في مثل هذا اليوم (31/10) من سنة 1973 بالجزائر العاصمة، رحل عن دنيا الناس، أحد عباقرة الفكر الإسلامي في العصر الحديث، حيث ترك فراغا ليس بالواقع الثقافي الجزائري فقط و إنما العالم الإسلامي أجمع والإنساني العالمي ككل، حيث عرفه المثقفون في عالمنا الإسلامي بنابغة زمانه، إذ تطرق إلى مجهريات القصور و التخلف في نظام التفكير بمجتمعاتنا و لمواطن الرجعية والقلق في حراكنا الإسلامي و قام بتحليل دقيق للأمراض الثقافية و النكسات الحضارية التي عرفها التاريخ الإسلامي وفق منهج علمي رصين، بحيث توصل لصياغة نظرية الحضارة من منظار المنطق الإسلامي الذي استوحاه من الكتاب و السنة والتاريخ المشرق لهذه الأمة دون أن يغفل عن العامل الخارجي المتمثل في الاستعمار الأجنبي الذي عتا فسادا في الأمة بعد سقوط الخلافة…
اسمه مالك بن نبي مهندس كهربائي من مواليد 1905 بالشرق الجزائري، وهو القائل في كتابه "مذكرات شاهد القرن : الطفل" ((إن من ولد في الجزائر سنة 1905، يكون قد أتى في فترة يتصل فيها وعيه بالماضي المتمثل في أواخر شهوده، و بالمستقبل المتمثل في أوائل صائغيه.وعلى هذا قد كان لي، حين ولدت تلك السنة، الحظ الممتاز الذي يتيح لي أن أقوم بدور الشاهد على تلك الحقبة من الزمان))
ولقد جمع بين الثقافتين العربية الإسلامية والأوروبية الغربية الحداثية بأسلوب رائع و رسالي متكامل، حتى عرف بفيلسوف الحضارة في أدبيات الفكر الإسلامي و حتى الفكر الإستشراقي، تألق نجمه في سنوات الانتقال الفكري بالعالم الإسلامي نتيجة الحملات الاستعمارية والثورات المنهجية الكبرى التي عرفها الغرب في العلوم الاجتماعية…
في هذا المقال لا أريد الإطناب في الحديث عن مالك بن نبي التاريخ، لأنه يكفي من يريد التعرف عليه أن يكتب اسمه بمحرك البحث في النت ليكتشف سيرته الذاتية العظيمة بإنجازاته العلمية و الثقافية الإستشرافية وكذا مؤلفاته و رؤاه الإصلاحية الرائدة في الفكر الإسلامي، حيث سأتحدث بعجالة عن شخصية مالك بن نبي المفكر الرسالي الذي اجتهد لمعرفة شروط ميلاد المجتمع الإسلامي وكذا شروط النهضة وأدوار المثقف الديني في الزمن الإسلامي المعاصر،مالك بن نبي الذي سخر كل طاقاته المعرفية وقراءاته المتنوعة لاكتشاف الصياغة الجديدة للصورة الحضارية الإسلامية …
وعلاقتي بالعلامة كانت علاقة التلميذ بالأستاذ، رغم أنني لم ألتق بشخصه المؤمن الفاضل، تتلمذت على فكره ووصاياه الخالدة للشباب المسلم في آخر محاضراته التي ألقاها بجامعة دمشق كلية الحقوق، إن خصوصية مالك بن نبي المثقف تتحدد في سعة اطلاعه على الواقع العالمي والعربي و قراءته المعمقة لمشاكل الحياة العربية الإسلامية بحيث كان واحدا ممن تغلبوا على العائق الابستمولوجي الذي يعاني منه العديد من المفكرين، ولقد استطاع توظيف ثقافته المتعلقة بالهندسة الكهربائية والعلوم الدقيقة في شرح المسائل العالقة في التفكير العربي و الإسلامي، و إحدى خصوصيات مالك بن نبي المثقف الديني تتوهج في برهنته الفريدة على صحة نبوة محمد (ص) ،كما انه درس الأديان الأخرى من خلال معرفته الواسعة بعلم اجتماع الأديان وعلم مقارنة الأديان، ومجال عبقريته في سوسيولوجيا الأخلاق حيث يصرح -رحمه الله- "إن المعرفة لا تكفي بل لابد من الفعالية" حيث أنزل جم نقده لما يسميه"ذهان المستحيل"الذي يصيب النشاط بالشلل بالإضافة إلى "ذهان السهولة" الذي يقود إلى نشاط أعمى.و أجمل ما قرأته للعلامة مالك بن نبي (ص) تعقيبه على كلمة للمصلح الكبير جمال الدين الأفغاني قال فيها:"لو بصق المسلمون جميعا لأغرقوا الأرض ببصاقهم.". فعقب مالك بن نبي بالقول: "كان الأحسن أن يقول لو عمل المسلمون جميعا لغيروا وجه العالم…"
بصراحة: عشت مع مالك بن نبي ثقافة نشدان الحق و الحقيقة و التحرر من الأوهام وعدم الاكتراث بخبيث النفس كما نعت سقراط تلميذه الذي سأله أسئلة عقيمة، ومالك بن نبي كما يذكر تلامذته الذين عايشوه و حضروا مجالسه ببيته أنه كان صارما في مواجهة التناقض المنطقي حتى لا يتغلغل لنفوسهم و عقولهم..
و إحدى محن مالك بن نبي في أواخر عمره وبعد رحيله،الطمس المتعمد لفكره في مسقط رأسه طيلة عقد أو أكثر من الزمن، فسمي فكره بالجزأري و للأسف لم تؤخذ قراءته السوسيولوجية للثورة بعين الاعتبار في بلده، تلك الأفكار التي توزعت في كتبه المرجعية: مشكلات الأفكار في العالم الإسلامي-الصراع الفكري في البلاد المستعمرة-بين الرشاد و التيه –شروط النهضة.
والعجيب في الأمر أن فكر مالك بن نبي اعتمد في ماليزيا و اليابان وجامعات أمريكية و غيرها،بينما في أغلب دول العالم الإسلامي لم يرحب به لأنه فكر يصنع الوعي مثل أفكار شريعتي و المطهري و السيد قطب و محمد الغزالي، التي كانت إلى زمن قريب ضمن قائمة الفكر الأحمر في دويلاتنا العربية… !!!
خاتمة التأبين: شهادة الأستاذ محمود محمد شاكر لمالك بن نبي: هذا المفكر الخبير، قد استطاع بحسن إدراكه وبقوة بيانه و بدقة ملاحظاته أن يفتح عيوننا على الخيوط التي تنسج منها حياتنا تحت ظلام دامس قد أطلقه المستعمر ليخفي عنا مكره بنا وخداعه لنا…بكلمة لا يمكن لهذا المقال المتواضع أن يفي للحكيم مالك حقه، وأجمل الوفاء إتمام المسيرة التغييرية الإصلاحية على مستوى الفكر و العمل وتخليد هذا الفكر المنير للأجيال القادمة…و السلام على مالك بن نبي يوم ولد و يوم رحل عنا و الله يؤيدكم و الله من وراء القصد.
(*) كاتب و باحث إسلامي