الحريّةالمصطلحالمتنوعالمعاني
تعد الحريّة من المصطلحات الفاتنة والجذّابة والمعروفة جدّاً والتي اتخذت لنفسها على طول التاريخ البشري صوراً وأشكالاً متعدّدة، كما تمظهرت في كافّة عصور الحضارة الإنسانية بصورةٍ إيجابيّة أو سلبيّة.
لقد كانت الحرّية وعلى مستوى كافّة ثقافات الجماعات البشرية مورداً للجدل والحوار؛ فمن بلاط الملوك وقصور الحاكمين إلى أكواخ الرعية وإلى الزقاقيق والأسواق، ومن محفل أهل العلم والمعرفة ومهرجان أهل الأدب وأنغام المنشدين وقصائد المرهفين إلى حكمة وفلسفة الباحثين والمتعمّقين، ومن أرباب الكلام القديم إلى مبدعي الكلام الجديد، ومن رسالات القادة السماويين المحرّرة للإنسان إلى الفتاوى المُحيية والمُسعدة لعلماء الدين، ومن صرخة لمعان سيوف المحاربين المناهضين للظلم إلى هواجس المسجونين ومختلجاتهم النفسانية، وفي نهاية المطاف إلى ساحات الصراع المرير للصحف والمطبوعات المعاصرة… من وإلى كلّ ذلك كانت الحريّة على الدوام مثاراً للبحث والمحاورة.
ومن هنا شكّل الاشتراك اللفظي أو المعنوي لهذه المفردة مع المفاهيم المختلفة والمصاديق المتنوّعة لها السبب الأبرز لبروز الإشكالية على نحوٍ جادٍّ في كتابات ودراسات أهل العلم والثقافة أكثر من أيّ شيءٍ آخر، إلى درجة أن ذلك قد أفضى إلى الاعتقادات المتضادّة.
ولقد أدّى عدم الانتباه الدقيق إلى هذه المسألة إلى وقوع الخلط بين المفهوم والمصداق الأمر الذي تبعته استنتاجاتٌ متناقضةٌ تناقضاً تامّاً من قبل أصحاب الفكر والمعرفة، ونجم عن ذلك إثارة جدالاتٍ لا نتيجة منها.
هذه المقالة التي بين يدي القارىء الكريم تسعى ـ ضمن تقديمها لتعريفٍ ماهويٍّ عن الحرية والمصطلحات المرادفة لها في الثقافة الغربية ـ إلى بحث أقسام الحرّية ومصاديقها، ومن ثَمّ التحقيق والبحث المعمّق ـ والبعيد عن أيّ نوعٍ من أنواع التعصّب والجدال ـ في حكم كلّ واحدٍ من هذه الأقسام من وجهة النظر الفقهيّة والكلاميّة والعرفانيّة، وبالتالي تشخيص الحدود الممنوحة للحريّات من هذه النواحي الثلاث.
تعريف الحريّة
تمثّل الحرية واحدةً من المفاهيم المأنوسة والمتداولة جدّاً، إلى حدّ أنه يمكن ـ من ناحية من النواحي ـ اعتبارها جزءاً من سلسلة المفاهيم البديهية والواضحة جداً، بحيث إن انتقاء أي مصطلحٍ كمعرّفٍ ومبيّنٍ لحقيقة الحرية يؤدي إما إلى عدم اتضاح مفهوم الحرية نفسه أو لا اقل إلى حصول التساوي بين هذا المعرّف ومقولة الحرية.
إن هناك الكثير من المفاهيم التي تبدو للنظرة الأولى والبدوية واضحةً وبديهيةً، تتخذ لنفسها عقب التأمل العميق والنظرة التحليلية لها ووضعها على منضدة التحقيق تتخذ لنفسها مظهراً آخر مجهولاً، وتتبلور لها مجموعة من المصاديق المشتبهة وغير المعروفة، وذلك نظير ما ذكره الشيخ الأنصاري (رض) في تعريف "الماء المطلق" حيث قال: "وهو من أوضح المفاهيم العرفية إلا أن تعريف المصنف (أي العلامة) كغيره له… لأجل الإشارة إلى امتياز أفراد غيره عند الاشتباه"(1).
إن مفهوم الحرية هو من هذا النوع من المفاهيم، ومن هذه الجهة قدّمت له تعاريف مختلفة، كما أن الباحثين حول الحرية قاموا بإدراج جملةٍ من القيود على تعريف الحرية انطلاقاً من القبليات والمعتقدات التي يحملونها إزاءها بحيث أدى الأمر أحياناً إلى تقديم تعاريف متباينة وغريبة عن بعضها البعض، ولعل الاطلاع على ما ذكره بعض العلماء الغربيين وهو آيزا برلين من أن التعاريف التي طرحت للحرية قد بلغت حتى الآن المائتي تعريف يجعل المسألة أكثر استشكالاً ويبعث بالتأكيد على التعجّب والاستغراب(2).
فالبعض من أمثال جون لوك يعتبر أنّ الحرية هي القدرة والطاقة اللتان يوظفهما الإنسان لأجل القيام بعمل معين أو تركه(3)، والبعض الآخر من أمثال جون استيورات ميل يقول: "بأن الحرية عبارة عن قدرة الإنسان على السعي وراء مصلحته التي يراها بحسب منظوره، شريطة أن لا تكون مفضيةً إلى إضرار الآخرين"(4).
ويكتب البعض الآخر من أمثال كانت فيقول: "الحرية عبارةٌ عن استقلال الإنسان عن أي شيءٍ إلا عن القانون الأخلاقي"(5).
ويعرّف الأستاذ آية الله جوادي آملي الحرية من المنظور الإسلامي على الشكل التالي: "الحرية من المنظور الإسلامي عبارةٌ عن التفلّت والتحرّر من عبودية وإطاعة غير الله تعالى"(6).
وهنا لابد من التفتيش عن أسباب ظهور هذه التعاريف المختلفة للحرية في أهداف أولئك الذين عرّفوها أنفسهم، وذلك لان بعض الباحثين حول الحرية إنما كان بصدد عرض تعريفٍ لماهية الحرية بقطع النظر عن الجهات السلبية والإيجابية لها، في حين كان يسعى البعض الآخر إلى تقديم تعريف للحرية مرفقٍ بتلك الحدود والقيود التي كان يعتبرها ـ طبقاً لمعتقداته ـ ذات قيمة وكمال.
وعلى هذا الأساس فإن أولئك الذين كانوا بصدد تعريف أساس ماهية الحرية ـ بغض النظر عن الأبعاد الإيجابية والقيمية أو الأبعاد السلبية لها ـ من أمثال لوك قالوا بأن الحرية عبارةٌ عن نفس تلك القدرة على فعل وترك عملٍ معينٍ، أما أولئك الذين أرادوا من تعاريفهم شرح الحرية ذات الجوانب الإيجابية والمنتجة والمقبولة وفق النظر العقلائي العام للوصول إلى تحصيل السعادة والنجاح على الصعيد المجتمعي العام أو على الصعيد الفردي، أما هؤلاء فقد وضعوا في تعاريفهم كافة القيود المفضية والدخيلة في تحصيل هذه الأهداف بنظرهم.
ومن هنا استحضر جون استيورات ميل في تعريفه للحرية قيد "شريطة أن لا تكون مفضيةً إلى إضرار الآخرين"، وذلك لأن الحرية التي تكون متزاحمةً ومصالح الآخرين ليست بنظره حريةً مقبولةً عقلائياً.
ولنفس السبب أيضاً لم يكن يرى "كانت" الحرية مسـتغنيةٌ عن إعمال القانون الأخلاقي، بل كان يعتبر أن رعاية القانون الأخلاقي أمر ضروري في تحقّق الحرية المقبولة. وهكذا الحال في تعريف الأستاذ الشيخ جوادي آملي فانه حيث كان بصدد تعريف الحرية من وجهة النظر الدينية لم يرها منفكةً عن العبودية لله تعالى. والذي يبدو هو أن هذا التعريف إنما هو من وجهة النظر العرفانية والأخلاقية الإسلامية لا الفقه أو الكلام.
وهنا من الضروري التفريق بين الحرية التكوينية والحرية التشريعية من وجهة نظر الفقه والعرفان، وتقديم تعريفٍ مناسبٍ لمقتضيات كلٍّ منهما، ومن ثم البحث في أدلة كلٍّ منهما بصورةٍ مستقلّةٍ؛ إذ لا تلاحظ في الحرية التكوينية أية أبعاد قيمية إيجابية أو أبعاد سلبية لاقيمية، بخلاف الحرية التشريعية فان النظر كله إلى الحدود والقيود القيمية والمخالفة للقيم من وجهة نظر المقنّن والشريعة.
ومن اللازم ـ لأجل توضيح المراد من البحثين ـ قبل الورود فيهما تحديد المحور الأصلي للنزاع في مسألة الحرية.
تعيين محل النزاع في الحرية
للحرية فروعٌ مختلفة بعضها مورد نزاع وبعضها الآخر محل وفاق وهي:
1 ـ الحرية التكوينية للإنسان في الفعل وخصوصاً في مبدأ الفكر.
2 ـ الحرية التشريعية والقانونية.
3 ـ حرية الإنسان قبال التعلّقات النفسانية وأمام الميول والأهواء.
لقد جرى الخلط بين الحرية التكوينية والحرية التشريعية في الكثير جداً من الكلمات والكتابات، كما أن الحرية التشريعية في النظرة الفقهية لم يتم فصلها عن الحرية التشريعية في المنظور العرفاني، بحيث انه جرى الاستدلال على الحرية التشريعية بواسطة بعض الآيات والروايات المثبتة للحرية التكوينية، إلى درجة أن الآية الشريفة ]لا إكراه في الدين[(7) ـ والتي هي ناظرة بالدقة وبالتقريب الجميل القادم إلى الحرية التكوينية للإنسان في المجال الفكري وأن التصديقات العقائدية له غير جبرية بطبعها ـ قد جعلها البعض من أدلة الحرية التشريعية والقانونية مصرّاً بشكلٍ شديدٍ على ذلك.
ومن هذه الجهة ولأجل جعل المحور الأساسي للنزاع في مبحث الحرية في المدنية المعاصرة اكثر شفافية، من المفيد ـ بل الضروري ـ الأخذ بعين الاعتبار هذه النكتة إلا وهي أن الحرية التكوينية بحثٌ كلاميٌّ متفقٌ عليه بين محصّلي علم الكلام القديم والجديد، وكذلك بين أكثرية الفرق الإسلامية، وهي أيضاً مورد إجماع الذين يطرحون مسألة الحرية في المدنية المعاصرة، سواء في ذلك الذين يرون الحرية على نحوٍ إطلاقي أو الذين يقبلونها بأعلى درجةٍ من المحدودية أو أولئك الذين يقبلون بها شريطة إرفاقها بشرائط وقيود خاصة شرعية أو عقلائية.
والشيء الذي يقع محلاً للنزاع بين الدارسين لموضوع الحرية على الصعيد الفكري الديني إنما هو الحرية على المستوى الشرعي والقانوني.
المسألة الأخرى ذات الأثر في تحديد وبالتالي تبيين محل النزاع ـ والتي حصلت مع الأسف جدالاتٌ غير مثمرةٍ ولا نهاية لها نتيجة عدم الالتفات إليها ـ هي أن القضيّة المناسبة لكي تكون مورداً للبحث والحوار في تعيين نطاق الحرية من الناحية الشرعية ليس هو حرية الإنسان في مرحلة التشريع ـ والتي هي غير منحصرة بالتأكيد بالمستحبات والمكروهات والمباحات ـ وإنما حرّيته في مرحلة امتثال وعصيان التكاليف الإلزامية (الواجبات والمحرمات).
وبعبارةٍ أخرى إن الشيء المناسب لجعله مورداً للكلام والبحث الفقهي هو "هل يمكن للشخصية الحقوقية كالحاكم الشرعي أو الشخصية الحقيقية كأي فردٍ من أفراد المجتمع ممارسة الإجبار عملاً لامتثال ما حدّد وجوبه أو حرمته في الشرع بالنسبة للآخرين وبالتالي الحدّ من حريّاتهم؟".
ومن العجيب أن البعض قد وسّع مجال البحث حول الحرية إلى حدٍّ جعله شاملاً لمسألة الخلاف الأصولي الأخباري في مسألة جريان أصالة البراءة في الشبهات الحكمية والموضوعية، وفسّر أصالة البراءة والإباحة الأصولية على أنها أصالة حرية الإنسان، مع أنه ـ وفقاً لما تقدّم ـ لا توجد أية علاقة بين الاختلاف الأصولي الأخباري وبين مسألة الحرية، كما أن هذا الخلاف لا يلتقي مع المراد والمطلوب من الحرية.
الحرية الإنسانية في المنظور الكلامي
إن مسألة حرية الإنسان التكوينية في كافة أفعاله بدءاً من السلوك والتصرّفات وحتى التصوّرات والمعتقدات تمثّل واحدةً من المباحث الكلامية التي كانت مطروحةً منذ زمن بعيد بين أرباب الكلام لا سيما علماء الدين، وقد شكّل هذا البحث أساساً لظهور ثلاث مدارس أساسية هي:
1 ـ المذهب الأشعري القائل بحاكمية الجبر على كافة الأفعال الإنسانية.
2 ـ مذهب المفوضة الذي يعتقد بالاختيار المطلق.
3 ـ مذهب العدلية القائل بمسلك الأمر بين الأمرين (أي الحدّ الوسط بين الجبر المطلق والاختيار المطلق).
إن طرح مسألة الحرية من وجهة النظر الكلامية في هذا البحث هو في الغالب ذا جنبةٍ تطفّلية، ومن هنا فإننا سوف ندرسه كمقدمةٍ للبحث عن "حدود الحرية في المنظور الفقهي"، ولذلك سوف نكتفي بذكر الآيات والروايات التي تثبت بشكلٍ أو بآخر مبدأ الحرية الإنسانية.
الحرية التكوينية الإنسانية في الآيات الكريمة
توجد في القرآن الكريم الكثير من الآيات التي تطرح موضوع الحرية التكوينية للإنسان بعناوين مختلفة:
أ ـ فتحت عنوان حرية الإنسان في اختيار الهداية والضلال جاء:
]إنّا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً[(8).
]قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ[(9).
]قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل[(10).
]قل الحقّ من ربّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر[(11).
ب ـ وتحت عنوان كون الإنسان مختاراً في كسب أفعاله الجسمية أو القلبية الحسنة أو السيئة جاء أيضاً:
]لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور رحيم[(12).
]فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون[(13).
]كل امرءٍ بما كسبت رهين[(14).
]أولئك لهم نصيبٌ مما كسبوا والله سريع الحساب[(15).
]وتوفّى كل نفسٍ ما عملت وهم لا يظلمون[(16).
وبهذا المضمون الآية الكريمة: ]ثم توفّى كل نفسٍ ما كسبت وهم لا يظلمون[(17).
وأيضاً الآيات الشريفة:
]ووفّيت كل نفسٍ ما عملت وهو أعلم بما يفعلون[(18).
]ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون[(19).
وفي بعضٍ آخر من الآيات الكريمة تمّ إسناد فساد الإنسان في الأرض وكذلك كافّة أعماله إليه نفسه، وهو أمر يحكي بشكلٍ جيدٍ عن البُعد الاختياري والانتخابي للإنسان والحرية التكوينية له:
]فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون[(20).
]ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليماً حكيماً * ومن يكسب خطيئةً أو إثماً ثم يـرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً
مبيناً[(21).
مبيناً[(21).
]يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذ اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون[(22).
ج ـ إن هناك آيات متعدّدة تصنف الثواب والعقاب وكذلك المكافأة والمجازاة في الدنيا والآخرة على أنّها نتيجةٌ لأعمال الإنسان نفسه الحسنة أو السيئة، وهذا دليلٌ محكمٌ على حريته التكوينية؛ لأن الثواب والعقاب لا معنى معقول لهما أبداً إذا رتّبا على عملٍ صادرٍ على نحو الجبر، بل إن ذلك يعدّ محالاً بالنسبة للمُثيب والمُعاقب الحكيم كالله تعالى.
ونذكر هنا نماذج من هذه الآيات الكريمة:
]فكلاًّ أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون[(23).
]من يعمل سوءاً يُجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً * ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمنٌ فأولئك يدخلون الجنة ولا يُظلمون نقيراً[(24).
]ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون[(25).
]اليوم تُجزى كـل نفـسٍ بما كسـبت لا ظلم اليوم إن الله سريع
الحساب[(26).
الحساب[(26).
د ـ ويخاطب الشيطان يوم القيامة أولياءه ويبرأ نفسه وينفي ممارسته أي نوعٍ من الأعمال الإجبارية معهم، ويرى أن اتباعهم له إنما كان نتيجةً لحريّتهم واختيارهم:
]وقال الشيطان لما قضي الأمر إنّ الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطانٍ إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخيّ إني كفرت بما أشركتموني من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم[(27).
وفي الحقيقة فإذا لم يكن الإنسان في اتباعِه للشيطان ـ كبقية أعماله ـ حرّاً ومختاراً وإنما كان ـ كما تقول الأشاعرة ـ مجبوراً، فأي معنى لاستجابته دعوةَ الشيطان حينئذٍ؟ وكيف يمكن تصوير وقبول توجيه اللوم له على اتباعه هذا؟!
الحرية التكوينية للإنسان في الروايات الشريفة
إن الأخبار التي تطرح البُعد الاختياري للإنسان وتبين خصيصة الانتخاب التكوينية فيه في الأعمال والأفكار مستفيضة بل إنها تبلغ حدّ التواتر، وتجنباً لتوسعة البحث نقتصر على ذكر بعض النماذج منها:
يقول علي (ع): "إن الله أمر عباده تخييراً (لا جبراً) ونهاهم تحذيراً وكلّف يسيراً"(28).
ويقول أيضاً ضمن رسالته إلى الإمام المجتبى (ع): "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً"(29).
وينقل الإمام الرضا (ع) عن أبيه عن جده الصادق (ع): "من زعم أن الله يجبر عباده على المعاصي أو يكلفهم ما لا يطيقون، فلا تأكلوا ذبيحتـه ولا تقبلوا شهادته ولا تصلّوا وراءه ولا تعطوه من الزكاة شيئاً"(30)، وفي ذلك كنايةٌ عن أنه بهذا التفكير يكون قد خرج عن الإسلام.
وفي رواية أخرى يبيّن المفضّل عن الإمام الصادق (ع) مسلك العدلية النافي للجبر المطلق وللاختيار المطلق مثبتاً الحد الوسط بينهما على الشكل التالي: "لا جبر ولا تفويض ولكن أمرٌ بين أمرين"(31).
ويسـأل الفضل بن سهل الإمام الرضا (ع) في خبرٍ آخر في محضر المأمون فيقول: "يا أبا الحسن، الخلق مجبورون؟ فقال: الله أعدل من أن يجبر خلقه ثم يعذبهم. قال: فمطلقون؟ قال: الله أحكم من أن يهمل عبده، ويكله إلى نفسه"(32).
إشكال
إذا كان الإنسان بحكم الآيات والروايات المذكورة موجوداً مختاراً وليس هـناك أي جبرٍ إلهيٍّ حـاكمٍ عليه، فكيف ينسب الله تعالى لنفسه ـ بالمباشرة وفي آياتٍ كثيرةٍ ـ ضلال عباده؟ وهذه بعضاً من هذه الآيات:
]فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين[(33).
]ومن يضلل الله فما له من هاد[(34).
]ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا[(35).
الجواب
وفقاً لما يذكره العلامة الطباطبائي فإنّ الإضلال والإغفال على نوعين:
1 – الإضلال والإغفال الابتدائي، 2 – الإضلال والإغفال الجزائي
إنّ ما ينافي من هذين النوعين البُعد الإختياري للإنسان ولا يجتمع معه هو الإضلال والإغفال الابتدائي، بحيث إن الله تعالى قبل أن يدلّل على نفسه في ساحة العبودية يقوم بإضلال الإنسان، ويغفل قلبه عن ذكر الله تعالى، إلا أن إضلال الله تعالى وإغفاله إنما هما دائماً من نوع الجزاء، بمعنى أن العبد بعدما وضع نفسه في مجال الامتحان يقوم وبشكلٍ متواصلٍ بعصيان التكاليف والهدايات التشريعية الإلهية ويضعها تحت قدمه، بحيث يخرج نفسه عن قابلية شمول توجّهات وعنايات وتوفيقات الحضرة الأحدية، فهناك يختم الله على قلبه بختم الضلالة، وبذلك يوصل جزاء وعقاب عدم الاعتناء بالهدايات التشريعية إلى مرحلة الفعلية.
إن هذا الجواب هو جوابٌ متينٌ ومحكمٌ وله جذورٌ في روايات أهل بيت العصمة والطهارة (ع)؛ ففي روايةٍ يسأل شخصٌ الإمام الرضا (ع) عن هذه الآية الكريمة ]ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم[ فيقول: "أليس الختم على قلوب وأسماع الكافرين جبراً؟" فيجيبه (ع): "الختم هو الطبع على قلوب الكفّار عقوبةً على كفرهم كما قال تعالى: ]بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً[" (36)، أي إن هذا الختم من الله تعالى على قلب وسمع الكافرين لم يكن ابتدائياً أبداً، وإنما جزاءاً وعقوبةً على اختيارهم الكفر كما في الآية الشريفة ]بل طبع الله عليها بكفرهم[ الدالة صراحةً على أنّ الختم على قلوبهم إنما كان نتيجةً لاختيارهم الكفر.
والنتيجة هي أن الإنسان من منظار كلمات الوحي الإلهي والمتصلين بهذا الوحي (ع) عبارة عن موجودٍ حرٍ ومختارٍ من الناحية التكوينية، وينعم بهذه الحرية في كافة أفعاله وتصرفاته وقناعاته ومعتقداته، وبالتالي فهو حرٌّ تكويناً في كافّة أعماله وحتى في اعتقاداته الذهنية.
وطبعاً فإن هذا لا يعني خروج الإنسان عن حيطة القدرة والإرادة الإلهية، وإنما المقصود إثبات أصل الحرّية والاختيار التكويني للإنسان، وبالتالي نفي مسلك الأشعرية الذي يرى أن كافة الظواهر المنبثقة عن الإنسان إنما هي نتيجة الفعل الإلهي والإرادة الإلهية، فهو يقول بأن ما سوى الله تعالى معلولٌ له، وحتّى نور الشمس ليس أثراً لها وإنما هو فعل الله تعالى، غاية ما في الأمر أن عادته تعالى قد جرت على بثّ النور عند طلوع الشمس.
إن الآيات والروايات المتقدّمة تمثل دليلاً محكماً على ردّ هذه الرؤية، كما هو الحال في مسلك التفويض المردود وغير المقبول أيضاً نتيجة الأدلة العقلية والنقلية التي تقدّم بعضها، والتي تعالَج تفصيلاتُها في علم الفلسفة والكلام.
إن البحث الدقيق جداً عن الأمر بين الأمرين، وكيفية تصوير هذه الحقيقة وهي أن الإنسان في أفعاله يجري على الحدّ الوسط بين الجبر والاختيار، وكذلك الرد على شبهات الأشاعرة والمفوضة… إن هذا البحث وسيعٌ جداً، وهو بعيدٌ عن طبيعة هذه المقالة إذ إنه يحتاج إلى رسالةٍ مستقلةٍ.
حدود الحريّة من المنظار الفقهي
تمثّل الحريّة التشريعية أو حدود حرية الإنسان من وجهة النظر الشرعية والقانونية عمدةَ البحث في المدنية المعاصرة والمحور الأساسي للاختلافات حول مسألة الحرية عموماً.
الحرية التشريعية عبارةٌ عن حرية الإنسان من منظور الشرع ونظامه التقنيني.
والمقصود من هذا البحث هو هل أن المواطنين المنعمين بالحرية التكوينية في كافة أفعالهم وتصديقاتهم الذهنية وكذلك في إذعانهم وإنكارهم القلبي، هل أنهم في نظام الحياة أحرار أيضاً من الناحية القانونية والشرعية؟ وإذا كانوا أحراراً فهل بمعنى انهم في المجتمع الإسلامي كذلك بدون أي قيدٍ أو حدٍ، بحيث إن أي مواطنٍ يمكنه ممارسة وإظهار ما اختاره من طريقة العيش كيفما كانت وعلى أي نحوٍ؟
هل يمكن من وجهة نظر الشرع أن يكون المواطن في المجتمع الإسلامي حراً بحيث يستطيع ـ متجاهلاً الأحكام الإلهية ـ ارتكاب أيّ منكرٍ من المنكرات، ولا يحقّ لأي شخصٍ ـ أعم من الشخصية الحقيقية أو الحقوقية ـ أن يعترض أو يبدي ردّ فعلٍ إزاء ذلك، أو أن القضية هي أنه كما أن الإنسان في مرحلة التشريع ليس حرّاً وهناك واجباتٌ ومحرماتٌ متوجهة إليه، فإنه في مرحلة الامتثال ليس حرّاً كذلك، بل يمكن تنظيم حريته من طرف الحاكم الشرعي أو آحاد المجتمع بحيث تكون ذات أطرٍ وحدود؟ وإذا كان الأمر كذلك فما هي هذه الحدود، وما هي المرجعية التي ترسّمها؟
وحتى يكون النظر الشرعي والقانوني في هذا المجال واضحاً هنا من اللازم بحث كافّة جوانب وشقوق الموضوع، وتبيين حكم كلّ واحدٍ منها من الناحية الفقهية.
وعلى هذا الأساس سوف نبحث حرية الإنسان في مرحلتي ما قبل وما بعد البلوغ، وعلى كلا التقديرين حرّيته أمام العائلة والمجتمع والحكومة الإسلامية، ومن ثم نوضح حكم كل واحدٍ منها من الناحية الشرعية والقانونية اعتماداً على المنابع الاجتهادية.
حدود الحريّة الإنسانية قبل البلوغ
من المعلوم لدينا أن الإنسان قبل وصوله إلى حدّ البلوغ يكون حرّاً ومطلق العنان، ولا يتوجّه إليه أيّ نوعٍ من الواجبات والمحرّمات، فهو حرٌ إلى الحد الذي لا يتسبّب فيه بتوجيه الضرر إلى الآخرين أو الآثار التربوية السيئة إلى نفسه، سواءٌ في ذلك مرحلة التشريع أو ـ بطريق الأولوية ـ مرحلة العمل، إلا أنه في أي وقتٍ يُقدم غير البالغ فيه على عملٍ موجبٍ للضرر على الآخرين أو يجرّ هذا العملُ عليه المفسدة والآثار الأخلاقية والتربوية السيئة، في هذا الوقت يكون لأوليائه ـ المسـؤولين في إطـار نظارتهم على سلوكه ـ الحق في تحديد حريته، وكذلك الحاكم الشرعي موظف في إطار سعيه لتدارك الضرر والخسارات المالية الواردة على الآخرين بتأديبه بدنياً عن طريق أوليائه.
وبناءً عليه فحرية الإنسان قبل البلوغ محدودةٌ من جهتين:
أ ـ فالشرع ـ من ناحيةٍ ـ قد أعطى أوامره لأولياء غير البالغ بمراقبته مراقبةً شديدةً فيما يتعلّق بالمسائل الروحية والمعنوية، وكذلك توجيهه للتعاليم الدينية والحيلولة بينه وبين المفاسد الأخلاقية، بحيث منح الأب ـ في إطار نظرةٍ دقيقةٍ حول كيفية التربية والتعاطي مع الولد كما يقول الإمام علي (ع): "من كان له ولد صبا"(37) ـ صلاحية التشديد حتى لو وصل الحال إلى التأديب البدني بهدف تعليم وتمرين الولد على بعض التعاليم الدينية وجعلها عاديةً بالنسبة إليه.
يقول الإمامان الباقر والصادق (ع) في خبرٍ معتبرٍ: "ثم يُترك حتى يتمّ له تسع سنين، فإذا تمّت له عُلّم الوضوء وضُرب عليه وأُمر بالصلاة وضُرب عليها"(38).
وبهدف الحيلولة دون وقوع الأبناء في التلوّثات الأخلاقية والجنسية فقد أجيز استخدام بعض أنواع التحديد في العلاقة مع الجنس الآخر أو الجنس الموافق بشكلٍ ظريفٍ ولطيفٍ أيضاً، بل إن الأولياء مسؤولون عن رعايتهم، ولذلك يجري الحد من إعمالهم لحريتهم التكوينية في مرحلة التشريع.
يقول رسول الله (ص) وفق صحيحة عبد الله بن ميمون: "الصبي والصبي، الصبي والصبية، والصبية والصبية، يفرق بينهم في المضاجع لعشر سنين"(39).
إن هذه الصحيحة هي معتمد فتوى الفقهاء العظام، كما جاء في العروة الوثقى في المسألة الرابعة والأربعين حيث قال: "يفرّق بين الأطفال في المضاجع إذا بلغوا عشر سنين"، وقد قبل كافة المحشّين على العروة ومن بينهم الإمام الخميني الراحل (قده) بهذه الفتوى.
ب – ومن جهةٍ أخرى فقد أمر الحاكم الشرعي بتعزير وتأديب الولد إذا ما شاهد صدور بعض المنكرات الاجتماعية منه، كما في النصوص الكثيرة المعتبرة الواردة في سرقة غير البالغ حيث جاء فيها أنّه يُعفى عنه في المرة الأولى، فيما يقوم الحاكم الشرعي وفق ما يراه من المصلحة بتأديبه وضربه فيما بعد، وذلك إلى درجة أنه إذا لم يُقلع عن الأعمال القبيحة بمعاقبته بالجلد بلطفٍ، فإنه يمكن للحاكم الشرعي أن يقطع أطراف أصابعه وإذا لم يكن ذلك مؤثراً أيضاً فإن بإمكانه مواجهته بما هو أشدّ من ذلك، ففي صحيحة عبد الله بن سنان المروية عن الإمام الصادق (ع) جاء: "في الصبي يسرق قال: يعفى عنه مرة فان عاد قطعت أنامله أو حكّت حتى ترمى، فان عاد قطعت أصابعه، فان عاد قطع أسفل من ذلك"(40).
لقد اتفق الفقهاء العظام المتقدّمون منهم والمتأخّرين وكذلك المعاصرون على إجراء العقوبة البدنية على الصبي السارق، بالرغم من اختلافهم ـ في الجملة ـ في كيفية تأديب الحاكم الشرعي له، وفي ذلك يذكر الإمام الراحل في رسالته العملية ما نصّه "فلو سرق الطفل لم يحدّ ويؤدّب بما يراه
الحاكم"(41).
الحاكم"(41).
إن هذا الأمر يدلل على أن غير البالغين وإن كانوا بالنسبة لهم أنفسهم أحراراً بالحرية التشريعية ولا يثبت عليهم أي واجبٍ أو حرامٍ، إلا أنّ ذلك لا يعني أنهم ينعمون بالحرية المطلقة، وأنه لا مقيّد لتصرفاتهم من أية جهةٍ حقيقيةٍ كانت أو حقوقيةٍ.
ويبين الفقيه المحقّق صاحب العروة في عبارةٍ جامعةٍ القيود التي يمكن للأولياء فرضها على أولادهم غير البالغين فيقول: "يجب على الولي منع الأطفال عن كل ما فيه ضرر عليهم وعلى غيرهم من الناس وعن كلّ ما عُلم من الشرع إرادة عدم وجوده في الخارج، لما فيه من الفساد كالزنى واللواط والغيبة، بل والغناء على الظاهر، وكذا عن أكل الأعيان النجسة وشربها مما فيه ضررٌ عليهم".
إنّ كل المحشّين على العروة ـ ومن بينهم الإمام الراحل (قده) ـ قد قبلوا هذه الفتوى إلا أنّهم احتاطوا فيما يتعلّق بالغناء منها.
وروح المطلب هو أن كلّ الفقهاء وعلماء الدين متفقون على أنّ تلك المجموعة من المحرّمات التي يستفاد من أدلّتها أن غرض الشارع إنما هو عدم تحقّق ذات العمل من أيّ شخصٍ صدر سواءٌ من البالغ أو من غيره، كالقتل والزنى واللواط وشرب المسكر، لا شك في أنّ الأطفال غير أحرارٍ فيها، وعلى الجميع ـ لا سيما الأولياء ـ العمل للحيلولة دون حصول ذلك، أمّا تلك المحرّمات التي لا يستفاد من أدلّتها مبغوضيّة نفس العمل وإنما العمل صادراً من المكلف، فإن غير البالغ ليس ممنوعاً عنها بل هو حرٌّ إزاءها، وليس على الآخرين مسؤولية منعه منها.
حدود الحرية بعد البلوغ من الناحية الفقهية
عندما يصل الإنسان إلى مرحلة البلوغ والرشد فان الشرع يقوم بتحديد حريته أكثر من السابق وفق نظامه القانوني، ويعتبره موجوداً مسؤولاً، ويضع على عهدته ما يلزم فعله وما يلزم تركه، كما ويطالبه بحفظ ارتباطه بالخالق تعالى في صورة الصلاة والصيام، ويستدعيه للتوجّه إلى الضعفاء المحتاجين والأخذ بالانتباه والرعاية النواقص الموجودة في المجتمع عن طريق أداء الزكاة والخمس والدفاع والجهاد مع العدو، ويحرّم عليه أيّ عملٍ فرديٍّ أو اجتماعيٍّ يهدّد حياته المعنوية ورشده وتكامله كالكذب والغيبة والزنا والتعدي على حقوق الآخرين، كما أنّه لا يقبل منه أيّ نوعٍ من التقصير في مرحلة الامتثال أمام المسؤوليات التي جعلها في عهدته، وبالتالي فقد منع من التخلّف عنها، وجعلها خارجةً عن مجال اختيار الإنسان، ففي القرآن الكريم: ]وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبيناً[(42).
ومع هذا فلا تعطى أيّ شخصية حقيقية أو حقوقية وحتى الحاكم الشرعي أي إجازةٍ في الاستفادة من الجبر والقهر ـ والجرح أحياناً ـ في كافة الواجبات والمحرمات بنحوٍ شاملٍ ومطلقٍ، وبالتالي إلزام الرعية بامتثال تكاليفها ووظائفها الشرعية.
ويمكن تقسيم الأحكام الإلهية من هذه الجهة إلى قسمين ـ والحكومة الإسلامية لها الحق في استعمال القوة والإجبار وصولاً إلى مرحلة الجرح والقتل في قسمٍ واحدٍ منهما ـ هما:
1 ـ مجموعة الأحكام التي ليس للحكومة الإسلامية في مقابلها إلا وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شريطة عدم الوصول إلى القتل والجرح، وهذه الخصوصية إنّما هي للأحكام ذات الطابع الفردي الإلهي كوجوب الصلاة والصيام، ولا تستتبعها أي مفسدةٍ اجتماعيةٍ أو نوعٍ من التعدّي على حقوق الآخرين وهتك المقدّسات والتظاهر بالمنكرات والإقدام على ما يخالف مصالح النظام.
وهنا يصل البحث إلى مرحلةٍ دقيقةٍ وحرجةٍ جداً، ولعل قبول وتصديق المتدينين أصحاب القلوب المحترقة على الدين لهذا الأمر فيه شيءٌ من الإشكالية، إذ كيف يمكن أن يكون الإنسان المسؤولٌ من وجهة نظر الشرع أمام تكاليفه الإلهية وذو الصلاحيات المحدودة، والمعاقب على التخلّفات التي يقوم بها باستحقاق العذاب والجزاء الأبدي، كيف يمكن أن يكون حراً أمام الحكومة الإلهية فيما يتعلق بالتكاليف، بحيث إنّ بقية المواطنين ومعايشيه المذهبيين والحاكم الشرعي لا يمكنهم إجباره على القيام بوظائفه الإلهية بالغاً الأمر ما بلغ؟!
إلا أنه من المنظور الفقهي لا مفرّ من التفكيك بين هذين الأمرين بحيث يكون الإنسان محدوداً أمام الواجبات والمحرمات الفردية الإلهية وفاقداً للحرية أيضاً من جهةٍ إلا أنّه من جهةٍ أخرى ومن ناحية حدود صلاحيات الحكومة الإسلامية يكون حراً، وليس لأحدٍ الحق في فرض ذلك عليه، وذلك لأنّه لا يمكن العثور على أي دليل وتحت أي عنوان فقهي دالٍّ على تجويز الاستعانة بالإجبار والفرض وصولاً حتى مرحلة الجرح والقتل حتى من ناحية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذا النوع من التكاليف، إلا إذا ترتّب عليه عنوان ثانوي إلهي؛ وذلك لأنه بالرغم من أن كثيراً من الفقهاء قد جوّز في المرتبة الثالثة من الأمر بالمعروف التوسّل بالإجبار والفرض من قبل غير الحاكم الشرعي حتى في هذه المجموعة من التكاليف ذات الجنبة الفردية الإلهية، إلا انه بغض النظر عن إيجابه في بعض الموارد الهرج والمرج لا يمكن إقامة دليل متقن وغير قابل للنقد على هذا المدعى، والوجوه التي أقاموها على ذلك يمكن الإيراد عليها والخدشة بها بما لا مجال له في هذا المقام ويحتاج إلى بحث مستقل.
نعم إن الاستعانة بالمرتبة الثالثة من الأمر بالمعروف ـ إلى حدّ الجرح والقتل ـ من قبل الحاكم الشرعي في الموارد التي تكون ذات طابع اجتماعي كالتعدي على حقوق الآخرين أو القيام بأعمال موجبة لإشاعة الفحشاء أو الإخلال بالنظام أو توهين المقدسات وأمثال ذلك… إن هذه الاستعانة أمر مسلّم كما سنبحثه في القسم الآتي.
وعلاوة على ما تقدم فذاك النوع من الأحكام ذات الجنبة الفردية ـ الإلهية ليس فقط لا يثبت فيه حق الفرض والإجبار للآخرين وأبناء المذهب الواحد وحتى للحكومة الإسلامية، بل انه ليس لهؤلاء الحق في التجسّس والبحث عن الحياة الخصوصية لأفراد الرعية والمواطنين الآخرين، بهدف استعلام مدى رعايتهم أو عدم رعايتهم لتلك الأحكام المذكورة، لأن التجسس بأي نوعٍ من الأنواع محرّم بحكم الآية الشريفة ]ولا تجسّسوا[(43) وكذلك الروايات الكثيرة جداً والآتية على نحو الإطلاق، والتجسّس هو ذاك التقصّي الهادف إلى العثور على العيوب والخفايا.
وقد جاء في دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية: "الرسائل والمكالمات الهاتفية، والمخابرات البرقية، والتلكس لا يجوز فرض الرقابة عليها أو منع إيصالها أو إفشائها إلا بقانون"(44).
ويكتب الإمام الخميني الراحل في رسالته إلى جهاز ملاحقة المخالفات القضائية والإدارية فيقول: "إن التجسس على أحوال الأشخاص غير المفسدين وعلى ما عدا الفئات المخرّبة ممنوعٌ مطلقاً، وتوجيه الأسئلة إلى الأفراد حول عدد المعاصي التي ارتكبوها ـ كما تفيده بعض التقارير ـ مخالف للإسلام، والمتجسّس عاصٍ، ولا بد في انتخاب الأشخاص من أن يكون هذا النحو من الأمور المخالفة للأخلاق الإسلامية والمخالفة للشريعة المطهرة ممنوعاً"(45).
والشخص الوحيد الذي لا يبعد اعتباره مجازاً شرعاً في استعمال الجبر وممارسة الفرض من بين المواطنين وأفراد الأمة بهدف تحصيل التعهد العملي والارتباط بالواجبات والمحرمات الإلهية، هو أفراد العائلة لاسيما الأولياء، فان بإمكان هؤلاء ذلك فيما يخص الأشخاص الذين يقعون تحت إشرافهم العائلي.
والمستند والمعتمد لهذا المطلب أمران:
أ ـ الآية الشريفة ]يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة[(46).
فمن الواضح أن وقاية الأهل وحفظهم من العذاب الإلهي لا يتيسر فقط بالتذكير اللساني، وإنما لا مفر من رعاية التكاليف الإلهية على المستوى العملي، فالأب الذي يرى ولده أو أخاه غارقاً في المعاصي فانه إذا ما اقتصر على التذكير اللساني والنهي عن المنكر كذلك لا يكون مراعيا أبداً للأمر بالحفظ من العذاب الإلهي، وبالتالي فهو مضطر ـ لأجل تحقيق الامتثال لهذا الأمر ـ لمنعه من هذا العمل؛ وعلى هذا الأساس ففي الموارد التي يكون حفظ الأسرة فيها من المعاصي مبنياً على الإجبار والفرض فإن هذا الإجبار يكون جائزاً؛ لان مفاد الآية الشريفة هو وجوب وقاية الأهل ـ المستفاد من ظهور قوا أنفسكم وأهليكم ـ، وبناءً عليه سيكون أي مصداقٍ من مصاديق وقاية الأهل وحفظهم من العذاب الإلهي واجباً، وبلا شك فان عنوان وقاية الأهل منطبق على الحيلولة الجبرية العملية عن ارتكاب المعاصي.
ب ـ صحيحة عبد الله بن سنان المروية عن الإمام الصادق (ع): "جاء رجل إلى الإمام الصادق (ع) فقال: إن أمّي لا تدفع يد لامس، فقال: فاحبسها، قال: قد فعلت، قال: فامنع من يدخل عليها، قال: قد فعلت،
قال: قيّدها فانك لا تبرّها بشيء أفضل من أن تمنعها من محارم الله عزوجل"(47).
قال: قيّدها فانك لا تبرّها بشيء أفضل من أن تمنعها من محارم الله عزوجل"(47).
فقد جاء في ذيل هذه الصحيحة جملة "قيّدها فانك لا تبرّها بشيءٍ أفضل…"، وهي تمثل تعليلاً لحكم وارد على سبيل القاعدة الكلية، وهو يفيد بأن حق الاستفادة من الجبر والفرض ثابتٌ بالنسبة لأقارب الإنسان ـ كالأم ـ بهدف الحيلولة دون ارتكابهم المعاصي، وبعبارةٍ أخرى فإنها تجعل نحواً من الولاية للإنسان على هؤلاء.
2 ـ المجموعة الأخرى عبارة عن الأحكام التي جعل الشارع الحكومة الإسلامية ناظرة ومشرفة على تطبيقها عملياً كما منع الإنسان من ممارسة حريته التكوينية بالنسبة لها في مرحلة التشريع، وبهدف التطبيق الدقيق لهذه الأحكام فقد جوز الاستعانة بالجبر والفرض والمواجهة الجادة مع المخالفين لا بل أوجب ذلك، وفي بعض الموارد وضع حدّاً أو تعزيراً وتأديباً بدنياً ومالياً ـ وفي بعض الحالات القتل ـ لأجل ذلك، ومن هنا فقد حدّ من حرية الإنسان.
وبنظرةٍ شاملةٍ يمكن عدّ الحريات الإنسانية ـ والتي ينطبق عليها أحد هذه العناوين الكلية ـ ممنوعاً من المنظار الفقهي وهي:
أ ـ التعدي على أموال ونفوس وأعراض الآخرين.
ب ـ التعدي على حقوق الآخرين.
ج ـ التضييق على الآخرين.
د ـ التظاهر بالمنكرات.
هـ ـ مخالفة المقررات الحكومية وعدم رعاية مصالح النظام.
و ـ إهانة المقدسات.
وسوف يجري هنا بحث الصبغة الفقهية لكل واحدٍ مما عددناه، كما وسنبين اتكاءً على المباني الاجتهادية الأدلةَ على ذلك من الناحية الفقهية.
أ ـ التعدي على أموال وأنفس وأعراض الآخرين
إن الأوامر الواردة في الكتاب والسنة والمبنية على إجراء القصاص والحدود والتعزيرات في هذه الموارد (التعدي على نفوس و…) تمثل شاهداً محكماً على محدودية الحرية القانونية للإنسان.
فقد جاء في مورد التعدي على نفوس الآخرين: ]ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الألباب[(48).
]ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً[(49).
كما جاء في مورد التعدي على أموال الآخرين: ]السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما[(50).
أما في الموارد التي لا يتحقق فيها شرطٌ من شروط قطع اليد فان الفقهاء متفقون على أنّ للحاكم الشرعي تعزير السارق، وأما التعدي وإهانة أعراض الآخرين فانـه موجب لاستحقاق الحد أو التعزير، فقد شرعت عقوبة ثمانين جلدة على توجيه الإهانة للمسلم على شكل القذف (أي نسبة الزنا أو اللواط إليه) ]والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبـلوا لـهم شـهادةً أبداً وأولئك هـم
الفاسقون[(51).
الفاسقون[(51).
ومع التأمل في هذه الآية الشريفة وفي الروايات المعتبرة الواردة في الباب الثاني والثالث من أبواب حدّ القذف من كتاب وسائل الشيعة(52) يلاحظ أن هذا الحكم هو مورد اتفاق جميع الفقهاء.
أما إذا كانت الإهانة للمسلم على شكلٍ آخر غير القذف فإن ذلك يكون موجباً للتعزير، كما يبين ذلك المحقق الحلي في كتابه الشرائع حيث يقول: "كل تعريضٍ بما يكرهه المواجَه، ولم يوضع للقذف لغةً ولا عرفاً، يثبت به التعزير، لا الحد"(53).
وقد ادعى صاحب الجواهر الإجماع على ذلك وقال: "بلا خلاف أجده فيه بيننا"(54).
وبلا شك فان اتفاق الفقهاء منبثق عن الروايات المعتبرة الواردة في هذا الباب، فقد خصّ صاحب الوسائل باباً لذلك أسماه "باب أن من سب وعرض ولم يصرّح بالقذف فلا حد عليه وعليه التعزير"(55)، ونحن نكتفي هنا بذكر نموذجٍ من هذه الروايات، وهو ما ينقله عبد الرحمن بن أبي عبد الله ـ أحد الرواة الموثقين ـ بسندٍ صحيحٍ حيث يقول: "سألت أبا عبد
الله (ع) عن رجلٍ سبّ رجلاً بغير قذفٍ يعرض به هل يجلد؟ قال: عليه تعزير"(56).
الله (ع) عن رجلٍ سبّ رجلاً بغير قذفٍ يعرض به هل يجلد؟ قال: عليه تعزير"(56).
والنتيجة هي أن واحداً من حدود الحرية الإنسانية في الحياة مع الآخرين من الناحية الفقهية هو التعدّي على نفوس وأموال وأعراض الآخرين؛ لأن أي حركةٍ ـ سواءٌ على شكل كلامٍ أو كتابةٍ ـ توجب ذلك تعدّ ممنوعةً، وللحاكم الشرعي مواجهتها بشكلٍ قاطعٍ على صورة إجراء الحدود أو التعزيرات.
ب ـ التعدّي على حقوق الآخرين
العنوان الآخر الذي يحد من حرية الإنسان فقهياً هو التعدي على حقوق الآخرين؛ ففي مختلف أبواب المعاملات ـ من حق القبض والاقباض في البيع والإجارة وأمثال ذلك وحق إعمال الخيارات إلى حق المطالبة بالمنافع المستوفاة وضمان التالف وحق النفقة وحق الحضانة و… ـ إذا أراد أحد طرفي المعاملة أن يتجاهل حق الطرف الآخر فيها أو يتجاوزه فإن الحاكم الشرعي ـ باتفاق الفقهاء ـ مطالبٌ بإجباره على الوفاء بتعهّداته ووظائفه الشرعية وإعادة الحق للطرف المقابل.
حدود حرية الإنسان قبال حقوق الحيوانات
في الرؤية العلوية ليس الإنسان محدود الحرية أمام حقوق الآخرين ممن يعيشون معه فحسب، بل انه كذلك أمام حقوق الحيوانات المصنفة فقهياً بحكم الواجب، ومن هنا ـ وباتفاق الفقهاء ـ فالإنسان الذي لا يوصل الماء والعلف لحيواناته المملوكة له للحاكم الشرعي إجباره إمّا على بيع هذا الحيوان أو ذبحه أو تأميّن الطعام له.
يقول المحقّق الحلي في كتابه الشرائع: "وأما نفقة البهائم المملوكة فواجبةٌ سواء كانت مأكولةً أو لم تكن، والواجب القيام بما تحتاج إليه، فان اجترأت بالرعي وإلا علفها، فان امتنع أجبره الحاكم على بيعها أو ذبحها إن كانت تُقصد للذبح أو الإنفاق"(57).
ويعلّق صاحب الجواهر عند نقله هذه العبارة فيقول: "فان تعذر إجباره ناب الحاكم في ذلك عنه على ما يراه"(58).
ويقول الإمام الخميني الراحل (قده) حول هذا الموضوع: "ولو امتنع المالك من الإنفاق على البهيمة ولو بتخليتها للرعـي الكافي لها، أجبر على بيعها أو الإنفاق عليها أو ذبحها، إن كانت مما يُقصد اللحـم بذبحها"(59).
ويوافق آية الله السيد أحمد الخونساري أيضاً على أصل وجوب نفقة الحيوان على مالكه، ويدّعي على ذلك عدم الخلاف فيقول: "وأما البهائم المملوكة فنفقتها واجبةٌ بلا خلاف ظاهراً سواء كانت مأكولة أو لم تكن وسواء انتفع بها أو لا"(60).
والمستند لوجوب نفقة الحيوان على المالك هو الروايات المتعددة التي ينقلها صاحب الوسائل في الباب التاسع من أبواب أحكام الدواب تحت عنوان "باب حقوق الدابة المندوبة والواجبة"(61).
وأما مستند أن للحاكم إجبار المالك على أحد أمور إما تقديم العلف والماء للحيوان أو بيعه أو ذبحه، فبالرغم من انه لم ترد مثل هذه الخصوصيات في أي رواية، إلا أنه يمكن تتميم الجنبة الفقهية هنا من خلال مبنى ثبوت الحق للحاكم الشرعي في إجبار أي شخصٍ متخلفٍ عن القيام بواجباته على أدائها، وإلا فإذا لم يتم قبول هذا المبنى فإنه لا مجال للتحقق من وجهٍ آخر لإثبات هذا الحكم.
ج ـ مزاحمة الآخرين
لم يعط النظام الإسلامي ـ من وجهة النظر الفقهية ـ أي شخصٍ الحق في الاستفادة من حرياته إذا ما سبّبت إيجاد نوعٍ من المزاحمة للآخرين سواء كانوا مسلمين أو أهل ذمّة، وحتى المالك الذي يتصرف في ملكه موقعاً المزاحمة على الآخرين ليس له حق التصرف هذا من الناحية الفقهية، والحاكم الشرعي مسؤول عن المواجهة بقاطعيةٍ مع هذا النوع من ممارسة الحرية، وبالتالي تحديد حرية ذلك الإنسان.
إن فلسفة ضرورة وجود الحكومة ولا سيما لزوم إدارتها من قبل الفقيه الجامع للشرائط تمثل دليلاً واضحاً على مسؤولية الحاكم الشرعي في الحد من وجود مثل هذا النوع من الحريات، ويُلزم ـ بهدف إقرار الهدوء التام والحفاظ على أمن المواطنين ـ بمواجهة هذه الظاهرة مواجهةً حازمةً.
وبالإضافة إلى ذلك يمثّل الحديث النبوي المعتبر "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام"(62) شاهداً محكماً على نفي حرية الإنسان في الموارد التي يتسبّب فيها بمضايقة حق الآخرين.
ومن العجيب جعل بعض الكبار أيده الله تعالى الروايةَ المذكورةَ دليلاً على الحرية المشروعة، بالرغم من أنها تتناسب ـ مع الأخذ بعين الاعتبار متنها ومورد صدورها ـ مع تحديد الحرية أكثر من تشريعها، وان كان يمكن بتقريبٍ من التقريبات استفادة حرية الإنسان في محيط منزله منها، إلا أن هذه المرتبة من الحرية ليست بتلك المرتبة المبهمة، كما أنها ليست مورداً للبحث والجدال بين المؤيدين والمعارضين من الباحثين حول الحرية.
والذي يبدو هو انه ـ وحتّى يكون البحث أكثر شفافيةً ـ لابد في البداية من التعرف على متن الرواية المذكورة وشأن صدورها، إذ ينقل الصدوق هذه الرواية عن ابن بكر وهو بدوره ينقلها عن زرارة كالتالي: "عن أبي جعفر (ع) قال: إن سمرة بن جندب كان له عذق في حائط رجل من الأنصار وكان منزل الأنصاري فيه الطريق إلى الحائط فكان يأتيه فيدخل عليه ولا يستأذن فقال: انك تجيء وتدخل ونحن في حالةٍ نكره أن ترانا عليها، فإذا جئت فاستأذن حتى نتحرّز ثم نأذن لك تدخل قال: لا أفعل هو مالي ادخل عليه ولا استأذن، فأتى الأنصاري رسول الله (ص) فشكا إليه وأخبره فبعث إلى سمرة، فجاء فقال: استأذن عليه؟ فأبى وقال له مثل ما قال للأنصاري، فعرض عليه رسول الله (ص) أن يشتري منه بالثمن فأبى عليه، وجعل يزيده، فيأبى أن يبيع، فلما رأى رسول الله (ص) قال له: لك عذق في الجنة، فأبى أن يقبل ذلك، فأمر رسول الله (ص) الأنصاري أن يقطع النخلة فيلقيها إليه، وقال: لا ضرر ولا ضرار"(63).
والملاحظ هنا أن شأن صدور لا ضرر ولا ضرار هو ذاك الإنسان الوقح سمرة بن جندب الذي يستفيد من حريته سوء الاستفادة، ويدخل منزل المسلم فجأةً وبدون إعلامٍ مسبقٍ رافعاً شعار "احترام الملكية"، وبذلك يكون موجباً لأذية ومزاحمة الأنصاري وعائلته.
إن رسول الله (ص) وبجملته الراقية والقيمة "لا ضرر ولا ضرار" يصدر عملياً حكماً ـ كحاكمٍ للمسلمين ـ بلزوم قلع العذق، ومع قلعه يتم إعدام الأرضية الموجبة لوقوع الأذية والمزاحمة للآخرين.
وبناءً عليه فالمراد الأصلي لهذه الرواية هو نفي شرعية الحرية المفضية إلى مزاحمة الآخرين من قبل سمرة بن جندب، وان كان يمكن أيضاً استفادة احترام حرية الرجل الأنصاري وعائلته في محيطه المنزلي ـ والتي هدّدها التصرّف الوقح من قبل سمرة ـ منها، إلا انه من الواضح أن ضرورة هذا النوع من الحرية هو ممّا اتفق عليه كل الباحثين حول هذا الموضوع، وهو من الوضوح بحيث انه لا يحتاج إلى الاستدلال وتقديم البرهان.
د ـ التظاهر بالمنكرات
من الموارد الأخرى التي تحدّ من حرية الإنسان شرعاً هو التظاهر بالمنكرات في المحيط الاجتماعي، وذلك لأن الشارع بالإضافة إلى انه قد منع من ارتكاب هذه المنكرات على مستوى مرحلة التشريع، فانه في الموقف العملي قد حرّم التظاهر بها أيضاً، بل إن الحاكم الشرعي مسؤولٌ هو الآخر عن المواجهة الجادة مع ذلك التظاهر بأشكالٍ متنوعةٍ، وبالتالي فهو مسؤولٌ عن الحد من حرية الفرد هنا.
ومع التتبع والبحث الشامل من هذه الناحية يمكن العثور على ثلاث مجموعاتٍ من التظاهر بالمنكرات هي:
1 ـ التظاهر ببعض المنكرات الموجب للحد.
2 ـ التظاهر ببعض المنكرات التي ورد في النصوص ثبوت التعزير في موردها مستقلاً.
3 ـ التظاهر ببعض المنكرات التي لم ترد فيها ـ مستقلاً ـ نصوصٌ باستحقاق التعزير إلا أنها مندرجة في القاعدة العامة المتفق عليها بين الفقهاء، وهذه الضابطة العامة هي أن للحاكم الشرعي في موارد الكبائر من الذنوب إجراء التعزير إذا رآه صالحاً.
أما المجموعة الأولى فمن مصاديقها شرب الخمرة والذي حدّه ـ باتفاق الفقهاء على أساس النصوص المتواترة(64) ـ ثمانون جلدة.
المصداق الآخر لهذه المجموعة هو زنى غير المحصن والذي يصرّح القرآن الكريم بأن حدّه مائة جلدة "الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مأة جلدةٍ"(65)، هذا مضافاً إلى أن بإمكان الحاكم الشرعي نفي الزاني وتبعيده عن البلد، وهو ما جاء في وسائل الشيعة (ج8، ص393) في بابٍ تحت عنوان "باب حدّ نفي الزاني".
وكذلك زنى المحصنة والذي اتفق الفقهاء على أساس الروايات المستفيضة أو المتواترة(66) على أنّه الرجم، ومن الموارد الأخرى أيضاً المساحقة (ممارسة الجنس بين النساء) حيث اتفق الفقهاء على أساس الروايات المعتبرة على إيجابه الحدّ مائة جلدة(67).
أما المجموعة الثانية والتي يعطى الأمر فيها إلى الحاكم الشرعي ليصدر قرار التعزير فإن من مصاديقها الشخص الذي يقوم ـ عن سابق علمٍ وعمدٍ ـ بالتظاهر بالإفطار في شهر رمضان من دون أن يكون معذوراً، فقد اتفق الفقهاء على أن مثل هذا الشخص ليس حرّاً فيما يفعله بل هو مستحقٌ للتعزير، بل إذا قام بهتك حرمة هذا الشهر الفضيل عدّة مراتٍ وكان قد عزر مرتين (على المشهور) أو ثلاث مرات (على غير المشهور) فانه يستحق القتل في المرتبة الثالثة أو الرابعة.
يقول المحقّق الحلّي في هذا الصدد: "من أفطر في شهر رمضان عالماً عامداً عزّر مرةً، فان عاد كذلك، عزّر ثانياً، فان عاد قتل"(68)، وقد أيّد صاحب الجواهر هذه الفتوى وأقام في تعليقه عليها براهيـن قوية جداً(69)، وكذلك قبلها صاحب العروة وقال: "من أفطر فيه مستحلاً عالماً عامداً، يعزّر بخمس وعشرين سوطاً، فان عاد عزّر ثانياً، فان عاد قتل على الأقوى وان كان الأحوط قتله في الأربعة"(70)، وقد وافق كل الفقهاء المحشّين على العروة على هذه الفتوى أيضاً.
والمستند الفقهي للحكم المذكور هو روايات أهل بيت العصمة والطهارة (ع) والتي نكتفي بذكر بعضها هنا، فقد جاء في صحيحة بريد العجلي "سئل أبو جعفر (ع) عن رجلٍ شهد عليه شهود أنه أفطر شهر رمضان ثلاثة أيام، قال: يُسأل هل عليك في إفطارك شهر رمضان إثمٌ؟ فإن قال لا فإنّ على الإمام أن يقتله (إذ يُعلم حينها انه لا يرى الصيام واجباً، وبالتالي يكون منكراً لضروريٍّ من ضروريات الدين)، وإن قال نعم فإن على الإمام أن يُنهكه ضرباً"(71).
كما جاء في موثقة سماعة "سألته عن رجل أخذ في شهر رمضان وقد أفطر ثلاث مرات وقد رفع إلى الإمام (فأجري عليه التعزير)، ثلاث مرات قال: (نظراً لهتكه مصرّاً حرمة الحكم الإلهي) يُقتل في الثالثة"(72).
وطبعاً ليس هدفنا هنا إعطاء الرأي النهائي في أنه هل يعد إجراء وتنفيذ هذه الأحكام في الظرف الراهن ـ ونظراً لمجموع الشرائط والظروف الاجتماعية العالمية ـ مناسباً أو لا؟ وإنما الهدف هو توضيح الممنوعية والمحدودية الموجودة أمام بعض الحريات من وجهة النظر الفقهية الأمر الذي يستشكل في قبوله ـ مع الأسف ـ الكثير من العوام بل والخواص أيضاً في مجتمعنا.
نموذجٌ آخر من المنكرات المشابهة للموارد المذكورة والتي ورد فيها التعزير هو موضوع العلاقة غير الشرعية بين الرجل والمرأة غير المَحرَمين، فإنه بالرغم من حرمة أي نوعٍ من أنواع التجسس هنا، إلا انه في الحالات التي يثبت فيها ـ وبدون تجسس ـ أن هناك خلوةً بين الرجل والمرأة غير المَحرَمين فإن للحاكم الشرعي تعزيرهما، ففي موثقة أبي بصير عن الإمام الصادق (ع) "إذا وجد الرجل مع امرأة في بيتٍ ليلاً وليس بينهما رحم جلدا"(73).
وهناك موارد أخرى ورد فيها أن على الحاكم إجراء التعزير فيها بعنوانها، وتوجد أدلّة من الروايات على ذلك، وأكثر هذه الموارد مما اتفق عليه الفقهاء، ونحن ـ وبهدف تجنب الإطالة ـ سوف نقتصر على عناوين هذه الموارد مع بيان المصدر لها وهي:
1 ـ تقبيل الصغير بشهوة(74).
2 ـ الشهادة الكاذبة(75).
3 ـ الطلاق على غير السنة(76).
4 ـ إيذاء المسلمين(77).
5 ـ نوم رجلين تحت لحافٍ واحدٍ(78).
6 ـ نوم المرأتين عاريتين تحت لحافٍ واحدٍ(79).
7 ـ سرقة غير البالغ(80).
8 ـ اتهام الآخرين(81).
9 ـ مجامعة الزوجة الصائمة(82).
10 ـ افتضاض بكارة الأجنبية بغير الجماع(83).
11 ـ قتل الحيوان عبثاً(84).
12 ـ وطء الحيوان(85).
13 ـ الاستمناء(86).
14 ـ قذف الصبي (أي اتهام غير البالغ لمسلمٍ باللواط أو الزنا) (87).
15 ـ الاعتراف بارتكاب أعمال منافية للأخلاق أقلّ من أربع
مرات(88).
مرات(88).
أما المجموعة الثالثة فهـي المنكرات التي لـم يـرد فيها بعنوانها في النصوص والروايات تعزيرٌ خاص، إلا أنه قد جُعل للحاكم الشرعي ـ بل في بعض الموارد أوجب عليه ـ إجراء التعزير إذا ما تحقق العنوان الكلّي ألا وهو "ارتكاب الحرام أو ترك الواجب".
واحدٌ من المصاديق البارزة في هذه المجموعة هو التظاهر بالسفور، ومع الأسف فإن بعض اللاهثين وراء الرغبات وغير المعتقدين بالحرام والحرام الإلهي يبتغون الوصول إلى هذه الحرية المطلقة، أما المؤمنون والمعتقدون بالآخرة فانهم يحملون دائماً قلق الآثار السيئة وهواجس نتائج هذا النوع من الإلغاء والإقصاء للدين.
إنّ أصل ثبوت حق التعزير للحاكم الشرعي في مقابل التظاهر بهذا النوع من المنكرات هو أمر مسلّم عند الفقهاء، كما أنه واضحٌ أيضاً وشفافٌ جداً من حيث الأدلة.
وفي هذا المجال يقول المحقّق الحلّي: "كل من فعل محرّماً أو ترك واجباً فللإمام تعزيره بما لا يبلغ الحد، وتقديره إلى الإمام"(89).
وقد عدّ الحكمَ المذكور في الجواهر على أنه مورد وفاق الفقهاء، وأنه واضحٌ لا إشكال عليه لا فتوى ولا نصاً وقال: "لا خلاف ولا إشكال نصاً وفتوى"(90)، وكذلك الإمام الراحل حيث يقول: "من ترك واجباً أو حراماً فللإمام (ع) ونائبه تعزيره، بشرط أن يكون من الكبائر، والتعزير دون الحد، وحدّه بنظر الإمام"(91). والمستند الفقهي لهذه المسألة عدّة وجوهٍ هي:
1 ـ إذا جوّزنا المرتبة الثالثة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (التوسّل بالإجبار والفرض) كما يذهب إليه أكثر الأصحاب ومنهم الإمام الراحل، فانه يمكن ـ وبالاعتماد على تلك الأدلة هناك ـ تجويز إجراء الحاكم التعزيرَ في موارد تشخيصه للمصلحة، وإذا كنا لا نقبل هذا المبنى نتيجة الإشكالات الواردة على أدلته وقصورها عن إثبات هذا المدعى فإنه يمكننا التمسّك بالأدلة الآتية.
2 ـ الروايات التي استدل بها صاحب الجواهر هنا والتي تفيد بأن كل شيءٍ له حدّ، وكلّ من يتجاوز ذلك الحد فعليه حدّ، من قبيل صحيحة داود بن فرقد عن الصادق (ع) عن رسول الله (ص) "إن الله قد جعل لكل شيءٍ حدّاً وجعل لمن تعدّى ذلك الحد حدّاً"(92).
إلا أن الاستدلال بهذا النوع من الأخبار مبني على كون الحدّ الوارد في ذيل الرواية إنما هو بمعنى التعزير، إلا أنه يمكن القول بأن الحدّ هو بمعنى حدود نهاية الشيء كما كان الحد الأول والثاني في الرواية بغير معنى التعزير قطعاً، وإنما هو بالمعنى المتناسب مع ذاك الشيء ولا سيما مع نظرية عموم "جعل لكل شيء"، فمثلاً الحد في القتل العمدي هو القصاص، وفي الخطأ الدية، وفي موارد التعدي على أموال الآخرين هناك حدٌ ونهاية للأمر وهو وجوب رد المال الغصبي، وفي حال الإتلاف الضمان بالمثل أو القيمة، وبهذا المعنى يكون الحدّ في الجملة الثانية أي "لمن تعدى ذلك الحد حدّاً".
3 ـ وقد تمسك في الجواهر بدليل آخر في هذا المجال وهو النصوص والروايات الكثيرة التي ذكرت التعزير في موارد مختلفة (ومنها ما تقدم في الفصل السابق مفصّلاً) وإجازته للحاكم الشرعي، ومن استقراء هذه النصوص يمكن الاطمئنان بعدم الخصوصية في مواردها، وإنما تتصل القضية بأي معصيةٍ كبيرةٍ تمّ ارتكابها، "مضافاً إلى إمكان استفادته أيضاً من استقراء النصوص"(93).
وفي أيّة حال يحصّل فيها الفقيه اطمئناناً بعمومية الحكم فإنه ـ بلا شك ـ يكون قد أحرز ما هو الحجة، وإلا فانه لا بد له من مواصلة سعيه وبحثه لتحصيل الحجة الشرعية.
4 ـ يمكن مع عدم الأخذ بالأدلة المتقدمة التمسك بهذا الوجه وهو أن واحدةً من وظائف الحكومة الإسلامية هي جعل الجوّ الحاكم على المجتمع جوّاً مملوءاً بالمعنويات وسيادة الإسلام، وتصفية المجتمع من أيّ نوعٍ من أنواع التلوّثات، وتزيينه بالأحكام الإلهية، وذلك إلى حدّ أنّه وحتى لا يتعرّض هذا الهدف لأيّ محذور، فقد جُعل عدم تظاهر أهل الذمة بكل ما هو من المنكرات والمعاصي في نظر الإسلام والتزامهم عمليّاً بهذا الأمر، جعل ذلك من شروط الذمّة القطعية التي لا يمكن التغاضي عنها أبداً، وهذا الأمر هو من الثبات والإحكام بحيث إنّ نقضه موجبٌ لانهيار عقد الذمة من أساسه حتى لو لم يسجّل كشرطٍ ضمن العقد والتعاهد.
ومن هنا وبالرغم من انه يمكن أن يكون شرب الخمرة والزنى وأكل لحم الخنزير والسفور ولعب القمار وأمثال ذلك حلالاً عند الكفار بحسب مذهبهم، إلا انهم غير مجازين في هتك الحرمة والتظاهر بمثل هذا النوع من المعاصي في مجتمع المسلمين.
وهذا الأمر هو مورد وفاق كافّة علماء الشيعة من متقدّميهم إلى المتأخرين والمعاصرين منهم، كما في كلمات المحقق الحلي حيث جاء: "الرابع: أن لا يتظاهروا بالمناكير كشرب الخمر والزنى وأكل لحم الخنزير ونكاح المحرمات ولو تظاهروا بذلك نقض العهد"(94).
وقد نقل صاحب الجواهر عن ابن إدريس الإجماعَ على هذا
المطلب(95)، كما يعرض الإمام الخميني الراحل (قده) هذا الشرط أيضاً كشرطٍ ثالثٍ من شروط عقد الذمة فيقول: "الثالث: أن لا يتظاهروا بالمنكرات عندنا كشرب الخمر والزنى وأكل لحم الخنزير ونكاح المحرّمات"(96).
المطلب(95)، كما يعرض الإمام الخميني الراحل (قده) هذا الشرط أيضاً كشرطٍ ثالثٍ من شروط عقد الذمة فيقول: "الثالث: أن لا يتظاهروا بالمنكرات عندنا كشرب الخمر والزنى وأكل لحم الخنزير ونكاح المحرّمات"(96).
والمستند الروائي لهذا الحكم هو صحيحة زرارة عن الإمام الصادق (ع) "إنّ رسول الله (ص) قبل الجزية من أهل الذمة على أن لا يأكلوا الربا ولا يأكلوا لحم الخنزير ولا ينكحوا الأخوات ولا بنات الأخ ولا بنات الأخت، فمن فعل ذلك منهم برئت منه ذمة الله وذمّة رسول الله"(97).
وفي الحقيقة كيف يمكن التصديق بأن شريعةً من الشرائع مهتمة إلى هذا الحد بعدم تلوّث المحيط الاجتماعي بالمنكرات، إلى درجة أنّها لم تسمح للكافرين بالتظاهر بالمنكرات التي قد تكون جائزةً على مذاهبهم وحدّت بذلك من حريّاتهم، لكنّها في نفس الوقت لم تحرّم هذه الأمور على أفراد المسلمين إلا في دائرة التشريع، أما من الناحية العملية فقد تركتهم أحراراً، ولم تسمح للحاكم الشرعي بمواجهة هذا الأمر مواجهةً جادةً للحيلولة دون إشاعة الفحشاء والمنكرات من خلال قلع مادتها بالتعزير وممارسة الوسائل الإجباريّة؟
هذا الأمر يمثل شهادةً محكمةً على انه كما أن الشارع في مرحلة التشريع قد حدّ من حرية الإنسان في موارد المنكرات ومن جملتها السفور، فقد حدّ أيضاً من حريات الإنسان في المحيط الاجتماعي، واعتبر الحاكم الشرعي مسؤولاً عن مواجهة ذلك.
أما انه إلى أي حدّ تسنح الظروف في مجتمعنا الحالي بتطبيق هذا المبدأ الإلهي السامي؟ وهل أنّ المواجهة الجادّة ـ إلى درجة ممارسة التعزير ـ مع ظاهرة السفور تستدعي وتترافق مع نتائج سلبية أو لا؟… إنّ تشخيص ذلك راجع بلا شك إلى الحاكم الشرعي نفسه، وهذا أمرٌ آخر خارجٌ عن المطلوب من هذا البحث المخصّص لتعيين حدود الحرية الشرعية من وجهة النظر الفقهية.
هـ ـ مخالفة المقرّرات الحكومية وعدم مراعاة مصالح النظام
إن ضرورة حفظ نظام المجتمع ليست فقط فريضة إلهية، وإنما هي بنظرةٍ أخرى أمر عقلائي وعقلي، ومجرد التوجّه إليها يوجب التصديق بها.
بنظر العقل والشرع فإن أي نوعٍ من أنواع الحرية يمكن أن يوجّه ضربةً إلى نظام الأمة ـ وخصوصاً النظام الإلهي ـ سوف يكون ممنوعاً، ومن هنا وفي إطار الحرية العقلائية والشرعية فإنّ باب أيّ نوعٍ من المخالفة لمقرّرات حفظ النظام ـ بحيث يكون النظام قائماً عليها سواءٌ من طرف المواطنين أو من طرف متولّي الأمور، وبدءاً من دفع الضرائب ورعاية قوانين السير إلى وظائف المسؤولين أمام من هم أرفع منهم مسؤوليةً، وخلاصةً كافّة المقررات القانونية ـ إنّ أبواب هذه الأمور كلّها مقفلة.
إن محدودية حرية المواطنين قبال المقرّرات ليست من مختصات الحكومة الإسلامية، وإنما هو محل تأكيدٍ وقبولٍ شديدٍ من كافّة أنظمة الحكم في العالم؛ ومن هنا فان الفقهاء العظام والمراجع الكرام يجيبون على الاستفتاءات الواردة إليهم حول مخالفة المقررات الحكومية على الشكل التالي "إن مخالفة المقرّرات الحكومية ليس بجائز" أو "إن مخالفة المقررات التي يتوقف عليها حفظ النظام حرام".
إن التركيز على أهمية رعاية مصالح المسلمين ونظام الجمهورية الإسلامية في كلمات الإمام الخميني (قده) يتخذ شكلاً آخر، فهو يتكلّم عن حرية القلم والصحافة فيقول: "إنّ حرية القلم وحرية التعبير لا تعني حريتهما بما فيه خلاف مصلحة البلد، أو ما فيه خلاف الثورة التي قدّم الشعب الدماء أمامها، إنّ مثل هذه الحرية ليس صحيحاً… إننا نحترم الصحافة والقلم اللذين يعرفان معنى حريّة التعبير وحرية القلم".
و ـ إهانة المقدّسات
هناك عناصر في الرؤية العلوية تحتل فقهياً ـ وبلا شك ـ مكانةً خاصّةً من الحرمة والمقام الرفيع، وهتك هذه الحرمة حرام، ولا يمكن تجويزه تحت أي عنوان، ومن هنا ينتزع عنوان التقدّس لهذه العناصر.
إن على رأس هذه السلسلة الشخصية المنقطعة النظير لخاتم الأنبياء النبي الأكرم محمد (ص) وأيضاً عترته المعصومين (ع) والأنبياء الإلهيين (ع) والقرآن الكريم والكتب السماوية والإسلام والكعبة، وفي الرتب الأخرى تأتي المساجد والأماكن المقدّسة. وهنا يُمنع ـ باتفاق الفقهاء جميعاً ـ أي نوع من أنواع الحرية المطلقة بالنسبة إلى هذه المقدسات حتى من قبل الإنسان غير المعتقد بها.
وهذا الأمر ليس منحصراً بالمدرسة الإسلامية بل يمكن وبنظرةٍ كليةٍ القول بأن الإهانة للمقدسات أمرٌ منكرٌ وغير مقبول لدى كافة الأمم والمجتمعات المتمدّنة، كما يحصل في قباله مواجهةٌ جادّةٌ، ويقفل باب الحرية أمامه.
لقد كانت هناك مواجهةٌ حازمةٌ جداً مقابل هذا الأمر في المذهب الشيعي العلوي، بحيث إنه متى ما حصلت إهانة لرسول الله (ص) والأئمة المعصومين (ع) على شكل سباب غير لائق فإن الفقهاء جميعاً يتفقون على أنّ فاعل ذلك مستحقٌ للقتل، كما يذكر صاحب الجواهر بعد استعراضه كلام الشرائع في هذا الأمر فيقول: "بلا خلافٍ أجده فيه بل الإجماع بقسميه
عليه"(98).
عليه"(98).
وبلا شك فان اتفاق الفقهاء على هذا الحكم معتمدٌ على نصوصٍ معتبرةٍ، وهي التي جمعها صاحب الوسائل تحت عنوان "باب قتل من سب النبي (ص) أو غيره من الأنبياء (ع)" (99)، وفي باب آخر بعنوان "باب قتل من سبّ علياً (ع) أو غيره من الأئمة (ع) ومطلق الناصب مع الأمن"(100).
وأما إذا كانت إهانة رسول الله (ص) أو أحد الأئمة (ع) أو الصدّيقة الكبرى (ع) ـ والعياذ بالله ـ على شكلٍ آخر غير السبّ فإن فاعل ذلك مستحقٌ للتعزير حتماً.
إن لزوم وقوف حاكم الشرع بجديةٍ هنا ولو وصل الأمر إلى التعزير ليس من مختصّات هؤلاء العظماء (ع)، بل إنه جارٍ في أي أمر معدود من الناحية الفقهية من المقدسات كالإنسان المؤمن، أو الشعائر المذهبية المعروفة… وأساساً ميزان التقدس من الناحية الفقهية هو في عدّ الإهانة لذلك الشيء فعلاً محرماً في واحدٍ من المصادر الفقهية، أو جعل تعظيمه وتقديره واجباً.
ومع الأخذ بعين الاعتبار هذا الميزان تكون للإنسان المؤمن ـ سيما إذا كان منتسباً إلى المذهب والزعامة الدينية ـ قداسة، وهتكه وإهانته حرام، ويمكن للحاكم الشرعي في حال تشخيصه المصلحة إجراء التعزير كعقوبةٍ على هذه الإهانة، كما يمكنه للحيلولة دون انتشار هذا الأمر التفكير في أي نوعٍ وأي وسيلةٍ من وسائل المنع.
والشيء الجدير بالانتباه هو أن عنوان تعظيم الشعائر يمكنه أن يترك أثراً مهمّاً في عملٍ هو بنفسه مستحب، بحيث يحوّله إلى واجبٍ عينيٍّ أو كفائيٍّ، وفي هذه الحالة يمكن للحاكم الشرعي ـ بل يجب عليه ـ إجبار الأمّة على القيام بهذا العمل.
واحداً من المصاديق البارزة لهذا الأمر هو زيارة رسول الله (ص)، والتي يقول حولها العلامة الحلي في إرشاد الأذهان "ويجبر الإمام الناس على زيارة النبي (ص) مع تركهم"(101).
إن زيارة الحرم النبوي أمر مستحب في نفسه، إلا أنه حيث عدّ من الشعائر الإلهية فإن الحاكم الشرعي يمكنه ممارسة الإجبار للأمة على القيام به حينما يرى أنّ هناك نوعاً من عدم الرعاية واللامبالاة به.
ويُسند المقدّس الأردبيلي(102) في ذيل هذه العبارة فتوى العلامة هذه بصحيحة الفضلاء (حفص بن البختري وهشام بن سالم وحسين الأحمسي وحماد ومعاوية بن عمار)، الذين يروونها عن الإمام الصادق (ع) "ولو تركوا زيارة النبي (ص) لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك وعلى المقام عنده، فإذا لم تكن لهم أموالٌ أنفق عليهم من بيت مال المسلمين"(103).
ثم يستشكل المقدس الأردبيلي على هذا الاستدلال بأنه كيف يكون ترك الزيارة التي هي أمر مستحب مبررّاً لضرب الحاكم وإجباره على امتثالها؟! إن الجمع بين هذين الأمرين ليس خالياً من الشبهة وهو غير ممكنٍ على ما يظهر.
والذي يبدو هو أن ما ذكره المقدّس الاردبيلي قابلٌ للنقد، وذلك لأنه إذا كانت زيارة النبي (ص) حتى مع ترك الأمة إيّاها باقيةً على استحبابها ولم تتخذ عنواناً آخر لها فانه لن يكون هناك ـ قطعاً ـ أية إمكانية لتفسير الجمع بينها وبين الإجبار من قبل الحاكم، إلا أنّه مع الأخذ بعين الاعتبار هذا الأمر وهو أن زيارة الرسول (ص) هي من شعائر الله وتعظيم الشعائر واجبٌ على الأمة، فهنا بلا شك سوف تأخذ هذه الزيارة صبغة الوجوب لنفسها، ومن هنا سوف يكون ذلك منسجماً ومكمّلاً لمسألة إجبار الحاكم عليها.
ما معنى لا إكراه في الدين؟
وهنا يطرح التساؤل التالي نفسه وهو إذا كانت الحرية بنظر الشرع محدودةً على هذا الشكل إذاً فما معنى "لا إكراه في الدين"؟ إذا لم يكن الدين إكراهياً فكيف يمكن توجيه كل هذه الحدود المقفلة لباب الحرية وأنّ للحاكم الشرعي استعمال الحدود والتعزيرات لمواجهة أية مخالفة؟!
لقد جرى التمسّك بهذه الآية الكريمة ]لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي[(104) مراراً وتكراراً لتبيين موقعيّة الحرية التشريعية الدينية، كما ومن دون إعمال التأمل العميق في تجزئة الآية وتحليلها تحليلاً معمّقاً ومع القيام باستنتاجاتٍ حرفيّةٍ ـ تفيد بأن رسالة الدين هي حرية الإنسان أو أن الدين قد ذمّ أيّ نوعٍ من أنواع الإكراه والتوسّل بالجبر ـ جرى المرور على الآية عن طريق التخطّي وبسرعةٍ عابرةٍ، على الرغم من أنّه توجد هناك عدّة نكاتٍ دقيقةٍ جديرةٍ بالانتباه فيها، ومع أخذها بعين الاعتبار فإننا سوف نصل إلى أنّ الآية الشريفة ليس لها ربطٌ بالحرية التشريعية والقانونية.
والمسألة العمدة هنا هي أنّ الجملة الخبرية القرآنية على نوعين:
1 ـ فأحياناً تكون في مقام الإخبار والحكاية عن أمرٍ خارجي.
2 ـ وأحياناً أخرى تكون بصدد إنشاء وتشريع حكمٍ تكليفيٍّ أو وضعي.
المسألة الأخرى هي أن مصطلح الدين في الثقافة القرآنية والروائية يأتي أحياناً بمعنى مجموعة القوانين الشرعية، وأحياناً أخرى بخصوص معنى الأصول الاعتقادية الدينية.
ومع الالتفات إلى هذين الأمرين نطالع آية "لا إكراه في الدين" ونسأل: هل أن ]لا إكراه[ إخبارٌ أو إنشاء؟ هل أنّ مفردة الدين هنا هي بمعنى مجموعة القوانين والأحكام الإسلامية أو بمعنى خصوص الأصول الاعتقادية؟
فإذا كان مفاد الآية إنشائياً أو إخباريّاً وكان الدين بمعنى مجموعة القوانين فإن الآية ـ بلا شك ـ سوف تكون بمعنى أنه لا يوجد في المقرّرات المقدسة الإسلامية أي نوعٍ من أنواع الحكم والقانون الاكراهي، وذلك لأن كلمة الإكراه جاءت نكرةً كما أنّها وقعت في سياق النفي فهي مفيدةٌ للعموم على أساس القواعد البلاغيّة.
ووفقاً لذلك سوف تثار عشرات الأسئلة من هذا الباب في الفقه ومن ذاك، وذلك لأن هناك الكثير جداً من الموضوعات في مختلف جوانب الفقه المتفرّقة ممتزجة ومعجونة بالإكراه والإجبار وبشكلٍ مسلمٍ، سواءٌ في باب العقوبات كالحدود والديات والقصاص أو أبواب المعاملات كالبيع والإجارة والمضاربة والمساقاة والمزارعة والدين والقرض والرهن والنكاح والطلاق، ومن هنا يرحب المطالعون العطاشى والمبتدئون أو بعض المدعين للفضل والعلم المغرض، ويعرضون حسب توهّماتهم التناقضات الموجودة بين الكتاب وسنة النبي (ص) والعترة (ع)، فكيف لا يثيرون هذا التساؤل بعد حملهم ـ وبكل غرور ـ ]لا إكراه في الدين[ على المعنى الإنشائي وهو: إذا لم يكن الدين ـ بحكم ]لا إكراه في الدين[ ـ إكراهياً إذن فما معنى حد السرقة وشرب الخمر؟! وكذلك حد الزنا والرجم والقذف؟ إذا لم يكن ثمة إكراه في الدين فكيف نوجّه إجبار الزوجة التي أسلمت حديثاً على الانفصال عن زوجها الكافر؟! ما هو ميزان إجراء الحدود والتعزيرات على الإفطار في شهر رمضان أو أكل الربا؟ وإذا لم يكن هناك إكراهٌ في الدين فكيف يتسنّى إجبار أسير الحرب على قبول الإسلام؟ ولماذا تُمنع تجارة كتب الضلال؟ ومن أيّة جهةٍ ينفّذ القتل ـ كعقوبةٍ ـ على المرتد الفطري؟ وأساساً ما هو معيار النهي عن المنكر والمواجهة العملية مع العصاة؟ أليس الجمع بين هذا النمط من الأحكام وبين آية ]لا إكراه في الدين[ يستبطن نوعاً من التناقض؟
إن المسألة الحسّاسة والدقيقة جداً هنا هي أنه أساساً "لا إكراه في الدين" ليست من نوع الجمل الإنشائية، وبالتالي فهي ليست من النداءات التشريعية، وهذا معناه أنها لن تكون مسوقةً أبداً مساق الإعلام عن حرية الإنسان في مجال تنفيذ الأحكام الفردية والاجتماعية، ومنح الأمّة حق تحديد برنامج حياتها وفق رغباتها الخاصّة، حتى تظهر كل هذه الأسئلة في مجالات الفقه المختلفة ويبرز هذا التناقض المتخيّل، بل إنّ "لا إكراه في الدين" هي من نوع الإخبارات الحاكية عن واقعية تكوينية وخارجية، وهي المسمّاة باسم الحرية التكوينية للإنسان في مجال الاعتقادات والتصديقات الذهنية، وهي بالتالي بصدد تفهيم أن الدين ـ الذي روحه هو ذلك الإيمان بالأصول الاعتقادية ـ لا يتحمّل الإكراه، ولا طريق للجبر إليه تكويناً.
ولأجل اتضاح المراد من الآية الكريمة من الضروري لفت الانتباه إلى أمرٍ مساعدٍ في فهمها ألا وهو أن الإنسان كما انه مختارٌ في أعماله ونشاطاته الجسمية كذلك هو حرٌّ تكويناً في تصديقاته الذهنية والاعتقادية، بل إنّ حرية واختيار الإنسان في مثل هذه الأمور تتمظهر بصورةٍ أكثرٍ شفافيّةً ودقّةً، وذلك لأن الجبر ليس مستحيلاً في دائرة الأفعال الإنسانية الجسمانية الظاهرية فمن الممكن أن يُحجم الإنسان عن القيام بعملٍ ما نتيجة معارضة عنصرٍ أقوى مخالفٍ ومانـعٍ له عن القيام بهذا العمل كما أنه من الممكن أن يُجبر على ترك عمله، إلا أنه لا مجال للإجبار عقلاً في المسائل الاعتقادية، ولا يمكن لأي إنسانٍ ممارسة الإجبار على التصديق القلبي والإيمان الاعتقادي بشيءٍ ما، نعم من الممكن أن يُجبر إنسانٌ ما على الاعتراف بأنّ الليل حاصلٌ الآن في ظرف رؤيته للشمس، إلا أنّه يرى دائماً في أعماق قلبه وروحه أنّ مقولته باطلة ومستحيلة حتى لو أذعن لها بالجبر والتهديد.
وعلى هذا الأساس فإن المسائل الاعتقادية لن تكون قابلةً للإجبار والإكراه سواءٌ كانت حقّةً أو باطلة، وإعمال الجبر في الاعتقادات القلبية محال، وهي بالتالي سوف تعتمد دائماً على الاختيار والانتخاب، ذاك الانتخاب المبتني على مقدّمات يمكن أن تكون مقارنةً للصحة ويكون الإذعان الحاصل منها صحيحاً متطابقاً والواقع، كما يمكن أن تكون غير تامةٍ وبالتالي يكون التصديق الحاصل منها باطلاً.
ووفقاً لما تقدم يتضح أنّ "لا إكراه في الدين" ليست أبداً بصدد بيان إنشاءٍ تشريعيٍّ، وإنما في مقام الحكاية عن واقعية خارجية تكوينية تسمى بالحرية التكوينية الإنسانية في مجال الأمور الاعتقادية والتصديقات القلبية، بحيث يصبح المقصود من "الدين" في الآية مجموعة الأصول الاعتقادية (التوحيد، النبـوة، الإمامة…)، لا كافّة القوانين الشرعية، ومن الواضح أن ذهنية الإنسان فيما يرتبط بالأصول الاعتقادية لا تخلو من حالتين؛ فإما أن تكون ـ أي الأصول الاعتقادية ـ واضحة ومبرهناً عليها بحيث يقبلها من أعماق قلبه بلا شك ويذعن لها مختاراً، أو أنها من وجهة نظره مبهمةٌ وغير تامة ولا أقل مشكوكة بحيث إنه لا يعتقد بها قطعاً، وفي كلتا الصورتين يبدو الإكراه والإجبار غير ممكنين؛ وذلك أنه مع الأخذ بعين الاعتبار النقطة السالفة الذكر فإنه لا مجال للإكراه أصلاً في المسائل الاعتقادية والتصديقات الذهنية، ومن هنا فهي لا تتقبّل الإجبار مطلقاً، فالشخص الذي على اثر الشبهات لا يقبل بوجود الله تعالى ولا يعتقد به لا يمكن إجباره على التصديق والإيمان القلبي بوجوده، وان كان يمكن على أثر قوة قاهرة إجباره على الاعتراف اللساني بذلك، إلا أنه من المستحيل أن يذعن لذلك من أعماق قلبه.
وبناء عليه فالمراد من الآية الشريفة "لا إكراه في الدين" لا سيما مع النظر إلى جملة ]قد تبين الرشد من الغي[ هو أنه لا يمكن في مجال الدين ـ والتي تمثل أصولُه الاعتقادية (التوحيد، النبوة، الإمامة …) روحَه ـ ممارسة الإجبار بل هو لا يتقبل ذلك، ومن هنا فإذا أردنا أن نجعل عند الطرف الآخر المخاطب لنا إيماناً قلبياً بالدين نابعاً من أعماق الروح فإننا مجبورين على جعل رشد وكمال الدين شفافاً وواضحاً أمامه ]قد تبين الرشد من الغي[.
وهنا نضع يدنا على هذه النقطة القيمة والمهمة ألا وهي أن ]لا إكراه في الدين[ لا نظر فيها إخباراً أو إنشاءً إلى عدم جبرية القوانين والأحكام الدينية في مرحلة التشريع أو الإجراء والتنفيذ، حتى تتناقض مع عشرات الموارد التي سُمح فيها للحاكم الشرعي بالاستعانة بالجبر والفرض، وهناك لا نكون ملزمين بالبحث وإجراء التخصيص المستهجن أو إبراز توجيهٍ للآية الكريمة، بل إن هذه الآية إنما هي بصدد الإخبار عن واقعيةٍ تكوينيةٍ مبنيةٍ على أن الدين ـ والذي هو عبارةٌ عن الأصول الاعتقادية ـ لا يتقبل الإجبار، ولا مجال للإكراه فيه أبداً.
حدود الحرية الإنسانية من المنظور العرفاني
عرفنا أن الإنسان من وجهة النظر الكلامية موجودٌ حرٌّ ومختارٌ تكويناً، وتوصّلنا من وجهة النظر الفقهية إلى أنه محدود الصلاحية في مرحلتي التشريع والعمل لا مطلقها، وبعبارة أخرى فإن دائرة الحرية التكوينية الإنسانية ـ المثبتة كلامياً ـ محدّدة في النظام التقنيني الشرعي بحدودٍ وقيودٍ معينةٍ مفصّلاً.
وهنا يصل بنا الكلام إلى تحقيق وبحث حريّة الإنسان من المنظور العرفاني.
ومن هذا المنطلق فإن حدود الحرية هنا تتجاوز تلك الحدود والقيود الفقهية، وبعبارة أكثر دقةً فانه كلما ازداد حرمان الإنسان من الحريات المادية النفسانية فإن جوهر نفسه وروحه سوف يحظى بحريةٍ أكبر، وعلى هذا الأساس فليس جزافاً إذا قلنا بأن الإنسان الحر واقعاً ـ في المنظور العرفاني ـ هو ذاك الشخص الذي وقع أسيراً للمعشوق الحقيقي.
إنّ على الإنسان ـ في تصوّر العرفان العلوي ـ فكّ تعلّقه برغباته وميوله النفسانية، ومع قطعه للتعلّقات والآمال المملّة والعابرة يجعل نفسه أسيراً للمعشوق الأبدي، وهو لا يتجنب الحرام الإلهي فقط بل إنه يفرّ أيضاً من الأمر المكروه، كما أنه لا يمتثل الواجب الإلهي ويرتدي أجمل لباس الإخلاص في مقام العمل فحسب بل إنه يعطي الأهمية للمستحب أيضاً. فالإنسان العارف هو ذاك الشخص الذي يسعى وبصورةٍ مستمرّةٍ لتحصيل رضا معشوقه، ولهذا فأي شيء يحبّه هذا المعشوق فإنه يقبله، وأي شيء يكرهه فانه يبغضه أيضاً، وعلى حدّ قول إمام العارفين علي (ع) فان المتقي هو من "عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم"(105).
ويقول الإمام الصادق (ع): "العارف شخصُه مع الخلق وقلبُه مع الله تعالى ولو سها قلبه عن الله تعالى طرفة عينٍ لمات شوقاً إليه"(106).
ميزة الإنسان الحرّ في العرفان العلوي
إن تحصيل ما تقدّم لا يمكن بدون رعاية ركنين يمثلان في الرؤية العلوية جوهر العرفان وهما:
1 ـ التخلية 2 ـ التحلية
أما التخلية فهي إعدام كافة التلوثات النفسانية والتي هي سبب صدأ القلب، يقول الإمام الصادق (ع): "إن للقلوب صداء كصداء النحاس فاجلوها بالاستغفار"(107).
وعلى الإنسان الحرّ ـ عرفانيّاً ـ في هذه المرحلة أن يركّز سعيه وجهده الكبيرين على إزالة كل رذائله وقبائحه، وتزكية روحه من كافّة الادران والظلمات، فالحرّ في العرفان العلوي هو ذاك الشخص الذي يعرف نفسه ويحرّرها من كافة العلائق والرذائل.
"العارف من عرف نفسه فأعتقها ونزّهها عن كل ما يبعدها
ويوبقها"(108)
ويوبقها"(108)
"ألا حرّ يَدَعُ هذه اللُماظة لأهلها؟ إنه ليس لأنفسكم ثمنٌ إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها"(109).
أمّا التحلية فهي تزيين صفحة الروح بالزينة المعنوية، أي بزينة ذكر الله تعالى، بالعبادة والتواضع والطاعة الخالصة أمامه، وفي هذه المرحلة يسعى الحرّ لتحقيق خطوةٍ أخرى ألا وهي الانطلاق بنفسه التي زكّاها من ظلمات التعلّقات الدنيوية إلى نور محضر الرب تعالى، وهو في قفزةٍ مباركةٍ وعظيمةٍ يصوغ عشقه لله تعالى في معبد الذات، حتى لا يفكّر بغيره، فلا يعبد سواه وحسب بل إنه لا يعبده رغبةً للجنة أو خوفاً من النار وإنما يعبده فقط وفقط لعشق ربوبيته وجماله وجلاله، وفي هذا يقول إمام العارفين علي (ع): "إن قوماً عبدوا الله رغبةً فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار"(110).
وبصيغةٍ مختصرةٍ حقيقة الحرية في المنظور العرفاني تكمن في التحرّر من شيءٍ وعنصرٍ ما والأسر والارتباط بعنصر آخر، التحرّر والخلاص مما سوى الله عز وجل، والاتصال والتعلّق المطلق بذاته تعالى.
وبعبارةٍ أخرى حرية الإنسان هي عين تعلّقه وإسارته لله تعالى، فكلّما كان أكثر اسارةً لله تعالى كلّما كان أكثر تحرّراً.
* * *
الهوامش
_____________________
1 ـ كتاب الطهارة، ص 2.
2 ـ ر.ك: أربعة مقالات حول الحرية، آيزا برلين، ترجمة محمد علي موحّد.
3 ـ تحليلي نوين از آزادي، موريس غرنستون، جلال الدين اعلم، ص13.
4 ـ رساله آزادي، جان استوارت ميل، ترجمة جواد شيخ اسلامي.
5 ـ تحليلي نوين از آزادي، م، ن، ص 13.
6 ـ فلسفه حقوق بشر، آية الله جوادي آملي، ص 189.
7 ـ البقرة: 259.
8 ـ الإنسان: 3.
9 ـ الأنعام: 104.
10 ـ يونس: 108.
11 ـ الكهف: 29.
12 ـ البقرة:225.
13 ـ الأعراف:39.
14 ـ الطور: 21.
15 ـ البقرة:202.
16 ـ النحل:111.
17 ـ البقرة:281.
18 ـ الزمر:70.
19 ـ الأعراف: 43.
20 ـ يونس: 23.
21 ـ النساء: 111 ـ 112.
22 ـ المائدة: 105.
23 ـ العنكبوت:40.
24 ـ النساء: 123 ـ 124.
25 ـ الروم:41.
26 ـ غافر: 17.
27 ـ إبراهيم: 22.
28 ـ نهج البلاغة، الحكمة 78.
29 ـ نفس المصدر، الرسالة 31.
30 ـ بحار الأنوار، ج 5 ص 11.
31 ـ م، ن، ج 5، ص 17.
32 ـ م، ن، ج 5، ص 59.
33 ـ الروم: 29.
34 ـ غافر: 33.
35 ـ الكهف: 28.
36 ـ بحار الأنوار، ج 5، ص 11.
37 ـ وسائل الشيعة، ج 15، ص 203.
38 ـ م، ن، ج 3، ص 13.
39 ـ م، ن، ج 15، ص 182.
40 ـ وسائل الشيعة، ج 18، ص 524، ح 70.
41 ـ تحرير الوسيلة، ج 2، ص 482.
42 ـ الأحزاب: 36.
43 ـ الحجرات:12.
44 ـ الدستور، المادة 25.
45 ـ بيان 15/10/1361 هـ ش، الرسالة الموجّهة إلى لجنة ملاحقة المخالفات القضائية والإدارية.
46 ـ التحريم: 6.
47 ـ وسائل الشيعة، ج 18، ص 414.
48 ـ البقرة: 179.
49 ـ الإسراء: 33.
50 ـ المائدة: 35.
51 ـ النور: 4.
52 ـ وسائل الشيعة، ج 18، ص 432 ـ 433.
53 ـ شرائع الإسلام، ج 4، ص 945.
54 ـ جواهر الكلام، ج 41، ص 409.
55 ـ وسائل الشيعة، ج 18، ص 452.
56 ـ م، ن.
57 ـ جواهر الكلام، ج 31، ص 395.
58 ـ م، ن.
59 ـ تحرير الوسيلة، ج 2، ص 324.
60 ـ جامع المدارك، ج 4، ص 490.
61 ـ وسائل الشيعة، ج 8، ص 350.
62 ـ كتاب من لا يحضره الفقيه، ج 3، ص 147.
63 ـ م، ن.
64 ـ جواهر الكلام، ج 41، ص 456.
65 ـ النور: 2.
66 ـ وسائل الشيعة، ج 18، ص 374.
67 ـ جواهر الكلام، ج 41، ص 388.
68 ـ م، ن، ج 16، ص 307.
69 ـ م، ن.
70 ـ العروة الوثقى، ج 2، ص 166.
71 ـ وسائل الشيعة، ج 7، ص 179.
72 ـ م، ن.
73 ـ م، ن، ج 18، ص 410.
74 ـ جواهر الكلام، ج 41، ص 386.
75 ـ م، ن، ص 252.
76 ـ وسائل الشيعة، ج 18، ص 333.
77 ـ م، ن، ص 458.
78 ـ م، ن، ص 367.
79 ـ جواهر الكلام، ج 41، ص 391.
80 ـ مستدرك الوسائل، ج 3، ص 239.
81 ـ م، ن، ص 203.
82 ـ وسائل الشيعة، ج 7، ص 37.
83 ـ مستدرك الوسائل، ج 3، ص 280.
84 ـ م، ن، ص 249.
85 ـ جواهر الكلام، ج 41، ص 637.
86 ـ م، ن، ص 647.
87 ـ م، ن، ص 413.
88 ـ م، ن، ص 377.
89 ـ شرائع الإسلام، ج 4، ص 168.
90 ـ جواهر الكلام، ج 41، ص 448.
91 ـ تحرير الوسيلة، ج 2، ص 477.
92 ـ وسائل الشيعة، ج 18، ص 310.
93 ـ جواهر الكلام، ج 41، ص 448.
94 ـ م، ن، ج 21، ص 270.
95 ـ م، ن.
96 ـ تحرير الوسيلة، ج 2، ص 501.
97 ـ وسائل الشيعة، ج 11، ص 95.
98 ـ جواهر الكلام، ج 41، ص 432 ـ 435.
99 ـ وسائل الشيعة، ج 18، ص 458.
100 ـ م، ن، ص 461.
101 ـ مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان، ج 7، ص 426.
102 ـ م، ن.
103 ـ وسائل الشيعة، ج 8، ص 16.
104 ـ البقرة: 256.
105 ـ نهج البلاغة، الخطبة: 193.
106 ـ مصباح الشريعة، ص 519.
107 ـ عدة الداعي، ص 249، ميزان الحكمة، ج 3، ص 2616.
108 ـ غرر الحكم، ش 1788.
109 ـ نهج البلاغة، الحكمة: 456.
110 ـ م، ن، الحكمة: 237.