أ. نبيل علي صالح(*)
تمهيدٌ ضروري
ما زالتْ تتصارعُ في حركة الفكر العربي والإسلامي ثنائيات عديدة، من أبرزها ثنائية «العلمانية والدِّين»، بما جعلها من أهمّ القضايا الفكرية والسياسية الحاضرة بقوّة في مختلف النقاشات والدوائر الثقافية المتعدّدة، والتي لم يحسم الجدلُ بشأنها منذ أن اندرجَتْ كإشكالية معرفية في فضاءِ الثقافة الإسلامية منذ عقود طويلة.
ولكنْ رغم هاجسنا الفكري كمثقَّفين في حسم تلك الإشكالية، وتجاوزها معرفياً لناحية القبول أو الرفض أو التبيئة، فقد ظلَّتْ طاغية ومهيمنة، لتتسبَّب بمزيد من الاستقطابات العملية الحادّة بين مختلف تيارات الثقافة العربية والإسلامية، ولتفاقم من الخلافات المستحكمة القائمة أصلاً بين اتّجاهات سياسية وحزبية من اليمين أو من اليسار… مستعصيةً على الحلّ الحقيقي والمعالجة العلمية الجدية في وَعْي نُخَب فكرية وجماعات سياسية وحركية.. وقد تكلَّفت الأمّة والمجتمعات العربية والإسلامية تكاليف كبيرة تنوء تحتها شامخات الجبال، نتيجة ترسّخ حالة الاستعصاء الفكري لأزمة اللاحسم السائدة إلى يومنا هذا.
ويذهبُ كثيرٌ من المفكِّرين إلى القول بعدم وجود أيّ تناقضٍ للعلمانية (بكلّ امتداداتها) مع الدِّين والعلم الدِّيني (رغم اختلاف المناخات وأرضية البناء)، بينما يقول آخرون بوجود التعارض البنيوي بينهما.. فهل يوجد عملياً ما يدلّ على أنّ هناك فعلياً تعارضٌ جزئي أو كلّي (يصل حدود التناقض الأوّلي) بين الفكرة العلمانية والدِّين، وبالتالي بين السياسة والدِّين؟ وهل التعارض (أو التناقض) القائم واقعٌ بين العلمانية والدِّين ذاته، أم بين العلمانية وسلطة النصوص الدينية المشروحة والمؤوّلة القائمة؟ ثم هل من إمكانية للقاء الواقعي بينهما على أرضية المصالح الجزئيّة الآنية، بحيث نتمكّن ـ في بيئتنا الإسلامية ـ من استيعاب روح الفكرة العلمانية (القائمة على تحرير سلطة الدولة من تسلُّط الكهنوت، وتحرير الدِّين من تدخُّلات السياسة وتلاعب السياسيين أيضاً، كآليةٍ للفصل بين سلطة الكنيسة وسلطة الدولة)، من دون أيّ مساس بالدين ذاته، بحيث تُبنى التسوية بينهما على أسس معرفية وعملية قويّة كنوعٍ من «تعايش الأضداد»؟ ثمّ بالأساس ما الغاية من هذا اللقاء؟ وهل هناك ضرورة موضوعية لإيجاد تكييف معرفي ما يجمع بينهما؟! وهل الحاجة كامنةٌ في بيئة الدين وتراثه الفكري والعقدي المنصوص عليه ـ شرحاً وتأويلاً ـ بأحكامٍ زمانية قديمة، انغلقَتْ عليه حدود العقل الفقهي التقليدي، فلم تعُدْ تناسب حاجات عصرية كثيرة مستجدّة في حركة الواقع البشري؟ ثم هل الدِّين (بما يمثِّله من خطابات مفاهيمية ونخب وحركات وتيارات وأفكار وتعاليم وتشريعات واجتهادات فكرية وسياسية) بحاجةٍ لجسر العلمنة؛ بهدف الوصول إلى مواقع الحياة والسياسة والحداثة المعرفية والتقنية، بكلّ ما في حياتنا المعاصرة من متغيِّرات وتحوُّلات ومستجدّات؟… ألا يحمل الدين بذاته قابلية الانفتاح الفكري والعقدي، وخاصّة أن نصوصه ـ المحكمة منها بالذات ـ واضحةٌ وشفافة وغير مبهمة، بحكم كونها قائمةً على معايير رصينة من الانفتاح والتيسير والإباحة، بما ينفي الحاجة إلى أيّ توسُّطاتٍ فكريّة تحاول الحلول محلّ الدِّين ذاته كنبعٍ للقِيَم الاجتماعية والرمزية والإنسانية؟!…
أسئلةٌ كثيرة تطرحها إشكالية العلمانية والدِّين، يمكن أن تفتح الإجابات عنها مساراتٍ فكرية جديدة في بِنْية العقل «النظري»، (عقل الطبع) الرابض على تلال (ومماحكات) الرفض أو القبول، دونما حسمٍ متوازن على شكل صياغات معرفية مقبولة.
في هذا البحث سنعمل على معالجة هذه الإشكالية المعرفية المتجذِّرة في الفكر العربي الإسلامي، وتفكيك مصطلحاتها، وتحليل معانيها، وتحديد أسباب عدم قبولها في البيئة الإسلامية، رغم الجهود الحثيثة المبذولة على هذا الصعيد.. مع قناعتي المسبقة بأنّ عدم القبول ليس ناجماً عن حالة رفض وإنكار فقط، بقدر ما هو ناجمٌ عن حالة تأصيلٍ فكري من حيث وجود اختلافٍ بنيوي نوعي بين معايير الدِّين ومعناه الحقيقي ومعايير العلمانية ومعناها وماهيتها الذاتية التي كانت لها ظروف نشأة وولادة وواقع تطوّري مختلف كثيراً، حيث لكلٍّ منهما قابلياته واشتغالاته واتجاهاته… وبالأصل لا تجوز المقارنة بينهما مع عدم وحدة الموضوع وتشابه الحالتين (التاريخ الكنسي والتاريخ الإسلامي)، وإلاّ سيبقى الشرط التاريخي مؤثِّراً في تحديد المصاديق.
المبحث الأوّل: ضبط المفاهيم النظرية، لغةً واصطلاحاً
أوّلاً: العلمانيّة لغةً
جاء في تعريف (ومعنى) كلمة «علماني» في قاموس المعجم الوسيط أنها اسمٌ منسوب إلى عَلْم، على غير قياس، بمعنى عالم غير دينيّ يُعنى بشؤون الدُّنيا فقط. ويعتقد بفصل الدِّين عن الدولة. وعَلْمَانِيٌّ من (ع ل م) (نِسْبَةٌ إِلَى عَلْمٍ بِمَعْنَى الْعَالَم). ويُقال: رَجُلٌ عَلْمَانِيٌّ بمعنى أنه لَيْسَ رَجُلَ دِينٍ، وَهُوَ خِلاَفُ الدِّينِيِّ أَوِ الْكَهَنُوتِيِّ([1]).
وهناكَ مَنْ يخلط بين كلمتي العِلم والعلمانية، ويعتبر أنّ كلمة العلمانية ناجمةٌ أو مشتقّة من كلمة العلم. ولكنّ نشأة هذا المصطلح تدلّ على أنه لا علاقة بين الكلمة العربية المستعملة، وهي «العَلْمانية»، وبين كلمة «العلم». فالكلمة هي اشتقاق من كلمة «العَالَمْ» أي الدنيا والدهر والحياة الأرضية. والكلمة ترجمةٌ خاطئة للكلمة الفرنسية والإنجليزية (sécularisation)، المشتقّة بدَوْرها من الكلمة اللاتينية الأخرى (saeculum)، ومعناها الجيل أو القرن، أي الأشياء المرتبطة بالعالم البشري وبالزمن الأرضي.
ويبدو أن الكلمة الأقرب للمعنى في المجال اللغوي العربي ـ إذا أردنا اشتقاق المفهوم ـ هي كلمة «الزَّمَن» أو «الدُّنيا». وتكون العلمانية بذلك «زَمْنَنَة». وهناك كلماتٌ تشابهها بالمعنى موجودة في لغاتٍ أخرى غير العربية واللاتينية؛ ذلك أنّ تفاعلَ وتعارضَ البشريّ النسبيّ مع المطلق الدينيّ والمقدَّس «الإلهيّ» عرفَتْه كلّ الحضارات والثقافات التي تطوَّرت فيها التصوّرات والانطباعات والتعبيرات الحضارية منذ القِدَم حول شؤون الذات الداخلية والموضوع الخارجي. وفي السيرورة التاريخية استُعملت الكلمة الفرنسية والإنجليزية للدلالة على انتقال ملكيّات المؤسّسة الكنسيّة ـ في بعض الحالات ـ إلى أشخاصٍ أو إلى مؤسّسات دنيوية وزمنية صِرْفة، وخاصّة بعد الحروب الدينية، خلال القرن السادس عشر والإصلاحات التي تَبِعَتْها في أوروبا([2]).
ثانياً: العلمانية اصطلاحاً
تذكر الوثائق أنّ أوّل مَنْ ابتدع ونحت مصطلح العلمانية في التاريخ هو الكاتب البريطاني «جورج هوليوك»، وذلك في العام 1851م، حيث قام بتوصيف الصياغات الفكرية المتّصلة بفكرة العلمانيّة لمَنْ سبقه من فلاسفة الأنوار، وعرّفها بأنها نظامٌ اجتماعيّ منفصل عن الدِّين، غير أنه لا يقف ضدّه، ولا يناقضه. وأنها لا تقوم بفرض مبادئها وقيودها ومحدّداتها على مَنْ لا يودّ أن يلتزم بها. وأنّ المعرفة العلمانية تهتمّ بهذه الحياة (الدُّنيا وما فيها)، وتسعى لتحقيق التطوُّر والرفاه للبشر، وهي تختبر نتائجها في هذه الحياة([3]).
أما الإرهاصات الأولى والتلميحات المبكِّرة للفكر العلماني فتعود إلى القرن الثالث عشر، حين دعا «مارسيل البدواني»، في مؤلَّفه «المدافع عن السلام»، إلى الفصل بين السلطتين الزمنية والروحية، وضرورة استقلال الملك عن الكنيسة، في وقتٍ كان الصراع الديني ظاهرياً (والدنيوي باطنياً) بين بابوات روما وبابوات «أفنيون» في جنوب فرنسا على أشدّه([4]). وبعد قرنين من الزمن، أي خلال عصر النهضة الأوروبية، كتب الفيلسوف وعالم اللاَّهوت «غيوم الأوكامي» حول أهمّية فصل الزمني عن الروحي، فكما يترتّب على السلطة الدينية وعلى السلطة المدنية أن تتقيَّدا بالمضمار الخاصّ بكلٍّ منهما، فإنّ الإيمان والعقل ليس لهما أيّ شيءٍ مشترك، وعليهما أن يحترما استقلالهما الداخلي بشكلٍ متبادل… غير أنّ العلمانية لم تنشأ ـ كمذهبٍ فكريّ وبشكلٍ مطّرد ـ إلاّ في القرن السابع عشر. ولعلّ الفيلسوف «سبينوزا» كان أوّل مَنْ أشار إليها؛ إذ قال: إنّ الدِّين يحوِّل قوانين الدولة إلى مجرّد قوانين تأديبية. وأشار أيضاً إلى أنّ الدولة هي كيانٌ متطوّر، وتحتاج دوماً للتطوير والتحديث على عكسِ شريعةٍ ثابتة موحاة (من الوحي). فهو يرفض اعتماد الشرائع الدينية مطلقاً، مؤكِّداً ـ في الوقت نفسه ـ على أن قوانين العدل الطبيعية والإخاء والحرّية هي وحدها مصدر التشريع([5]). وفي الواقع إنّ باروخ سبينوزا عاش في هولندا، وهي من أكثر دول العالم حرّية وانفتاحاً آنذاك، حيث إن الهولنديين ـ ومنذ استقلالها عن الإسبان ـ طوَّروا قِيَماً جديدة، وحوَّلوا اليهود ـ ومختلف الأقلِّيات ـ إلى مواطنين بحقوق كاملة، وأسهم جوّ الحرّية الذي ساد في بناء إمبراطورية تجارية مزدهرة، ونشوء نظام تعليمي متطوّر. فنجاح الفكرة العلمانية في هولندا، وإنْ لم تكتسب هذا الاسم، هو ما دفع ـ حَسْب رأي عددٍ من الباحثين، ومن بينهم: كارين أرمسترونغ ـ باتجاه تطوُّر الفكرة العلمانية، وتبيّنها كإحدى صفات العالم الحديث([6]).
وتقدّم دائرة المعارف البريطانية تعريفاً اصطلاحياً للعلمانية، وهو أنها حركةٌ اجتماعية تتّجه نحو الاهتمام بالشؤون الدنيويّة، بَدَلاً من الاهتمام بالشؤون الآخروية. وهي تُعتبر جزءاً من النزعة الإنسانيّة التي سادت منذ عصر النهضة، والتي كانت تدعو إلى إعلاء شأن الإنسان وقيمه الإنسانية، ومختلف الأمور المرتبطة به، بَدَلاً من إفراط الاهتمام بالعزوف عن شؤون الحياة والتأمُّل في الله واليوم الآخر. وقد كانت الإنجازات الثقافيّة البشريّة المختلفة في هذا العصر (عصر النهضة) أحد أبرز منطلقاتها، فبَدَلاً من تحقيق غايات الإنسان من سعادة ورفاهٍ في الحياة الآخرة، سَعَتْ العلمانية ـ في أحد جوانبها ـ إلى تحقيق ذلك في الحياة الحالية([7])، أي إنها الآلية القانونية لعملية فصل الدِّين ـ وكل ما يتعلَّق به من منظومات عقيدية ومعتقدات دينية ـ عن مجمل الواقع السياسي والسياسة والحياة العامّة وشوؤون الاجتماع المدني، وعدم إجبار أيّ أحدٍ على اعتناق وتبنّي معتقد أو دين أو تقليد معين لأسبابٍ ذاتية غير موضوعية. ينطبق نفس المفهوم على الكون والأجرام السماوية عندما يُفسَّر بصورة دنيوية بَحْتة بعيداً عن الدِّين، في محاولةٍ لإيجاد تفسير للكون ومكوناته([8]).
ويمكن القول، بعد تحليل واقع ومناخ نشأة الفكرة العلمانية: إنها جاءت على خلفية صراعات تاريخية تمحورت حول استباحة الدين ـ بمعناه الإكليروسي المسيحي الكنسي القروسطي ـ لكلّ مواقع الحياة الخاصّة والعامّة للفرد أو الإنسان الغربي…، دونما أيّ تقدير للتطوُّر العقلي البشري، ولما وصل إليه الفكر الإنساني من تقدُّم عقلي وعلمي في شتّى ميادين الحياة، بما انعكس انفتاحاً وازدهاراً على حياة الفرد وعلاقاته. بالعكس كان الاحتراب سيّد الموقف، وكان الصراعُ محتدماً بين الكنيسة والعلوم؛ إذ كانت المؤسّسة الكنسيّة تلتزم بقواعد وأنظمة دينية، وتتبنّى مجموعةً من النظريّات العلميّة القديمة، ربطتها مع الدِّين (بنصوص مقدّسة)، وعند تطوّر العلوم ظهر أنّ الكثير من أفكار الكنيسة وآرائها لم تكن صحيحةً، تناقض العلم والمعرفة العلمية، ممّا أدّى إلى اندلاع سجالاتٍ وحروب بين العلماء والمفكِّرين المتنوِّرين من جهةٍ والكنيسة (وجهازها الكهنوتي) من جهةٍ أخرى. وفي القرن السابع عشر للميلاد تمّ تعزيز أفكار العلمانيّة، بعد ظهور الحاجة إلى إجراء فصلٍ كامل للدولة والاجتماع المدني عن الكنيسة (وعقائدها ونصوصها) في أوروبا؛ بسبب انتشار التأثير الكنسيّ على كلٍّ من السياسة والاقتصاد، إضافةً إلى ظهور العديد من التأثيرات السلبيّة الناتجة عن الحروب بين الطوائف المسيحيّة الأوروبيّة، والتحدّي الواضح بين العلم والمعارف الدينيّة. وفي نهايات القرن العشرين للميلاد أصبحت العلمانيّة من المصطلحات والنُّظُم الفكريّة المنتشرة على نطاقٍ واسع([9])… ولاحقاً تطوَّر هذا المفهوم واتَّسعت مَدَيات تطبيقه، ليعني الحرّية (السياسية والفكرية والاجتماعية)، والمساواة في الحقوق والواجبات، وعدم التفضيل، وأنّ أيّ قناعة روحية يجب أن لا تتمتَّع بميزات مادّية أو رمزية يسبِّب وجودها تمييزاً واضحاً… ليكون المجتمع العلماني، هو نفسه المجتمع السياسي الذي يمارس الأفراد من خلاله يوميات حياتهم بناءً على قِيَم مدنية عقلانية مستقاة من عقدٍ اجتماعي مدني، يستطيع جميع الناس (الخاضعين له) أن يعترفوا ببعضهم بعضاً، ويخدموا بعضهم بعضاً، وبحيث يبقى الخيار الروحي فيه شاناً خاصّاً لا يفرض على الآخرين… ويمكن أن يأخذ هذا الشأن الخاصّ بُعْدين اثنين: البُعْد الفردي الشخصي؛ والبُعْد الجماعي العمومي. وفي هذه الحالة فإنّ الجماعة التي تشكَّلتْ بحرّيتها لا تستطيع الادّعاء بأنها تتحدّث باسم المجتمع كلّه، ولا تحتلّ المحيط العامّ. ويتضمّن المثل الأعلى العلماني فكرتين أساسيتين: الأولى: الفصل بين ما هو مشترك للجميع وبين ما يتعلّق بالحرّية الفردية والمحيط الخاصّ، ويستهدف مثل هذا التقاسم الإجراء العادل في حقّ التشريع، ويستثني من ذلك النشاط الفكري الذي لا تطاله أيّ رقابة، والقناعات الفردية المكتسبة من حرّية المعتقد، وكذلك أخلاقية الحياة المستقلّة في حدود الحقّ العام الذي يضمن تعايش الحرّيات كلّها؛ والثانية: فكرة سيادة الإرادة، التي هي أساس قواعد الحياة المشتركة وقواعد الضمير والعقل الذي ينيره على حدٍّ سواء([10]).
ثالثاً: معنى الدين لغةً
اشتُقّت مفردة «الدِّين» في اللغة العربية من الفعل الثلاثي «دَانَ»، وهذا الفعلُ تارةً يتعدّى بنفسه، وتارةً باللام، وتارةً بالباء. ويختلف المعنى باختلاف ما يتعدّى به. فإذا تعدّى بنفسه يكون (دانه) بمعنى ملكه، وساسه، وقهره، وحاسبه، وجازاه. وإذا تعدّى باللام يكون (دان له) بمعنى خضع له، وأطاعه، والتزم بأوامره. وإذا تعدّى بالباء يكون (دان به) بمعنى اتّخذه ديناً ومذهباً واعتاده، وتخلَّق به، واعتقده. وهذه المعاني اللغوية للدين موجودةٌ أيضاً في المعنى الاصطلاحي للدِّين([11]). ويعني الدِّين من الناحية اللغوية: العادة والشأن. والتديُّن: الخضوع الذي ينبني على الدِّين المكافأة والجزاء، أي يجازى الإنسان بفعله، وبحَسَب ما عمل عن طريق الحساب. وجمع كلمة دين: أديان. فيُقال: دانَ بديانةٍ، وتديَّن بها، فهو متديِّنٌ، والتديُّن: إذا وكل الإنسان أموره إلى دينه. ومن كلمة الدِّين تأتي صفة الديّان، التي يطلقها الناس على خالقهم. والدَّيّانُ: اسمٌ من أسماء الله عزَّ وجلَّ، معناه: الحكَمُ القاضي. وسُئل بعض السَّلَف عن الإمام عليّ بن أبي طالب× فقال: «كان دَيَّانَ هذه الأُمّة بعد نبيّها»، (أي قاضيها وحاكمها). والدَّيَّان: القَهَّار، ومنه قول ذي الإصبع العدواني:
لاهِ ابنُ عَمِّك لا أَفضَلْتَ في حَسَب *** فينا ولا أَنتَ دَيَّاني فتَخْزُوني
أي لست بقاهر لي، فتسوس أمري.
ويقول الخليل في العين: «جمع الدين ديون، وكلّ شيء لم يكن حاضراً فهو دَيْن. وأدَنْتُ فلاناً أدينه أي أعطيتُه دَيْناً… والدين جمعها الأديان. والدِّين: الجزاء الذي لا يُجْمع؛ لأنه مصدر، كقولك: دانَ اللهُ العبادَ يدينهم يوم القيامة، أي يجزيهم، وهو ديّان العباد. والدِّين: الطاعة. ودانوا لفلان أي أطاعوه. وفي المَثَل: كما تدين تُدان، أي كما تأتي يؤتى إليك..»([12]).
رابعاً: الدين (وفلسفته) في الاصطلاح الفكري والمعرفي
ليس من السهولة وضع تعريفٍ اصطلاحيّ جامع مانع للدِّين، نظراً لتعدُّد مستويات وَعْيه في المدارك والأفهام، والكثير منها يبدو لا علاقة له بالمعنى الذاتي للدِّين، الذي هو ظاهرةٌ أصيلة في عمق فطرة وصميم ذات الإنسان، وهو يعني حَصْراً الخضوع النفسي والعملي لمطلق خالق الوجود (الله تعالى). بل نرى أن كلّ اتجاهٍ فكري أو علمي يحاول تقديم تعريفٍ ما للدِّين يتناسب مع أدواته ورؤيته، وما يملكه من معطيات ومنهجية فكرية وعملية. لكنْ بالمحصلة يمكن القول بأن الدين هو هذا الخطاب الفكري والرؤية الكونية الشاملة حول معنى الوجود وطبيعة الكون والحياة والإنسان، والغاية من خلقه ووجوده ككائنٍ عاقل له حقوقٌ وعليه واجباتٌ. ويتضمّن هذا الخطاب في داخله نَسَقاً من التعاليم والعقائد والرموز والطقوس المقدّسة التي تعمل على بناء طبائع وإنشاء أمزجة ودوافع روحية وعملية تتّسم بالمتانة والرصانة والقوّة وسعة الانتشار وطول الأمد في ذات الإنسان، عبر صياغة مفاهيم معيارية عن النظام العامّ للوجود في معناه ومبناه وغايته ومكوّناته، بما يتّصل بحركة الفرد، وتلبيس هذه المفاهيم بهالة الحقيقة المطلقة حتّى تبدو الصيغ والمفاهيم واقعية بشكلٍ فريد.
وقوام الدين وجوهره ـ كما قلنا ـ هو وجود الإله الخالق، أي الإيمان بوجود قوّة مطلقة مدبّرة، وإله مطلق (مفارق) لا مثيل له، ولا نظير، خلق الكون والوجود كلّه، وأودع فيه قوانينه وأسراره ونواميسه، وبثّ الحياة في كلّ شيء فيه إبداعاً وإتقاناً، وإليه ترجع جميع الأمور والأشياء، فهو العلّة الجوهرية، هو أوّلها وهو منتهاها… وبالاستناد على العلّة الأولى يتقوَّم الدين بمجموعةٍ أخرى من المقدّسات والمعتقدات والطقوس، لها أساسها في الروح والنفس والعقل، تبدو كمظهرٍ لمعنىً جوّاني من معاني الدين… وهنا يأتي دَوْر فلسفة الدين؛ لتقوم بشرح وبيان بواعث الدين ومعانيه ومنابعه، ونشأة المقدَّس وتجلّياته في حياة الإنسان، وصيرورته وتحوّلاته في المجتمعات البشرية.
ويمكن إيجازها ـ بحَسَب عبد الجبّار الرفاعي([13]) ـ بأنها التفكير الفلسفي في كلّ ما يتّصل بالدين؛ شرحاً وتفسيراً وبياناً وتحليلاً، من دون أن تتكفَّل التسويغ أو التبرير أو الدفاع أو التبشير… وتصنّف الاتجاهات الأساسية في فلسفة الدين، حتّى أواخر العقد الثامن من القرن الماضي، في خمسة اتّجاهات، تتناول: اتجاه الوجود ـ معرفة الله؛ اتجاه نقد الدين في الفلسفة التحليلية؛ الاتجاه المتأثِّر بالعلوم الإنسانية، وهو أيضاً على ثلاثة مسارات مهمّة: المسار المتأثِّر بتاريخ الأديان المقارن؛ المسار المتأثِّر بالعلوم الاجتماعية؛ المسار المتأثِّر بعلم النفس بشكلٍ عامّ، وبالتحليل النفسي بشكل خاص؛ اتجاه الفنون اللغوية وفعل الكلام الديني، المتأثِّر بـ «فيتغنشتاين» المتأخِّر؛ اتجاه هرمنيوطيقا لغة الدين.
وبموجب تلك الرؤية يعني الدين رؤيةً للكون والحياة، لا غنى عنها في العالم، تحكم الأفكار الشخصية والأعمال والسلوكيات الخاصّة والعامّة للملتزمين به.
طبعاً هناك ـ كما قلنا ـ تعاريف عديدة أخرى للدِّين، تنحو المنحى الأكاديمي الأنثربولوجي والسوسيولوجي والأركيولوجي، ولكنْ عموماً لا يمكن الركون كثيراً إلى تلك التعاريف الوضعية المادّية، التي قال بها كثيرٌ من مفكِّري العلمانية، والتي بُنيت عليها مقتضيات علمية ومعرفية ثقافية، وآليات عملٍ اجتماعية وسياسية، كانت لها تأثيرات سلبية ضربت ـ في كثيرٍ من اتجاهاتها التطبيقية الأداتية ـ صميم الأصول الأخلاقية الإنسانية، وليس فقط القِيَم والأخلاقيات الدينية…؛ حيث غدا الدِّين عندهم مجرّد بحث وتنقيب عن أصل فكرته بمعناه العضوي، ودراسة وتحليل الطقوس الدينية من خلال ما يكتشف من التنقيبات والحفريات الأثرية (الأركيولوجية). يعني تقلّص الدين عندهم إلى مجموعة ممارسات سلوكية شكلية آلية، يمارسها معتنقو الأديان ممّا لا علاقة لها بموضوع البُعْد المفاهيمي الروحي، والتكامل في حياة المؤمن من يومٍ إلى يوم، ومن لحظةٍ إلى لحظة، بما يعني أنهم أفقدوا تعريفهم نكهة المعنى الفكري والفلسفي والبُعْد الروحي والمعنوي، وتعاطوا معه بأبعاد مادّية عضوية، بعيدة عن معاني وقِيَم الحقّ والعدل والمساواة وغيرها من الأخلاقيات والفضائل الدينية الإنسانية المعروفة.
المبحث الثاني: العلمانية والدِّين…، تاريخٌ حافل بالخصومة والعداء
بدأت النُّخَب العربية ومختلف تيارات الفكر العربي والإسلامي بالجَدَل وإثارة النقاشات الواسعة حول المسألة الدينية والمسألة الدنيوية (السياسي) منذ زمنٍ طويل جدّاً. ولعلّ الحاجة الدائمة للسلطات السياسية القائمة في مجالنا السياسي إلى غطاء ديني شرعي؛ لتقوية نفوذها بين الناس، والاستعانة بما (ومَنْ يمثِّله)؛ لمعرفة الصواب للدول والمجتمعات في بحثها عن تثبيت أركان الدولة، وبناء أنظمتها القانونية الاجتماعية وتدبُّر الشؤون المختلفة، كرَّسَ هذه الثنائية التي مرّت بمراحل متباينة من العلاقة الصراعية أو الهادئة والسلمية، فكانت السلطتان الدينية والسياسية هما مَنْ يقود المجتمعات والأفراد؛ فتتحالفان أحياناً؛ وتتصارعان في أحيان أخرى.
وقد ظهرت الأحكام القانونية، باعتبارها منبثقةً عن الدين (المعبد ـ الكاهن ـ الرموز والطقوس)، في كلّ الحضارات القديمة، كما في الحضارات: المصرية، والعراقية، والبابلية، حيث كانت الفكرة الدينية لدى القدامى هي المبدأ الملهم والمنظِّم لحركة الفرد والمجتمع ككلّ، في زمن السِّلْم كما في زمن الحرب. كان الدِّين هو الذي يوجِّه الأعمال جميعاً، وحضوره كان كلّياً، يطوِّق الإنسان من كلّ جانبٍ من جوانب شؤونه الخاصّة والعامّة، وكان كلّ شيءٍ؛ الروح والجسد، والحياة الخاصّة والعامّة، والمآكل والأعياد، والمحافل والمحاكم والمعارك، كلّ شيء كان يخضع لسلطان ديانة الحاضرة (المدينة أو المملكة). كان الدِّين أهمّ ناظمٍ لأفعال الإنسان، والمرجع الأوّل والأخير لكلّ ما يأتيه في كلّ لحظةٍ من لحظات حياته. كان ميزان عاداته وأعرافه. وكان الدين في تحكُّمه بالكائن الإنساني مطلق السلطان، فما كانت تقوم قائمةٌ لشيءٍ خارج إطاره. ولم تنعتق أنظمة الحقوق في الغرب من الدِّين شكلاً ومضموناً إلاّ في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. ولا يزال القانون الإسباني والبرتغالي والإيطالي موسوماً بطابعٍ طائفي واضح. وقد كان للمسيحية ـ منذ اندماجها بالإمبراطورية الرومانية وحتّى قيام الثورة الفرنسية ـ تأثيرٌ حاسم على السلطة والقانون. لكنْ تبلور في العصر الحديث نموذجٌ ثالث هو النموذج القانوني العلماني، الذي تقف بموجبه الدولة موقفاً محايداً تماماً وغير متحيِّز على الصعيد الديني، ويكون القانون المدني على أساسه واحداً للجميع، وعلى نحوٍ إلزامي([14])…
وهكذا وصلتنا العلمانية المولودة في الغرب السياسي والاجتماعي بما هي نموذج فكري تاريخي وُلد ونشأ في سياق الصراع بين كنيسةٍ قروسطية متخلّفة، وعَالَمٍ اجتماعي وبشري (غربي بالتحديد) يتطوّر ويتقدّم بالعقل والمعرفة والعلم، ثمّ انطلق لينظِّم العلاقة بين الكنيسة والدولة… وهي بما هي عليه، من فصلٍ للدينيّ عن الدنيويّ، وللشأن السياسيّ عن الشأن الدينيّ (أيّاً كان هذا الدين)، لا يمكن لهذا النموذج أن يعني شيئاً لبلدانٍ لم تَعِشْ مطلقاً حالة التناقض بين دينها ودولتها، بين مجالها التاريخي القِيَمي الحضاري وبين مجالها السياسي الاجتماعي، ولا يمكن أن يؤثِّر شيئاً أو يقدِّم جديداً ـ من الناحية القِيَمية المعيارية ـ لمجتمعاتٍ لم تَعِشْ شيئاً اسمه نظام الكنيسة من الأساس، رغم أن العلمانية لم تكن تعني فقط أنها حالةٌ إجرائية سياسية تتّصل بالعلاقة بين الدين والدولة، بل كانت تفسِّر وتعني أيضاً ـ كما عُرِف لاحقاً ـ أنها عقيدةٌ فكرية تتكامل (بحَسَب منظِّريها) لتعطي رؤيتها الوجودية (الكونية) حول معاني الحياة والإنسان، وقِيَم العَيْش البشري ذاتها.
وعندما وصلت فكرة العلمانية إلى بلادنا العربية والإسلامية تحوَّلت هذه الرؤية والنهج الفكري من حركةٍ فكرية إصلاحية ذات توجُّهات اجتماعية عقائدية إلى شعارٍ (صراعي) تبنَّته النُّخَب السياسية والفكرية التي نشأت على خلفية مناخ النضال والكفاح ضدّ الاستعمار، والعمل على تحرُّر بلداننا (رغم أنه اضطرّوا كثيراً لاستخدام مفردة «الجهاد» الدينية؛ لتزخيم وإشعال حروب الاستقلال)، حيث تحالفت هذه الفكرة (العلمانية) مع دول ما بعد الاستقلال الشكلي عن المستعمر الخارجي… لكنْ سرعانَ ما اصطدمَتْ ـ بعدَ تغيُّر مضمونها الاجتماعي والإصلاحي مع تراجع الدولة الوطنية وتهافتها وهشاشة تأسيسها ـ مع قِيَم المجتمعات العربية ونسيجها الحضاري الديني الإسلامي، بعد أن حوَّلها رموز تلك المرحلة، أفراداً وجماعات سياسية (ممَّنْ انهمكوا في صراعات على السلطة)، إلى أيديولوجيةٍ وعقيدة سياسية فوقية؛ لاستثمارها في الموضوع السياسي السلطوي، فاقتربت من حدود الاصطدام المباشر مع الدِّين ذاته، رغم أن نشأتها في مَهْدها لم تكن على هذا النحو الاستقطابي الحادّ، ممّا أسهم في تشويه صورتها، وإبرازها كقيمةٍ مناقضة ورافضة للدِّين ذاته، حتّى أصبحت في نظر المجتمع (المؤمن والملتزم بالمعاني الدينية) مقترنةً بالكفر وبمفهوم الإلحاد. وهكذا تسلَّحت الدولةُ منذ نشأتها بسلاح العلمنة، الذي بات عقيدةً سياسية وكفاحية مناوئة ـ كي لا نقول معاديةً ـ لعقيدة الأمّة. هذه التحوُّلات جعلت كثيراً من التيارات والنُّخَب (التي أعطَتْ لنفسها صفة الوطنية والتقدُّم والعقلانية) تضع العلمانية خياراً وحيداً للتقدُّم، وممرّاً إجبارياً للولوج إلى جنّة النهضة المنشودة، وتحقُّق التنمية الاجتماعية والسياسية، وأنّ شرطَ ذلك ـ من الناحية الفكرية والإجرائية ـ هو تغييرُ مفاهيم الدِّين وقِيَمه وطروحاته وتوجُّهاته القائمة. هكذا فهم أغلب حداثيّي العرب فكرة العلمانية… واتَّخذوها منصّةً للنَّيْل من الدِّين، بل ومحاربته في صميم قِيَمه وجوهرانية وجوده، وعلى مَدَيات زمنية طويلة من تحالفهم العضويّ مع نُظُم الاستبداد والطغيان، فباتَتْ في نظر الوَعْي الشعبي والرأي المجتمعي والجماهيري العربي والإسلامي نوعاً من الدِّين أو ديناً جديداً قائماً بذاته، (يواجه ويناهض) دين الأمة الأساسي، وهو الإسلام، بما ينطوي عليه (هذا الدِّين الوافد الجديد) من قِيَم ومحدّدات فكرية ومفاهيم ورؤى اجتماعية وكونية «مميّزة»، يمكن استثمارها لمزيدٍ من التحكم والسيطرة على الناس، واحتكار البُعْد الرمزي والمعنوي للأمّة، لينصب السياسيون (الطغاة) من أنفسهم خلفاء لله على الأرض، يحكمون باسمه تحت اسمٍ (ودينٍ) وافد جديد هو «العلمانية».
هنا تبدو خطورة موضوعة العلمانية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، في تحوُّلها أوّلاً: إلى سلاحٍ فعّال لتشويه الدين وقِيَم مجتمعاتنا الإسلامية (مع اعترافنا بكلّ ما فيها من أمراضٍ مزمنة)، ووصفها بالتخلُّف والتعصُّب والتطرُّف (واليوم بالإرهاب)؛ وثانياً: إلى عقيدةٍ سياسية أُريد من خلالها ـ بعدما تبنَّتْها السلطات القامعة ـ تغيير عقائد الناس، واجتثاث قِيَم المجتمع والأمّة، ورأسمالها الرمزي والمعنوي والروحي منذ أن قُدِّمت كفكرةٍ خارجية المنشأ والمولد إلى عالمنا الإسلامي، الذي كان يبحث عن مواقع قوّةٍ للنهوض الفكري والاجتماعي، فقُدِّمت له العلمانية كخَشَبة إنقاذٍ ضمن كثيرٍ من مشاريع النهوض والتقدُّم… في وقتٍ كان من المفترض فكرياً وأخلاقياً ـ ومن باب الوفاء للفكرة العلمانية ذاتها، التي وُلِدَتْ في فضاء الغرب الثقافي ـ أن تكون هذه الفكرة مجرّد فكرة وآلية سياسية غير عقائدية، يتمحور دَوْرها حول إعادة توزيع السلطة الاجتماعية ذاتها على النُّخَب المختلفة والمتنوّعة في اجتماعنا الديني، لا أن تكون أداةً (باطشة) لمحاربة الدين الإسلامي ذاته، والتهكُّم على النسيج الحضاري والتاريخي لعقيدة الناس وثوابتها التي تحظى بالاحترام والتقديس، ومحاولات تلك النُّخَب (التي تعسْكَرَتْ سياسياً وتخندقت حزبياً وتمفصلت مع الفكر الواحد والحزب الواحد) تحريف و«استبدال» الخطاب الديني بمنظوماتٍ تفكيرية «وأخلاقية جديدة»، تحارب الدين ذاته في أصل وجوده وجوهر معانيه…، بما يعني أن تلك النُّخَب حاولت «اصطناع» رؤىً دينية أخلاقية وسلوكية تناسبها في صراعاتها المستمرّة على الحكم والسلطة، فخلقَتْ مؤسّساتها الدينية الوعظية الخاصّة بها والتابعة لها، والمتعيِّشة على فتات موائدها، شخوصاً وأجهزةً ومؤسّسات…، على عكس ألوان ثانية وأشكال أخرى من العلمانيّات الغربية التي احترمَتْ العامل الديني والبُعْد الروحي الحقيقي لمجتمعاتها (فكراً وبنية ومؤسّسات)، فامتنعت عن الخَوْض والكلام في الدِّين، ولم تتدخَّل في الشأن العقيدي والأخلاقي الاجتماعي لأديان مجتمعاتها، بل كانّ جوهرُ فكرتها العلمانية ذا بُعْدٍ إجرائي سياسي بَحْت، وهو «الحيادية» وعدم الانحياز الدينيّ، والتحرُّر من مراقبة أيّ دينٍ للمجال السياسي العامّ الذي هو فضاءٌ تداولي عامّ متاحٌ للجميع (أفراداً وأحزاباً وهيئات اجتماعية وغير اجتماعية)، يسمح فيها حتّى لرجال الدين بممارسة أدوار سياسية تحت سقف الحرّية والمواطنة والحكم المدني.
ورغم كلّ تلك المعالجات، وعلى رأسها أنّ العلمانية تقفُ على طرفي نقيضٍ من موضوع الإسلام بالذات كدين ورسالة، وكشرعة مدنية ودنيوية، وليست فقط أخروية مفارِقة (كما يزعم العلمانيون)، يجب أن نعترف ببقاء الصراع بين الفريقين، ممّا أثَّر على وضع الأمّة ككُلٍّ، وعلى مستقبل استراتيجياتها التنموية والاجتماعية، حيث كان للعقم التنموي والحرمان السياسي والظلم الاجتماعي بالغ الأثر في ظهور حركات التطرُّف والتكفير والإرهاب منذ عدّة عقود، واستغلالها واستخدامها من قِبَل النُّخَب الحاكمة لتبرير البقاء والهيمنة… وهذا كلّه ناجمٌ في تصوُّري عن بقاء كثيرٍ من القضايا المعرفية (والواقع صورته في النصّ والفكر) التي لم تُحْسَم بعد في فضاء الثقافة العربية والإسلامية على مستوى الرفض المطلق أو القبول المتوازن لجهة تحوُّل تلك العناصر غير المحسومة (كإمكاناتٍ قابلة) إلى عوامل دافعة للبناء، ومحرِّضة على الإنجاز والابتكار، وتفجّر شعلة التنمية العقلية والعملية، وبناء أسس التقدُّم الإسلامي المنشود بمعاييره المفاهيمية والأخلاقية العملية، ومعطياته المادّية تحضُّراً وبنى علمية. وما نعنيه من الحسم هنا هو بقاء «أيديولوجية التوفيق والتكييف» مهيمنة على عقولنا وأفكارنا منذ عقود طويلة، تتعايشُ فيها الأضداد، وتتصارعُ في داخلها المتناقضات، من مختلف نظريات وثنائيات الفكر العربي والإسلامي، التي ظلَّلَتْ تاريخه منذ بدايات عصر الإحياء الديني في القرن الماضي. هذا المنطق الصراعي من اللاحسم ـ والقلق السلبي المستديم ـ أسهم عملياً في مراكمة فشلنا الحضاري وتقهقرنا التنموي كمسلمين، وزاد في مسافة ومساحة ابتعادنا عن الحضور في العصر والحياة، بل وفرَّغ مشاريع النهوض الإسلامية المتعدّدة ذاتها التي طُرِحَتْ من عناصر قوّتها وزخمها الهائلة اللامنظورة الكامنة في بنية الإسلام ذاته، كدينٍ ورسالة ومشروع حضاري إنساني، يمتلك أعظم مواقع القوّة الروحية الدافعة للأصالة والإنسانية. كما أنه أسهم وبقوّةٍ في توفير حاضنةٍ اجتماعية قويّة لطروحات جماعات التطرُّف الديني، ومَنْ يدعو لهم، ويوجِّه أفكارهم العقيمة المتشدِّدة من أشباه الفقهاء والمثقَّفين الدينين.
ولعلّ من أبرز تلك الثنائيات المتنابذة غير المحسومة التي فرضت نفسها وحضورها على ساحة الفكر العربي الإسلامي منذ زمنٍ طويل، وما زالت تثير النقاشات على غير صعيدٍ فكري وسياسي ونهضوي عربي وإسلامي، هي إشكالية العلمانية والدِّين (العلمنة والسياسة).
وما زاد من رقعة التصارع والصدام بين موضوعتي العلمنة والدِّين هو إصرار نُخَب الحكم السياسي العربي والإسلامي كما قلنا على التدخُّل في الشأن الديني حتّى على أضيق مستوياته ونطاقاته، من خلال استثمار (واستغلال) الدِّين، كمعطىً وغطاءٍ شرعيّ مهمّ وحيويّ للغاية، في آليات حكمهم وتثبيت مواقع سلطانهم وطغيانهم، وأيضاً حرص الكثير من الجماعات الإسلامية على موضوعة السلطة والتشريع السياسي السلطوي، ورغبتهم الجامحة في الإمساك بقبضة الحكم، بقطع النظر عن الوسائل والآليات (سلميّةً أو عنفية، لا فرق في نظرهم)، أكثر بكثيرٍ رُبَما من حرصها على الجهاد الفكري العلمي، والبناء الثقافي والمعرفي، والاستنكاف ـ بقدرٍ كبير ـ عن استحضار شرعية السلطة (وبالأخصّ منه مبدأ التداول والتعدُّد)، بعيداً عن مفردات التأصيل النصّي والحاكمية الدينية التقليدية، وصولاً لقراءةٍ تجديدية حيّة فيها، لا تناقضُ النصّ، ولا تلغي مفاعيله وإشعاعاته الخصبة.
هذا مظهرٌ من مظاهر تلك الخلافات الناشبة والثنائيات الخلافية المستحكمة ضمن موضوعة العلمنة والدِّين، بكلّ ما يتفرَّع عنها من «فكرويات نقيضية»، كالإسلام والعلمنة، والأصالة والمعاصرة، والنقل والعقل، والتراث والحداثة، والهوية والعصر،…إلخ. وفي اعتقادي إنّ تلك الثنائيات الفكرية ـ التي اجتاحَتْ فضاءَنا الثقافي والسياسي منذ عقودٍ طويلة ـ استهلكَتْ مجهوداتٍ فكرية كثيرة ومشاريع نهضوية، تراكمَتْ من خلالها طروحاتٌ نقدية ونصوص معرفية قَيِّمة بلا شَكٍّ، ولكنْ دونما حدوث أيّ اختراقٍ أو تغيير ـ أو حتّى مجرد «حلحلة» أو انزياح بسيط، إذا صحّ التعبير ـ في البنية المتصرِّمة للتراث التقليدي (الفقهي الأشعري بالذات) المسيطر القائم على العقول والسلوكيات، مع أنها وبمعظمها (أعني مشاريع النهوض الإسلامي) كانت تستهدف إيجاد توسُّطات ونسج خيوط وجسور للعبور فيما بين تلك الثنائيات المختلفة والمتباينة.
من هنا، لم يَعُدْ من الممكن البقاء في طور التكييف، واستمرار محاولات التوفيق، بلا حَسْمٍ نقديّ عملي صريح وواضح، كما قلنا؛ حيث يجب الإقرار هنا بأنّ الخلافَ بنيويٌّ ومستحكمٌ بين أطراف رُبَما ثبت أنه لا يمكن التوسُّط بينها أساساً، فلكلٍّ ماهيّتُه القارّة ومجال اختصاصه واشتغاله الموضوعي، وبيئته الذاتية المناسبة التي ينمو فيها، ويتحرك من خلالها باتّجاهاتٍ أخرى..
واليوم حان وقت إنهاء التوسُّط بين تلك الأطراف؛ حيث لا وسيط بينها. حان الوقت لتحريك البحر الجامد الذي تعفَّنت فيه أفكار الحداثة المزيَّفة التوسُّطية، وأفكار التطرُّف الديني العنفية… والجمود لا يحرِّكه سوى استثمار أجواء الهزيمة المعرفية والانقطاع الفكري عن العصر منذ قرون نتيجة إغلاق باب الاجتهاد عند القسم الأكبر من المسلمين، دخولاً في طور العقل والعقلانية بمذاقها الإسلامي الأصيل المشرق الذي تحدَّث عنه تراثنا نفسه: «…ليثيروا دفائن العقول»([15])، كما يقول الإمام عليّ×.
المبحث الثالث: العلمانية في الاجتماع الديني الإسلامي، احتواءٌ أم رفض؟
مقاربةٌ في التطبيق
لمْ ينفتح العربُ والمسلمون عموماً على مصطلح «العلمانية»، ولم تتقبَّله مختلف أوساطهم الفكرية والاجتماعية حتّى اليوم، كما قلنا سابقاً، بل واعتبروه دخيلاً عليهم، ونبتاً غريباً عن تربتهم وتاريخهم الثقافي واجتماعهم الديني الإسلامي، القائم على أنّ السيادة أوّلاً وأخيراً لله تعالى، وليس للإنسان، رغم معطى حرّيته وخياره المسؤول. وفد إليهم من سياقٍ آخر، من سياق اللائكية (العلمانية) الغربية التي لا يمكن أن تلتقي أبداً مع الإسلام في البِنْية والجوهر.
هذا التناقض البنيوي بين الإسلام والعلمانية زادت حِدَّته من خلال سوء ممارسات العلمانية العربية بحقّ المجتمع والأمّة، وهي ممارساتٌ تطبَّعت بطباع مريديها وحَمَلتها من الديكتاتوريين والطغاة… والعداء بينهما بات مستحكماً، والسجالات مستمرّة… فالإسلام كدينٍ ورسالة إنسانية يقوم على عنصر الوحي، وتقتضي تعاليمه الانقياد والاستسلام والإذعان لما جاء من عند الله ديناً ودنيا…، يقول تعالى: ﴿…قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ (الأنعام: 161 ـ 163).. أما اللائكية (العلمانية) فتقتضي رفض المقدَّس، والتمرُّد على الوحي، والكفر بمرجعيته في علاقة الدين بالحياة، رغم أن قسماً كبيراً من العلمانيين يعتبر أنّ العلمانية ليست ضدّ الإسلام، بدليل أنها تدافع عن حرّية الاعتقاد والعبادة لكلّ الناس والأديان والمذاهب، وهذا أمرٌ صحيح ظاهرياً، وخاطئٌ عملياً وباطنياً؛ لأن العلمانيين العرب أبعدوا ـ من جهةٍ أولى ـ الدين الإسلامي عن ساحة الحياة الرَّحْبة التي جاء إليها ليمارس دَوْرَ هدايةٍ وتبشير وإنذار (ممّا يقتضي الحضور في الحياة والعصر)، وحجَّموه، وحبسوه في القمقم، وحدَّدوا دَوْره ووظيفته فقط في تأبيد السلاطين وتمجيدهم، والتهليل والدعاء لهم على منابر الدِّين، من خلال وزارات الأوقاف وأرباب الشعائر الدينية، بينما ـ من جهةٍ ثانية ـ حاربوا هذا الدِّين في جَوْهره القِيَمي والشرعي([16])، من حيث إنه دينٌ في الفكر والإحساس والممارسة، دينٌ يرنو للتغيير كنظام حياة عقائدي. والأنكى من ذلك أنهم عاملوه كضيفٍ، بينما هو في العمق صاحب الدار والمجتمع والأمّة…
وبالنظر إلى عدم وجود تربةٍ وأرضية شعبية مناسبة، واحتضانٍ شعبي إسلامي لمفهوم وصيغة «العلمانية» التي حدَّدت لنفسها معايير «مقدّسة» جديدة، فُهِمَت على أساس أنها ستكون بديلاً عن الدِّين الإسلامي ذاته، وتدخّلت في مختلف شؤون المتديِّنين وحياتهم وتجاربهم، حتّى باتوا بالكفر والإلحاد والمروق على الدِّين الإسلامي…، بالنظر إلى ذلك كلِّه انحصر تداول هذا المصطلح اليوم ـ رغم تأثيراته الجمعية ـ إلى حدوده الدُّنيا في كتابات ومعارك المثقَّفين «النُّخْبويين» فقط، ولم يَعُدْ كثيرٌ من المفكِّرين وأصحاب مشاريع النهوض العرب التقدُّميين وغيرهم من أبناء التيارات العلمانية العربية يتداولونه في كتاباتهم ومجالسهم ونداوتهم، بل تراهم يتحدَّثون بكثرةٍ عن مصطلحٍ آخر، هو «المدنية»، في محاولةٍ منهم لإيجاد بديلٍ عملي مقبول شعبياً عن مصطلح «العلمانية»، يمكن من خلاله مدّ جسور الثقة مع الناس المتديِّنين بالفطرة، والرافضين عموماً لمفهوم العلمنة القادم إليهم من الخارج.
ولكنْ، وبالرغم من كلّ الضغوطات المجتمعية، بقي قسمٌ كبير من مثقَّفينا العلمانيين متمسِّكاً بفكرة «العلمانية»، ولكنْ مع محاولة تبيئتها وتوطينها عربيّاً عبر ربطها بكلمة «مؤمنة»، فظهر مصطلحٌ جديد هو مصطلح «العلمانية المؤمنة»، التي يسمِّيها البعض بالديمقراطية العقلانية، لتمثِّل تيّاراً ثالثاً حقيقياً ومستقلاًّ، يصدر من قلب مشكلات العرب والمسلمين، ومن واقعهم الحضاري، وينطلق من الثقافة العربية الإسلامية، ومن تجلِّياتها المعاصرة في مجتمعات العرب والمسلمين.
وبالعودة إلى وجود تقاطعٍ واسع وكبير بين فكرة العلمنة أو مصطلح المدنية أو معنى العلمنة المؤمنة من حيث تطابق هَدَفية التنفيذ يمكن القول بأن ما يهمّ الناس حالياً، بعد مماحكات المثقَّفين وتصارع الأفكار، هو نجاح التطبيق وإنجاز المأمول والمنشود في إقامة دول عربيّة وإسلامية تهتمّ ببناء مواطنها الفرد على قواعد متينةٍ من الحرّية والمساواة والعدل ورفع الظلم وإحقاق الحقّ. وهذه أهدافٌ وغايات ومقاصد كبرى، تشكِّل ركائز لمنظومة الحقوق والمبادئ الإسلامية، التي كان جاء من أجلها الدِّين، وكان يقول عنها النبيّ الأكرم محمّد|، في حديثٍ صحيح ومشهور: «بُعثتُ لأتمِّم مكارم الأخلاق»([17]).
وشرط تحقُّق كلّ تلك القِيَم الحيوية المهمّة هو أن تكون تلك الدول (بغضّ النظر عن اسمها) حياديةً تجاه أبنائها لجهة معتقداتهم وانتماءاتهم وتصوّراتهم الفكرية والثقافية والدينية والمذهبية، أي أن تكون (علمانية=مدنية) توفِّر لهم جميعاً الظروف والعوامل الملائمة نفسها؛ لتحقيق حرّياتهم المتنوّعة والمتعدّدة؛ ومن جهةٍ ثانية أن تعمل الدولة الوطنية (المدنية) على إدماج مواطنيها طَوْعياً في عملية البناء والتنمية والفعل التاريخي، كمواطنين أحرار وكعناصر مشكّلة لقوّتها البشرية (المتوزّعة على انتماءات عرقية ودينية ومذهبية وجهوية وطبقية متنافرة أو متباينة طبيعياً وتاريخياً).
وفي ظنّي أنّ هذا الاندماج المطلوب لتحقّق فاعلية الدولة على الوجه الأكمل والأرقى لن يتمّ إلاّ بتوفير غطاءٍ أو إطار «سياسي ـ مجتمعي» عادل، يساوي بين المواطنين في الحقوق والواجبات، ويرفع مبدأ «الاستحقاق والجدارة» أساساً لحيازة المواقع والمناصب والمكاسب داخل الدولة، ويجعل القانون ـ بقواعده العامّة المجرّدة ـ حكماً وفيصلاً عادلاً بين الكلّ من دون تفرقةٍ، وينحاز إلى مدنية الحكم وبناء الدولة الديمقراطية الحديثة. (وهذا برأيي أهمّ من شروط مدنية الدولة بعد توفُّر شرط علمانيتها).
أي بمعنى أن تكون دولنا (المدنية المبتغاة) مؤسّسية، تظلِّلها قِيَم الحرّية والكرامة والعدالة والمساواة والعقلانية، وتحكمها سلطاتٌ مدنية منتخبة سلمياً وديمقراطياً تحت سقف الدستور، تعمل في ظلّ قوانين عادلة تصون حقّ الفرد المواطن في حرّية التعبير والمعتقد والقول، وحرّية الانتماء السياسي، وحرّية التجمُّع والتنظيم السياسي، وحرّية الوصول للمعلومات، وحرّية التعدُّدية السياسية والحزبية.
وباختصارٍ شديد أن تكون دولنا المدنية محكومةً بسلطاتٍ مدنية، تتقوّم بمبدأ العدل والقانون وحبّ الوطن وأهله، وهاجسها خيرهم وكرامتهم وعزّتهم وإنسانيتهم من جانبٍ آخر. وهذه هي أهمّ تجلِّيات ومعاني الدولة المدنية (العلمانية)، «دولة المواطنة الصالحة»، ودولة «المؤسسات المدنية»، دولة تكريس سلطة القانون وسيادة الدستور.
وعلى هذا الطريق اندلعت ما سُمِّي بثورات الربيع العربي، وبهذه الدوافع تفجَّرت ـ بدايةً ـ كثوراتٍ «مدنية» غير طائفية في كثير من بلداننا العربية، على عكس ما أرادتها بعض السلطات الرسميّة العربية كثوراتٍ دينية ومذهبية؛ لمحاربتها، وبالتالي سهولة قمعها. في حين أرادها الشباب الثائر الواعي أن تكون صرخاتٍ مدوية لبناء دول مدنية ونُظُم ديموقراطية، تكون في خدمة المجتمع، وتحقِّق العدالة للجميع دونما تمييزٍ، وتنظِّم ممارسة الحرّيات العامّة، وتسعى لإسعاد رعاياها، وتوفير العمل والحياة الكريمة اللائقة لهم، أسوةً بباقي الناس في الدول المتقدِّمة، وحفظ كرامتهم، وإثبات موجوديّتهم الإنسانية كذواتٍ فاعلة ومنتجة وحاضرة في مجتمعاتها، ومستقبل دولها المدنية.
وفي النهاية المطلوب إنجازه فوراً وبلا أيّ مواربةٍ هو إنتاج صيغة للحكم التعدُّدي الشوروي المرتكز على قاعدة راسخة من مبادئ وقِيَم «الإنسان ـ الفرد ـ المواطن» المنتج والفاعل والمأمون والحرّ في عيشه وفكره ومعتقده الديني والسياسي، والحاصل على كامل حقوقه الاقتصادية والسياسية وغيرها، من خلال إقامة مجتمعات مدنية تعدُّدية حرّة محكومة بسلطاتٍ سياسية ونُظُم ديمقراطية تداولية أساسها وجوهرها خدمة مصالح هذا «الفرد ـ المواطن» صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في المبدأ والمنتهى، على قاعدة سلامة الوطن والدولة، وضمان حقوق الناس والحفاظ على أمنها واستقرارها. وهذه قضيةٌ لا يرفضها الإسلام ذاته، الذي يقوم على مبادئ الحقّ والحرّية والعدالة وإتاحة الفرص والخيارات أمام الناس، كما قلنا. فالوطن المعافى الخيِّر والمعطاء (والناس الحاصلون على حرّياتهم وحقوقهم المدنية، والمستقبل والحياة الكريمة العادلة) هو حلم الجميع، وهو غايتهم الأساسية.
واعتقادي أن ما تقدَّم من تجلِّيات لمعنى مفهوم الدولة المدنية هو نفسه حكم المواطنة الصالحة، حكم الإنسان المسلم المنتج، حكم الدولة المؤسّساتية العادلة، التي تنصهر فيها كافّة الانتماءات لصالح الوطن، ضمن أُطُر قانونية دستورية ضامنة، ومن خلال الالتقاء على أرضية المصلحة الوطنية العامّة، ويتمّ ذلك بناءً على معطيات الفكر الإنساني العالمي اليوم، والتي يروّج لها في ساحاتنا الفكرية ومنتدياتنا الثقافية من خلال الأبعاد التالية:
1ـ الهويّة الإنسانية المنفتحة الواعية.
2ـ الانتماء الحرّ التعدُّدي المدني.
3ـ التعدُّدية وقبول الآخر، وإشاعة ثقافة التسامح.
4ـ الحرّية والمشاركة السياسية، والتداول السِّلْمي للسلطة.
والدولة المدنية المنشودة هي ـ كما قلنا وكرَّرنا ـ دولة القانون والمؤسسات والمساواة وفصل السلطات. وهذه الدولة ـ بقطع النظر عن تسميتها: إسلامية أو مدنية ـ لا تتناقض مع كون الله سبحانه وتعالى هو مصدر السلطات جميعاً، باعتبارها أجلى وأكبر حقيقة جاءت بها الكتب والأنبياء، ومارسوها في معركتهم من أجل تحرير الإنسان من عبودية الإنسان. وهي تعني هذه الحقيقة، أن الإنسان حرّ، ولا سيادة لإنسانٍ آخر أو لطبقةٍ أو لأيّ مجموعةٍ بشرية عليه، وإنما السيادة لله وحده. وبهذا يوضع حدٌّ نهائيّ لكلّ ألوان التحكُّم وأشكال الاستغلال وسيطرة الإنسان على الإنسان([18]).
والدِّينُ الإسلامي يتحرّك في هذا الاتّجاه نفسه؛ لتمكين الفرد المسلم (والإنسان عموماً) من ممارسة دَوْر الخلافة الطبيعي الحقيقي، كسيّدٍ للحياة (بحكم نظرية الاستخلاف الرباني)، جاءت الأديان كلّها من أجل خدمته وتوفير ظروف تفعيل دَوْره وإنتاجه وإبداعه؛ ليصبح على صورة قِيَم الله تعالى وصفاته في العلم والمعرفة والحضور والبناء والإثمار المدني الحضاري: ﴿…وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا…﴾ (العنكبوت: 69)؛ ﴿يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ…﴾ (الانشقاق: 6). والسبل هي سبل الحقّ والخير والقِيَم الربّانية الأصيلة، وتحقّق اللقاء مع قِيَم الله تعالى في السعي الحثيث والكدح الارتقائي إليها. وهذا كلُّه يحتاج لجهاد بنائيّ خاصّ وعامّ في ظلّ دولة العدل.
طبعاً الدولةُ كظاهرةٍ حيّة وتاريخية في حياة البشرية، حتّى لو كانت دولةً متشكِّلة وفقاً لمرجعيةٍ إسلامية، أو في إطار قِيَم الإسلام العليا، فهي لا تصل إلى مستوى المقدّس. هي دولة تتحمَّل مسؤوليةً تاريخية في التعمير والبناء المادّي والمعنوي، وتقوم بوظائف وتنفّذ مهامّاً وواجباتٍ محدّدة، ويحقّ لجميع المواطنين ـ إلى أيّ دينٍ أو مذهب أو تيار انتموا، دينيّ أم علمانيّ ـ أنْ يراقبوا مؤسّسات هذه الدولة، ويحاسبوها على أيّ تقصير. فلا دولة ثيوقراطية في الإسلام. وكلُّ مَنْ يتبوّأ موقع الحكم والسلطة في الدولة فهو يصل إلى هذا الموقع باختيار الناس وانتخابهم، ولا يحقّ لأيّ أحدٍ أن يدّعي أنّه يحكم باسم الحقّ الإلهي؛ لأنّه يحكم باسم الناس الذين انتخبوه لموقع المسؤولية. وعليه فإننا نعتقد أنّ إنهاء حالة الالتباس بين الإسلام كمنظومةٍ تشريعية وقِيَمية ومفهوم الدولة المدنية، التي تتعالى على انقسامات مجتمعها، وتكون ممثِّلةً لجميع مكوِّناته وتعبيراته، يستند إلى حضور الناس أفراداً وجماعات في الساحة، لكي لا تتغوَّل الدولة وتتحوَّل إلى دولةٍ تسلُّطية، ولكي لا يتعدّى أحدٌ على موقع الشعب والمجتمع في العمل السياسي وإدارة الشأن العامّ؛ لأنّ إنجازَ مفهوم (وحقيقة) الدولة المدنية في فضائنا العربي والإسلامي يتطلَّب حضوراً وكفاحاً ومكابدة، حتّى تتعزَّز قواعد الممارسة السياسية، بعيداً عن نزعات الغطرسة والهيمنة والشمولية، وحتّى يتمّ إنجاز مفهوم التداول في كلّ مؤسّسات ومستويات الدولة([19]). إنني وسيادة مفاهيم القانون والتداول والسلمية بحاجةٍ لعقلانية تتحرّك في عمق الفكر المجتمعي، تتغلَّب على الفكر الرغبوي والعاطفي السائد، وتضمن لنا مجتمعاً عقلانياً متسامحاً، بعيداً عن التطرُّف والخرافة واللامعقول. وبالفعل انطلقت الشعوب الغربية في تقدُّمها الحضاري بعد تحديد سلطة رجل الدِّين، فارتكزَتْ إلى العقل بَدَلاً من تعاليم الكنيسة، وشقّت طريقها نحو التقدُّم الحضاري الهائل. وما نقصده بالعقلانية اعتماد العقل مصدراً أساسياً للمعرفة ونقد الواقع، وتشخيص الأولويات، وترشيد الوعي والعقل الجمعي، ومحاكمة الأنساق المرجعية للعقائد والفكر والثقافة؛ في مقابل مصادر معرفية أخرى لا تنتمي للعقل، تفرض نفسها سلطةً مقدّسة، لا يطالها النقد من وحي اللامعقول والخرافة والغيب. والمبرِّر لاختيار (العقلانية الشاملة) أنّ مجتمعاتنا عموماً هي مجتمعاتٌ دينية، تتَّخذ من الدِّين مرجعيةً مطلقة لها، شاء مَنْ شاء وأبى مَنْ أبى، وهي ستبقى على هذا النحو، لا يمكن تغيير بوصلتها وشرعتها، حيث تستمدّ تلك المجتمعات من الإسلام رؤيةً توحيدية للوجود والكون والحياة، وتتّخذ منه قاعدةً معيارية لبناء منظومتها الأخلاقية الخاصّة والعامّة، فلا يمكن التخلّي عن الدين مطلقاً. وهذه ليست إشكاليةً بطبيعة الحال، بل الإشكالية تكمن في موقعٍ آخر، وهو ما عاش على حواشي الدِّين وأطرافه من اتِّكالية، وما ساد تلك المجتمعات من بدع، وخرافات، وشعوذات، وسحر، وغيبيات ما أنزل الله بها من سلطانٍ، قُدِّمت (وتقدَّم إلى اليوم) على أساس أنها من الدِّين، يعني جاءت على حساب الدِّين وحساب العقل، والمنطق العقلي، بل بعضهم يعرض عن التبريرات العلمية، ويلجأ للتراث والمرويّات الدينية (الضعيفة وغير المسندة) لتفسير الظواهر والأحداث. ولهذا ما لم تستتبّ النزعة العقلية في مجتمعاتنا (والدِّينُ عقلٌ كلّه)، وتمارس النقد والمراجعة والمساءلة العقلية على جميع المستويات، لا يمكن التمهيد لمجتمعٍ إسلامي متنوّع، تسوده قِيَم العدل والمواطنة والحرّية والتسامح والتعدُّدية، الدينية والثقافية([20]). وهذه القِيَم الإنسانية قارّةٌ في رؤية الإسلام ذاته، كمشروعيّة مبادئية نظرية، منذ أن نزلت رسالته السمحاء على نبيّ الرحمة|، وانطلق داعياً ومبشِّراً ونذيراً. والإسلام في نصوصه التأسيسية وتوجيهاته العامّة لا يعارض ولا يناقض حقائق ومكوّنات الدولة المدنية. وغيابُ النموذج التاريخي العملي على هذا الصعيد (مع وجود مناخات الطرح النظري) لا يعني بأيّ شكلٍ من الأشكال معارضة النصوص والتوجيهات الإسلامية للالتزام بكلّ متطلّبات بناء دولةٍ مدنية في الاجتماع الإسلامي المعاصر، وخصوصاً أننا نعيش في أجواء سياسية واجتماعية صعبة للغاية على صعيد الإسلام والمسلمين في هذا الهجوم على الدين ووصمه بالإرهاب، وتحطيم دول ومجتمعات بأكملها تحت زعم ما يسمّى بـ «مكافحة الإرهاب»، مع أن الإسلام ليس هو المسؤول عن إنتاج التطرُّف والإرهاب، وتوليد العنف في المجتمع([21]). بالعكس، العلمانيات العربية ـ بنماذجها المطبقة في بلداننا، قمعاً واستبداداً ومصادرةً للرأسمال الروحي الإسلامي ـ هي التي أنتجت نقيضها الإسلامي المتطرِّف والتكفيري، حيث مارست الدولة العربية الحديثة ـ التي تبنَّت هذا الفكر العلماني (الحداثي شكلاً فقط) ـ شتّى صنوف الإرهاب والفساد والاستبداد، بحقّ مواطنيها، بعدما فرضت عليهم الفكر العلماني (كوافدٍ عقائدي غريب) بالقوّة والقهر والعسف الأمني، تسبّب مباشرةً في الفشل السياسي والإعاقة التنموية والتخلُّف الحضاري، كنتيجةٍ طبيعية لعدم مشاركة الناس بالتنمية، واستنكاف أبناء تلك المجتمعات عن الفعل والحضور في كلّ مواقع البناء الحضاري؛ بسبب تناقض معتقداتهم وأنسجتهم الدينية التاريخية مع ما فرض بقوّة الحديد والنار عليهم سياسةً واقتصاداً، فاندلعت الحروب الداخلية، واشتعلت الاحترابات الأهلية، التي لم يخلو منها بلدٌ عربيّ أو إسلامي.
تلك الصراعات لم تكن بين رجالات الدين وبين نُخْبة الوعي العقلاني والتنويري، بل بين مجتمعاتٍ مؤمنة بالدين كمجالٍ للفعل الوجودي الخاصّ والعامّ (ورؤية متكاملة للوجود) وبين نُخَب عسكرية انقلابية قمعية، فسَّرت العلمانية كعقيدةٍ سياسية حادّة، واتَّبعت مختلف أساليب الفرض على العامّة، التي رأت أنّ العلمانية ليست سوى دينٍ جديد يقف في مواجهة الدِّين السماوي، أو يرمي إلى إلغائه. بل وصل الأمر ببعض المثقَّفين والنُّخْبة المفكِّرة (ممَّنْ يدورون حول فلك السلطات القاهرة) أن اعتقدت هي ذاتها (وهي المفترض أن تكون عقلانيةً ومالكة لزمام التحليل المنطقي والموضوعي) بأن العلمانية مشتقّةٌ من العلم، وهي دين الدولة الجديد، ولها سلطتها الكاملة على الجسد والروح معاً، ممّا جعل من الدولة سلطةً دينية سيادية منافسة جديدة. وهذا هو خطرٌ كبير جعل الدولة (المؤمنة بدينها العلماني الجديد) سلطةً أوتوقراطية. وهو يماثل بالمقلب الآخر سيطرة الدين على الدولة، وتحوّلها لدولةٍ ثيوقراطية. وفي الحالتين الغاية تبدو واضحة في تمكين الفرد (السلطان) الواحد المتماهي ذاتياً وجسدياً مع السلطة وفق نموذج (أنا الدولة، والدولة أنا).
إنّ القيام بالتحوُّلات والتجديدات للنُّظُم الاجتماعية اللازمة للتجدُّد الحضاري للأمّة لا تتطلّب تغيير عقائد الناس، والتهكُّم على تاريخها، والاستهتار بتراثها ورأسمالها الرمزي والروحي، ومحاربته، ومحاولة إسقاطه، والطعن به على الدوام، كما جرى (ويجري) في اجتماعنا العربي والإسلامي منذ عقودٍ على يد نُخَب فاقدة لشرعيتها التاريخية والجماهيرية، وكأن عقائد الناس والتزاماتها الدينية عائقٌ أمام التقدُّم والحداثة العلمية، وتحقُّق التنمية الحقيقية والازدهار التنموي للفرد والمجتمع، مع أن هذه العقائد نفسها وإيمان الناس نفسه هو الذي يفترض أن يكون منبعاً ومحرِّكاً للسياسة وقِيَم السياسة ذاتها؛ إذ كيف يمكن الحصول على الولاء والشرعية الطبيعية من دون استجابةٍ واعية لهذه القِيَم ولمَنْ يؤمن بها، وهي بذاتها أضحَتْ هويّةً للفرد والمجتمع ككلّ، بحيث إنه لا يمكن ممارسة السياسة أصلاً من دون هويّةٍ وقيمة هوياتية صحيحة وأصيلة راسخة في معتقدات الناس ونسيجها الحضاري القِيَمي. فلا معنى إذن للعلمانية وفقاً لما يطرحونها، كما جاءَتْ في الفكر الغربي، ويريدون تطبيقها بقوّةٍ في مجالنا السياسي والاجتماعي الإسلامي، من حيث إنها تحريرٌ للدولة من سيطرة رجال الدين (سلطة رجال الكنيسة)، وتحرير العقل والوعي من الاستلاب والتَّبَعية للقِيَم الغيبية والسِّحرية؛ لأنها عندنا لا تعني سوى تحرير الدولة من سلطة الحاكم المستبدّ المطلق، وإحياء القِيَم الدينية والتراث الروحي، كإطارٍ للتجديد وتحقُّق فعل التنمية الصحيحة. والخطأ الكبير الذي وقع فيه المفكِّرون العلمانيون، ولا يزالون يقعون فيه، في الغرب والشرق على السواء ـ كما يقول برهان غليون([22]) ـ، هو تحويل العلمانية إلى قيمةٍ أو مصدرٍ لقِيَم السياسة (بحيث يتمّ التنصُّل من قِيَم المجتمع وقِيَمه وتراثه)، والحال أنّ العلمانية لم تقدِّم قِيَماً خاصّة للسياسة، وليس بإمكانها أن تقدِّم القِيَم الضرورية لها، ولا أن تصنع لنفسها قِيَماً مناقضة أو مغايرة لقِيَم المجتمع التاريخية، أو أن تكون منبعاً لقِيَم جديدة متميِّزة. هذه القِيَم تأتي من العقل المنفتح، ومن النقل المكرّس لقِيَم إنسانية دائمة وأبدية. وتتشارك الأديان ـ بما تقدِّمه من معنىً وقِيَم وأخلاق ـ في خلقها وإبداعها، وهي ليست محلّ سجالٍ ونزاع أو موضع خلاف دنيوي، وليست مجال إبداع وتطوير واجتهاد، بل هي ـ بعكس المعارف العلمية ـ مبادئ رصينة ومعيارية. وكلّ ما يحصل لها ـ في سياق تطبيقاتها العملية ـ هو إعادة صياغة وتجديد؛ لأنّ منبعها الثقافة الدينية ورأسمال المجتمع الروحي الديني، ومادّتها الوحيدة هي التضامن والأخوة الإنسانية.
الهوامش
(*) باحثٌ وكاتبٌ في الفكر العربيّ والإسلاميّ. من سوريا.
([1]) المعجم الوسيط: 204، مجمع اللغة العربية، مكتبة الشروق الدولية،القاهرة، ط4، 2004م.
([2]) «secularism», Cambridge Dictionary, Retrieved 7 ـ 4 ـ 2017. Edited.
([3]) العلمانية بالإنكليزية، الموسوعة الكاثوليكية، 28 نيسان 2011.
([4]) جورج مينوا، «الكنيسة والعلم»: 336، دار الأهالي، سوريا ـ دمشق، طبعة 2005م.
([5]) كارين آرمسترونغ، «النـزعات الأصوليّة في اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام»: 39، دار الكلمة، سوريا ـ دمشق، طبعة 2005م.
([6]) النـزعات الأصوليّة في اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام: 102.
([7]) العلمانية بالإنكليزية، المصدر السابق.
https:marefa.org
([9]) «Secular, Secularism, Secularization», Encyclopedia.com, Retrieved 7 ـ 4 ـ 2017. Edited.
([10]) هنري بينا ـ رويث، «ماهي العلمانية؟»: 144، ترجمة: ريم منصور الأطرش، سوريا ـ دمشق، المؤسّسة العربية للتحديث الفكري، طبعة 2005م.
([11]) معجم المعاني الجامع، الرابط:
https:www.almaany.com.ar.dict.ar.ar.%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9
([12]) الخليل بن أحمد الفراهيدي، «كتاب العين» 2: 61 ـ 62، ترتيب وتحقيق: د. عبد الحميد الهنداوي، لبنان ـ بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 2003م.
([13]) عبد الجبّار الرفاعي، «تمهيد لدراسة فلسفة الدين»: 15، مركز دراسات فلسفة الدين ـ بغداد، دار التنوير بيروت، ط1، 2014م.
([14]) جورج قرم، «تعدّد الأديان وأنظمة الحكم»: 125، دار الفارابي، لبنان ـ بيروت، طبعة 2011م.
([15]) ابن أبي الحديد المعتزلي، «شرح نهج البلاغة»: 45، الخطبة رقم 1، تحقيق: محمد إبراهيم، دار الأميرة، لبنان ـ بيروت، طبعة 2007م.
([16]) طبعاً علينا أن نقرّ بالمقابل أن كثيراً من هؤلاء النُّخْبة الملتزمة علمانياً (ورغم قساوة بعضهم في هجومهم على الدين عموماً، والإسلام خصوصاً) لم يطالبوا (من خلال قناعتهم وإيمانهم بفكرة العلمانية) سوى بإشاعة مناخات الحرّية والديمقراطية والدعوة لإقامة حكم المواطنة الصالحة، ونبذ العنف والطائفية، واعتبار ذلك مقدّمةً لإقامة ما أسمَوْه بالسلطة المدنية أو الحكم المدني القائم على تعميم الحرّيات، وتداول الحكم سلمياً وديمقراطياً عبر آلية الانتخابات الدَّوْرية النـزيهة.
([17]) حديث أشهر من نار على علم، رواه البخاري في «الأدب المفرد» رقم (273)؛ وابن سعد في «الطبقات» 1: 192، وأحمد في المسند 2: 318.
([18]) السيد محمد باقر الصدر، «الإسلام يقود الحياة»: 9، منشورات وزارة الثقافة الإيرانية، طبعة 1982م.
([19]) محمد محفوظ، «الإسلام والدولة المدنية»، مركز آفاق للدراسات والبحوث، تاريخ النشر: 17 ـ 2 ـ 2012م. الرابط:
https: aafaqcenter.com-index.phpـpost-1041
([20]) ماجد الغرباوي، «الموقف من العلمانية»، صحيفة المثقَّف، العدد 3963، تاريخ: 12 ـ 7 ـ 2017م.الرابط:
http: ns1.almothaqaf.com-cـc1dـ2ـ918586
([21]) وبالاستتباع هناك مَنْ يحمل الدين مسؤولية الفشل التنموي الذي طال بلداننا. والحقّ يقال: إن الدين لا علاقة له بما حدث من فشلٍ وفساد تنموي، مهما كانت بنيته الفكرية والعملية، والمسؤول هو السياسة والقيادة التي استلمت الحكم، ورهنت القرار بذاتها، آخذةً على عاتقها مهام التنظيم والتوزيع والاستثمار، وإدارة مؤسّسات المجتمع ومختلف هياكله الإدارية. والسياسات الراهنة للقيادات القائمة هي نفسها المسؤولة عن هذا الحطام المادّي والخراب الروحي الهائل، وعن تدهور الأوضاع الدينية والسياسية الدينية عموماً إلى ما عليها اليوم، بما في ذلك من إعاقة حركة التجديد الديني، وحرمان الدين من إمكانيات التطوّر العقلاني والروحي.
([22]) برهان غليون، «نقد السياسة…، الدين والدولة»: 409، المؤسّسة العربية للدراسات والنشر، لبنان ـ بيروت، ط2، 1993م.