرفية.
الهوامش
(*) أستاذٌ جامعيّ، وعضو الهيئة العلميّة في مركز الدراسات الثقافيّة والفكر الإسلامي ـ قسم الفلسفة والكلام. له مؤلَّفاتٌ عديدة في فلسفة الدين والكلام الجديد.
([5]) انظر: مجموعة من المؤلفين، هرمنوتيك مدرن: 9.
([8]) يُعرف هرميس في الأساطير الإغريقية بوصفه نجل «زيوس» و«مايا». وبعد أن أعجب زيوس بأداء نجله قام بتكليفه بإبلاغ وإرسال وترجمة خطابات الآلهة. وهناك مَنْ نسب إلى هرميس مهمّة هداية أرواح الأموات إلى منازلها أيضاً. وفي بعض المصادر هناك إشارة إلى أكثر من هرميس واحد، وكل واحد منهم يرتبط بإله الإنباء والإخبار.
([9]) انظر: محمد رضا ريخته گران، منطق ومبحث هرمنوتيك: 17 ـ 21؛ ريتشارد بالمر، علم هرمنوتيك: 17 ـ 40.
([10]) انظر: إفلاطون، دوره آثار إفلاطون 2، رسالة كراتولوس: 679 ـ 692.
([11]) انظر: ريتشارد بالمر، علم هرمنوتيك: 42 ـ 54.
([13]) الفينومينولوجيا (phenomenology): علم الظاهرات: طريقة في وصف الوعي أو الشعور وتحليله، تستهدف فهم الظاهرات المُعاشة من طريق الدراسة المباشرة لمعطيات الوعي، ومن غير تأثُّر بأيّ افتراضات مسبقة.
([15]) انظر: فريدرك كابلستون، تاريخ الفلسفة 7: 398، 400.
([18]) انظر: أحمد واعظي، در آمدي بر هرمنوتيك: 26 ـ 30.
([19]) مجموعة من المؤلفين، هرمنوتيك مدرن: 9 ـ 13.
([20]) محمد هادي معرفة، التأويل في مختلف المذاهب والآراء: 153.
([22]) انظر: المصدر السابق: 154 ـ 155.
([23]) انظر: المصدر السابق: 157.
([24]) كنـز الفوائد: 285 ـ 286؛ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار 9: 282، ح6. وانظر أيضاً: محمد هادي معرفة، التأويل في مختلف المذاهب والآراء: 163 ـ 164.
([25]) محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار 89: 103، ح81.
([26]) انظر: محمد هادي معرفة، التأويل في مختلف المذاهب والآراء: 164 ـ 165.
([27]) محمد بن مسعود العيّاشي، تفسير العياشي 2: 260، ح32.
([28]) انظر: محمد هادي معرفة، التأويل في مختلف المذاهب والآراء: 166.
([29]) المصدر السابق: 168 ـ 169.
([30]) انظر: محمد هادي معرفة، تناسب آيات: 19.
([31]) انظر: المصدر السابق: 17 ـ 19.
([32]) انظر: محمد هادي معرفة، علوم قرآني: 270 ـ 273.
([33]) انظر: المصدر السابق: 273.
([34]) انظر: محمد هادي معرفة، علوم قرآني: 294.
([35]) انظر: عبد الكريم سروش، قبض وبسط تئوريك شريعت.
([36]) انظر: محمد هادي معرفة، علوم قرآني: 295 ـ 317.
([37]) محمد هادي معرفة، التفسير الأثري الجامع 1: 31؛ مدخل (تأويل)؛ دانشنامه قرآن شناسي (الموسوعة القرآنية): 13 ـ 14.
([38]) انظر: محمد هادي معرفة، مدخل (تأويل)؛ دانشنامه قرآن شناسي (الموسوعة القرآنية): 14.