موضوعة حقوق الإنسان في الإسلام من أكبر الموضوعات الإشكالية التي يواجهها الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، موضوعة شكّلت اليوم أزمةً للفكر الديني من جهة، وللأنظمة الدينية من جهة ثانية، وصارت جزءاً من الأوراق السياسية الخطرة التي تحرّك ـ ولو ظاهرياً ـ الحروبَ ومظاهر الغزو، وتبرّر الأنشطة العسكرية.
ولسنا هنا بصدد طرح رؤية حول موضوعة الحقوق في التصوّر الإسلامي، بقدر ما نريد تسجيل نقاط، نعتقد أنّها دالّة وضرورية، لتطوير الدرس الحقوقي في الثقافة الإسلامية المعاصرة.
1 ـ أوّل إشكاليّة تورّط فيها الخطاب الإسلامي الحديث منذ القرن التاسع عشر الميلادي، كانت إشكالية الخطاب الحقوقي الأيديولوجي التعبوي العام، فكثيراً ما نجد في خطابات الإسلاميين تبجيلاً لحقوق الإنسان في الإسلام، وكلمات من نوع: الإسلام حفظ للمرأة تمام حقوقها، ووضع قوانين شاملة ودقيقة ورائعة لكل حركة من حركات الإنسان، وحفظ حقوق الشعوب، و… وهي كلمات لم تعد ـ بصيغتها هذه ـ نافعةً في توجيه خطاب علمي إسلامي دقيق، يضع النقاط على الحروف.
إن مقولة: الإسلام هو الحلّ، لم تعد تنفع بإطلاقيتها وعموميّتها، سيما بعد فشل تجارب إسلامية عديدة في العالم الإسلامي، لهذا صار المطلوب من المفكّر الإسلامي أن يتعامل بواقعية أكبر، ولغة رَقَمِية أدق، بعيداً عن التهويمات، والإطلاقيات، وثقافة التضبيب.
إنّ الحديث ـ بلغة الإطلاقية ـ عن أنّ الإسلام حفظ حقوق الإنسان، بات يواجه اليوم إشكالية المفردات، إن المثقف المسلم أو الشاب المتطلّع لم تعد تكفيه الجمل الإطلاقية هذه، إنه يقول لك: أيّ حقوق وأنتم تقتلون المرتد لمجرّد فكره؟! وأين هي حقوق المرأة العظيمة في الإسلام ولزوجها الجاهل أن يطلّقها ساعة يشاء ويدمّر حياتها وأسرتها لرغبة جامحة آنية له في امرأةٍ أخرى؟! وأين هي حقوق الشعب وأنتم لا تقبلون برأي الشعب ميزاناً في الحكم وفق بعض النظريات؟!… إنّ هذه الأسئلة جادّة، لم يعد خطاب الأيديولوجيات والتعبوية كافياً لجوابها، أو حتى قادراً على الوقوف بوجهها.
2 ـ من هنا يجب التفكير في وضع صيغة عقلانية أنضج لتكوين خطاب ثقافي موزون، لكن لا يفترض بهذه الحركة نحو إعادة التفكير أن تقع تحت تأثير الهزيمة النفسية إزاء الغرب، كيلا يقع المثقف والمفكّر الإسلامي في استلاب فكري، يخرّ على إثره مغشياً عليه، إنّنا لا نريد أن ننتج النظام الحقوقي الإسلامي في المصانع الغربية، فلكلّ أمّة تراثها وثقافتها، إنّما نريد أن نعيد إنتاج نظامنا الحقوقي مستفيدين من التجربة الإنسانية عموماً، بما في ذلك التجربة الغربية نفسها، وهذا شيء مختلف تماماً عن التبعية والذوبان والاستلاب، ولا يصحّ ـ بدعوى الخصوصية ـ أن نعيش القطيعة مع العالم، بل المفترض أن نوازن بين ما ينتمي للخصوصية وما ينتمي للحاصل المشترك الإنساني العام.
من هنا، نلاحظ على بعض التجارب الثقافية الإسلامية أنّها خلطت بين هذين المفهومين، فذهب فريق إلى الارتماء في أحضان الغرب أو السقوط النفسي والفكري إزاءه، حتّى سمعنا أصواتاً تطالب بالتخلّي ـ جملةً وتفصيلاً ـ عن القانون الإسلامي، ورفع اليد نهائياً عن الفقه وأحكامه، والحديث عن نفي أيّ نوع من أنواع النظام الحقوقي في الإسلام، مطالبين بتبنّي الإعلان العالمي للحقوق دون مناقشة، والانخراط في المواثيق الدولية دون مساءلة أحد أو نقده، وكأن هذه المواثيق نصّ سماوي منزل! وكأن من كتبها استشار الإنسانية بأديانها وأطيافها وحضاراتها وقواها الحقوقية والثقافية! وكأن من كتب هذا القانون كان خارج الإطار التاريخي الذي شهدته أوروبا خصوصاً بعد الحربين العالميتين!…
إنّ الغرب الحقوقي والإنسانوي، قد تقدّم تقدّماً مذهلاً في مشروعه الحقوقي بعد الحرب العالمية الثانية، على صعيده الداخلي، إلاّ أنّ أزمة تعامله مع خارج حدوده الجغرافية ما تزال قائمة، وهذه إشكالية حقيقية في الثقافة الغربية، لماذا لم تشمل الرؤية الحقوقية الإنسانية عند الغرب ما وراء جغرافيا أوروبا وأميركا؟ ولماذا لم تقوَ أصوات مناصري الإنسانيات لوضع حدّ للاستبداد الغربي؟
كما ذهب فريق آخر لدعوى القطيعة التامّة مع النتاج الغربي الحقوقي، بوصفه تقنيناً بشرياً يفتقد صفة الإلهية، ومن ثمّ الشرعية، وكأن العقلاء لا دور لهم في التقنين على بعض الصعد حتى في نظم القانون الديني! وكأن الغرب كلّه استعمار، ونهب، وسلب، وقتل، وفتنة، ولا يوجد فيه أهل رحمة، ولا عاقلون، ولا ..! وكأن الغرب ليس تطوّراً في الاقتصاد، والسياسة، والأمن، والتكنولوجيا، والعلم و…!
هذان الاتجاهان مخطئان بنظرنا، يجب أن نكون أكثر توازناً في الاستفادة من التراث والجديد معاً.
3 ـ لكنّ السؤال الأساسي يكمن ـ عندما نخوض غمار الحياة المعاصرة ـ في ما هي الآلية لتكوين نظرية حقوقية في الإسلام؟ فهناك اتجاهان أساسيان في الثقافة الإسلامية المعاصرة، يختلفان عن بعضهما في منهج اكتشاف النظرية الحقوقية، وفي مكوّنات النظرية أيضاً.
المنهج الأول: ويحاول أن يستخدم منهج الصعود من الأسفل إلى الأعلى، من المفردات الفقهية والقانونية الإسلامية الصغيرة المتناثرة إلى تكوين فقه النظرية، بعد تكميل الصورة الفسيفسائية للمنظومة القانونية، وهو المنهج الذي نظّر له وكان من رادته الشهيد محمد باقر الصدر، نرصد الأحكام الفقهية الصغيرة، وهي التي تكوّن لنا ـ على ضوئها ـ النظرية العامة الحقوقية.
والأولوية في هذا المنهج تكون دائماً لصالح المفردات، والفتاوى، النابعة من ممارسة الاجتهاد الفقهي المدرسي، فيما يُشاد الصرح العُلْوي على هذه المفردات، ويتبع أوضاعها، ويتناسب معها.
المنهج الثاني: وهو المنهج الذي يعكس الصورة، فينطلق من الأعلى ليصل إلى الأسفل، وقد كان من رادته العلامة المغفور له الشيخ محمد مهدي شمس الدين، وقد اعتقد هذا الاتجاه بأنّ المطلوب أولاً غضّ الطرف ـ للخروج بنظرية حقوقية متكايفة ونفسها ـ عن المفردات، ونتائج الاجتهاد المدرسي، مركّزين النظر على القواعد العامة في التشريع، لا المفردات المتفرّقة، ومعنى ذلك أن تغدو هذه القواعد العامة حاكمةً على المفردات، تكيِّفُها تبعاً لها، لا العكس، أي أنّ مبدأ وجوب العدل المستفاد من الآيات والروايات مثلاً يكون حاكماً على بعض حالات الطلاق التي يراها العقلاء ظلماً، أو يكون مبدأ الأخوّة الإسلامية متقدّماً على بعض الحالات التي قد يراها الفقيه متنافيةً وهذا المبدأ، كجواز غيبة المخالف ولعنه ونحو ذلك.. وأعتقد أن تحديد الخيار بين هذين المنهجين له دوره الكبير جداً في حسم الموقف إزاء قضايا إشكالية اليوم، ونحن لا نبتّ هنا؛ لاحتياجه إلى مجال أوسع.
4 ـ والإشكالية التي أثرناها في النقطة السالفة حول المنهج وضرورة اختياره عن دراسة علمية مثبتة ومستدلّة، لا تقلّ عنها ـ في الأهمية والخطورة ـ إشكالية أخرى، نعتقد أنّها أهم إشكالية اليوم أو من أهمّها، فهناك سؤال كبير يقف يقول: هل يوجد في الفكر الإسلامي والموروث الديني شيء اسمه الحقوق؟! هل مقولة الحقّ دينيةً أم أنّها صنيعة التطوّر الحداثي الغربي؟!
ويقوم هذا التساؤل على التمييز بين الاتجاه الحقوقي في الثقافة، والاتجاه التكليفي فيها القائم على مبدأ الطاعة، ومن ثم يُنظر إلى النص القرآني بوصفه خطاباً من الأعلى، يستبطن تكليفاً وإطاعة لا حقاً ومناصرة، وحتى تلك الخطابات الدينية القابعة في الكتاب والسنّة والتي تشتمل حقاً من الحقوق، لا تحوي خطاباً حقوقياً بقدر ما تحوي خطاباً إلزامياً، فبدل أن تقول الشريعة: للمرأة مثلاً حق كذا وكذا، توجّه الخطاب إلى الرجل وتقول له: يجب عليك فعل كذا مع المرأة، أي أن الطافح على السطح على مستوى الخطاب لغة التكليف والطاعة لا لغة الحق والحقوق.
وهذه القضية أساسية جداً، لأنّها قد تنسف ـ لو ثبتت ـ كل جهود الإسلاميين لبناء نظام حقوقي إسلامي، ولهذا لابدّ من دراستها انطلاقاً من عناصر متواشجة وكثيرة، ليس آخرها رصد مسألة طبيعة اللغة الدينية، ومكوّناتها الخاصّة، وخصوصية المتكلم الحكيم سبحانه وتعالى وأمثال ذلك، كما ليس آخرها أيضاً رصد تجارب الإنسانيين المسلمين عبر الموروث الإسلامي، ومتابعة موضوع الأنسنة في الثقافة الإسلامية، متابعة علمية محايدة، كتجربة المفكر الجزائري محمد أركون في كتابيه نزعة الأنسنة، ومعارك من أجل الأنسنة، وتجربة المفكّر المغربي محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي (قسم الأخلاق)، بقطع النظر عن موقفنا من المحاولتين المذكورتين.
5 ـ وفي هذا السياق تأتي مسألة إعادة ترتيب النصوص الدينية، ولدينا هنا ملاحظة نقدية تتمثل في استبعاد الفقهاء نصوصاً كثيرةً عن الساحة الحقوقية والقانونية، لمجرّد ما يسمّونه: اللسان الأخلاقي في النص، إنّ هذه المقولة تؤدّي إلى تغييب نصوص يحتاجها الدرس الحقوقي الديني، فعلى سبيل المثال، رسالة الحقوق للإمام السجّاد ، وهي الرسالة التي نفتخر بها في تراثنا الإمامي، إنّ هذه الرسالة سوف تفقد قيمتها الحقوقية في البعد القانوني حينما تتحوّل برمّتها إلى نصّ أخلاقي لا يحمل معطى جاد في التقنين، وهذا ما ينسف دورها الرئيس على صعيد الحقوق الإسلامية.
إنّ هذا موضوع أساسي نحن مطالبون بإعادة قراءته، أي أن بإمكان التخلّي الجزئي عن هذه المقولة أن يؤمّن لنا حجماً أكبر من النصوص القانونية الحقوقية التي تساعد الباحث على تكوين نظرية في الحقوق الإسلامية، بدل خطاب أخلاقي تعبوي عام.
6 ـ وتبقى نقطة ضرورية نختم بالإشارة إليها، وهي معيار التقنين في الإسلام واختلافه عمّا هو الموجود في المدارس الأخرى، وذلك من جهتين:
الجهة الأولى: إن العلوم الإنسانية التي نمت في الغرب، ولدت داخل أنساق علمانية، لا تأخذ في إنتاجها للمفاهيم، ولا رصدها للظواهر، مسألة الغيب وما يؤمن به العقل الديني، ولهذا كانت الدراسات الظاهراتية الغربية مختلفة عن أي درس نفسي أو اجتماعي داخل التصوّر الإسلامي، وهذه نقطة أساسية يجب فهمها بدقة، دون التورّط في مفهوم سلبي لأسلمة العلوم، لأن التفريط أو الإفراط فيها يؤدي إلى خسائر.
إذن، فالإنسانيات التي تشاد عليها الحقوق في الغرب، يفترض أن تُدرس وفق السياق الديني أيضاً، لتكوين حقوق دينية قائمة على إنسانيات متولّدة من داخل المناخ الديني نفسه.
الجهة الثانية: يذهب بعض الباحثين الكبار في القرن العشرين إلى أنّ القانون الحقوقي الإسلامي يقوم على مبدأ العدالة العامّة، ومعنى ذلك أنّ المعيار في نظام الحقوق ليس راحة الإنسان ودعته ورفاهيته دوماً، فكل قانون يعزّز هذه المسائل يغدو حقوقياً ممدوحاً، إنّما المعيار هو العدالة العامة، وهي قد تستدعي الشدّة، والإنقاص من بعض الحقوق لصالح الاجتماع العام، الذي يعود على الفرد نفسه بالخير والمصلحة، فللمجتمع حقّ على المجرم أن يعاقب، وللمجتمع حق على المرأة أن تسمح بتعدّد الزيجات، وهذا موضوع أساسي وهام يجب درسه، لتقويم المعايير المنهجية.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ الله أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13].
___________________________________________________________
(*) نشر هذا المقال في العدد 39، من مجلة المنهاج في بيروت، خريف عام 2005م.