قضايا وإشكاليَّات
ـ الحلقة الرابعة ـ
حيدر حبّ الله(*)
الإشكاليّة الثامنة: مسألة العنف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ــــــ
إنّ الإضاءة على هذه الإشكاليّة، ووضع جوابٍ يتصل بها، سوف يساعدنا في حلِّ الإشكاليّة السابقة، ومن ثَمَّ سيصبح العمل الفكري في باب الأمر بالمعروف مشروعاً ومشرّعاً.
يتحدّث الفقهاء منذ قرون عن أنّ مراتب الأمر بالمعروف ثلاثة وهي: (القلب، اللسان، اليد).
أمّا مرتبة القلب فلها معنيان: أحدهما ليست له علاقة بالأمر بالمعروف؛ والثاني على صلةٍ وثيقة به.
إنّ معنى مرتبة القلب في تفسيرها الأوّل هو عدم الرضا ـ نفسياً ووجدانياً ـ بالمنكر. إنّ هذا الأمر واجبٌ، لكنّه ليس أمراً بالمعروف؛ لأنّني لا آمر أحداً. والفقهاء المتأخِّرون قالوا: هذا من الواجبات التي دلَّ الدليل عليها، فإذا رأيتُ منكراً في مكانٍ ما فعليَّ أن أستنكر في قلبي، أي إنّ عليَّ أن أربّي نفسي تربية أخلاقيّة بحيث يصبح سماع المنكر بالنسبة إليها فيه نوعٌ من الضيق النفسي والكراهية والانزعاج، فأنا بيني وبين نفسي أحبّ المعروف وأشعر بالسعادة لوجوده، ولا أرضى بالمنكر. هذه هي التربية التفاعليّة الإيجابيّة مع المعروف والتفاعليّة السلبيّة مع المنكر، وهذا واجبٌ من حيث المبدأ، لكنّه ليس له علاقة بالأمر بالمعروف.
أمّا مرتبة القلب التي لها علاقة بالأمر بالمعروف فهي التي وصفوها بأنّها كلُّ ردّة فعلٍ خارجيّة يقوم بها الإنسان تجاه منكرٍ ما، وليس للسان أو اليد بها علاقة، مثل: أن يعبس في وجه فاعل المنكر، أو يصرف نظره عنه، أو يبدي انزعاجه منه، أي هي كلّ أسلوب غير لسانيّ، ولا يستخدم العنف. هذا هو ما يُسمّى بمرتبة القلب هنا، فيما كلُّ أسلوبٍ يستخدم اللسان (البيان اللفظي) فهذا يُسمّى مرتبة اللسان.
من هنا قال العديد من الفقهاء المتأخِّرين: لا يوجد فرقٌ بين مرتبة القلب واللسان، فهي كلُّ إبرازٍ غير عنفي، واللسان يعني البيان، أي: أُبيِّن له بتقاسيم وجهي أو إعراضي عنه أو بعدم استجابتي لطلبه؛ أو أُبيِّن له باللسان والألفاظ، لهذا قال بعض الفقهاء بأنّ مرتبة القلب واللسان واحدةٌ (انظر: الخوئي، منهاج الصالحين 1: 352 ـ 353). بل لو أردنا ـ مصرّين ـ أن نفصلهما عن بعضٍ فيكون القلب كلَّ وسيلةٍ إبرازيّة ليس للسان واليد دَوْرٌ فيها، ويصبح اللسان كلَّ وسيلةٍ إبرازيّة تستخدم اللسان والبيان اللفظي لتوضيح المسألة للطرف الآخر، أمراً أو نهياً.
وأمّا مرتبة اليد (المرتبة الثالثة) فهناك جدلٌ بين العلماء حول معنى (اليد). ويوجد هنا أكثر من تفسير، نذكر بعضها:
التفسير الأوّل: ما ذهب إليه مشهور العلماء من أنّ معنى (اليد) هو العنف. وهو أمرٌ ليس سيِّئاً بالضرورة؛ فكلُّ القوانين في العالم تستخدم العنف (كالسجن مثلاً). والعنف هنا قد يكون ضرباً، أو سجناً، أو حجزاً، أو مصادرةً لأموالٍ، أو إتلافاً لها، أو تصرُّفاً بها، أو غير ذلك. بل هناك مَنْ يرى أنّها تشمل حتّى الجرح أو كسر بعض الأعضاء أو بترها. بل ثمّة مَنْ يرى هنا أنّه لا يوجد دليلٌ على ربط تطبيق هذه المرتبة بإذن الحاكم الشرعي أو أجهزة الدولة الشرعيّة، وإنْ كان هناك رأيٌ آخر يرى ربطها ـ وخاصّةً في مثل: الجرح والكسر ـ بهذا الإذن.
وقد آمن الكثير من العلماء ـ سنّةً وشيعةً ـ بهذا التفسير من حيث المبدأ، لكنّ مجموعةً من العلماء المتأخِّرين أعادوا النظر في هذا الموضوع، وقالوا: مرتبة اليد ـ بهذا المعنى والتفسير ـ لا دليل عليها. ومن العلماء الذين رفضوا هذه المرتبة السيد محمود الهاشمي حفظه الله، والميرزا جواد التبريزي&، والسيّد تقي القمّي&، والمحقِّق الأردبيلي&، الذي قال ـ أعني الأردبيلي ـ: لولا الإجماع، لا دليل على هذه المرتبة (انظر: مجمع الفائدة والبرهان 7: 543)، وهو يقصد أنّه لا توجد بأيدينا آيةٌ كريمة أو حديثٌ شريف يمكن أن يدلاّ على ثبوت هذه المرتبة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
التفسير الثاني: إنّ معنى (اليد) هو ممارسة النفوذ؛ للحيلولة دون وقوع الحرام. فمثلاً: لو كان هناك حزبٌ سياسي إسلامي يتدخَّل لإصدار قوانين في البرلمان؛ للحدِّ مثلاً من شُرْب المُسْكِر، فهو هنا يمارس مرتبة اليد، بمعنى أنّه يمارس نفوذه ـ دون أيِّ عنفٍ مباشر ضدّ أحد ـ لكي يحول بين الناس والمعصية.
فاليد هنا هو الممارسة العمليّة التي تعمل للوصول إلى الحيلولة بين العاصي وارتكاب المعصية في المجتمع، دون استخدام العنف بالمعنى السائد.
التفسير الثالث: وهو رأي أحد علمائنا القدامى، وهو سلاَّر الديلمي، صاحب كتاب (المراسم العلويَّة)، حيث قال بأنّ اليد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تعني أن يفعل الآمرُ بالمعروف المعروفَ ليقتديَ الآخرون به (المراسم العلوية: 263). فالمفهوم هنا يقع على العكس تماماً من الشيء الموجود في ذهننا. فالأمر بالمعروف باليد هنا يعني بالفعل. فأنت مثلاً لك مكانتك الروحيّة بين الناس، فتصلِّي في المسجد جماعةً، فالناس تقتدي بك وتتحرَّك لتصلِّي جماعةً في المسجد، فهذا أمرٌ بالمعروف، لكنّه أمرٌ عمليّ، وليس قوليّاً، ولا هو مجرّد إبداءٍ للكراهة، دون أن يصل ـ في الوقت عينه ـ إلى استخدام العنف.
ومن بين هذه التفاسير الثلاثة نريد أن نتوقَّف قليلاً مع التفسير الأوّل، فإنّ الذين قالوا بالعنف الجسدي كانت لهم أدلّةٌ كثيرة، أبرزها دليلان:
الدليل الأوّل: إطلاق الآيات القرآنيَّة والروايات، حيث قالت: عليكم أن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر، فلم تكن مقيَّدةً، بل مطلقة، ولم تحدِّد ذلك باليد أو إبراز الكراهة في الوجه، وإنَّما بأيِّ وسيلةٍ تنهى الآخر عن المنكر، وهذا يعني أنّه لا يوجد تقييد في الآليات، وفي السبل، وفي الوسائل، وفي الطرائق، وإنَّما الأمر بيدي أنا، فالمهم أن يتحقَّق المطلوب. نعم، يأتي هنا في الفقه قانونٌ نسمِّيه (قانون الأيسر)، يعني الأيسر فالأيسر، أي الأخفّ فالأخفّ (من الأسفل إلى أعلى)، فإذا لم تنفع كلُّ الطرق، ولم يبقَ إلاَّ العنف، فنستخدم العنف في هذه الحال.
الناقدون الذين رفضوا فكرة العنف الجسدي يمكنهم أن يقولوا هنا: لا يمكن الاستدلال بمطلقات النصوص؛ لأنَّ الله عزَّ وجلَّ عندما يأمرنا بشيءٍ فهو يأمرنا باستخدام كلّ الوسائل ما لم تكن تلك الوسيلة محرَّمة في حدِّ نفسها. فعلى سبيل المثال: إذا قال لي النصّ: أدخل السرور على قلب أخيك المؤمن، فلو كان ذلك الشخص يُسَرُّ باستغابة الناس فهل يجوز أن نستغيبهم لكي نُدْخِل السرور على قلبه؟! بالتأكيد لا، مع أنّ الرواية مطلقة، بل إنّ أدلّة الواجبات منصرفةٌ عن المحرَّمات، يعني عندما يأمرني الله بواجب فيمكن أن أستخدم أيَّ وسيلةٍ لتحقيق الواجب ما لم تكن تلك الوسيلة من المحرَّمات (في حدِّ نفسها عند الله تعالى)؛ إذ لا يُطاع الله من حيث يُعصى، وإلاَّ يلزم ارتكاب كلّ المحرَّمات بالتحايل على الله.
وينتج عن هذا أنّ الآيات والروايات تأمر بالمبدأ، ولا تحدِّد الطريقة. فالتفاصيل واستخدام العنف وعدم استخدامه مسكوتٌ عنه في النصوص.
الدليل الثاني: وهو الدليل الأقوى هنا، عنيتُ الأحاديث التي تبلغ حوالي خمس عشرة روايةً بحثها الفقهاء في محلّه، ومنها: الرواية المشهورة: (مَن رأى منكم منكراً فليغيِّرْه بيده…)، بل هذه الرواية بالخصوص موجودةٌ في مصادر السنّة والشيعة معاً، ويمكن القول بأنّها تقريباً متَّفقٌ عليها بين المسلمين. إنّ هذه الروايات واضحة، فقد حدَّدت لنا الطريق، وبرَّرت العنف.
العلماء الناقدون يمكن أن يقولوا هنا أيضاً: إنّ غالبيّة الروايات فيها نظرٌ من حيث السند والمصدر. وهذا البحث لا علاقة لنا به حالياً، لكنْ لنتوقّف قليلاً عند هذا الحديث المشهور الراسخ في أذهاننا جميعاً: (مَنْ رأى منكم منكراً فليغيِّرْه بيده، فإنْ لم يستطِعْ فبلسانه، وإنْ لم يستطِعْ فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) (صحيح مسلم 1: 50). إنّ هذا الحديث يستحيل أن يكون المراد (باليد) فيه هو العنف؛ لأنّ هذا يعني أنّه إذا رأيت شخصاً يرتكب أمامي معصية فعليَّ مباشرةً أن أضربه، فإنْ لم يقتنع بالضرب أتحدَّث معه. وهذا غير منطقيٍّ، بل هو على عكس فتوى الفقهاء. ولذلك قال سلاَّر الديلمي: لأنّ الرواية ابتدأت باليد، فالمراد باليد هو أن تفعل أنت المعروف.
ومن هنا يطرح الناقدون أنّ هذه الرواية غير واضحةٍ في موضوع العنف؛ لأنّها تخالف النظام المستدلّ عليه في الفقه، وهو نظام (الأيسر)، أي الذهاب من الأدنى إلى الأعلى. مضافاً إلى أنّ هذه الرواية في المصادر الشيعيّة ضعيفة السند لا يعتمد عليها عند العديد من العلماء، بل هي واردة في بعض الكتب غير المعتبرة عندهم. وقد درستُ مختلف هذه الأدلّة والروايات بشكلٍ تفصيلي في كتابي المتواضع (فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 470 ـ 516).
من هنا يبدو التحفُّظ العامّ على أدلّة العنف في الأمر بالمعروف. لكنّ السؤال: كيف يمكن أن يفهم الرافضون لهذه المرتبة الموضوعَ؟
إنّنا بوصفنا رافضين لاستخدام وسائل العنف نحلِّل الأمر بالمعروف في إطارٍ عامّ، حيث هناك مفهومان للأمر بالمعروف: عامٌّ؛ وخاصٌّ.
المفهوم العام للأمر بالمعروف هو كلُّ وسيلةٍ تسعى لتطبيق الدِّين؛ لكي يقع الحقّ والمعروف؛ ولكي لا يقع المنكر. فإذا كان كذلك فاليد إذا أردنا تفسيرها بالعنف يصبح معناها مثل (القضاء)؛ لأنّ القاضي يستخدم القوّة، فتصبح اليد بالمعنى العامّ هي القصاص، القوانين الجزائيّة، الحدود، الديات. و(اليد) في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تصبح الجهاد أيضاً، وهكذا.
إذن، لو أخذنا المعنى العامّ للأمر بالمعروف تصبح لدينا: مرتبة القلب، ومرتبة اللسان (دعوة الناس إلى الحقِّ)، ومرتبة (القوّة)، والمراد بها القوّة ضمن قنواتها القانونيّة، مثلاً: ضمن شروط الحدود، وشروط الجهاد، وشروط القصاص، وهكذا، فتصبح (اليد) بمعنى السعي لإقامة الشرع الإسلامي بدرجاتٍ متفاوتة. ومعنى ذلك أن أسعى لإقامة الشريعة دون قهر أحد، فإنْ لم أستطِعْ عند ذلك أتكلَّم مع الناس وأدعوهم، فإذا استطعنا أن نجعل الشريعة في الحياة بشكلٍ طبيعي فقد تحقَّق المطلوب، أمّا إذا عجزنا فعلينا أن نقنع الناس بأن تجعل الشريعة قانون حياتها، وأن يلتزموا بالدِّين، وأن يعملوا المعروف… وبهذا يختلف تصوُّرنا لـ (اليد) اختلافاً جَذْرياً عن الجميع، بمَنْ فيهم سلاَّر الديلمي.
وأمّا الأمر بالمعروف بالمعنى الخاصّ، الذي هو أمرٌ مغاير للجهاد والقصاص والقضاء وغير ذلك، فليس منه القوّة العنفيّة أبداً، إلا في حدودٍ استثنائيّة خاصّة جدّاً.
إذا تبنَّيْنا وجهة النظر هذه فلن تكون هناك مشكلة في الحرِّيات الفكريّة؛ حيث سيصبح الخلاف مع الانحراف الفكري خلافاً فكريّاً، عبر إصدار الكتب أو إلقاء المحاضرات أو استخدام الإعلام أو النشاط الاجتماعي في مقابله، ما لم يرتكب الآخر جُرْماً قانونياً، كالقتل أو الزنا، فإذا ارتكب يجب أن يُعاقَب وفقاً للشريعة، ضمن الشروط الموضوعيّة لذلك. وبهذا ينتفي مبرِّر القلق الذي دفع أمثال الدكتور حسن حنفي للتحفُّظ عن سريان هذه الفريضة لمجال الفكر والمعرفة والثقافة، بل الأمرُ والنهيُ هنا فاعلان، دون أن يؤدّي ذلك إلى المخاوف التي يقول بها أمثال حسن حنفي، مثل: سدّ باب الاجتهاد، وقمع الفقهاء والعلماء.
الإشكاليّة التاسعة: غياب فقه الأولويّات ــــــ
إنّ نظريّة فقه الأولويّات موجودةٌ في علم أصول الفقه، ولكنْ بشكلٍ بسيط، ومن أبرز مَنْ ركَّز عليها وأَوْلاها أهمِّيةً هو الشيخ مرتضى مطهَّري، حيث قال بأنّ فقه الأولويّات مثل ميزان الحرارة في الجسم، فإذا اختلّ ميزان الحرارة تعطَّلت الأعضاء، وصار المقدَّم مؤخَّراً والمؤخَّر مقدَّماً، والمهمّ غير مهمٍّ وغير المهمّ مهمّاً.
ويعطي مطهَّري مثالاً، وهو عبارة عن شخص يخرج من طهران لزيارة الإمام الحسين× في كربلاء، فيوقفوه على الحدود؛ ليسألوه، فيكذب؛ نتيجة وجود مشكلة معيَّنة عنده مثلاً، فهنا يكون قد ارتكب حراماً، وهو الكذب؛ لأجل مستحبٍّ، وهو الزيارة.
وهذا مثالٌ بسيط. وكثيراً ما نقع في مثل هذا من حيث لا نشعر؛ لأنّنا لم ننتبه للخارطة الهَرَميّة للأولويّات.
وبهذا خلص مطهَّري إلى أنّه لا يجوز أن أرتكب محرَّماً كي أقدم على أمرٍ مستحبّ، ولو كان مؤكَّداً.
عندما تغيب عن الأمر بالمعروف ـ على المستوى الاجتماعي العامّ ـ نظريّة فقه الأولويّات فمن الممكن أن يشغل الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر كلَّ الساحة بموضوعٍ طفيف ـ يعتبره هو المهمّ ـ، ويترك عشرات الأولويّات الأُخَر التي لا يعرف أنّها أهمّ من الموضوع الذي يشتغل عليه.
وهذا الأمر من المشاكل الأساسيّة في نشاط العاملين في المجال الفكري والثقافي والدعوي والتبليغي والإيماني.
ولكي يكون لنا عقلُ أولويّاتٍ يجب أن نعرف الزمان والمكان وما يريده النصُّ؛ حيث يمثِّل النصُّ والواقعُ ثنائيّاً: فماذا يريد النصُّ مني؟ وماذا يتحمَّل الواقع أو يتطلَّب؟ وبهذا أجمع بين النصِّ والواقع، كما كان ينادي السيد محمد باقر الصدر. يجب أن أعيَ الواقع لأحكِّم النصَّ فيه، بدل أن أحكِّم النصَّ في فراغٍ، ويجب أن أعرف الواقع كي أُنزل القِيَم فيه، وإلاّ فسوف أُضيِّع القِيَم، وأُضحي بالأفكار، وأنا أظنُّ أنّني أخدمها.
إنّ فقه الأولويّات مهمٌّ جدّاً في عالم التبليغ والدعوة، وليس فقط في الأمر بالمعروف؛ بل في كلِّ شيءٍ هو مهمّ. والذي يفقد فقهَ الأولويّات فسوف يفقد وعي الزمان والمكان وكلَّ شيءٍ، ويذهب علمه سدىً، ليس في داخل نفسه، بل في تطبيق علمه على الخارج؛ وتختلّ عنده الموازين، فيرى هذا أهمّ فيشتغل عليه، فيضيع عليه ما هو الأهمّ واقعاً، فيُشْغِلُ الساحةَ بالأقلّ، في حين كان يفترض أن يُشْغِلَها بالأكثر.
إذن، يجب وعي المتطلّبات والأولويّات، وأنّنا في أيِّ مرحلةٍ زمنيّة نعيش؟ وما هي الأصول الأولى التي ينبغي أن نشتغل عليها الآن؟ وما هي الأمور الفرعيّة التي نريد أن نعطيها حقَّها كذلك؟ كيف نوازن؟ وكيف نميِّز؟
هذه قضايا تضيع على كثيرين. بل في رأيي المتواضع إنّ هذه النقطة ناشئةٌ من عدم وعينا ودراستنا للسيرة دراسةً تحليليّة. فدائماً سيرة الأنبياء والأئمّة والصحابة ندرسها دراسةً فرديّة، وبحَسَب تعبير المؤرِّخين (دراسة حوليّة)، أي حَسْب تسلسل الزمن، لكنْ قليلاً ما نرى ـ إلاّ عند العلماء المتأخِّرين، والحمد لله ـ سيرةً تحليليّة، مثل: ما هي الأهداف؟ ما هي الخطط الاستراتيجيّة التي وضعها الأئمّة؟ ما هي الأولويّات التي كانوا يعتمدونها؟ كيف كانوا يضحّون بالأقلّ قيمةً في سبيل الأكثر قيمةً؟ كيف كانوا يوازنون بين المصالح والمفاسد؟ علماً أنّ المصالح هنا هي مصالح القِيَم والمبادئ والدِّين. هذا هو ما نحتاج إليه اليوم. وغياب فقه الأولويّات عن العامل في المجال التبليغي والدعوي يمكن أن يؤدّي ـ بل قد أدّى في غير موضعٍ ـ إلى كوارث عليه وعلى المجتمع من حوله، بل على قِيَمه نفسها.
إنّ فقه الأولويّات يبدأ من وعي الواقع بزمانه ومكانه أوّلاً؛ وثانياً بعرض هذا الواقع على النصِّ، لنعرف ماذا يريد؟ وماذا يطلب؟ من هنا، ينبغي تجهيز ورش عمل تأهيليّة لكلِّ الذين يعملون في المجال التبليغيّ، ولكلِّ الذين يعملون في مجال الأمر بالمعروف؛ لكي يَعُوا الواقع. فلو أردْتُ الذهابَ إلى بلدٍ ما للتبليغ فيجب عليَّ أن أعرف هذا البلد، وما هي مشاكله؟ وما هي إيجابيّاته؟ وما هي سلبيّاته؟ وما هي طبائع الناس فيه؟ ولو أردْتُ أن ألقي محاضرةً على مجموعة أشخاص فيجب أن أسأل: ما هو الموضوع الأفضل بالنسبة إليهم؟ وما هو الهامشي؟ فقد أخطئ، وقد أصيب، لكنْ عليَّ أن أُفكِّر بهذه الطريقة.
واليوم، إحدى أهم الأولويّات بالنسبة للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر هي آليات المواكبة، أي مواكبة كلّ المستجدّات التي تحصل من الإشكاليّات متعدِّدة الألوان؛ لذلك يجب أن نوزِّع الأدوار؛ بعضنا يعمل على الإشكاليّات التي تأتي من طرف (أ)، وبعضنا يعمل على الإشكاليّات الآتية من طرف (ب)، وهكذا. يجب توزيع الأدوار، ووضع خطط استراتيجيّة من موقع الفعل، لا من موقع ردّة الفعل، وهذا معنى أنّ فقه الأولويّات يفرض المواكبة. من الضروري أن تكون لدينا أولويّة مواكبة وتواصل، وليس أولويّة تباعد وتقاطع، وأولويّة اشتغال على نقد الذات؛ كي نهدم النواقص فينا؛ لأجل بناء ذواتنا.
ونعتقد بأولويّةٍ كبرى جدّاً اليوم في مرحلتنا، أختم بها كلامي، وهي: أولويّة القِيَم الأخلاقيّة والروحيّة.
خاتمةٌ في أولويّة القِيَم الروحيّة والأخلاقيّة ــــــ
لقد أصبح مرتكزاً في أذهاننا أنّ الدِّين عبارةٌ عن الحلال والحرام (الفقه)، مع أنّ الفقه له وجهان: وجهٌ ظاهري، وهو الأمور الشكليّة، من كيفيّة الوضوء أو التيمُّم أو الصلاة والصوم؛ ووجهٌ أخلاقيّ وروحيّ، هو أعمق من الأوّل. ومع الأسف نحن نهتمّ بالجانب الشكليّ أكثر من الروحيّ والأخلاقيّ. لذلك عندما نقيِّم شخصاً إذا كان متديِّناً أو لا ننظر إلى جانبه الشكليّ، هل هو صاحب لحيةٍ ـ مثلاً ـ أو لا؟ فإذا كان حليق اللحية فهو ليس متديِّناً!! أمّا أن يستغيب الناسَ عشر ساعات أمامي فهذا متديِّنٌ، لكنّه استغاب!! مع أنّ الغيبة أكبر معصيةً من حلق اللحيّة.
إنّنا نؤمن بالموضوع الظاهري الشكليّ، لكنْ لا ينبغي أن نجمد عليه. وهذا هو الذي دعا إليه دائماً الأخلاقيّون والعُرَفاء وأصحاب النزعات الروحيّة. إنّ الدِّين ظاهره الفقه، والفقه وسيلةٌ لنزول القِيَم الروحيّة في قلوبنا، قال تعالى: ﴿…وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي﴾ (طه: 14)، ذكره في القلب، وليس لقلقة اللسان فقط، وكذلك قوله تعالى: ﴿لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ…﴾ (الحجّ: 64)، فلو ذبح شخصٌ البدن أو الهدي في منى فلن تصل هذه اللحوم إلى الله، المهمّ هو الحالة الروحيّة التي ابتعدنا عنها؛ جموداً على الأمور الظاهريّة والشكليّة أحياناً، وهي ـ أي الشكليّات ـ مهمّةٌ، لكنْ لا يجوز الاقتصار عليها، واضمحلال الرسالة الروحيّة بسبب ذلك.
وحتّى في التوحيد، هناك الكثير من المسلمين اليوم لديهم مشكلةٌ، فنحن نتصوَّر أنّ توحيد الله سبحانه وتعالى هو معركة أرقام ـ كما أسمِّيها ـ: هل أنّ الله واحدٌ أو اثنين أو ثلاثة؟ فهل المعركة هنا حقّاً؟! هل أرسل الله كلَّ الأنبياء والرسل وجَرَتْ كلُّ هذه المعارك مع خصومهم؛ لكي يتحارب على رقم (واحد)، وليس (اثنين)؟ الأمر ليس كذلك، فكلُّ هذا التركيز على التوحيد هو لأنّ العرب لم تكن مشكلتها أنّ الله الخالق واجب الوجود واحدٌ، بل هم يؤمنون بأنّ الذي خلق العالم واحدٌ، والقرآن نفسه قال ذلك: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ (العنكبوت: 61)، ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ (يونس: 31 ـ 32). إنّهم يعرفون الإدراك النظري لوحدانيّة الله، لكنّ الوحدانيّة الشعوريّة تجاه الله غير موجودة، بل الحاضر في حياتهم اليوميّة هو الأصنام، فإليها اللجوء والطمع، ومنها الخوف، ولها تُقَدَّم القرابين، وغير ذلك.
إنّ الله سبحانه وتعالى غيرُ حاضرٍ في حياتنا. فمع أنّ أكثر كلمة تكرَّرَتْ في القرآن، هي وأوصافها، هي كلمة (الله)، لكنْ نحن لا نشعر بالحضور الروحيّ لله سبحانه وتعالى في أرواحنا! إنّ كلَّ المنظومة الدينيّة هي التوحيد، لماذا؟ لأنّ التوحيد هو الطاعة، والعبادة، والتوكُّل على الله. إنّه إحساسٌ بأنّ كلَّ هذا العالم بكلِّ ذراته يتَّجه نحو الله سبحانه وتعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾ (آل عمران: 128)، الرضا بقضاء الله، الثقة بوعد الله، الطاعة لله. هذا هو التوحيد. بينما عمليّاً نحن نعبد زيداً وعَمْراً وبَكْراً، أو نعبد ذواتنا…
التوحيدُ يظهر مع شخصٍ مثل إبراهيم×، هل هناك شخصٌ لأنّ الله أوحى له فهو مستعدٌّ أن يذبح ابنَه؟ القصّة والسيناريو سهلٌ، لكنّ التطبيق شيءٌ غير عاديّ أبداً: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ﴾ (الصافّات: 103)، فقد حصل التسليم، والتسليمُ هو المهمّ عند الله تعالى، إنّه يعني أنّ الأنا غيرُ موجودةٍ أمام الله، وليس ثمّة إلاّ الله الواحد. وقد نجد شخصاً يقبل بالسجن حتّى لا يقع في معصيةٍ، لكنْ أن نجد شخصاً يقول: ﴿…السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ…﴾ (يوسف: 33) فهذا ليس أمراً سهلاً، فإنّ (أَحَبّ) هذه حالةٌ إيمانيَّة فاعليّة، فهي ليست قبولاً بالأمر الواقع الصعب، بل هي محبّةٌ له لأجل طاعة الله.
اليوم هناك الكثير من الاعتبارات تحكمنا ـ مثل: الاعتبارات الماليّة، والوجاهة ـ؛ لأنّ حالة التفاني والتضحية الموجودة مع الله ربما تكون قد تراجعت. لذلك نحتاج إلى هذا الزَّخْم الروحي للدخول في مرحلةٍ أفضل، لتلمُّس الشعور الديني بشكلٍ أفضل، بدل الجمود على الشكليّات. أعتقد أنّ التركيز على القضايا الأخلاقيّة في هذه المرحلة مهمٌّ جدّاً، وأقصد بها الأخلاق الروحيّة والعلاقة مع الله بكلِّ معانيها ـ بعيداً عن بعض الالتباس عند بعضهم في هذا المجال أيضاً ـ، فنحن بحاجة لاستعادة هذه الحالة الروحيّة وحضورها، وعدم الجمود على الفقه بشكله السائد اليوم، فالفقه ليس إلاّ وسيلةً لتهيئة أرواحنا لنزول القِيَم الروحيّة والارتباط بالله تبارك وتعالى.
________________________
(*) محاضرتان أُلقيتا في جامعة الزهراء، في إيران، بتاريخ: 19 ـ 20 / 4 / 2013م.