الشيخ حبّ الله النجفي(*)
بُعث نبيُّنا الأعظم ورسولُنا الأكرم|، فحَبا الناسَ حَبوتَين، وأتحَفهم بتحفتَين ـ طبقاً لحديثِ الثِّقلَين ـ: «كتاب الله، وعترتي؛ أهلَ بيتي»، ﴿فَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.
«كتاب الله» أثَّر في الأمّةِ الإسلاميّةِ؛ شيعيّةً وسُنّية. وهذا ممّا لا يَرتابُ فيه أيُّ أحدٍ على وجهِ المعمورة؛ لكنْ «عترتي؛ أهل بيتي» هل أثَّروا في الأمّةِ الإسلاميّةِ؛ شيعيّةً وسُنّية؟
الفِرَقُ الشيعيّةُ، ولا سيَّما الإماميّةُ، صرَّحَت بذلك؛ لكنْ ما هو حالُ «سائر الفِرَق الإسلاميّة» (الفِرَق السُنّية)؟
الفِرقُ السُنّيةُ، أو مُعظمُها، لَم تُعاصِر العترةَ الطاهرةَ، فمن الطبيعي أنْ لا تتأثَّر بها مباشَرةً؛ بل بالواسطةِ. هنا:
يجبُ علينا أن نَسألَ هكذا: هل أثَّر «تُراثُ» العترةِ الطاهرةِ، لا العترةُ الطاهرةُ نفسُها، في الفِرَقِ السُنّية؟ هذا هو سؤالُنا، الذي يَنتظرُ جوابَنا.
لكنّ حجمَ هذا السؤال هو أكبرُ من حجم مقالةٍ واحدةٍ؛ لذلك جزَّأنا السؤالَ، فتناولْنا جزءاً واحداً منه فقط؛ «عترتي؛ أهل بيتي» هل أثَّروا في الفِرَق السُنّية، في «الكلام: أصول الدين»؟
لكنّ حجمَ هذا السؤال أيضاً هو أكبرُ من حجم مقالةٍ واحدةٍ؛ لذلك جزَّأنا هذا السؤالَ أيضاً، فتناولْنا جزءاً واحداً منه فقط:
«عترتي؛ أهل بيتي» هل أثَّروا في الفِرَق السُنّية في مسألةٍ من أهَمّ وأعَمّ المسائل الكلاميّة، وهي «الإيمان»؟
نحاولُ، جادِّينَ مجتهِدينَ، أن نجيبَ هذا السؤالَ المطروحَ، أو الطارحَ نفسَه، بكلّ صدقٍ وأمانةٍ.
وبما أنّ «فَهمَ السؤال نصفُ الجواب» فاللازمُ قَبلَ البَدءِ بالإجابةِ، إيضاحُ السؤالِ، وإزالةُ اللَّبْسِ عنه.
ليس المُرادُ بـ «مواقفِ أهلِ البيتِ» في هذا السؤال هو «مواقفُ أهلِ البيتِ» من مِنظارِ الفِرقةِ الإماميَّةِ؛ بل المرادُ بـ «مواقفِ أهلِ البيتِ» في هذا السؤالِ هو «مواقفُ أهلِ البيتِ» من مِنظارِ أهلِ السُّنةِ.
السؤالُ هو: هل قَبِلَ أهلُ السُّنةِ ما رأوا واعتَقَدوا أنّه هو «موقفُ أهلِ البيتِ في الإيمان» حقّاً وصدقاً؟ فلنبدأ بالإجابةِ:
1ـ ماهيّتُه
إنّ أخطرَ فرقةٍ متقدِّمةٍ، وهي الخوارجُ، وأخطرَ فرقةٍ متأخِّرةٍ، وهي الوهّابيّةُ، إنما كان خطؤهما وخطرُهما هو: «تكفيرُ» الموحِّدين؛ الحكمُ بالكفر على مَنْ أقرَّ قلباً وقالَباً بالتوحيد. أوّلُ سؤالٍ طُرح: ما هي ماهيّةُ الإيمان؟
«اختَلف الناسُ في ماهيّة الإيمان؛ فذهَب قومٌ إلى أنّ الإيمانَ إنّما هو معرفةُ الله تعالى بالقلب فقط… وهذا قولُ… الجَهْم… والأشعريّ… وأصحابهما.
وذهَب قومٌ إلى أنّ الإيمانَ هو المعرفةُ بالقلب والإقرارُ باللسان معاً… وهذا قولُ أبي حَنيفةَ… وجماعةٍ من الفقهاء.
وذهَب سائرُ الفقهاء وأصحابُ الحديث والمعتزلةُ و… إلى أنّ الإيمانَ هو المعرفةُ بالقلب… والإقرارُ… والعملُ…»([1]).
لكنْ جاء قوله: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ﴾ فاصلاً بين الإيمان والمعرفة؛ فكيف عُرِّف الإيمانُ بالمعرفة؟
يجيبُ التفتازاني: «وقع في كلام عظماء الملّة وعلماء الأمّة مكانَ لفظ «التصديق» لفظُ «المعرفة» و«العلم» و«الاعتقاد»؛ فينبغي أن يُحمَلَ على العِلم التصديقيّ، المعبَّر عنه بـ «گِرَويدَن»، ويُقطعَ بأنّ التصديقَ من جنس العلوم والاعتقادات. لكنّه في الإيمان مشروطٌ بقيودٍ وخصوصيّات؛ كالتحصيلِ والاختيار وتَركِ الجحودِ والاستكبار. ويدلّ على ذلك ما ذَكره أميرُ المؤمنين عليٌّ ـ كرَّم اللهُ وجهَه ـ أنّ: الإيمان معرفةٌ، والمعرفة تسليمٌ، والتسليم تصديقٌ»([2]).
نصٌّ رائع، جامع، مانع، صريحٌ بأنّ «عظماء الملّة» و«علماء الأمّة» إنما أوّلوا كلامَ الله عزَّ وجلَّ بكلام عليٍّ×.
هذا هو غايةُ الإجلال والإكرام، والإعظام والاحترام، لشخصيّة إمام الكلام×؛ مولى الملّة ومقتدى الأمّة.
يؤيِّدُه ويؤكِّدُه حديثُ جنود العقل والجَهل؛ جاء فيه: «والمعرفةُ، وضِدَّها الإنكارُ»([3])؛ وضِدُّ الإنكار: الإيمان.
يؤيِّدُه ويؤكِّدُه قولُ إمامِنا الصادق: «إنّ المعرفةَ من صُنع الله… في القلب… والجُحودَ صُنعُ الله في القلب… فبشهوتِهم الإيمانَ اختاروا المعرفةَ، فكانوا بذلك مؤمِنين عارفين؛ وبشهوتِهم الكفرَ اختاروا الجُحودَ، فكانوا بذلك كافرين جاحدين»([4]).
تصريحٌ صريحٌ بأنّ الإيمان هو المعرفة، كما أنّ الكفرَ هو الجُحود.
هكذا حَلَّ لفظُ «المعرفة» محلَّ «التصديق».
أئمّتُنا هم أوّلُ مَنْ عرَّف الإيمانَ بالمعرفة، وعلماءُ وعظماءُ أمّتِنا إنما عرَّفوه بالمعرفةِ اتّباعاً لأئمّتِنا.
«اختَلف الناسُ في ماهيّة الإيمان»، لكنهم اتَّفقوا على دخول «المعرفة» في ماهيّتِه؛ اقتداءً واهتداءً بأئمّتِنا.
مَنْ هو أوّلُ مَن عرَّف الإيمان؟ أجاب البخاريّ: رسولُ الله، والطريقُ إلى التعريف هو عبدُ الله بنُ عبّاس فقط: «آمُرُكم بأربَع:[1] الإيمانِ بالله ـ ثُمّ فسَّرها لهم ـ: شهادةِ أنْ لا إلهَ إلاّ الله وأنّي رسولُ الله؛ و[2] إقامِ الصلاة…»([5]).
هذا هو التعريفُ النبويّ الصحيحُ الصريحُ للإيمان: الشهادتان؛ شهادةٌ بالتوحيد، وشهادةٌ بالرسالة.
ولقد أخطأ علماءُ وعظماءُ الأمّة الإسلاميّة في استخراج واستنباط تعريف الإيمان من هذا النصّ؛ فحسِبوا أنّ: قولَه «إقامِ الصلاة و… و…» هو من ضمنِ تفسير «الإيمانِ بالله»، والحال أنه معطوفٌ عليه، وقسيمٌ له؛ تأمَّلوا: «آمُرُكم بأربع: [1] الإيمانِ بالله…؛ و[2] إقامِ الصلاة؛ و[3] إيتاءِ الزكاة؛ و[4] أن تؤدّوا خُمُسَ ما غَنِمتُم».
ومن أطرف الطرائف وألطف اللطائف أنّ أوّلَ مَنْ أخطأ هذا الخطأ الفادحَ هو البخاريّ بنفسِه! قال: «باب: أداءُ الخُمُس من الإيمان». هذا هوالمدَّعَى؛ فما الدليلُ عليه؟ ذَكرَ هذا الحديثَ فقط، لكنْ بهذه الصورة: «…فأمَرهم بأربَعٍ…: أمَرهم بالإيمانِ باللهِ وحدَه؛ قال: «أتَدرونَ ما الإيمانُ بالله وحدَه؟» قالوا: اللهُ ورسولُه أعلَم، قال: «شهادةُ… وإقامُ الصلاة وإيتاءُ الزكاة وصيامُ رمَضان وأن تُعطُوا من المَغنَم الخُمُس»([6]). هذه الصورةُ البخاريّةُ حيَّرَت علماءَ وعظماءَ الأمّة، فخبَطوا في رفعِ إبهاماتِها وإيهاماتِها خبطَ عَشواءَ([7])؛ فهي صورةٌ خاطئةٌ 100%، أمّا الصورةُ الصحيحةُ لهذا الحديثِ الصحيحِ فهي ما ذكَرناه نحنُ، وهي لا تَدُلُّ على مدَّعَى البخاريِّ أبداً.
البخاري نقَل هذا الحديثَ الصحيحَ بعدّةِ صوَرٍ؛ أكثرُها التئاماً وانسجاماً، وأقلُّها إبهاماً وإيهاماً، هي ما ذَكرناه.
التعريفُ النبوي للإيمان هو أنّ الإيمان هو الشهادتان فقط؛ فلا يَشمَلُ الصلاةَ، ولا الزكاةَ، ولا أيَّ عملٍ.
فسَّر النبيُّ| الإيمان؛ لكنْ فسَّر الناسُ لفظَ «شهادة» بـ «قول»، فظَنُّوا كلَّ قائلٍ مؤمناً، حتّى ولو كان منافقاً؛ فنزَل قولُه عزَّ وجلَّ:﴿قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾، نصٌّ صحيحٌ صريحٌ بأنّ الإيمانَ «أمرٌ» يَدخُلُ في القلب، ولا يقفُ على اللسان. هل له اسمٌ آخَر غيرُ الإيمان؟ صرَّح التفتازاني، كما مَرَّ، بأنّ عليّاً هو أوّلُ مَنْ سمّاه «مَعرفة»، فسمَّته الأمةُ الإسلاميّةُ كلُّها، تَبَعاً له، «مَعرفة».
صرَّح التفتازاني، كما مَرَّ، بأنّ التعريفَ العلوي للإيمان هو أنّ «الإيمان معرفةٌ،… تسليمٌ،… تصديقٌ»([8]).
التعريفُ القرآني ـ النبوي ـ العلوي للإيمان هو أنّ الإيمان: شهادةٌ قلبيّةٌ، تُسمّى: معرفة، تسليم، تصديق.
الإمامُ عليٌّ هو أوّلُ مَنْ نَصَّ بصراحةٍ على أنّ الإيمان معرفةٌ فقط، وكلُّ مَنْ صرَّح بعده فهو مقلِّدٌ له.
لكنْ هل هذا معناه أنّ سائرَ العلماء رفَضوا ولفَظوا تعريفَ عليٍّ؟ كلاّ، وإنما لم يصِلْ إليهم هذا التعريف، بل:
وصَل إليهم كلامٌ نبوي، رواه عليٌّ، ظاهرُه تعريفُ الإيمان، وواقعُه إعطاءُ ضابِطٍ عمَلي لمَعرفةِ المؤمِن؛ لأنّ ما يَدخُلُ ويَستقِرُّ في القَلب لا يُحَسُّ أبداً؛ فبقِي المسلمون حائرون: مَنْ نَسِمُه بالإيمان ومَن لا نَسِمُه به؟ أجاب رسولُ الله، ورواه عنه أئمتُنا: «الإيمانُ قولٌ وعمَلٌ». هذا ضابطٌ للأمّة، لا تعريفٌ للإيمان؛ رواه الفريقان «عن محمد بن عبد الله بن طاهر قال: كنتُ واقفاً على رأس أبي، وعنده أحمدُ بنُ محمد بن حنبل وإسحاقُ بنُ راهْوَيْه وأبو الصَلْت الهَرَويّ، فقال أبي: لِيُحدِّثْني كلُّ رجُلٍ منكم بحديثٍ، فقال أبو الصَلْت: حدَّثني عليُّ بنُ موسى الرضا… عن أبيه… عن أبيه… عن أبيه… عن أبيه… عن أبيه… عن أبيه عليٍّ قال: قال رسولُ الله|: الإيمانُ قولٌ وعملٌ؛ فقال بعضُهم: ما هذا الإسناد؟ فقال له أبي: هذا سَعُوطُ المَجانين؛ إذا سُعط به المجنونُ بَرئ»([9]). يؤيِّدُه ويؤكِّدُه ما رواه الشيعةُ عن أئمّتِنا، والسُنّةُ عن ابنِ عبّاسٍ، أنّ رسولَ الله| قال: «الإيمانُ قولٌ وعملٌ؛ أخَوان شَريكان»([10]).
هذا الضابطُ النبويّ، فالرابطُ العلويّ، أثَّر أعظمَ الأثر في الأمّة الإسلاميّة ـ لا ننسَ أبداً عدمَ كونه تعريفاً ـ:
قال الذَهْليّ: «السُنّةُ عندنا أنّ الإيمانَ قولٌ وعملٌ… وهو قولُ أئمّتِنا: مالكٍ… و… الأوزاعيّ و… الثَّوريّ و…»([11]).
قال البخاريّ: «كتبتُ عن 1080 نفساً… لم أكتُب إلاّ عمَّنْ قال: الإيمانُ قولٌ وعملٌ»([12]).
قال شارحُ البخاريّ: «مذهبُ جماعة أهل السُنّة؛ من سَلَف الأمّة وخَلَفها، أنّ الإيمان: قولٌ وعملٌ»([13]).
قال ابنُ تَيميّةَ: «من أصول الفِرْقة الناجية أنّ الدينَ والإيمانَ: قولٌ وعملٌ»([14]).
قال ابنُ رجَب: «هو قولٌ وعملٌ… وهذا… إجماعٌ من السَّلَف، وقد حكى الشافعيّ إجماعَ الصحابة والتابعين عليه»([15]).
قال أحمدُ بنُ حنبل: «هذا مذهبُ أهل العِلم… من لَدُنْ أصحاب رسول الله إلى يومِنا هذا»([16])؛ كلُّهم علويّون.
عظمةُ موقف أبي الصَلْت أمام ابن حنبل تنبيهُه على أنّ مذهبَ أمّتِنا إنما وصَل عن طريق أئمّتِنا.
لكنْ فسَّر الناسُ هذا الضابطَ النبويّ بأنّ القولَ والعملَ كافيان لتحقُّق معنى الإيمان، حتّى ولو كانا عن نفاقٍ؛
فجاء دَورُ إمامِنا عليٍّ ليُعلِنَ لأوّل مَرّةٍ في الإسلام: «الإيمان: معرفةٌ بالقلب، وإقرارٌ باللِّسان، وعمَلٌ بالأركان».
هذا ما نبَّهَنا، لا بل نبَّه أمّتَنا، عليه الشريفُ الرضيُّ، في سِفْرِه المَرْضيِّ: النصُّ علويّ، لا نبويّ، أبداً وإطلاقاً.
نعم، رواه ابنُ ماجةَ مرفوعاً إلى النبيّ، لكنْ حكَم عليه الألبانيّ، بل وقَبْله أغلبُ العلماء العظماء، بالوضع([17]).
تأثَّرَت الأمّةُ الإسلاميّةُ بهذا الضابِط العلويّ غايةَ التأثُّر، واتّبعَتْه نهايةَ الاتّباع؛ وبعضُهم غيرُ شاعرٍ بعلويّتِه:
قال المعتزِليّ: «هذا هو مذهبُ أصحابنا المعتزلة بعينه… العمل بالأركان عندنا داخلٌ في مسمَّى الإيمان»([18]).
قال أبو القاسم الأنصاريّ: «هذا قولُ مالك بن أنَس إمام دار الهجرة، ومعظَم أئمّة السلف رضي الله عنهم»([19]).
ذَهَب إليه «مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ والأوزاعيُُّّ وإسحاقُ… وسائرُ أهل الحديث وأهل المدينة… وأهل الظاهر»([20]).
«هذا… أصلٌ كبيرٌ في الإيمان عند فقهاء المسلمين؛ قديماً وحديثاً…، لا يُخالفُ هذا الأمرَ إلاّ خبيثٌ مهجورٌ»([21]).
«ذهَب… الفقهاءُ… وأصحابُ الحديث والمعتزلةُ والشيعةُ وجميعُ الخوارج» إلى ذلك([22]).
لكنّ علماءَ وعظماءَ الأمّةِ الإسلاميّةِ اختلَفوا في تفسيرِ هذا الضابطِ، اختلافاً شتَّت شملَهم وفرَّق جمعَهم:
الخوارجُ والمعتزلةُ فسَّرَت الضابطَ العلويّ بأنّ «العمل بالأركان… داخلٌ في مسمَّى الإيمان»([23]).
غيرُ الخوارج والمعتزلة فسَّروه تفسيراً أدَقَّ وأحَقَّ؛ قالوا: «إنّ الإيمانَ يُطلَقُ على ما هو الأصلُ والأساسُ في دخول الجَنّة؛ وهو التصديقُ وحدَه أو مع الإقرار (وقد عرَّفه عليٌّ بالمعرفة فقط).
وعلى ما هو الكاملُ المُنجِي بلا خِلافٍ؛ وهو التصديقُ مع الإقرار والعمل (وقد عرَّفه عليٌّ بمجموع الثلاثة)»([24]).
غيرُ الخوارج والمعتزلة اتّفَقوا على تفسيرِ الضابطِ العلويّ، لكنْ اختلَفوا في تعريفِ الإيمان:
الجَهْميّةُ والأحنافُ والأشاعرةُ عرَّفوا الإيمانَ بالنصّ العلويّ الأوّل: «الإيمانُ معرفةٌ». صرَّح بذلك التفتازانيّ([25]).
سائرُ العلماء كأنّهم لم يعثروا على النصّ العلويّ الأوّل، فاضطُرّوا إلى أن يعرِّفوا الإيمانَ بالنصّ العلويّ الثاني.
2ـ مغايَرتُه للإسلام
هل الإيمانُ هو الإسلام أم الإيمانُ غيرُ الإسلام؟ أجاب اللهُ عزَّ وجلَّ: ﴿قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾، فأثبَت المغايَرة.
مع هذا، نفاها علماءُ عظماءُ؛ كالماتُريديّ([26]) والفخر الرازيّ([27])؛ مستشهِدين بآيٍ أُخَر.
لذلك لم يَكتفِ اللهُ عزَّ وجلَّ بهذا البيان لإثبات المغايَرة؛ بل أنزَل اللهُ جِبريلَ ليُثبتَ بنفسِه هذه المغايرةَ؛ «كان النبيّ بارزاً يوماً للناس، فأتاه رجُلٌ فقال: ماالإيمان؟ قال: «…أن تؤمنَ باللهِ وملائكتِه… ورُسُلِه، وتؤمِنَ بالبَعث»، قال: ما الإسلام؟ قال: «…أن تَعبُدَ اللهَ ولا تُشرِكَ به وتُقيمَ الصلاةَ وتؤدِّيّ الزكاةَ المفروضةَ وتصومَ رمَضان»، ثُمّ أدبَرَ، فقال: «رُدُّوه»، فلم يَرَوْا شيئاً، فقال: «هذا جِبريلُ؛ جاءَ ليُعلِّمَ الناسَ دِينَهُم»([28]). السندُ صحيحٌ، والمتنُ صريحٌ.
مع هذا جاء جماعةٌ «من أهل الجماعة» فاحتَجّوا بهذا الحديثِ المُثبِت للمغايَرة على نفىِ المغايَرة!([29]).
فجاء دَوْرُ أئمّتنا^ ليُصرِّحوا أوّلَ مرّةٍ في تأريخِ الإسلام بأنّ الإيمان غيرُ الإسلام:
سُئل إمامُنا الباقرُ: «إنّ بالكوفةِ قوماً يقولون مقالةً ينسبونها إليك…: الإيمانُ غيرُ الإسلام!»، فأجاب بالإيجاب([30]). السندُ صحيحٌ، والمتنُ صريحٌ بأنّ إمامَنا× هو أوّلُ المصرِّحين بالمغايَرة في العالَم الإسلاميّ.
هذا التصريح، الصحيح، الخالد، الرائد، التأريخيّ ـ الكلاميّ، بلَغ علماءَ وعظماءَ الأمّة بصورةٍ هَندَسيّةٍ:
قال أحمدُ بنُ حنبل: «قال محمّدُ بنُ عليّ: هذا الإسلام، ودوَّر دوّارةً في وسَطِها أخرى: وهذا الإيمانُ الذي في وسَطها مقصورٌ في الإسلام»([31]). السندُ إلى ابنِ حنبل صحيحٌ؛ يَحتجُّ ابنُ حنبل كلاميّاً بكلام باقرنا×.
قال ابنُ مَندةَ: «قال أبو جعفرٍ محمّدُ بنُ عليٍّ، ووصَف الإسلامَ فدوَّر دائرةً واسعةً، فهذا الإيمانُ، ودوَّرَ دائرةً صغيرةً وسطَ الكبيرة، فإذا زَنى وسرَق خرَج من الإيمان إلى الإسلام، ولا يُخرجُه من الإسلام إلاّ الكفرُ بالله عزَّ وجلَّ»([32]).
هذا النقلُ هو أروَعُ نَقلٍ لكلام الباقر، يَستخدمُ فيه إمامُنا عِلمَ الهندسة لتبيين الفرق بين الإيمان والإسلام.
«المُرجئةُ وأصحابُ الحديث»([33]) و«الأشاعرة وأكثر المُجبِرة»([34]) و«الشافعيّ»([35]) وافقوا أئمتَنا^ في المغايَرة.
3ـ عدمُ شُمولِه لمرتكِب الكبيرة
لو بحَثنا النصوصَ النبويّةَ الصحيحةَ الصريحةَ لوجَدنا فيها الحُكمَ على الفاسق بعدم الإيمان حالَ فِسقِه: «لا يَزني الزاني حينَ يَزني وهو مؤمِنٌ، ولا…، ولا يَسرِقُ حينَ يَسرِقُ وهو مؤمِنٌ»([36]). هذا حُكمٌ نبويّ باتٌّ. فسَّره إمامُنا الباقرُ، لأوّل مرّةٍ في الإسلام، بالتفرقةِ بين الإسلامِ والإيمان، برسمِ دائرتَين هَندَسيّتَين ـ كما مرَّ ـ. تفسيرُ باقرِ العِلم بَعدَ النبيّ لكلامِ النبيّ أثَّر أعظمَ الأثر في أعظمِ أعاظمِ أهل السُّنةِ.
مثلاً: نقَله أحمدُ بنُ حنبل، بسندٍ صحيحٍ([37])، تابعاً مقلِّداً له. فكما قلَّد واتّبَع النبيّ، قلَّد واتّبَع باقرَ العِلمِ بَعدَ النبيّ.
قال التِرْمِذيّ: «وقد رُوي عن أبي جعفرٍ محمدِ بنِ عليّ أنه قال في هذا: خرَج من الإيمانِ إلى الإسلام»([38]).
قال البَزّارُ: «حدَّثنا… قال: سمعتُ محمدَ بنَ عليّ، وسُئل عن قولِ النبيّﷺ:…، قال: فأدار دارةً واسعةً في الأرض، ثمّ أدار في وسَط الدارةِ دارةً، فقال: الدارةُ الأولى الإسلام، والدارةُ التي في وسَطِ الدارة الإيمانُ. فإذا زَنى خرَج من الإيمانِ إلى الإسلام، ولا يُخرجُه مِن الإسلامِ إلاّ الشِركُ»([39]).
قال اللالْكائيّ: «وأنبأنا … قال: سُئل أبو جعفرٍ محمدُ بنُ عليّ عن قول النبيّ…، فقال: هذا الإسلامُ، ودوَّر دائرةً عظيمةً، ثُمّ دوَّر دائرةً في جَوْفِها أصغرَ منها، ثُمّ قال: هذا الإيمانُ مقصورٌ في الإسلام، فإذا هو زَنَى أو سرَق خرَج من الإيمان إلى الإسلام، فإذا تاب رجَع إلى الإيمان، ولا يُخرِجُه من الإسلامِ إلاّ الكفرُ بالله»([40]).
نقَل ابنُ مَندةَ هذا التفسيرَ الباقرَ، وقالَ: «وهذا مذهبُ جماعةٍ من أئمّة الآثار»([41]).
قال ابنُ رجَب: «القولُ بأنه مسلِمٌ ليس بمؤمِنٍ مرويٌّ عن… محمدِ بنِ عليّ. وذَكر… أنه المختارُ عند أهل السُّنّة»([42]).
أضاف: «ذهب طائفةٌ إلى أنّ الإسلامَ عامٌّ؛ والإيمانَ خاصٌّ. فمَن ارتكَب الكبائرَ خرَج من دائرةِ الإيمانِ الخاصّة إلى دائرة الإسلام العامّة. هذا مرويٌّ عن… محمدِ بنِ عليّ،… وهو اختيارُ… وابن حامدٍ وغيرهما من الأصحاب»([43]).
قال ابنُ حجَر العَسقَلانيّ: «يَعني أنه جعَل الإيمانَ أخصَّ من الإسلام… وهذا يوافِقُ قولَ الجُمهور»([44]).
قال محمدُ بنُ نصرٍ المَروَزيّ: «اختلَف أصحابُنا في تفسير قول النبيّﷺ: لا يَزني الزاني حِينَ يَزني وهو مؤمنٌ، فقالت طائفةٌ منهم: إنما أراد… إزالةَ اسم الإيمان عنه من غير أن يُخرجَه من الإسلام…، واحتجّوا… بقول أبي جعفر، الذي حدَّثَناه إسحاقُ بنُ إبراهيم… عن أبي جعفرٍ محمدِ بنِ عليّ بنِ حسَينٍ أنه سُئل عن قولِ النبيّ…، فقال…:…»([45]).
طائفةٌ احتجَّت بقولِ إمامِنا؛ فهل معناه أنّ الأخرَى عارضَت إمامَنا؟ أبداً وبتاتاً، وإنما عارضَت الرواةَ عن إمامِنا.
نقَل الآجُرّيّ محمدُ بنُ الحسَين هذا التفسير بالتفصيل، ثمّ قال: «ما أحسَنَ ما قاله محمدُ بنُ عليٍّ رضي الله عنهما؛ وذلك أنّ الإيمانَ يَزيدُ ويَنقُصُ؛ يَزيدُ بالطاعاتِ ويَنقُصُ بالمَعاصِي، والإسلام لا يجوزُ أن يُقالَ: يَزيدُ ويَنقُص… كلُّ ذلك دليلٌ على أنّ الإيمانَ يَزيدُ ويَنقُصُ، والإسلامَ ليس كذلك»([46]). استدَلّ بقول إمامِنا على زيادةِ الإيمان ونقصانِه.
نقَل ابنُ بطّةَ هذ التفسير بالتفصيل، ثمّ علَّق: ««وهذا القولُ من أبي جعفرٍ محمدِ بنِ عليّ رضي الله عنه من أوضحِ الدلائل وأفصحِها على زيادةِ الإيمان ونقصانِه؛ وذلك أنّ الإيمانَ يَزيد بالطاعات فيُحصِنُ الإيمانَ، ويَنقُصُ بالمعاصي فيُحرِقُ الإيمانَ، ويكونُ غيرَ خارجٍ من الإسلام؛ وذلك أنّ الإسلامَ لا يجوزُ أن يقال فيه: يَزيدُ ويَنقُصُ»([47]).
قال العِمرانيّ: «الدليل على أنّ الإيمانَ يَزيدُ بالطاعة ويَنقُصُ بالمعصية ما رُوي عن النبيّ…. وعن محمد بن عليّ رضي الله عنهما أنه قال: هذا الإسلام، ودوَّر دارةً في وسطها أخرى، وقال: هذا الإيمانُ مقصورٌ في الإسلام؛ قال رسولُ الله… يَخرُجُ من الإيمانِ إلى الإسلام، ولا يَخرُجُ من الإسلام، فإذا تاب تاب الله عليه ورجع إلى الإيمان»([48]).
جُمهورُ الأمّة الإسلاميّة أطاعوا النبيّ، ثُمّ محمدَ بنَ عليٍّ، في عدم وصف العاصي بالإيمان.
جُمهورُ الأمّة الإسلاميّة أطاعوا محمدَ بنَ عليٍّ في عدمِ تكفيرِ العاصي، بل وصفِه بالإسلام.
جُمهورُ الأمّة الإسلاميّة استَنبطوا مِن كلامِ محمدِ بنِ عليٍّ أنّ الإيمانَ يَزيدُ ويَنقُصُ.
التفِتوا جيِّداً؛ إمامُنا لم يصرِّح بزيادةِ الإيمانِ ونقصانِه، أبداً وبتاتاً. لكنّ علماءَ وعظماءَ الأمّةِ الإسلاميّةِ صرَّحوا بأنّ كلامَه× «دليلٌ» على ذلك، بل «من أوضحِ الدلائل وأفصحِها» عليه، بل هو هو «الدليل» الوحيدُ عليه. هذا معناه أنّ علماءَ وعظماءَ أمّتِنا لم يَكتفوا بالأخذِ بتصريحاتِ أئمّتِنا، أبداً وبتاتاً، بل تعدَّوا هذه المرحلةَ إلى مرحلةٍ ثانيةٍ، وهي أنهم اتَّخَذوا كلامَ أئمّتِنا مصدراً من مصادرِ الاستنباط، كالقرآنِ والسُّنّةِ النبويّةِ تماماً. فكما أنهم لَم يَكْتفوا بالأخذِ بالمداليلِ المُطابَقيّةِ للقرآنِ والسُّنّة، بل وأخَذوا بمداليلِهما الالتزاميّةِ والتضمُّنيّةِ، كذلك لَم يَكتفوا بالأخذِ بالمداليلِ المُطابَقيّةِ لكلماتِ أئمّتِنا، بل وأخَذوا بمداليلِها الأخرَى أيضاً؛ تسليماً لها.
فوجئَ أئمّتُنا وأمّتُنا بالإرجاء؛ بمعنَى «إرجاء» الفاسِق ووصفِه بالإيمان؛ لا بمعنَى إرجاء عليٍّ وعدم ولائه.
مَن هو أوّلُ مَنْ أرجأ بهذا المعنى؟ يجيبُ الأوزاعيّ: «رجُلٌ مِن أهل الكوفة؛ يقالُ له: (ابنُ) قَيس الماصِر»([49]).
مَن هو أوّلُ مَن رَدَّ عليه؟ يجيبُ الكلينيّ: «دخَل ابنُ قَيسٍ الماصِرِ… على أبي جعفرٍ (الباقِرِ)×… فقال: إنّا…؛ فقال له…:… أمّا رسولُ الله فقد قال: لا يَزني الزاني حين يَزني…؛ فاذهَب… حيثُ شئتَ».([50]) السندُ صحيحٌ.
هذا الموقفُ التأريخيّ ـ الكلاميّ ذَكَّر الأمّةَ الإسلاميّةَ بالنصّ النبويّ، فتذكَّرَت ورفَضَت الإرجاءَ رفْضاً.
من أدَقّ النصوص في تقرير مذاهب الأمّة الإسلاميّة في هذه المسألة نصُّ التفتازانيّ: «أمّا علَى… ما يُقال: إنه إقرارٌ باللسان، وتصديقٌ بالجَنان، وعملٌ بالأركان، فقد يُجعل تاركُ العمل خارجاً عن الإيمان، داخلاً في الكفر، وإليه ذهَب الخوارج؛ أو غيرَ داخلٍ فيه، وهو القولُ بالمنزلة بين المنزلتين، وإليه ذهَب المعتزلة؛ وقد لا يُجعل تاركُ العمل خارجاً عن الإيمان، بل يُقطَعُ بدخولِه الجَنّة وعدمِ خلودِه النار، وهو مذهبُ أكثر السلَف وجميع أئمّة الحديث وكثيرٍ من المتكلِّمين، والمحكيّ عن مالكٍ والشافعيّ والأوزاعيّ»([51]).
طبقاً لهذا النصّ التفتازانيّ، الخوارجُ كلُّهم والمعتزلةُ كلُّهم وأكثرُ السلَف وجميعُ أئمة الحديث و… و… و… قد قلَّدوا في هذه المسألة عليّاً؛ لأنهم كلَّهم أقرّوا بالنصّ العلويّ القائل «الإيمانُ: معرفةٌ… وإقرارٌ… وعملٌ».
فماذا هذا الاختلافُ العظيمُ بينهم؟ إنما هو اختلافٌ في تفسيرِ النصّ العلويّ، كالاختلاف في تفسير القرآن.
أمّا الخوارجُ فحَسِبوا أنّ الخارجَ عن ضابِط الإيمان كافرٌ، وأنهم فقط موافقين مطابقين بل مقلِّدين لعليٍّ. لكنْ قال البغداديّ: «فأوّلُ متكلِّميهم من الصحابة عليّ بنُ أبي طالب… حيثُ ناظَر الخوارجَ في مسائل الوعد والوعيد»([52]).
هذا مُفادُه أنّ الخوارجَ ما قلَّدوا عليّاً في هذه المسألة، أبداً وبتاتاً، بل ناظَرهم وناظَروه؛ ناقشَهم وناقَشوه. لكنْ لو راجعنا التواريخَ كلَّها لم نجد في أيٍّ منها أنّ عليّاً ناظَر الخوارجَ في هذه المسألة، أبداً وبتاتاً، بل إنما ناظَر عليٌّ الخوارجَ، المحكِّمةَ، الحَرُوريّةَ، في قضيّة التحكيم، لا في هذه المسألة، أبداً وبتاتاً.
أخطأ البغداديّ في أنّ عليّاً «ناظَر الخوارجَ في مسائل الوعد والوعيد»، بل إنما ناظَرهم في مسألةِ التحكيم.
الخوارجُ إنما أخَذوا ضابطَ الإيمان من عليٍّ، فحسِبوا أنه ضابطُ الإسلام، فكفَّروا كلَّ مَنْ لم يرَوْه مؤمِناً. الخوارجُ قلَّدوا عليّاً في كلِّ المسائل، إلاّ في مسألةٍ واحدةٍ، استَنبطوها من القرآن: ﴿إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهِ﴾.
أمّا المعتزِلةُ فهي تعترفُ بصراحةٍ بأنها قد قلَّدَت واتّبعَت عليّاً في هذه المسألة؛ قال القاضي عبدُ الجبّار: «نكرِّرُ على صحّة ما نَقولُه من أنّ له منزلةً بين هاتين المنزلتين. وهذا المذهبُ مأخوذٌ عن أمير المؤمنين×؛ لأنه كان يَلعنُ مَنْ بغَى عليه، ويصفُه بالفسق، ويميِّزُهم عن الكفّار في الإرث والدفن وغيره [فلم يصفهم بالكفر]. كما يفرِّقُ بينهم وبين المؤمن في المدح والتعظيم [فلم يصفهم بالإيمان]. وهذا مشهورٌ ظاهرٌ من مذهبه وطريقته فيهم»([53]). فرأيُ المعتزِلةِ في هذه المسألةِ إنما أخَذَه واصلٌ من بيتِ عليّ. وقال ابنُ أبي الحديد المعتزِليّ، ذيلَ النصّ العلويّ الواردِ في نهج البلاغة: «هذا هو مذهبُ أصحابنا المعتزلة بعينه؛ لأنّ العملَ بالأركان عندنا داخلٌ في مسمَّى الإيمان… فمَنْ لم يَعمَل لم يُسَمَّ مؤمِناً»([54]). فالمعتزلةُ علويّةٌ هنا.
الفِرقُ الكلاميّةُ الرائدةُ في هذه المسألة ثلاثٌ: الخوارج، المعتزلة، المُرْجئة. تكلَّمنا عن اثنتين، وبقيت الثالثة. المُرجئةُ بمَنْ تأثَّرَت في موقفِها الإرجائيّ؟ إنّ من أعظمِ رجالِهم أبو حَنيفةَ. ويوجدُ الآنَ في متناوَل أيدينا رسالةٌ كتَبها بخطِّه وبيدِه، صرَّح فان أس بأنّ احتمالَ صحّتها من بين سائر مؤلَّفاتِه «كبيرٌ جِدّاً»([55])؛ سطَر فيها:
1ـ «وقد سَمّى عليٌّ أهلَ حربه مِن أهل الشام مؤمنين في كتاب القضيّة»؛ محارِبون لعليٍّ، مؤمنون في رؤية عليٍّ!
2ـ «وقد بلَغني عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه حين كتَب القضيّةَ أنه يسمّي الطائفتَين مؤمنين جميعاً»، ومحاربوه: مذنبون؛ «فوالله ما أعلمُ من ذُنوب أهل القبلة ذنباً أعظمَ من القتلِ ثُمّ دماءِ أصحاب محمدٍ… خاصّةً»([56]).
وهذا إقرارٌ واعترافٌ رائعٌ لامعٌ بأنّ أهمَّ موقفٍ تأريخيّ ـ كلاميّ اقتدَتْ به المُرجئةُ في إرجائها موقفُ عليٍّ.
هذا الموقفُ رأته الأمّةُ الإسلاميّةُ كلُّها، فقد حدَث جِهاراً لا إسراراً، لكنّها لم تفسِّره كما فسّرَته المُرجئةُ؛ فأهلُ الشام لم يكونوا زُناةً ولا سُرّاقاً، وإنما كانوا قوماً «ضالّين»، كما صرَّح بذلك أبو حنيفة في النصّ نفسِه: «أوَكانوا مهتدين وهو يَقتلُهم؟»([57]). لا، لم يكونوا مهتدين، لكنْ هل كانوا مصداقاً لـ «مرتكِب الكبيرة»؟
أجاب أبو حنيفةَ والمُرجئةُ بالإيجاب؛ لأنهم أراقوا الدمَ الحرام، وهو من أكبر الكبائر، فلذلك قالوا بالإرجاء.
وأجاب الآخَرون بالنفي؛ لأنهم ما أراقوه عالِمين بحُرمتِه، بل ضالّين ظانّين وجوبَه، فلذلك ما قالوا بالإرجاء.
فالذين قالوا بالإرجاء والذين قاوموا الإرجاء في هذه المسألة مختلفون، لكنّهم على الأخذ من عليٍّ متّفِقون.
الخوارجُ، والمعتزِلةُ، والمُرجئةُ، وجميعُ الأمّة الإسلاميّة، إنما قلَّدوا عليّاً في هذه المسألة.
4ـ عدمُ شُمولِه لتارِك الصلاة
قال رسولُ الله|: «إنّ بين الرجُل وبين الشِرك والكُفر ترْكَ الصلاة». صحَّحه مُسلمٌ بطريقَين([58]).
قال رسولُ الله|: «بَكِّرُوا بالصلاةِ في يَومِ الغَيمِ؛ فإنه مَنْ ترَك الصلاةَ فقد كفَر». صحَّحه ابنُ حِبّانَ([59]).
صرَّح ابنُ مَندةَ الأصبَهانيّ بأنّ عليّاً هو أوّلُ مَنْ فسَّر قولَه عزَّ وجلَّ: ﴿إِيمَانَكُمْ﴾ بأنه «صلاتَكم… وتصديقَكم…»([60]).
سُئل صادقُنا× عن الكبائر فأجاب، ثمّ سُئل فأجاب، إلى أن قال: «فإنّ تاركَ الصلاة كافِرٌ»([61]). السندُ صحيحٌ.
سُئل صادقُنا×: «ما بالُ الزاني لا تُسَمِّيه كافِراً، وتاركُ الصلاةِ قد سَمَّيْتَه كافِراً؟ وما الحُجّةُ في ذلك؟» فأجاب: «…تاركُ الصلاةِ لا يَتركُها إلاّ استخفافاً بها… وإذا وقَع الاستخفافُ وقَع الكفرُ»([62]). السندُ موثَّقٌ.
قال أحمدُ بنُ حنبل: «لم أسمَعْ في شَيءٍ مِن الأعمال ترْكُه كفرٌ إلاّ الصلاةُ»([63]).
سُئل عن الرجُل يدَعُ الصلاةَ استخفافاً، فأجاب: «سُبحانَ الله، إذا ترَكها استخفافاً ومُجوناً فأيّ شيءٍ بَقِي؟!»([64]).
هذا كلُّه في من ترَك الصلاةَ غيرَ مستحِلٍّ ترْكَها، أمّا مَنْ استحَلّ ترْكَها فكفرُه مسلَّمٌ؛ صرَّح صادقُنا×: «…فمَنْ ترَك فريضةً من المُوجَبات فلم يَعمَلْ بها وجحَدها كان كافِراً»([65]). السندُ صحيحٌ.
وهذا ما علَّمه إمامُ الكلام عليٌّ× عمَرَ بنَ الخطّاب، ونقَله ابنُ حنبل محتجّاً به؛ قال: «حدَّثنا… أنّ أناساً شَرِبوا الخَمرَ، فقال لهم يزيدُ بنُ أبي سفيان: شربتم الخمر؟ فقالوا: نعم، يقولُ الله: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِي مَا طَعِمُوا﴾…، فبعَث بهم إلى عمَر رضي الله عنه… فقال لعليٍّ: ما تَرى؟ فقال: «أرَى أنهم قد شَرَّعوا في دينِ اللهِ ما لم يأذَن اللهُ فيه؛ فـإنْ زعَموا أنها حلالٌ فاقتُلهم؛ قد أحَلُّوا ما حرَّم اللهُ، وإنْ زعَموا أنها حرامٌ فاجلِدْهم ثمانينَ…»([66]).
هذه الفتوى العلويّة التأريخيّة، الفقهيّة ـ الكلاميّة، علَّمت الأمّةَ الإسلاميّة؛ فقهاً وكلاماً، فأصبحت أمّةً علويّة.
هذا الاستفتاءُ العُمَريّ التأريخيّ، الفقهيّ ـ الكلاميّ، علَّم الأمّةَ الإسلاميّة أنّ رأي عليٍّ حُجّةٌ شرعيّة.
إنّ عمَرَ بنَ الخَطّاب هو هو رائدُ وقائدُ الأمّةِ الإسلاميّةِ في أن تتعلَّمَ من عليٍّ، وأن تُسلِّمَ لرأي عليٍّ.
وممّا يؤيِّدُ ويؤكِّدُ، بحِدّةٍ وشِدّةٍ، أنّ عُمَر علَّم الأمّةَ الإسلاميّةَ أن تَتعلّمَ من عليّ، وأن تُسلِّمَ لرأيِ عليٍّ:
1ـ ما حرَّره وقرَّره ابنُ قُتَيبةَ الدِينَوَريّ (213 ـ 276هـ) في تأويلِه المطبوعِ في الدَوحةِ، عاصمةِ قَطَر: «وعُمَرُ ـ معَ هذا ـ يَقولُ في قضيّةٍ نبَّهَه عليٌّ رضي الله عنه عليها: لولا قولُ عليٍّ لَهلَكَ عُمَرُ.
ويَقولُ: أعوذُ باللهِ من كُلِّ مُعضِلةٍ ليسَ لها أبو حسَنٍ؛
حدّثَنا الزياديُّ قالَ: أنا عبدُ الوارثِ، عن يونُسَ، عن الحسَنِ، أنّ عُمَرَ رضي الله عنه أُتيَ بامرأةٍ وقد وَلدَتْ لستّةِ أشهُرٍ، فهَمَّ بها، فقالَ له عليّ: قد يَكونُ هذا؛ قَالَ اللهُ ـ تَعالَى ـ: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً﴾؛ وقالَ ـ تَعالَى ـ: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَينِ كَامِلَيْنِ﴾»([67]).
2ـ ما أفاده حافظُ المَغرب، أبو عمَر ابنُ عبد البَرّ القُرطُبيّ (368 ـ 463هـ): «حدَّثَنا… حدَّثَنا… حدَّثَنا… قالَ: حدَّثَنا… حدَّثَنا… حدَّثَنا… حدَّثَنا… قالَ: سَمعتُ عبدَ الرحمنِ بنَ أبِي ليلَى قالَ: قالَ عُمَرُ رضي الله عنه: عليٌّ أقضانا.
وقال…: حدَّثَنا… قالَ: حدَّثَنا… عن… عن… عن ابنِ عبّاسٍ قال: قالَ عُمَرُ: عليٌّ أقضانا.
قالَ…: حدَّثَنا… حدَّثَنا… حدَّثَنا… عن… عن… قال: كانَ عُمَرُ يَتعوَّذُ باللهِ من مُعضِلةٍ ليس لها أبو حَسَنٍ.
وقال في المَجنونةِ التي أَمَر برَجمها، وفي التي وَضعَت لِستّةِ أشهُرٍ فأراد عُمَرُ رَجمَها، فقالَ له عليّ: إنّ اللهَ ـ تَعالَى ـ يَقولُ: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً﴾… وقالَ له: إنّ اللهَ رفَعَ القلمَ عن المَجنون… فكان عُمَرُ يَقولُ: لولا عليٌّ لَهلَكَ عُمَرُ….
ورَوَى… عن… قالَ: أتَيتُ عُمَرَ بنَ الخَطّابِ رضي الله عنه فسألتُه: من أينَ أعتمِرُ؟ فقالَ: إيتِ عليّاً فسَلْه، فذَكرَ الحديثَ… وفيه قالَ عُمَرُ: ما أجدُ لكَ إلاّ ما قالَ عليٌّ»([68]).
ما ذَكره أبو المظفَّر السَمعانيّ (426 ـ 489هـ) في تفسيرِه المطبوعِ في الرياضِ، عاصمةِ المملكةِ السُعوديّةِ: «رُويَ أنّ امرأةً أتَت بوَلدٍ لسِتَّةِ أشهُرٍ من وقتِ النكاحِ في زمانِ عُمَر رضي الله عنه فهَمَّ عُمَرُ برَجمِها، فقالَ عليّ رضي الله عنه: «لا سبيلَ لكَ عليها»، وتَلا قولَه سبحانه وتعالى: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً﴾ فقالَ عُمَرُ: لولا عليٌّ لَهلَكَ عُمَرُ»([69]).
3ـ ما سطَره عبدُ القاهر الجُرجانيّ (400 ـ 471هـ): «قالَ عُمَرُ: لولا عليٌّ لَهلَكَ عُمَرُ»([70]).
5ـ عدمُ شُمولِه لمنكري الإمامة
أمّتُنا الإسلاميّة: إمّا إماميّة، وإمّا غيرُ إماميّة.
الإماميّةُ، أو بعضُهم، يدَّعون بأنّ إمامةَ الأئمّةِ الاثنَي عشر^ من أركانِ الإيمان؛ ولازمُه عدمُ إيمان غيرهم.
غيرُ الإماميّة، أو غيرُ الشيعة، يُنكرون أشدَّ الإنكار هذه الدعوَى الكلاميّة «الإيمانيّة».
الإماميّةُ تَروي، بأصحِّ أسانيدِها، قولَ النبيّ|: «مَنْ ماتَ لا يَعرفُ إمامَه ماتَ ميتةً جاهليّةً»([71])، لا إيمانَ له.
غيرُ الإماميّة تَروي، بأصحِّ أسانيدِها، قولَ النبيّ|: «مَنْ مات وليس له إمامٌ ماتَ ميتةً جاهليّةً»([72]).
غيرُ الإماميّة فسّرَت هذا الحديثَ النبويّ تفسيراً قريباً مِن تفسيرِ الإماميّة: «معناه: مَنْ ماتَ ولَم يَعتقد أنّ له إماماً يدعو الناسَ إلى طاعةِ الله؛ حتّى يكونَ قِوامُ الإسلام به عند الحوادثِ والنوازل، مقتنعاً في الانقيادِ علَى مَنْ ليس نعتُه ما وصَفنا، ماتَ ميتةً جاهليّةً»([73]).
الإماميّةُ تؤمِنُ بهذا التفسير، لكنّها ترَى أنّ المصداقَ الوحيدَ لمَنْ «نعتُه ما وصَفنا» هم الأئمّةُ الاثنا عشر^.
غيرُ الإماميّة ترَى أنّ المصداقَ الوحيدَ لمَنْ «نعتُه ما وصَفنا» هو الرسولُ الأعظم|: «ظاهرُ الخبر أنّ مَنْ مات وليس له إمامٌ، يريدُ به النبيّﷺ، ماتَ ميتةَ الجاهليّة؛ لأنّ إمامَ أهل الأرض في الدنيا رسولُ اللهﷺ، فمَنْ لم يَعلَم إمامتَه أو اعتقَد إماماً غيرَه؛ مؤثِراً قولَه على قولِه، ثمّ ماتَ، ماتَ ميتةً جاهليّةً»([74]).
نعم، الحديثُ صدَر عن رسولِ الله، وإمامُ أهل الأرض هو رسولُ الله؛ لكنْ مَنْ هو الإمامُ بعد رسولِ الله؟
الإماميّةُ ترَى وتَروي، بأسانيدِها الخاصّةِ بها، أنّ الإمامَ الذي مَنْ لا يَعرفُه «ماتَ ميتةً جاهليّةً» هو عليٌّ وبنوه.
غيرُ الإماميّة ترَى وتَروي، بأسانيدِها الخاصّةِ بها، أنّ الإمامَ الذي مَنْ لا يَعرفُه «ماتَ ميتةً جاهليّةً» هو الأمير: «مَنْ كَره من أميرِه شيئاً فليَصبِرْ؛ فإنه مَنْ خرَج من السلطانِ شِبراً ماتَ ميتةً جاهليّةً»([75]).
«مَنْ رأى من أميرِه شيئاً يَكرهُه فليَصبِرْ عليه؛ فإنه مَنْ فارَق الجماعةَ شِبراً فماتَ إلاّ ماتَ ميتةً جاهليّةً»([76]).
«مَنْ رأى من أميرِه شيئاً فكرهَه فليَصبِرْ؛ فإنه ليس أحدٌ يفارقُ الجماعةَ شِبراً فيموتُ إلاّ ماتَ ميتةً جاهليّةً»([77]).
الإماميّة وغيرُ الإماميّة متّفقون علَى أنّ من أركان الإيمان، بل الإسلام، معرفةُ الإمام، والالتزامُ العمليّ بطاعتِه.
استخلاصُ النتائج واقتطافُ الثِّمار
اتّبعَت أمّتُنا الإسلاميّة، بكافّةِ فِرَقِها الفقهيّةِ والكلاميّة، مواقفَ أئمّتِنا في الإيمان. مثلاً:
1ـ التصريحُ بماهيّةِ الإيمان، واستخدامُ لفظ الـ «معرفة» في تعريفِه. هذا الموقفُ أخَذ به الجُمهورُ.
2ـ روايةُ ضابِطٍ نبويّ لتمييزِ المؤمِن عن غيرِه. الخوارجُ ظَنُّوا أنه لتمييزِ المسلِم، فكفَّروا به مَنْ سِواهم.
لكنّ جُمهورَ الأمّةِ الإسلاميّةِ فَهِموا هذا الضابطَ علَى حقيقتِه، فلم يكفِّروا كما كفَّر الخوارجُ.
3ـ استدراكُ الضابِط النبويّ، والتنبيهُ على أنّ قولَ وعملَ المنافِق لا يُصيِّرانه مؤمِناً.
4ـ التصريحُ بأنّ الإيمانَ غيرُ الإسلام، وتعليمُ الأمّةِ الإسلاميّةِ ذلك باستخدامِ الدوائر الهَندَسيّة.
5ـ التصريحُ بأنّ العاصي ليس بكافِرٍ، وفي الوقتِ نفسِه ليس بمؤمِن، بل هو مُسلِم.
6ـ تعليمُ الأمّةِ الإسلاميّةِ، بواسطةِ التصريحَين الأخيرَين، أنّ الإيمانَ يَزيدُ ويَنقُصُ.
7ـ الموقفُ العلويّ مِمَّنْ بغَى عليه: لم يصِفْه بالإيمان، ولا بالكفر. هذا الموقفُ أخَذ به المعتزِلةُ.
8ـ تسميةُ عليٍّ أهلَ حربِه من أهلِ الشام «مؤمِنِين» في كتابِ القضيّة. هذا الموقفُ أخَذ به المُرجئةُ.
9ـ الوقوفُ الحاسمُ الصارمُ في وجه مؤسِّس الإرجاءِ في الإيمان: قيس الماصِر.
10ـ الاستدلالُ علَى موقفِ النبيّ في تكفيرِ تاركِ الصلاة، والتصريحُ بإباحةِ دماءِ مَنْ أحَلَّ ما حرَّم اللهُ.
أعظمُ ثمرةٍ اقتطَفناها هي ما سطَرناه في السطرِ الأخيرِ منه؛ نُعيدُه تأييداً وتأكيداً:
إنّ عمَرَ بنَ الخَطّاب هو رائدُ وقائدُ الأمّةِ الإسلاميّةِ في أن تتعلَّمَ من عليٍّ، وأن تُسلِّمَ لرأي عليٍّ.
لا يُشكَلْ علينا بأنّ مَنْ علَّم الأمّةَ الإسلاميّةَ أن تتعلَّمِ من عليٍّ إنما هو النبيّ بنفسِه، لا عمَرُ بنُ الخَطّاب؛ لأنّ هذا الإشكالَ يَنشأ مِن عدمِ الدقّةِ اللازمةِ فيما سطَرناه: «إنّ عمَرَ بنَ الخَطّاب هو هو «رائدُ» الأمّةِ الإسلاميّةِ في أن تتعلَّم من عليٍّ، والرائدُ هو المقدَّم، فهو في مقدِّمةِ المتعلِّمين منه والمسلِّمين له.
«قائدُ» الأمّةِ الإسلاميّةِ في أن تتعلَّم من عليٍّ، والقائدُ أمامَ المَقُودِين، فهو أمامَ المتعلِّمين منه والمسلِّمين له.
وليس رسولُ الله كذلك؛ إذ ليس هو من المتعلِّمين من عليٍّ، أبداً وبتاتاً؛ فكيف يكون أمامَهم ومقدَّمَهم؟!
نعم، رسولُ الله| هو الذي أمَر بالتعلُّمِ منه وبالتسليمِ له؛ لكنّ أوّلَ مَنْ طبَّق هذا الأمرَ النبويّ هو عُمَر.
خلاصةُ القول: رسولُ الله| علَّم الأمّةَ الإسلاميّةَ التعلُّمَ من عليّ والتسليمَ لعليّ نظريّاً؛ وعمَرُ بنُ الخَطّاب علَّم الأمّةَ الإسلاميّةَ التعلُّمَ من عليٍّ والتسليمَ لعليٍّ عمليّاً.
خلاصةُ الدراسة
الإيمانُ لغةً هو: التصديقُ، لا المعرفةُ التي هي العِلم أو من جنسِ العِلم؛ لكنّ أئمتَنا، خلافاً للُّغةِ وللُّغويّين، استخدَموا لفظَ «المعرفة» في تبيينِ ماهيّةِ الإيمان، فاقتَدَت واهتَدَت بأئمّتِنا أمّتُنا. صرَّح بذلك التفتازانيّ.
أوّلُ مَنْ عرَّف الإيمانَ هو أوّلُ المؤمنِين، وخاتَمُ النبيِّين؛ لكنّ علماءَ وعظماءَ الأمّةِ الإسلاميّةِ أخطأوا فهمَه.
البخاريّ هو أوّلُ مَنْ صحَّح هذا التعريفَ النبويّ، وهو أوّلُ مَنْ أخطأ في فهم معناه، فأخطأ مَنْ بَعْدَه.
عليٌّ هو أوّلُ مَنْ عرَّف الإيمانَ بلفظٍ واضحٍ لا يتطرَّقُ إليه الخطأُ: «الإيمانُ: معرفةٌ… تسليمٌ… تصديقٌ».
لكنْ: هل يَكفي هذا التعريف لتمييز المؤمِن عن غيرِه؟ أبداً وبتاتاً؛ إذ المعرفةُ والتسليمُ والتصديقُ في القلب.
فالأمّةُ الإيمانيّةُ بحاجةٍ ماسّةٍ إلى ضابِطٍ ظاهريّ، لا قلبيّ، تميِّزُ به المؤمنَ عن غيرِه؛ هذا غيرُ تعريفِ الإيمان:
وقَف أبو الصَلت الهَرَويّ في مجلسِ عبدِ اللهِ بنِ طاهرٍ، أمامَ أحمدَ بنِ محمدِ بنِ حنبلٍ وإسحاقَ بنِ راهْوَيه، فروَى عن أئمّتِنا، بسِلسِلةٍ ذهبيّةٍ، عن خاتَم النبيّين، قولَه: «الإيمانُ قولٌ وعملٌ». خضعَت لهذا الضابطِ أمّتُنا.
هذا ليس مميِّزاً تامّاً للمؤمِن؛ إذ يَشمَلُ المنافِق، فأتمّه عليٌّ بقولِه: «الإيمانُ معرفةٌ بالقلب وإقرارٌ… وعملٌ…»
علماءُ وعظماءُ الأمّةِ الإسلاميّةِ خضعَوا وخشَعوا لهذا المائزِ التامّ للمؤمن الحقيقيّ، وإنْ اختلَفوا في تفسيرِه.
الإيمان والإسلام هما واحدٌ أم اثنان؟ صحَّح مسلمٌ والبخاريّ أنّ اللهَ أنزَل جَبرَئيلَ «لِيُعلِّمَ الناسَ» أنهما اثنان.
لكنّ أعجبَ العجائب، وأغربَ الغرائب، هو أنّ جماعةً استدلّوا بتعليمِ جَبرَئيلَ أنهما اثنان علَى أنهما واحدٌ.
فصرَّح أئمّتُنا، أوّلَ مرَّةٍ في تأريخِ الإسلام، بأنّ الإيمانَ والإسلامَ اثنان متغايران، بواسطةِ الرسمِ الهَندَسيّ.
أمّتُنا اتّبعَتْ أئمّتَنا، وصرّحَت باتّباعِها لهم، ورائدُ وقائدُ أمّتِنا في هذا الاتّباعِ لأئمّتِنا هو أحمدُ بنُ حَنبَل.
هل العاصِي مؤمِنٌ؟ أجاب الرسولُ|: «لا يَزنِي الزانِي حِينَ يَزنِي وهو مؤمِنٌ»، وفسَّره أئمتُنا هَندَسيّاً.
علماءُ وعظماءُ أمّتِنا اقتدَوا واهتدَوا بنبيِّهم ونبيِّنا، وأئمّتِهم وأئمّتِنا، فأجابوا كما أجاب، وفسَّروا كما فسَّروا.
تعلَّموا من النبيّ أن لا يَصِفوا العاصي بالإيمان، وتعلَّموا من باقرِ العِلم بَعدَ النبيّ أن لا يَسِموه بالكفر، بل بالإسلام.
ترقَّى علماءُ وعظماءُ أمّتِنا في الاقتداءِ والاهتداءِ بأئمّتِنا، فاستنبطوا من كلامِهم قابليّةَ الإيمان للزيادةِ والنقصان.
لكنّ الخوارجَ وَسَموا العاصي بالكفر، لكنْ لا خلافاً منهم لعليٍّ، بل ظنّاً أنّ كلَّ مَنْ هو غيرُ مؤمنٍ فهو كافرٌ.
لكنّ المُرجئةَ وصفَت العاصي بالإيمان، لكنْ لا خلافاً منهم لعليٍّ، بل استنباطاً مِن تسميتِه أهلَ الشام: مؤمنين.
أمّا المعتزلةُ فأنزلَت العاصي منزلةً بين المنزلتَين، لكنْ لَيْتَها تعلَّمَت من أئمّتِنا أنّ اسمَ هذه المنزلة: الإسلام.
أمّا لو كانت المعصيةُ تركَ الصلاة فالعاصي كافرٌ؛ صرَّح به النبيّ والأئمّة، وصحَّحه الشيعةُ وأهلُ السُّنّة.
علَّم عليٌّ عمَرَ أنّ مرتكبَ الكبيرة، إنْ استحَلّ ارتكابَها فهو صاحبُ «بدعةٍ»: شريعةٍ لم يأذَنِ اللهُ بها؛ يُقتَلُ.
الهوامش
(*) باحثٌ في الحوزة العلميّة في قم.
([1]) ابن حزم الظاهري الأندلسي، الفصل في الملل والأهواء والنحل 3: 105 ـ 106.
([2]) التفتازاني، شرح المقاصد 3: 430.
([4]) الصدوق، التوحيد: 248 ـ 249.
([7]) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري 1: 275 ـ 276.
([8]) التفتازاني، شرح المقاصد 3: 430.
([9]) من السنّة: الخطيب البغدادي، تأريخ بغداد 5: 418 ـ 419؛ السبكي، طبقات الشافعية 1: 90، نقلاً عن: تأريخ نيسابور، للحاكم؛ ومن الشيعة: الصدوق، الخصال 1: 53؛ عيون أخبار الرضا 1: 228.
([10]) الشيعة: الحميري، قرب الإسناد: 25؛ الصدوق، معاني الأخبار: 187؛ والسنّة: ابن جرير الطبري، تهذيب الآثار 2: 684. شيرويه بن شهردار الديلمي، فردوس الأخبار 1: 148.
([11]) أبو بكر البيهقي، القضاء والقدر: 329.
([12]) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري 1: 212.
([13]) ابن بطّال، شرح صحيح البخاري 1: 56.
([14]) ابن تيمية الحرّاني، العقيدة الواسطية: 113.
([15]) ابن رجب الحنبلي، فتح الباري: شرح صحيح البخاري 1: 5.
([16]) ابن أبي يعلى، طبقات الحنابلة 1: 24؛ ابن رجب الحنبلي، أهوال القبور: 101.
([17]) سنن ابن ماجة: 24؛ ابن الجوزي، (كتاب) الموضوعات 1: 129.
([18]) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 19: 51.
([19]) أبو العون السفاريني الحنبلي، لوامع الأنوار البهية 1: 406، نقلاً عن: سلمان بن ناصر أبو القاسم الأنصاري النيسابوري الأرغياني، شرح كتاب «»الإرشاد لأبي المعالي إمام الحرمين؛ لم نعثر عليه أبداً.
([20]) ابن أبي العزّ الدمشقي، شرح العقيدة الطحاوية: 459.
([21]) أبو بكر الآجري، (كتاب) الأربعين حديثاً، طبع مع كتاب الشريعة (للمصنف نفسه): 421.
([22]) ابن حزم الظاهري الأندلسي، الفصل في الملل والأهواء والنحل 3: 105 ـ 106.
([23]) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 19: 51.
([24]) التفتازاني، شرح المقاصد 3: 422.
([26]) أبو منصور الماتريدي، تأويلات أهل السنّة: تفسير الماتريدي 2: 381.
([27]) الفخر الرازي، مفاتيح الغيب 7: 225؛ 8: 138.
([28]) صحيح البخاري: 25 و884 ـ 885؛ صحيح مسلم: 37 ـ 38.
([29]) ابن مندة الأصبهاني، الإيمان: 156 ـ 157.
([30]) الصدوق، الخصال 2: 411؛ معاني الأخبار: 381.
([31]) أبو بكر الخلال، السنّة 3: 608.
([32]) ابن مندة الأصبهاني، الإيمان: 135.
([33]) المفيد، أوائل المقالات: 48.
([34]) الشرفي القاسمي، (كتاب) عدّة الأكياس في شرح معاني «الأساس» 2: 254.
([35]) الجرجاني، (كتاب) التعريفات: 28.
([36]) صحيح البخاري: 448 و1043 و1230 و1235؛ صحيح مسلم: 54 و55.
([37]) أبو بكر الخلال، السنّة 3: 608؛ عبد الله بن أحمد بن حنبل، السنّة 1: 352.
([39]) أبو بكر البزّار، البحر الزخّار: مسند البزّار 16: 254.
([40]) هبة الله بن الحسن اللالكائي، اعتقاد أهل السنّة والجماعة 2: 82.
([41]) ابن مندة الأصبهاني، الإيمان: 135.
([42]) ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم: 213.
([43]) ابن رجب الحنبلي، فتح الباري: شرح صحيح البخاري 1: 128.
([44]) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري 3: 554.
([45]) أبو عبد الله المروزي، تعظيم قدر الصلاة 2: 506 ـ 509.
([46]) أبو بكر الآجري، (كتاب) الشريعة: 115.
([47]) ابن بطة العكبري، الإبانة 1: 360.
([48]) أبو الحسين العمراني، الانتصار في الردّ على المعتزلة القدرية الأشرار 3: 779.
([49]) ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب 7: 96.
([50]) الكليني، الكافي 3: 701.
([51]) التفتازاني، شرح المقاصد 3: 421 ـ 422.
([52]) عبد القاهر بن طاهر البغدادي، الفرق بين الفِرَق: 321.
([53]) القاضى عبد الجبار بن أحمد الهمذاني، المختصر في أصول الدين: 246 ـ 247.
([54]) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 19: 51.
([55]) جوزيف فان أس، علم الكلام والمجتمع: 273.
([56]) أبو حنيفة، رسالة أبي حنيفة إلى عثمان البتي، طبع ضمن كتاب «العقيدة وعلم الكلام من أعمال الإمام» (للكوثري): 631 ـ 632.
([60]) ابن مندة الأصبهاني، الإيمان: 145.
([61]) الكليني، الكافي 3: 688.
([62]) المصدر السابق 4: 142 ـ 143.
([63]) أبو بكر الخلال، أحكام أهل الملل من الجامع لمسائل الإمام أحمد بن حنبل: 471.
([65]) الكليني، الكافي 4: 137.
([66]) أبو بكر الخلال، أحكام أهل الملل من الجامع لمسائل الإمام أحمد بن حنبل: 485.
([67]) ابن قتيبة الدينوري، تأويل مختلف الحديث: 241.
([68]) ابن عبد البرّ، الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3: 1102 ـ 1103.
([69]) أبو المظفّر السمعاني، تفسير القرآن 5: 154.
([70]) أبو بكر الفارسي الجرجاني، درج الدرر في تفسير الآي والسور 1: 362.