أظهر سياق التطوّرات للثورات العربيّة أنّ للإسلاميّين جمهوراً واسعاً على امتداد العالم العربيّ والإسلاميّ. أولئك الذين يلتزمون بالإسلام كقاعدةٍ للحركة السياسيّة، كما هو في المجالات الدينية التقليديّة الأخرى، من عباديّة وأخلاقيّة وما إلى ذلك.
وقد شكّل هذا الصعود السياسي للإسلاميّين، خصوصاً أولئك الذين لهم تاريخ في الجهاد ضدّ العدوّ الصهيوني، ولا سيَّما حركة الإخوان المسلمين، أملاً في نفوس الكثيرين في تلاقي الحركات الإسلاميّة على هذا الهدف الكبير، الذي يمثّل القضيّة المركزيّة للعرب والمسلمين، أعني فلسطين، فيتمّ رفع منسوب القلق لدى العدوّ الصهيوني، استكمالاً لحالة الضغط التي يعانيها داخليّاً وخارجيّاً، على أثر الهزائم الاستراتيجيّة التي مني بها، منذ بداية القرن الحالي.
لكنّ نوعاً من الصدمة أصابت كثيرين، عندما طالعتنا وسائل الإعلام بمواقف لإسلاميّين وازنين في حركات إسلاميّة صاعدة، تتضمّن رسائل تطمين للعدوّ الصهيوني تجاه بعض الاتّفاقيّات المعقودة من قبل النظم أو الرموز البائدة، أو منفتحة على وسائل إعلام العدوّ عبر تصريحٍ هنا أو إجابات على أسئلة هناك… أو مواقفُ توحي بأنّ ثمّة «إسلاماً» آخر يبرز إلى واجهة الأحداث. إسلامٌ يُراد له أن يكون منسجماً إلى حدّ كبير مع سياسات الدول الغربيّة الكُبرى التي كانت ـ تاريخيّاً ـ المسؤول الأوّل عن حماية الأنظمة الديكتاتوريّة، وكلّ الظُلم والقهر الذي لحق بالشعوب، ومنها الحركات الإسلاميّة نفسها، طوال عقود، وليس ما يشي حاضراً بتغيّر في بنية سياسات تلك الدول على أثر سقوط تلك الأنظمة ورموزها.
وعلى أثر ذلك، بدأ الإعلام يعكس مواقف نقديّة طائرة من هنا وهناك لهؤلاء الإسلاميّين؛ ليتحدّث بعضٌ عن تسرّع في المواقف، أو عن صفقات تحت الطاولة بين بعض الحركات الإسلاميّة والدول الغربية الكُبرى تجاه فلسطين تحديداً، أو يذهب بعيداً في اتّجاه التخوين المُطلق. ويحلو للبعضِ، في غمرة التحليلات، أن يتحدّث عن عالمٍ «سنّي» صاعد، وعالمٍ «شيعيّ» يُراد له أن يستريح من عبء تحمّل قضايا الأمّة المركزيّة، التي تنتمي مذهبيّاً إلى العالَم الأوّل، ليأخذ دوره وخياراته في هذا المجال…
كلُّ ذلك يجري على وقع التأجيج المتزايد للشعور التقسيمي، المذهبي تارةً، والطائفيّ أخرى، والقوميّ ثالثةً، عبر تضخيم الأوهام المتعلّقة بخطرٍ هنا وتهديد وجوديّ هناك؛ ومن شأن ازدياد منسوب الشعور التقسيمي العصبوي، أيّاً كان، أن يشكّل أرضيّة خصبةً لتقبّل أكثر المواقف تطرّفاً، حتّى تجاه القضايا المركزيّة، إذا ما قدّمت على طَبَق المناوأة والتنافر مع الخصم المذهبي أو الطائفي أو القومي، حسب ما دلّت عليه كلّ اختبارات تاريخنا المأزوم على امتداد القرون الماضية.
ونحن إذ نحذّر أنّ من ذلك هو نوعٌ من الفتنة الذي قد يكون جزءاً من مؤامرة تهدف إلى ضرب ثقة الحركات الإسلاميّة بعضها ببعض، فلا تقترب من بعضها بعضاً أو تتلاقى على قضاياها المركزيّة التي تعني الأمّة جمعاء. وبغض النظر عن أنّ الركون إلى مثل تلك التحليلات إفرازٌ طبيعيّ ــ مع الأسف ــ لارتفاع منسوب الشعور والخطاب المذهبيّين، فإنّ المطلوب هو عدّة خطوات نحسبُها ضروريّة للتخفيف من حدّة سقوط الواقع كلّه تحت وطأة تسارع حركة الضغط الدولي القابض على أكثر من حراكٍ في العالم العربي في السنوات الأخيرة، وفي العام المنصرم خصوصاً.
أوّلاً: التأصيل الشرعي للحركة السياسيّة
لا بدّ لكلّ حركة إسلاميّة من أن تقدّم خطاباً لقواعدها التنظيمية والشعبيّة على السواء، تبيّن فيه مستنداتها الشرعيّة الإسلاميّة في أيّ موقفٍ من مواقفها السياسيّة؛ إذ ليس الفقهُ الإسلاميّ مقصوراً على مسائل الصلاة والعبادات وبعض المعاملات التجارية والأحوال الشخصيّة فحسب؛ لأنّ أيّ حركة تَنسبُ نفسَها إلى الإسلام، لتعتبر نفسَها حركةً إسلاميّة، فمعنى ذلك أنّها تُعلن أنّ الإسلام، في نظريّاته ومفاهيمه، يمثّل قاعدتَها في رؤيتها وأهدافها وبرامجها، وكذلك في خطابها وأساليبها ومواقفها السياسيّة. أيْ أنّ حركتها على الأرض تمثّل صدىً للإسلام، فكراً وشرعاً ومنهجاً؛ وإلا لكانت مجرّد حركة سياسيّة تحمل عنواناً إسلاميّاً من غير مضمون واقعيّ. وإنّما نطرح تعميم الخطاب هنا لأنّ كلّ حركة إسلاميّة لا تقدّم تجربة سياسيّة فحسب، بل تقدّم تجربة إسلاميّة في ميدان السياسة، وهي بذلك تمارس تثقيفاً لجماهيرها الشعبية وقواعدها التنظيمية بنحو غير مباشر، بمنهج العمل السياسي الإسلامي، ممّا ينبغي أن يُواكب العمل على أرض الواقع، بحيث ترى تلك الجماهير والقواعد النظريّة الإسلاميّة وتطبيقها على أرض الواقع. ومن شأن هذا التأصيل أن يخدم الأهداف الآتية:
1ـ أنّه يُعطي القاعدة الشعبية والتنظيمية الموازين والمعايير التي تقيس بها مدى انسجام القيادة مع الخطّ الإسلاميّ الشرعي. وهنا تلعبُ القاعدة الشعبيّة والتنظيمية دور الناقد والمصوّب لمسار القيادة، ودور المثبّت لمواقفها كذلك. ويُمكن للقيادة هنا أن تتّكل على القاعدة الشعبيّة والتنظيمية الواعية لدعمها في أيّ مشروع من مشاريع الإصلاح التي قد يعرقلها بعضُ من «طال عليهم الأمد فقست قلوبهم»، ممّن لا يقوون أو لا يريدون أن يواكبوا أيّ حركة تطوير في جسم التنظيم أو النظام. أضف إلى ذلك أنّ القواعد الشعبيّة التي تفهم منطلقات القيادة السياسية يُمكنها أن تشكّل هامشاً واقعيّاً للقيادة، تستند إليه للتخلّص من أيّ ضغوط خارجيّة تدفع باتّجاه أخذ مواقف معيّنة قد لا تكون في مصلحة الاستراتيجيا.
2ـ أنّ هذه المعرفة والثقافة تؤمّن الأرضيّة لاستمراريّة قيم الحركة الإسلاميّة عن طريق الإعداد العفوي والموجّه لمشاريع القادة القادرين على مواكبة المتغيّرات والتحدّيات، من خلال الرؤية الإسلاميّة ومنهج الحركة، ممّا يُساهم في تقوية البنية الذاتيّة للحركة الإسلاميّة عبر تحقيق التلاحم المستمرّ بين القيادة والقاعدة الجماهيريّة في الثقافة الحركيّة الإسلاميّة الموحّدة.
3ـ أنّ ذلك يهيّئ لحوارٍ موضوعيّ بين الحركات الإسلاميّة حول مواقفها المتباينة، خصوصاً في هذه المرحلة التي تختلط فيها الأوراق، وتتعقّد فيها المواقف والقضايا، بدلاً من التقييم للمواقف على أساس مذهبيّ يأخذ من سلبيّات التنافر المذهبيّ سلبيّاته، فيُبعد كلّ حركة إسلاميّة عن تلمّس العناصر الإيجابيّة في تجربة الحركات الإسلاميّة الأخرى، وتقع حينئذٍ في محاذير الازدواجيّة في معايير التقييم بين من يوافقها في القاعدة المذهبيّة فيغدو موقفه إيجابيّاً، وبين من يخالفها فيغدو الموقف نفسه منه سلبيّاً، فتقع القاعدة الجماهيريّة في فوضى المفاهيم وضبابية تطبيق المعايير، فيسهل على اللاعبين الخارجيّين تغذية عناصر الفرقة، وإبعاد تراكم المواقف الإيجابيّة لخدمة الهدف الكبير الذي يقع في صلب أدبيّات كلّ تلك الحركات.
4ـ أنّ ذلك يؤسّس لثقافة مشتركة لدى القواعد الشعبيّة لكلّ الحركات الإسلاميّة، تجاه ما يواجهها من تحدّيات؛ وكلّما ارتفع منسوب الوعي الجماهيري لقواعد السلوك والخطاب والمواقف السياسيّة، أصبحت تلك الجماهير أكثر تماسكاً وتآزراً؛ وكلّما انخفض منسوب الوعي لديها أصبحت أكثر عرضةً للإثارة العصبيّة والغرائزيّة وما إلى ذلك. ومن هنا وجدنا أنّ الوعي الجماهيري نقيض كلّ الحكومات الجائرة والظالمة في مدى التاريخ، ولا يزال هو الذي يجري اللعب عليه عبر سياسات التجهيل والتسطيح الثقافي والفكري، وخصوصاً عبر وسائل الإعلام التي تمتلك اليومَ فاعليّة تضاهي فاعليّة الجيوش الجرّارة.
ثانياً: مُصارحة القاعدة قوَّة مضاعفة
نحن لا ننكر أنّ ثمّة ذهنيّة لا نزال نُعاني منها في الشرق عموماً، وهي أنّ النقد أو بيان القواعد التي تحكم الحركة السياسيّة وغيرها، لا بدّ من أن يقتصر على الدوائر المغلقة، فلا يناسبُه الضوء الإعلامي، بحجّة أنّ ذلك يعرّف الأعداء بمنطلقات سياسة الحركات الإسلاميّة، ممّا قد يُساهم في إلغاء الهامش الذي تحتاج له أيّ حركة إسلاميّة في مواجهة الضغوط والتحدّيات. لكنّ ذلك مجرّد وهمٍ ضخّمناه، بسبب خوفنا من تأثير نقاط ضعفنا على مشروعيّتنا الجماهيريّة في الساحة، والحال أنّ الإسلاميّين، كغيرهم، لا ينبغي أن يُعفوا أنفسهم من الوقوع في الخطأ أو من نقاط الضعف التي تعتري العاملين في أيّ مجالٍ، بل أن يعملوا على تحويل نقاط الضعف إلى نقاط قوّة، وأن تكون المصارحة جزءاً من عمليّة تثقيل القاعدة الجماهيريّة التي تواكب عمليّة الإصلاح بعد وضع خططها. وإذا أراد الإسلاميّون نموذجاً، فليقرأوا ما في القرآن الكريم عن حال المُسلمين قبل أن يدخلوا المعركة في «بدرٍ»، وعن الهزيمة في «أُحُد» بسبب حبّ الدنيا، وعن الفرار في «حُنين» بسبب الإعجاب بالكثرة والاتّكال على الانتصارات السابقة؛ حتّى أنّنا قرأنا في وقعة «الأحزاب» قول الله تعالى عن المسلمين: «وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنّون بالله الظنونا، هنالك ابتلي المؤمنون وزُلزلوا زلزالاً شديداً» (1)؛ وكان كلّ ذلك توجيهاً من القرآن للعمل المستمر ــ من قبل القيادة والقاعدة معاً ــ على مواجهة نقاط الضعف من موقع الواثق بمواقع القوّة الأخرى التي يملكها في السيطرة على نقاط الضعف وتمتينها في العمليّة المستمرّة لبناء القوّة الذاتية. ثمّ إنّ هذا العصر كشف ثقافات الجماعات على مصراعيها، ولم يعد بإمكان أيّ أحد الاختباء وراء أي خطابٍ تلميعيّ للأحوال والمواقف، كما أنّ منسوب الوعي والحسّ النقدي ارتفع لدى كثير من الشرائح التي حصلت على قسطٍ وافر من العلم والخبرة، ممّا يعني أنّ التعامي عن الثغر والسلبيّات التي تحتضنها أيّ ساحة أو دائرة، وعدم الإجابة عن الأسئلة الحائرة لدى الجماهير، تجاه مدى الانسجام بين المواقف والقواعد الشرعيّة التي ألفتها في حركة التثقيف التقليدي، ولا سيّما في ظلّ التقلّب السريع في المواقف؛ كلّ ذلك سيصيب ساحة تلك الحركات بشيء من الانكشاف الذي قد يتّسع شيئاً فشيئاً، حتّى تتّسع الثغر التي يُمكن الأعداء أن ينفذوا من خلالها إلى ساحاتنا.
غير أنّنا نفهم السرّية في المعلومات الحسّاسة التي تتّصل بالحركة الواقعيّة، التي يُمكن أن تدخل في تفشيل الخطط الموضوعة للمواجهة وإدارة الصراع؛ لا في القواعد الثقافيّة التي تدخل في إطار التثقيف والتربية الاجتماعيّة والدينية، وفي البنية الفكريّة للحركة السياسيّة وما إلى ذلك، ممّا هو مفتوح بطبيعته أمام أيّ مقاربة بحثيّة ساذجة أو علميّة. كما أنّه يمثّل الحركة المستمرّة لصوغ الثقافة الحركيّة لدى القواعد الشعبيّة التي ينبغي أن تخرّج قيادات مؤمنة بالخطّ ومبادئ الحركة، لا على طريقة أولئك الذين ارتبطوا بالعنوان، وغاب عنهم المضمون من أولئك الذين قال الله عنهم: «فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون» (2).
ثالثاً: الصورة المذهبيّة وقراءة الأحداث
إنّ التأجيج التقسيمي الذي أخذ شكلاً قوميّاً في اللعب على الوتر العربي ــ الفارسي أوّلاً، ثمّ في تحميله النغمة المذهبيّة ثانياً، نتيجة أحداث وعوامل عديدة أوجدت أرضيّة مأزومة لقراءة هذا الفريق المذهبي للمواقف والأحداث الصادرة من قبل أتباع الفريق المذهبي الآخر، فأصبح من السهل أن يرمي كلُّ فريقٍ مذهبيّ أيّ فريق يملك السلطة أو الحضور أو الفاعليّة بالعمالة للأجنبيّ، أو بالعمل على زرع الفتنة والشقاق في المجتمع، أو ما إلى ذلك، كما شهدنا ذلك في رمي الحركات الإسلاميّة الشيعية بالعمالة للاحتلال الأميركي في العراق، أو في رمي حركة المقاومة الإسلاميّة في لبنان بمحاربة المُسلمين السُنّة. وهو الأمرُ عينه الذي قد يُنظر فيه إلى الحركات الإسلاميّة السنّية الصاعدة، على أنّها تحارب المسلمين الشيعة، أو أنّها تتحرّك في فلك السياسات الاستكباريّة في مواجهة خفيّة مع مشاريع شيعيّة موهومة. وإذا كنّا نتحدّث هنا في شكلٍ عامّ، فإنّنا لا ننكر وقوع أيّ من الحركات الإسلاميّة في أخطاء في العمل أو في التشخيص؛ لكنّ ذلك لا يُلغي الفكرة التي نذكرها من أساسها، كما لا يعني مشروعيّة اختزال عنوان الحركة بخطأ ارتكبته، فضلاً عن اختزال المذهب الذي يقف وراءها بذلك، سواء كانت حركات إسلاميّة شيعيّة أو سنّية.
وعلينا أن نعي نقطة مهمّة هنا، وهي أنّ كلَّ مذهب من المذاهب الإسلاميّة يحمل في إطاره صورةً نمطيّة عن المذهب الآخر وأتباعه، جرى توارثها عبر تاريخ الصراعات المأزومة التي رعتها ــ دائماً ــ السلطة السياسية وأجّجت نارها، وهذا يعني أنّ تغييب الخطاب الذي تبيّن فيه الحركات الإسلاميّة لقواعدها الشعبيّة الأسس الشرعية والقيمية التي ترتكز عليها في إطلاقها لمواقفها من كثير من الأحداث والقضايا، ولا سيّما القضيّة المركزيّة للمسلمين، وهي فلسطين، إضافة إلى غياب الحوار الموضوعي الذي يقيس المواقف والسلوك على طبق تلك القواعد، كلّ ذلك سوف يستدعي حكماً تلك الصورة النمطيّة للمذهب الآخر وأتباعه، أفراداً وحركاتٍ، وهي صورةٌ سلبيّة بطبيعة الحال، في الحكم على الواقع عبر النوايا السلبيّة المُفترض أنّ الآخر ينطلق منها في هذا الموقف أو ذاك، ممّا يُعزّز تلك الصورة النمطيّة أكثر، وليس غريباً حينئذٍ أن تُلصق تهم العمالة بهذه الحركة الإسلاميّة أو تلك، من قبل من يخالفها في المذهب، من دون النفاذ إلى القواعد الشرعية والقيمية التي حكمت هذا السلوك أو الموقف.
رابعاً: واقعيّة السياسة الإسلاميّة
نحن لا ننفي فكرة أنّ السياسة الإسلاميّة هي سياسة واقعيّة، بمعنى أنّ الحكم الشرعي يتغيّر بتغيّر الزمان والمكان والظروف، التي قد تفرض موقفاً مرحليّاً على طبق العناوين الثانويّة، كالضرورة مثلاً، التي يصار من خلالها إلى تجاوز الظروف الضاغطة لحماية العناوين الأوّلية التي تمثّل المبادئ الإسلاميّة الكُبرى، من باب التزاحم بين الأهمّ والمهمّ، حيث يتجمّد الحكم الشرعي المهمّ ـ الذي قد يكون الوجوب أو الحرمة ـ لمصلحة الأهمّ الذي يرتبط عادة بالمبادئ الكلّية التي لا يُمكن التنازل عنها استراتيجياً. وبالتالي، نحن لا نريد أن نفرض ظروف كلّ حركة على الحركات الأخرى. يُمكن للحركة الإسلاميّة أن تفترض أنّ ظروف البلد والمجتمع التاريخيّة تفرض عليها اتّخاذ مواقف مرحليّة من بعض القضايا الكُبرى، لكنّها لا بدّ أن تتمّ من خلال الدراسة الدقيقة لطبيعة الظروف الموضوعيّة للبلد ومحيطه، على حدّ سواء، وفي المديين القصير والبعيد؛ لأنّنا نفهم ذلك حركة تكتيك لخدمة الاستراتيجيا على نهج قول الله تعالى: «يا أيّها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولّوهم الأدبار، ومن يولّهم يومئذٍ دبره إلا متحرّفاً لقتال أو متحيّزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنّم وبئس المصير» (3)، بحيث لا يُلغي ذلك الموقف المهادن مرحليّاً الاستراتيجّة الشرعيّة في عدم جواز التنازل عن الحقوق والأرض والمكتسبات، أو تشتيت الموقف الإسلاميّ العامّ في ما تفرضه علاقة الأخوّة والتعاون بين الحركات الإسلاميّة.
أخيراً: إنّ الحركات الإسلاميّة كلّها، ليست معنيّة بالانفتاح بعضها على بعض فحسب، بل على التعاون في مواجهة القضايا الكُبرى، والتحدّيات التي تعصف بالإسلام والمسلمين، إضافةً إلى مواجهة أيّ مخطّط استعماريّ يتّجه إلى المنطقة بطريقة مقنّعة، وأن تستفيد كلّ حركة إسلاميّة، خصوصاً تلك التي تتسلّم الحكم، من كلّ التجارب الإسلاميّة الأخرى التي سبقتها في عالم الحكم والسياسة، بغضّ النظر عن انتماءاتها المذهبيّة. فلتُدرس التجربة الإسلاميّة للحكم في إيران بمعزل عن عناصر الإثارة المذهبيّة، ولتُدرس التجربة الإسلاميّة في تركيا بمعزل عن الإثارة المذهبيّة كذلك، ولتُدرس التجارب السياسيّة للحركات الإسلاميّة في ظلّ الأنظمة التي لا تتخذ من الإسلام قاعدة لها، على أساس كلّ كتاب الله وسنّة نبيّه، إضافةً إلى إعادة قراءة كلّ التجارب الإسلاميّة التاريخية وتقويمها في ضوء تراكم تجاربنا العمليّة، وبعيداً عن «التابوات» المذهبيّة التي لا تفرز لنا إلا استعادة لتاريخنا المأزوم بكل أخطائه وتراكماته إلى الواقع المعاصر الذي يزداد تعقيداً، يوماً بعد يوم.
وإنّنا إذ نطرح هذه الأفكار، فليس معنيّاً بها حركة إسلاميّة بالخصوص، لكنّها محاولة للتفكير في القواعدة العامّة التي ينبغي أن تحكم كلّ الحركات الإسلاميّة التي قد تغيب في مفردات السياسة وخصوصيّات الظروف عن حقيقة أنّها حركة إسلاميّة، ينبغي أن تقدّم تجربة إسلاميّة رائدة لجماهيرها ولكلّ العالم، تؤكّد فيها قدرة الحركة الإسلاميّة على التنظير إسلاميّاً في إطار الفكر السياسي، والتطبيق العملي لكلّ المبادئ التي تؤكّد خطأ الفكرة التي ترى أنّ المبادئ الدينية هي مبادئ مثاليّة غير واقعيّة، وأنّ الأخلاق والسياسة لا يجتمعان؛ والله من وراء القصد.
__________________________________________________