عفواً، هذا ليس كلام البدء. فليس العقل من يملك شرف المبادأة. لعله مجرّد جواب متعقل عن كل من سبق إلى الكلام بطغيان أو بإحسان، فأكثَرَ القولَ في مجال لا يكون فيه القول إلا قليلا، وعاث لغواً وتأثيماً، ولغطاً وتجريماً، وأغرق دين الله في كثرة الأقوال، وضيّع دنيا الناس في ظلمة الأوهام، وعاد إلينا في الأخير خاوي الوفاض إلا من سحر يوثر. وهكذا، لم يبق للحس السليم مجال لأي كلام زائد عن الحاجة أو غارق في المزاح؛ إذ سيحاسبنا الله والتاريخ على ضياع الوقت الباقي وهو قليل. لذلك، سنعْبُر مباشرة إلى التحذير الأخير قبل السقوط. كلّما علا شعار «القرآن دستورنا»، كان مدخلاً إلى فتن لا تُبقي ولا تذر. كلما حُمل القرآن الكريم بالأكف أو على السيوف، كان سبباً في تناحر يأكل اليابس والأخضر. كلما دُعي إلى تحكيم القرآن في الاختلاف بين الفرقاء، كان مبعثاً لخلاف لا أول له ولا آخر. لماذا؟ لأن آيات القرآن حمّالة أوجه، يضرب بعضها بعضاً، وينسخ بعضها بعضاً، ويُعطل بعضها بعضاً، وقد أنزلت على سبعة أحرف، معظمها آيات متشابهات، مبهمة المعنى ملتبسة الدلالة، وأنزلت منجمة متناثرة، وكتبت على أشياء متفرقة وبلغة كانت لا تزال بلا قواعد. وحتى باعتماد الحرف الواحد الباقي، انفجرت عشر قراءات على الأقل، وتطايرت عشرات التفاسير. وبين ثنايا تفسير كل آية من الآيات لازمة أجمع عليها كل المفسرين وتكرس أزمة اليقين إذ تقول: «اختلف علماء الأمة في قراءة هذا اللفظ (أو ذاك)، أو تحديد معنى هذه الآية (أو تلك)». من باب الذِّكرى التي قد تنفع نقول، القرآن الكريم كلام تعبُّديٌ خالص، لكنه في المستوى المعرفي يصبح صعب المراس، غارقاً في الالتباس، وقابلا في المقابل لأي توصيف أو توظيف في أي اتجاه نبتغي أو لا نبتغي. إن ابتغينا الرّحمة والتسامح وجدنا آيات تدعو إلى ذلك. وإن قصدنا العنف والقتال وجدنا آيات تدعو إلى مثل ذلك. وفي زحمة آيات العنف وآيات الرّحمة، تمنحنا الكثير من العبارات إمكانية تقويلها ما لا تقوله إملاء أو إيماء. لكن الملاحظ تحديداً، أن التوظيف الايديولوجي للنص القرآني، يجعل القرآن الكريم يبدو وكأنه طيِّع في أيادي الأصوليين الأكثر أصولية، والسلفيين الأكثر سلفية؛ ما دام سلّم قيمه «السياسية» لا يتخطى سقف البيئة البدوية التي نزل فيها، بيئة الطاعة، والبيعة، والحاكمية، والقوامة، والولاء، والبراء، والغلبة، والاتِّباع، إلخ. برغم الطابع التعبّدي للقرآن المبين، يرتفع شعار «القرآن دستورنا». ولا يعرف أهل العقل والحكمة منا كيف يعترضون، وبأي وجه يردّون؛ إذ يبدو كأن النصّ القرآني جامع للأحكام والشرائع، وشامل لقواعد السلوك والمعاملات، وكأنه مدونة قوانين أرادها الله تعالى للمسلمين أجمعين، بل للبشرية جمعاء، وهي تصلح لكل زمان ومكان. لكن المعادلة تقول: كلمات النص – أيّ نص كيفما كان – محدودة، وأشياء الواقع العيني غير محدودة. كلمات النص – أي نص كيفما كان – ثابتة في مواضعها، وأشياء الواقع العيني تتبدل وتتحول على الدوام. لذلك، وفقط لذلك، لا يمكن النص أي نص كيفما كان – أن يكون سلطة مطلقة وصالحة لكل أحوال الانزياح والمغايرة. إزاء هذا الإشكال، كيف تصرّف الفقهاء؟ لم يظهر الفقه أوّل الأمر إلا أملاً في تقليص الفارق المتعاظم بين النص والواقع، أي توسيع مجال سلطة النص لتشمل أقصى ما يمكن من المستجدات والمستحدثات. وذلك بواسطة آلية القياس. لكن المشكلة، كلما اتسع الفارق الزمني بين النص المستقر والواقع المتغير اتسعت منطقة الفراغ التشريعي، ثم استعصى القياس. بل، لا ينتج القياس أمام شساعة الفارق أحياناً غير السّخرية المرّة. من قبيل حكاية «عشر رضعات للكبير» في مجال الوظيفة العمومية، أو «زوّجتك نفسي» في مرحلة الدراسة الجامعية، أو تلقي معونات من السفارات الأميركية على أنها باب من أبواب الجزية، إلخ! تلك أزمة الاجتهاد الديني اليوم والذي كثيراً ما يُدعى إليه ولا يُستجاب. غير أن الوعي بأزمة صلاحيات النص بدأ منذ الوهلة الأولى، مع ظهور ما يُعرف بـ«أسباب النزول». ذلك أن الجهد المبذول في تحديد أسباب النزول يفضح وعياً، مسكوتاً عنه، بمحدودية ما يُعرف بالأحكام الشرعية. لماذا؟ عندما يُنظر إلى أي نص قانوني باعتباره تشريعاً كونياً وأبدياً صالحاً لكل زمان ومكان، فمن العبث أن نبحث عن أسباب نزوله لغاية تفعيله. بل، الرّاجح أن طابع الكونية والإطلاق يستدعيان تجريد النص القانوني إلى أبعد مدى ممكن من سياقه النزولي. لكننا، نضطر للعود إلى أسباب النزول عندما ندرك محدودية الحكم، فنحاول تجاوز تلك المحدودية عبر آليات القياس كما يفعل الفقهاء، أو عبر تعطيل الحكم «الشرعي» كما هي «العادة السرية» لجل المسلمين وإن كانوا قليلا ما يبوحون. نعلم أيضاً أن الإصرار على ترسيم القرآن كدستور إلهي، هو محصلة مسار طويل من الانتقال من «إسلام الفطرة» إلى «إسلام النص». إنه مسار بدأ عقب وفاة الرّسول الكريم، حين صار القرآن الرباني مصحفاً ورَقياً، والمصحف نصاً رسمياً، والنص سلطة مطلقة ومقيدة للعقل والجسد والوجدان. في السياق ذاته، انتقل مركز الثقل في الثقافة الإسلامية من الذات الإلهية، وفق التوحيد الرّبوبي الخالص وتبعا لمباحث علم الكلام، إلى قداسة وسلطة ومرجعية النص، تبعاً لمباحث الفقه. وهو الأمر الذي انتهى بالعقل الفقهي في الأخير إلى التعاطي مع القرآن الكريم وفق الرّؤية السحرية للعالم. حيث يُنظر إليه كما لو أنه مغارة علي بابا، في داخله كل شيء. أو كأنه عصا موسى أو خاتم سليمان، بضربة سحرية يقدم الحلول الناجعة لكل المشاكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بل يعتبره البعض ترياقاً ورُقيّة للأمراض الجسمية والنفسية وحتى العقلية! وهذا منتهى اللاّمعقول