أ. علي رضا صادقي(*)
المقدّمة
هل تجوز الشهادة بولاية أمير المؤمنين× في الأذان؟
لقد أجاب الكثير من الفقهاء عن هذا السؤال بالقول: إذا كان ذكر الشهادة الثالثة في الأذان بقصد الجزئية كان ذلك من البدعة والتشريع، وبالتالي فهو حرامٌ([1]).
إلاّ أن المولى أحمد النراقي ـ طبقاً للتحليل البديع الذي توصَّل إليه بشأن البدعة والتشريع ـ قال بعدم حرمة قول: «أشهد أن علياً وليّ الله» في الأذان، حتّى إذا كان بقصد الجزئية.
فهو يقرّ بأن البدعة في الدين والتشريع ـ بمعنى إدخال ما ليس من الشرع فيه ـ حرامٌ قطعاً. والحرمة هنا ليست موضع إجماع المسلمين فحَسْب، بل هي كذلك من ضروريات الدين أيضاً([2]). وعليه فإن الذي يقع مورداً لتحقيقه ليس هو حكم البدعة والتشريع، وإنما هو مفهوم البدعة والتشريع([3])؛ إذ يرى سماحته أن مفهوم البدعة والتشريع لا يزال أمراً مشتبهاً بالنسبة إلى الكثير من العلماء الكبار.
سوف نستعرض رأي الشيخ النراقي بشأن ماهية البدعة والتشريع، وكذلك جواز الشهادة الثالثة بقصد الجزئية في الأذان، في إطار ثلاثة أسئلة، والإجابة عنها:
السؤال الأوّل: كيف يمكن لمَنْ يعلم أن عبارة «أشهد أن عليّاً وليّ الله» ليست من أجزاء الأذان أن يدرجها في الأذان بقصد الجزئية، ولا يكون مرتكباً للبدعة والتشريع؟
السؤال الثاني: إن الذي يؤمن أن عبارة «أشهد أن عليّاً وليّ الله» جزءٌ من الأذان كيف يتّهم بارتكاب البدعة والتشريع، وهما من الكبائر؟
السؤال الثالث: إذا كانت البدعة والتشريع حراماً فما هو الحرام بشكلٍ دقيق؟
إن التصديق بمقدّمتين يساعد على تسهيل الإجابة عن هذه الأسئلة.
المقدّمة الأولى تعمل على تقسيم الأفعال الإرادية إلى: «أفعال إرادية عنوانية»؛ و«أفعال إرادية ذاتية».
والمقدّمة الثانية تعمل على بيان آليات القيام بـ «الأفعال الإرادية العنوانية».
المقدّمة الأولى: أقسام الأفعال الإرادية، والمراحل العملية قبل القيام بها
يمكن العمل على تقسيم الأفعال الإرادية ـ من زاويةٍ ـ إلى قسمين:
1ـ الأفعال الإرادية العنوانية.
2ـ الأفعال الإرادية الذاتية.
إن الفعل الإرادي عنوانٌ لفعلٍ لا يوصل الفاعل إلى مراده بمجرّد صدوره الإرادي، بل يجب بالإضافة إلى ذلك أن يكون ذلك الفعل معنوناً بعنوانٍ خاصّ، كأنْ يعقد الشخص عَزْماً على إكرام والده من خلال تقديم هديةٍ له. إن تقديم الهدية فعل إرادي، إلاّ أن الفاعل إنما يصل إلى مراده وغايته إذا قدَّم هذه الهدية إلى والده بدافع أن تكون معنونة بعنوان «الإكرام».
لذلك لو أن الوالد امتعض من الهدية التي يقدِّمها له الابن؛ لأنها تذكِّره بحادثةٍ مريرة، يحزنه استحضارها، لا تكون هذه الهديّة من مصاديق الإكرام، ولن تكون معنونة بعنوانه.
إلاّ أن بعض الأفعال الإرادية ليست كذلك، بمعنى أن مجرّد صدورها الإرادي يوصل الفاعل إلى المقصود منها، ولذلك لا يكون لدى الفاعل أي تقيُّد تجاه تعنون ذلك العنوان بالعنوان الخاصّ. ومن ذلك مثلاً أن الشخص الذي يشرب الماء لرفع الظمأ لا يهمّه العنوان الذي يتعنون به هذا الشرب، فهو يروم رفع العطش، ويتوصَّل إليه كيفما اتفق، ولا يرى أيّ حاجةٍ لأن يشرب الماء بحيث يتعنون بعنوانٍ خاصّ([4]).
إن تقسيم الفعل الإرادي إلى: «الفعل الإرادي العنواني» و«الفعل الإرادي الذاتي» يقوم على أساس أن هذين القسمين من الأفعال الإرادية يختلفان عن بعضهما في المراحل السابقة على الإرادة.
قبل تحقُّق الإرادة تجاه فعلٍ إرادي عنواني تتحقَّق هناك خمس مراحل علمية([5])، وهي:
1ـ تصوّر الفعل.
2ـ تصوّر العنوان الخاصّ.
3ـ تصوّر الفعل المعنون بذلك العنوان الخاصّ.
4ـ تصديق أو احتمال تعنون ذلك الفعل بذلك العنوان الخاصّ.
5ـ تصديق أو احتمال الفائدة في القيام بالفعل بذلك العنوان الخاصّ([6]).
ولكنْ قبل تحقُّق الإرادة بانسبة إلى الفعل الإرادي الذاتي تتحقّق مرحلتان علميتان فقط، وهما:
1ـ تصوّر الفعل.
2ـ التصديق أو احتمال الفائدة في القيام بالفعل.
إن الأفعال المركّبة التي تنجز بقصد المشروعية تُعَدّ من الأفعال الإرادية العنوانية، وتتخطّى هذه المراحل العلمية الخمسة قبل الإرادة:
1ـ تصوّر ذلك الفعل.
2ـ تصوّر مشروعيته.
3ـ تصوّر ذلك الفعل مع عنوان المشروعية.
4ـ تصديق أو احتمال مشروعية ذلك الفعل.
5ـ تصديق أو احتمال الفائدة في القيام بذلك الفعل المعلوم المشروعية أو المحتمل المشروعية.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى القيام بفعل بقصد الجزئية في المركّب:
1ـ تصوّر ذلك الفعل.
2ـ تصوّر الجزئية.
3ـ تصوّر ذلك الفعل مع عنوان الجزئية.
4ـ تصديق أو احتمال جزئية ذلك الفعل.
5ـ تصديق أو احتمال الفائدة في القيام بذلك الفعل المعلوم الجزئية أو المحتمل الجزئية.
إن أساس نظرية الشيخ النراقي في تحليل البدعة يقوم على الالتفات إلى هذه المراحل العلمية السابقة على الفعل.
المقدّمة الثانية: أصل تطابق القصد والعلم في الأفعال العنوانية الإرادية
إن الفعل ـ أو بعبارةٍ أدقّ: الحركة الجسدية ـ، بالإضافة إلى ما يشتمل عليه من العنوان الفيزيقي والمحسوس، يمكن له أن يتعنون بمجموعةٍ من العناوين الانتزاعية الاجتماعية([7]) أيضاً([8]).
ومن ذلك مثلاً أن عنواناً خاصّاً من الجلوس، الذي يصدق عليه عنوان الجلوس على أساس ماهيته المحسوسة، يمكن له أن يتعنون بعنوانٍ انتزاعي أيضاً، من قبيل: الاحترام أو الإهانة. إن اختلاف العنوان الفيزيقي للفعل عن العنوان الانتزاعي للفعل يمكن رؤيته بوضوحٍ من زاوية النسبية الاجتماعية.
إن انطباق أو عدم انطباق العنوان الفيزيقي لا يرتبط بالآداب والتقاليد الاجتماعية، إلاّ أن انطباق أو عدم انطباق العناوين الانتزاعية متفاوتٌ في المجتمعات المختلفة.
إن «ماهية الجلوس» هي «ماهية الجلوس»، فليس الأمر بأن تكون «ماهية الجلوس» في مجتمعٍ «ماهية جلوس» وفي مجتمعٍ آخر «ماهية مشي» مثلاً.
وبطبيعة الحال من الممكن أن تكون «ماهية المشي» في لغةٍ تعني «كلمة الجلوس»، وتكون «كلمة الجلوس» موضوعةً ومستعملة في «ماهية المشي»، بَيْدَ أن «ماهية المشي» في المجتمع الإنساني لا يمكن أن تكون «ماهية للجلوس»([9]).
هذا في حين أن «طريقة خاصّة من الجلوس» يمكن أن تمثِّل إهانةً للآخرين في مجتمعٍ من المجتمعات، وتمثِّل احتراماً لهم في مجتمعٍ آخر.
وعلى هذا الأساس فإن العناوين الانتزاعية التي تنطبق على بعض الأفعال هي مثل الألفاظ التي يتمّ وضعها على الأفعال، كلاهما نسبيٌّ.
إن العناوين الانتزاعية للفعل والعنوان الفيزيقي للفعل يتماهيان في خصوصية هامّة: أصل التطابق بين القصد والعلم.
إن الفاعل الذي يعلم أن عنوان الإهانة ينطبق على فعله فإنه إنما يقوم به بقصد الإهانة بالضرورة. وإن العلم والقصد في هذه الحالة لا ينفصلان، فما يكون معلوماً يكون مقصوداً أيضاً.
وعليه فإن الفاعل الذي يكون على يقينٍ من أن عنوان الإهانة لا ينطبق على فعله لا يمكن أن يقوم بذلك الفعل بقصد الإهانة. وفي هذه الصورة لا يتمّ الفصل بين العلم والقصد أيضاً، وما يكون معلوماً يكون مقصوداً أيضاً.
إن عدم انطباق عنوان الإهانة معلومٌ إذن عدم الإهانة مقصودٌ؛ فلا تكون الإهانة مقصودة.
وأما الفاعل الذي يحتمل أن ينطبق عنوان الإهانة على فعله أو لا ينطبق يمكنه أن يقوم بذلك الفعل بقصد الإهانة أو دون قصد الإهانة. ففي هذه الحالة؛ حيث لا يكون هناك شيءٌ معلوماً، ويكون كلٌّ من الانطباق وعدم الانطباق محتملاً، يمكن قصد كلا الموردين.
إن قصد العنوان الانتزاعي يمكن أن يتحقَّق من خلال احتمال انطباق ذلك العنوان، وأما عند العلم بعدم انطباق ذلك العنوان فلا يمكن قصد ذلك العنوان. كما أنه مع العلم بانطباق ذلك العنوان لا يمكن عدم قصد ذلك العنوان.
لو احتملتُ أن عنوان الإهانة ينطبق على هذا الفعل يمكن لي القيام بذلك الفعل بقصد الإهانة أو بقصد عدم الإهانة؛ وأما إذا كنتُ أعلم أن عنوان الإهانة لا ينطبق على هذا الفعل فلا يمكن لي الإتيان بذلك الفعل بقصد الإهانة. كما أنني لو علمتُ أن عنوان الإهانة ينطبق على هذا الفعل لا يمكن لي أن أقوم بذلك الفعل بقصد عدم الإهانة، أو أن لا أفعله بقصد الإهانة.
وعليه فإن القول بأن العنوان الفيزيقي والعناوين الانتزاعية متماهيةٌ فيما بينها في أصل القصد والعلم يعني:
1ـ أن العنوان الفيزيقي والعناوين الانتزاعية إذا كانا معلومي الانطباق سوف يكونان مقصودين بالضرورة.
2ـ إذا كان عدم انطباق العنوان الفيزيقي والعناوين الانتزاعية معلوماً فإن تلك العناوين لا يمكن أن تكون مقصودةً.
3ـ إن العنوان الفيزيقي والعناوين الانتزاعية إنما يمكن أن تكون مقصودةً أو لا تكون مقصودةً إذا كانت محتملة الانطباق.
بعد بيان مقدّمتين سوف نتعرَّض للإجابة عن الأسئلة المتقدّمة:
السؤال الأوّل: إن الذي يعلم أن عبارة «أشهد أن عليّاً وليّ الله» ليست جزءاً من الأذان كيف يمكنه أن يذكر هذه العبارة بقصد الجزئية في الأذان، ويكون بذلك مرتكباً للبدعة والتشريع؟
الجواب: إن الذي يعلم أن عبارة «أشهد أن عليّاً وليّ الله» ليست من أجزاء الأذان لا يمكنه أن يتلفَّظ بهذه العبارة في الأذان بقصد الجزئية، فيرتكب بدعة وتشريعاً؛ لأن العنوان المعلوم عدم انطباقه على الفعل لا يمكن أن يكون مقصوداً.
بناءً على أصل التطابق بين القصد والعلم إذا كان عدم انطباق عنوان الجزئية في الأذان على عبارة «أشهد أن عليّاً وليّ الله» معلوماً لم يكن الإتيان بها بقصد الجزئية ممكناً. وكذلك إذا كان انطباق عنوان الجزئية في الأذان على عبارة «أشهد أن عليّاً وليّ الله» معلوماً لا يكون عدم قولها بقصد الجزئية ممكناً.
إن الذي يعلم أن عبارة «أشهد أن عليّاً وليّ الله» ليست جزءاً من الأذان لا يمكنه أن يقصد خلاف ما يعتقده، ولا يمكنه التلفُّظ بتلك العبارة بقصد الجزئية. كما أنه إذا كان معتقداً بأن عبارة «أشهد أن عليّاً وليّ الله» جزءٌ من الأذان لا مندوحة له غير الانسجام مع معتقده والتلفُّظ بها بقصد الجزئية.
وإنما يمكن للشخص أن يأتي بعبارة «أشهد أن عليّاً وليّ الله» بقصد الجزئية وبوصفها أحد أجزاء الأذان، أو لا يأتي بها أصلاً، إذا كانت جزئيّتها محتملةً بالنسبة إليه.
السؤال الثاني: كيف يمكن لمَنْ يعتقد بأن التلفُّظ بعبارة «أشهد أن عليّاً وليّ الله» من أجزاء الأذان أن يكون ـ إذا أتى بها ـ مرتكباً لذنبٍ كبير، ويكون مبتدعاً ومشرّعاً؟
الجواب: إن الذي يؤمن بأن عبارة «أشهد أن عليّاً وليّ الله» من أجزاء الأذان لم يرتكب معصية، وإنما هو مرتكبٌ لخطأ علميّ فقط، وقد تعرَّض بالنسبة إلى قضية لا واقعية لها ـ جزئية الشهادة الثالثة في الأذان ـ إلى اعتقادٍ غير صائب.
وبطبيعة الحال إذا كانت قضية «عدم جزئية الشهادة الثالثة في الأذان» تُعَدّ من الضروريات والبديهيات يمكن اعتباره في الاعتقاد بنقيض هذه القضية مقصِّراً، والحكم باستحقاقه للعقاب. ولكنْ حتى في هذه الحالة يكون استحقاقه للعقاب معلولاً لتقصيره في استيعاب البديهيات، وليس معلولاً لقول: «أشهد أن عليّاً وليّ الله» بقصد الجزئية في الأذان.
السؤال الثالث: إذا كانت البدعة والتشريع حراماً فما هو الشيء الحرام على نحو الدقّة؟
لقد أخذ مفهوم «الإدخال» في تعريف التشريع والبدعة: «التشريع هو إدخال ما ليس من الشريعة فيها».
وهناك خمسة تصوّرات يمكن بيانها بشأن هذا «الإدخال»، وهي:
1ـ الإدخال الخارجي: القيام بفعل اختارَتْ الشريعة السكوت بشأنه([10]). ومثال ذلك: قول: «أشهد أن عليّاً وليّ الله» في الأذان.
2ـ الإدخال التصوّري أو تصوّر الإدخال: تصوّر دخول شيءٍ في الشريعة، مع أنه في الواقع غير داخل في الشريعة. ومثال ذلك: تصوُّر أن عبارة «أشهد أن عليّاً وليّ الله» جزءٌ من الأذان.
3ـ الإدخال التصديقي أو التصديق بالإدخال: التصديق بدخول شيء في الشريعة، وهو في الحقيقة غير داخل فيها. ومثال ذلك: التصديق والإذعان بأن عبارة «أشهد أن عليّاً وليّ الله» من أجزاء الأذان.
4ـ الإدخال القصدي أو قصد الإدخال: قصد إدخال شيءٍ في الشريعة، وهو في الحقيقة غير داخل فيها. ومثال ذلك: قول: «أشهد أن عليّاً وليّ الله» في الأذان بقصد أن تكون هذه العبارة جزءاً من الأذان.
5ـ الإدخال الادّعائي أو دعوى الإدخال: ادّعاء دخول شيء في الشريعة، وهو في الحقيقة غير داخلٍ فيها. ومثال ذلك: قول وكتابة هذه العبارة: «إن من بين أجزاء الأذان عبارة: أشهد أن عليّاً وليّ الله».
والمقصود من مفهوم «الإدخال» في تعريف البدعة والتشريع هو «الإدخال الادّعائي».
لماذا لا يكون الإدخال الخارجي محرّماً؟
إن كل فعلٍ لم يَرِدْ فيه أيّ إلزامٍ من قِبَل الشارع تجاه القيام به أو تركه يكون جائزاً في الشريعة الإسلامية، طبقاً لأصول البراءة الشرعية والعقلية.
لماذا لا يكون الإدخال التصوري محرّماً؟
لا يحرم أيّ تصوّر في الشريعة الإسلامية، حتّى تصوّر الشرك نفسه.
لماذا لا يكون الإدخال التصديقي محرّماً؟
لا يحرّم أيّ تصديق في الشريعة الإسلامية؛ إذ ليس هناك أيّ تصديقٍ يحصل للمكلَّف على أساسٍ من العزم والإرادة.
لماذا لا يكون الإدخال القصدي محرّماً؟
بناءً على أصل التطابق بين القصد والعلم لا يمكن للمكلَّف أن يأتي بعبارة «أشهد أن عليّاً وليّ الله» في الأذان بقصد الجزئية إلاّ إذا كان على يقينٍ بجزئيّتها، أو كان في الحدّ الأدنى يحتمل جزئيّتها.
إن هذا الشخص في حالة الاعتقاد واليقين بالجزئية إنما يكون قد تعرَّض إلى مجرّد اعتقادٍ خاطئ؛ وفي حالة احتمال الجزئية إنما يكون محروماً من الاعتقاد الصائب. وعلى كلتا الحالتين يكون مرتكباً لفعلٍ سكت عنه الشارع.
بناءً على تفسير الإدخال بالإدخال الادّعائي تطلق البدعة والتشريع على بعض أقسام الكذب القولي([11])، والكذب الفعلي([12])، بمعنى أن العبارات والأفعال الكاذبة التي تدلّ على سعة وضيق دائرة الشريعة يطلق عليها مصطلح البدعة والتشريع.
الخلاصة
إن الفتوى المشهورة بين الفقهاء بـ «أن ذكر الشهادة الثالثة بقصد الجزئية في الأذان بدعة وتشريع، والقول ـ نتيجةً لذلك ـ بحرمتها» غيرُ وجيهٍ؛ وذلك للأمور التالية:
1ـ بناءً على أصل التطابق بين القصد والعلم لا يمكن لمَنْ يعلم أن الشهادة الثالثة ليست جزءاً من الأذان أن يأتي بها في الأذان بقصد الجزئية.
2ـ بناءً على أصل التطابق بين القصد والعلم فإن الذي يعلم أن الشهادة الثالثة جزءٌ من الأذان لا يمكنه إلاّ أن يأتي بها بقصد الجزئية في الأذان. ولكنّه يكون في مثل هذه الحالة عاملاً على طبق علمه ويقينه، وعليه لا يكون غير مستحقّ للعقاب فحَسْب، بل لا يكون مرتكباً لفعلٍ محرَّم أصلاً؛ وإنما هو مجرّد مؤمنٍ بقضية غير حقيقية، وهي القول بجزئية الشهادة الثالثة في الأذان.
3ـ بناءً على أصل التطابق بين القصد والعلم يمكن لمَنْ يحتمل أن تكون الشهادة الثالثة جزءاً من الأذان أن يذكرها أو لا يذكرها بقصد الجزئية في الأذان، ولكنْ حتّى إذا ذكرها بقصد الجزئية لن يكون مستحقّاً للعقاب؛ لأنه إنما حُرِم من مجرّد العلم بقضيةٍ حقيقية، وهي أن الشهادة الثالثة ليست جزءاً من الأذان([13]).
إن الذي يأتي في الأذان ـ بعد الشهادة بالرسالة للنبيّ الأكرم| ـ بقول: «أشهد أن عليّاً وليّ الله» بقصد الجزئية يذهب بالضرورة إلى تصوُّر «جزئيّة هذه العبارة»، بعد تصوّر تلك العبارة، وتصوُّر جزئيتها أيضاً، ثمّ يعمل على التصديق بجزئية تلك العبارة في الأذان؛ اعتماداً على دليلٍ أو دون ذلك؛ أو أنه يحتمل ـ في الحدّ الأدنى ـ أن عبارة «أشهد أن عليّاً وليّ الله» من أجزاء الأذان، وفي المرحلة اللاحقة من خلال تصديقة أو احتماله وجود الفائدة من ذكر هذه العبارة يأتي بها في الأذان بقصد الجزئية.
لا يمكن لهذا الشخص الذي لم يكن لديه سوى اعتقادٍ خاطئ ـ أو أنه لم يتوصَّل إلى الاعتقاد الصائب ـ، ولم يرتكب أيّ ذنبٍ، أن يكون مبتدعاً ومستحقّاً للعقاب.
وعليه لا يمكن ذكر الشهادة الثالثة في الأذان بقصد الجزئية بالنسبة إلى الشخص الذي يعلم بعدم جزئيّتها؛ وأما بالنسبة إلى الذي يعلم بجزئيّتها أو يحتمل الجزئية فلا يكون ذكرها من قِبَله حراماً.
إن جميع ما تقدَّم هو بيانٌ وشرح لعبارتين من عبارات المولى أحمد النراقي. وقد وردت إحداهما في كتابه «مستند الشيعة»؛ والأخرى في العائدة 43 من كتابه «عوائد الأيام». وفي ما يلي نقدِّم نصّ هاتين العبارتين:
1ـ «أمّا القول بالتحريم مطلقاً فهو ممّا لا وجه له أصلاً…، بل وكذا التحريم مع اعتقاد المشروعية؛ إذ لا يتصوّر اعتقاد إلاّ مع دليلٍ، ومعه لا إثم؛ إذ لا تكليف فوق العلم. ولو سلّم تحقّق الاعتقاد وحرمته فلا يوجب حرمة القول، ولا يكون ذلك القول تشريعاً وبدعة، كما حقَّقنا في موضعه»([14]).
2ـ «إن البدعة هي كلّ فعلٍ يفعل بقصد العبادة والمشروعية وإطاعة الشارع، مع عدم ثبوته من الشرع. ولا معنى محصّل لذلك؛ لأن ذلك الفاعل بهذا القصد إما له دليل على مشروعية هذا الفعل، وكونه عبادة، والإتيان به طاعة، أم لا.
فعلى الأوّل لا بحث عليه، إجماعاً بل ضرورة، ولا عقاب، وإنْ لم يثبت هذا الدليل عند غيره؛ لأن كلاًّ مكلَّفٌ بما أدّى إليه نظره. ومن هذا القبيل: اجتهادات جميع المجتهدين، مع أنهم يُؤْجَرون عليه ويثابون.
وعلى الثاني لا معنى لقصد العبادة والطاعة؛ إذ القصد ليس أمراً اختيارياً. والاختياري هو الإخطار بالبال والتصوّر، ومجرّد ذلك بدون التصديق بذلك لا يثمر ثمراً، بل يكون معتقداً لعدم شرعيته، فكيف يمكن اعتقاد الشرعية؟! مع أنه مع عدم اعتقاد الشرعية وعدم التصديق به لم يكن مجرّد تصوّر ذلك وإخطاره بالبال محرّماً»([15]).
الهوامش
(*) أستاذٌ في الحوزة العلمية في مشهد، وباحثٌ على مستوى الدكتوراه في جامعة تربيت مدرِّس.
([1]) لقد ذكر الشيخ رضا الأستاذي في رسالةٍ له بعنوان: «كلمات الأعلام حول جواز الشهادة بالولاية فی الأذان والأقامة مع عدم قصد الجزئية» كلمات الفقهاء في هذا الشأن، منذ عصر الشيخ الصدوق إلى يومنا هذا. انظر: الأستاذي، ده رساله (عشر رسائل)، دفتر انتشارات إسلامي، ط2، قم، 1380هـ.ش. (مصدر فارسي).
([2]) انظر: أحمد النراقي، عوائد الأيام: 319، مكتب الإعلام الإسلامي، ط1، قم، 1375هـ.ش.
([3]) لقد قدّم الشيخ النراقي للبدعة في الدين والتشريع ـ بمعنى إدخال ما ليس من الشرع فيه ـ تفسيراً، وعمد فيه إلى الفصل بين هذين المفهومين، وكأنّه لم يقبل بأكثر من مصداقٍ واحد لهذين المفهومين. وإن عطف التشريع على البدعة إنما يأتي لتفسير هذه النقطة، وهي أنه ليس الإتيان بكلّ جديدٍ يعتبر من مصاديق البدعة المحرّمة، وإنما المحرَّم هو خصوص الإتيان بجديد في باب التشريع، حيث ورد النهي عن ذلك.
([4]) لا بُدَّ من التذكير بهذه النقطة، وهي أن تقسيم الأفعال الإرادية إلى: «أفعال إرادية عنوانية» و«أفعال إرادية ذاتية» يختلف عن تقسيم الواجبات والمستحبات إلى: تعبُّدية وتوصُّلية. وبطبيعة الحال فإن كلّ واجبٍ ومستحبّ تعبُّدي يُعَدّ فعلاً إرادياً عنوانياً، إلاّ أن الكثير من الواجبات والمستحبات التوصُّلية ليست من الأفعال الإرادية الذاتية؛ لأنها في الأساس ليست إرادية؛ إذ هناك مطلوبية بمجرّد تحقُّقها، وليس التحقُّق الإرادي، ولا التحقُّق الإرادي العنواني. يُضاف إلى ذلك أن الفعل الإرادي العنواني أو الذاتي يمكن أن يتلبّس بأيّ حكمٍ من الأحكام، إلاّ أن التعبُّدي والتوصُّلي يُعَدّان من أقسام الواجب والمستحبّ.
([5]) إن المراحل العلمية تقع في مقابل المراحل الإرادية. إن تعلّق الشوق، وتأكيد الشوق، وتعالي الشوق إلى الحدّ والمرتبة التي لا يمكنها التخلُّف عن الحركة، هي من المراحل الإرادية السابقة على الفعل.
([6]) وبطبيعة الحال إذا لم يكن التصديق في المرحلة الرابعة بديهياً تضاف المرحلتان الأخريان، المتمثِّلتان بمواجهة الدليل إلى هذه المراحل الخمسة، فتكون المراحل سبعة على النحو التالي:
1ـ تصوّر الفعل.
2ـ تصوّر العنوان الخاصّ.
3ـ تصوّر الفعل المعنون بذلك العنوان الخاصّ.
4ـ مواجهة الدليل الذي يستتبع التصديق بتعنون الفعل بذلك العنوان الخاصّ.
5ـ تصديق أو احتمال تعنون ذلك الفعل بذلك العنوان الخاصّ.
6ـ مواجهة الدليل الذي يستتبع التصديق بالفائدة في القيام بالفعل المعنون بذلك العنوان الخاصّ.
7ـ تصديق أو احتمال الفائدة في القيام بالفعل بذلك العنوان الخاصّ.
([7]) إن العناوين الانتزاعية الاجتماعية تقع في مقابل العناوين الانتزاعية العقلية، والمراد منها عناوين من قبيل: الرئاسة، والاحترام، والإهانة، والمدح، والذم، والصداقة. وأما عناوين من قبيل: الفوقية، والتحتية، والعلية، والمعلولية، والإمكان الذاتي، وما إلى ذلك، فهي من العناوين الانتزاعية العقلية. وإن العناوين الانتزاعية العقلية، بالإضافة إلى الاعتبارات الفلسفية ـ أو المعقولات الثانية الفلسفية ـ، تشمل عناوين المتضايفين أيضاً. والمراد من العنوان الانتزاعي في جميع فقرات هذه المقالة هو العنوان الانتزاعي الاجتماعي، دون العقلي.
([8]) عندما نواجه فعلاً ـ أو حركةً جسديّة ـ ترتسم في الذهن صورة عن ذلك الفعل في الذهن، حيث نعمل؛ من أجل التسهيل في نقل تلك الصورة، بوضع اللفظ أو العلامة. إذن فالواقعية العينية المستقلّة عن الفاعل المعرفي تختلف عن انعكاس تلك الواقعية العينية في أذهان الفاعلين المعرفيين. وهذان الأمران هما غير الألفاظ والعلامات التي يتمّ وضعها واستعمالها لذات تلك الواقعية العينية، أو من أجل انعكاس تلك الواقعية العينية، أو بالنسبة إلى تلك الواقعية العينية المنعكسة على نحو القيدية أو الظرفية. وهذه الثلاثة غير العناوين الانتزاعية الاجتماعية التي تصدق على الفعل.
وبطبيعة الحال صحيحٌ أن ثبوت وكيفية إثبات الواقعية المستقلّة عن الفاعل المعرفي يشبه معركة الآراء بين الفلاسفة، وكذلك صحيحٌ أن إثبات تشابه أذهان الفاعلين المعرفيين في الحصول على انعكاس الواقعية العينية، وبتَبَعها تحليل كيفية تفاهم أصحاب اللغة الواحدة فيما بينهم، ليس سهلاً، إلاّ أنّني في هذه المقدّمة قد افترضتُ هاتين القضيتين:
1ـ إن الواقعية العينية مستقلّة عن الفاعل المعرفي.
2ـ إن آلية تحصيل انعكاس الواقعية العينية من قِبَل أذهان الفاعلين المعرفيين واحدةٌ.
([9]) بمعنى أن انعكاس الواقعية الخارجية لـ «الجلوس» لا يمكن أن تكون في أذهان الذين يعيشون في مجتمع خاصّ «صورة للجلوس»، وفي أذهان الذين لا ينتمون إلى ذلك المجتمع «صورة للمشي». وهذه هي القضية التي افترضتُها بوصفها أصلاً موضوعياً.
([10]) إن هذا السكوت أعمّ من السكوت الواقعي والظاهري، وهو يشمل حتّى الموارد التي أبدى فيها الشارع رأيه بشأن الفعل، إلاّ أن رأيه لم يصِلْ إلى سمع المكلَّف المتتبِّع.
([11]) الجملة الخبرية هي التي يكون أحد مداليلها مخالفاً للواقع.
([12]) السلوك الدالّ على واقعية أمرٍ غير واقعي.
([13]) بطبيعة الحال إذا كانت قضية «عدم جزئيّة الشهادة الثالثة في الأذان» تُعَدّ من الضروريات والبديهيات يمكن اعتبار عدم العلم بها أمارةً على التقصير، والحكم باستحقاقه للعقاب. ولكنْ حتّى في هذه الحالة لا يكون استحقاقه للعقاب معلولاً لقوله: «أشهد أن عليّاً وليّ الله» بقصد الجزئية في الأذان.
([14]) أحمد النراقي، مستند الشيعة في أحكام الشريعة 4: 486 ـ 487، مؤسّسة آل البيت^، ط1، قم، 1415هـ.