قد أسس السيد الشهيد محمد باقر الصدر، قاعدة فكرية تميز بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة كمبدأ تأسيسي في نظم التفكير في الحوزة العلمية والمنتسبين إليها، وكانت ترتكز على مبدأ الإيثار الأخلاقي، وهو إيثار المصلحة العامة على المصلحة الخاصة حيث شخص ثغرة أخلاقية مهمة قائلا:
“الأخلاقية التي كنا نعيشها من نقاطها الرئيسية الارتباط بالمصلحة الشخصية بدلا من التضحية، نحن بحاجة إلى أخلاقية التضحية بدلا من أخلاقية المصلحة الشخصية، نحن بحاجة أن نكون على أهبةٍ لإيثار المصلحة العامة للكيان على حساب المصلحة الخاصة لهذا الفرد أو لهذا الفرد، نحن لابد لنا من أخلاقية التضحية بالمصالح الخاصة في سبيل المصالح العامة. أما ما كنا نعيشه، أما ما كان موجودا فهو على الغالب إيثارا للمصلحة الخاصة على المصلحة العامة. كنا نعيش لمصالحنا، وكنا لا نعيش للمصلحة العامة حينما تتعارض مع مصالحنا الخاصة.
وهذه النزعة الأخلاقية التي تتجه نحو المصلحة الخاصة لا نحو المصلحة العامة، تجعل القدر الأكبر من طاقاتنا وقوانا وإمكاناتنا خصوصا في جو من قييل جو الحوزة، في جو غير منظم،في جو لابد لكل إنسان أن يبني نفسه بنفسه، في مثل هذا الجو إذا عاش الناس دائما عقلية المصلحة الخاصة ولم يكن عندهم أخلاقية التضحية بالمصلحة الخاصة في سبيل المصلحة العامة، فسوف يصرف القدر الأكبر من من هذه الطاقات والإمكانات والقابليات في سبيل تدعيم المصالح الخاصة أو في سبيل الدفاع عن عن هذه المصالح الخاصة.
ثم يقول : في هذا الجو العام بهذا الاتجاه سوف يضطر كل إنسان ( في الحوزة) إلى التفكير في نفسه والدفاع عن نفسه، وإلى تثبيت نفسه، وبذلك تصرف ثمانين بالمئة من طاقاتنا داخل الإطار، بالمعارك داخل الإطار، بينما هذه ال ٨٠٪ من القوى والطاقات التي تصرف في معارك داخل الإطار كان بالإمكان – لو كنا نتحلى بأخلاقية الإنسان العامل يعني لو كنا نتحلى بأخلاقية التضحية بالمصلحة الخاصة في سبيل المصلحة العامة- أن نحول هذه ال٨٠٪ للعمل في سبيل الله للهمل في تدعيم الإطار ككل، لتكريسه لتكديسه، لتوسيعه، وبذلك كنا نستفيد – لو كنا نعقل كنا نستفيد- حتى بحساب المقاييس العاجلة أيضا أكثر مما نستفيد ونحن تنازع و نتعارك ونختلف داخل إطار معرض معرض للتمزق ، داخل إطار مهدد بالفناء.
ثم يختم هذه الجزئية قائلا : أخلاقية الإنسان العامل أول شروطها هو أن يكون عند الإنسان شعورواستعداد بالتضحية بالمصلحة الصغيرة في سبيل المصلحة الكبيرة، وهذا ما لابد لنا من ترويض أنفسنا عليه. ( ومضات – الحوزة والمرجعية ص ٤٥٢ – إعداد وتحقيق لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر قدس سره).
كشف رحيل آية الله السيد محمود الهاشمي الشاهرودي، استمرار الثغرات المنهجية التي شخصها أستاذه السيد الشهيد محمد باقر الصدر، وأهمها موضوع المصلحة الخاصة أو المشاريع الخاصة التي يتم تقديمها على حساب مصلحة عليا، وقيم وأخلاقيات تؤسس لمنظومة حقوق منهجية، تقدم خلالها الحوزة عمليا للناس منظومة قيم تحفظ السلامة النفسية للفرد والمجتمع.
وتقدم صورة منسجمة عن الحوزة في أذهان الناس، وليست صورة مضطربة ومتشظية، تظهر تشوهات في العلاقات والروابط بين العلماء داخل الحوزة لمجرد اختلاف المناهج والمدارس. رغم أن مدرسة أهل البيت ع تؤكد على ضرورة الاعتماد على منهج الدليل والبرهان، وهو امتداد لمبدأ إلهي أقره القرآن حينما خاطب الآخر المختلف قائلا “وَ قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ” البقرة ١١١
حيث ادعى هؤلاء امتلاكهم حق توزيع صكوك الغفران، وامتلاك الحقيقة.
وما حدث مع الملا صدرا صاحب مدرسة الحكمة المتعالية ، حيث بقيت مدرسته مدروسة المعالم قرن من الزمان، وكان هناك من يلعنه بسبب آرائه ، وهو منهج شبيه بما أسسه معاوية في تشويه صورة الإمام علي من خلال لعنه على المنابر.
إلا أن علي الحق ع، بقي شامخا ما بقي الدهر، وباتت اليوم مدرسة ملا صدرا من أبرز المدارس الفلسفية في الحوزة.
وهو ما يؤكد أن الزبد ( دون دليل ) يذهب جفاء، ويبقى ما ينفع الناس والذي يقوم على دليل وبرهان .
إن تعدد أدوار أهل البيت ع ، يكشف لنا عن تعددية أدوار العلماء، وتعددية بالتالي مناهجهم وآرائهم، طالما أنها جميعا تدور في فلك القرآن وفهم ما صدر عن محمد وآله بالدليل والبرهان. وهو ما يفترض أن يثري ساحتنا ويغنيها، وعلى قاعدة ليس من أراد الحق فأخطأه كمن أراد الباطل فأصابه.
إلا أن الواقع لا يحاكي هذا المشهد ، بل هناك إقصاء واقعي يمارس مع المختلف ووسيلته :
– سلطة المال، من خلال ما يقدم للتلميذ من راتب، فيصبح الطالب يحرص على رضا الجهة التي تعطيه المال غالبا وليس رضا الله.
– سلطة الفتوى، والتي يستخدمها البعض لتسقيط مدرسة المختلف من العلماء.
– سلطة العلم ، وذلك بتمييز الطلبة المؤيدين للمعلم العالم، على حساب الطلبة المنتمين لمدارس مختلفة، والسماح للموالين بمساحات تدريس كبيرة، على حساب التضييق على المنتمين لمدارس اخرى، رغم أن كل المدارس تنهل من معين واحد( القرآن وسنة محمد وآله).
وتتم ممارسة هذه الممارسات بتبريرات شرعية، وغطاء فقهي، رغم أن المسألة في واقعها اختلاف مناهج وتعدد أدوار مع وحدة الهدف.
فرحيل السيد الشاهرودي أعاد إلى الأذهان موقف حوزة النجف في اليوم الذي تلى استشهاد أحد تلامذتها البارين وأعلامها الأفذاذ، استاذ الراحل السيد الشهيد محمد باقر الصدر، حيث استمرت الحوزة في التدريس، رغم أن إيقاف التدريس هو أضعف الإيمان كموقف اعتراضي وكوسيلة بسيطة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في وجه الظالم ، ولم تُصدِر أي بيان أو تصريح نعي أو إدانة ضد النظام الذي قتل أحد أبنائها بطريقة ظالمة.
بل عمد كثير من علماء الحوزة بعد استشهاد الصدر، إلى طمس كل معالم مدرسته بشكل تدريجي، وكأنه مارق عليها وليس عماد من عمادها.
ويتكرر المشهد اليوم مع رحيل السيد محمود الشاهرودي تلميذ الشهيد الصدر الفذ، الذي لم يتسلق على أكتاف معلمه، بل كان مخلصا حتى لأفكاره، وقدم كل مصلحة للأمة وللدين على مصلحته الخاصة.
وكالعادة لم تعلق الحوزة دروسها في النجف، وبعض مدارس قم أيضا، ولم تنعاه في جلساتها الخاصة، ولم تصدر أي بيان تنعى فيه رحيله، بل تعدى الأمر من بعض المتنفذين في داخل حوزة النجف لممارسة الارهاب الفكري، ومنع حتى تقديم العزاء في حق الراحل الكبير، وبات لسلطة المال وسلطة الفتوى دور كبير في ممارسة هذا الإرهاب، وفي منع أي مظاهر للعزاء بحق الراحل، إلا قلة من المخلصين الذين آثروا قيم كالشهامة والنبل والوفاء لأستاذ وعلم من أعلام العلم والجهاد، على مصالحهم الخاصة، رغم أن بعض تلامذته في النجف لم يحركوا ساكنا، ولم يكن لهم موقف يدلل على رد جميل التلميذ لأستاذه.
بل بدى مشهد رحيلة يعكس عمق الأزمة التي تعيشها الحوزة مع ذاتها ومع منظومة القيم، وعمق الفجوة بين ما يتم تدريسه في الحوزات وبين السلوك العملي أمام الأمة. وعمق أزمنها من التعدد في الأدوار والآراء داخل الجسد الواحد.
حتى أن كثير من تلاميذ مدرسة الراحل السيد محمود الشاهرودي، المدرسة الحراكية الثورية، لم يقدموا واجب العزاء ، ولم يصدروا بيانات، أو بعضهم أصدر بيانا لا يليق بمقام الراحل، ممارسة للتقية، وخوفا من شراسة المواجهة مع المختلفين مع الراحل منهجيا، والحانقين عليه لا لشيء إلا بسبب آرائه الجريئة التي تبناها وفق دليله الذي استنبطه كمجتهد، من القرآن ومدرسة محمد وأهل بيته الأطهار، وبدل أن يكون الاختلاف اختلاف وأي ومنهج، وتفنيد أدلة وبراهين، باتا خلافا شخصيا، تتقدمه صراعات المواقع والمصالح، على السعي لرضا الله.
فالأغلب يقوم بعمل حسابات مشاريعه الخاصة، على حساب مشروع الله في منظومة القيم والأخلاق، التي تعتبر المترجم العملي للنظريات الاسلامية، والمؤثر الأعمق في وجدان الأمة والأفراد.
الأزمة الأخلاقية هي من أعمق الأزمات التي يقع فيها الفرد والأمة، وهذه الأزمة تعصف بكل رصيد تراكمي، بل تحول أي منظومة علمية إلى حاحب كبير بين الله ومن يدعي تمثيله على الأرض، فيغيب الله وتحضر القداسات والاعتبارات الشخصية، على حساب اعتبارات الله تعالى .
لقد رحل قبل أيام علم من أعلام العلم، ورجل من رجالات الميدان والجهاد والثورة، بل رجل من رجالات الاسلام الحركي، من المجددين الذين جمعوا بين الأصالة والخلود والمواكبة. وقد بلغ به نكران ذاته، إلى حد ذوبانه في ذات الله، فلم يسع لأي صخب شخصي، و حاول جاهدا في قول الحق والحقيقة، التي أزعجت وقضت مضاجع طلاب الدنيا بلباس الدين، و لم يقدموا حتى واجب العزاء الذي هو أقل حق للمؤمن على أخيه المؤمن، وهو ما يعكس حجم الأزمة الاخلاقية التي نعيشها، والتي هي سبب وجيه في تأخرنا وتراجعنا ونفور الناس منا ومن الدين بسبب هذا المشهد القلق أخلاقيا وقيميا.