د. أبو القاسم فنائي(*)
ج ـ أنواع المعرفة
يُفْهَم من كلمات الدكتور سروش في القبض والبسط أنه لا وجود إلاّ لنوعين من المعرفة، وهما: أوّلاً: «أنطولوجيا العلم» (المعرفة السابقة)؛ وثانياً: «فلسفة العلم» (المعرفة اللاحقة).
ولكنْ يبدو أن حصر المعرفة بهذين النوعين إنما يأتي في سياق رفع الموانع الماثلة أمام فهم نظرية القبض والبسط، والإجابة عن بعض الانتقادات التي تتجاهل وجود المعرفة اللاحقة، واختلافها عن المعرفة السابقة. وعلى الرغم من ذلك هناك نوعٌ ثالث من المعرفة لا نرى له ذكراً في القبض والبسط، في حين أن أهمّية هذا النوع من المعرفة وارتباطها بالتحوّل المعرفي ليس بأقلّ من أهمّية المعرفة اللاحقة بالمعنى المنشود للدكتور سروش. وحتّى إذا لم يكن هذا النوع المعرفي متّصلاً بتحوّل المعرفة الدينية مع ذلك كانت تجدر الإشارة إليه، ولو لمجرّد بيان سبب عدم ارتباطه بها. وبطبيعة الحال فإن الدكتور سروش لا ينفي وجود هذا النوع من المعرفة صراحةً، ولكنه في الوقت نفسه لا يأتي على ذكره([1]). يبدو بالنسبة لنا أن بيان هذا النوع من المعرفة ودَوْرها وأهمّيتها في نظرية القبض والبسط ضرورياً.
وكما رأينا من قبلُ فإن نظرية القبض والبسط تتألَّف من ثلاثة أركان، وهي: «التوصيف»؛ و«التفسير»؛ و«التوصية». وكما سندرك قريباً فإن الركن الأول والثاني من هذه النظرية يمثِّل جزءاً من مباحث فلسفة العلم، ولكنْ يمكن لنا أن نثبت أن الركن الثالث من هذه النظرية، والذي لم يَحْظَ بالشرح والبسط الكافي، خلافاً للركنين الأولين، يتعلَّق بنوعٍ آخر من المعرفة، أو أنه في الحدّ الأدنى يقتضي اتخاذ موقفٍ واضح في ما يتعلَّق ببعض مباحث هذا النوع من المعرفة. ومضافاً إلى ذلك فإن الكثير من الروابط التي يبحثها الدكتور سروش في القبض والبسط، ويسعى من خلالها إلى تأييد ركن التفسير من هذه النظرية، الذي يمثِّل قلبها النابض، إنما يتعلَّق في الحقيقة بمعرفة النوع الثالث.
في الفلسفة التحليلية للغرب يتمّ تناول الأبحاث المتعلقة بالعلم والمعرفة بشكلٍ رئيس ضمن ثلاثة فروع في الفلسفة. حيث يُعبَّر عن الفرع الأول بمصطلح (فلسفة العلم)([2])؛ وعن الفرع الثاني بمصطلح (علم المعرفة)([3]) أو (نظرية المعرفة)([4])؛ وعن الفرع الثالث بمصطلح (فلسفة الذهن)([5]).
إن البيان التفصيلي الذي يقدِّمه الدكتور سروش في مقام الفصل والتفكيك بين المعرفة السابقة والمعرفة اللاحقة يثبت أنه يرى «المعرفة اللاحقة بوصفها معادلةً لمصطلح (فلسفة العلم)»([6]).
لا كلام في دلالة عبارة (فلسفة العلم) على نوعٍ من المعرفة، كما لا كلام في اعتبار مصطلح «علم المعرفة» مرادفاً مناسباً لهذه العبارة أيضاً (وعلى حدّ تعبير القدماء: لا مشاحّة في الاصطلاح). ولكنْ من الأفضل ـ للمنع من الغموض ـ أن نشير إلى هذا النوع من المعرفة بعبارة «فلسفة العلم»، وأن نستخدم تعبير «علم المعرفة»، بوصفه مرادفاً لما يصطلح عليه في اللغة الإنجليزية بالـ (epistemology) أو (theory of knowledge).
إن فلسفة العلم ـ أو المعرفة اللاحقة، على حدّ تعبير الدكتور سروش ـ لا تحتاج إلى مزيدٍ من التوضيح؛ لأن خصائص هذا الفرع من الفلسفة قد أشبعت بالشرح والتفصيل في القبض والبسط وسائر مؤلَّفات الدكتور سروش. إنما الذي يحتاج إلى المزيد من التوضيح هو المعرفة من النوع الثالث أو الـ (epistemology)، وفي حدود معرفتي لا يمكن العثور على بيانٍ واضح لها في مؤلَّفات سروش، سواء في ذلك القبض والبسط أو سائر أعماله المطبوعة الأخرى.
إن موضوع الأبحاث المعرفية بهذا المعنى عبارةٌ عن «العلم الموضوعي»([7]) أو «التصديق»([8])، بحَسَب مصطلح الحكماء والفلاسفة المسلمين، والذي هو نوعٌ خاص من «العلم الحصولي». وإن القائمة التالية تشير إلى أهمّ أبحاث هذا الفرع من الفلسفة:
1ـ تعريف وتحليل مفهوم «العلم»([9]).
2ـ تعريف وتحليل مفهوم «التبرير»([10]).
3ـ بيان «تركيبة» المعرفة والتبرير.
4ـ إمكان المعرفة والتبرير، أو دراسة ونقد التشكيك.
5ـ مساحة أو موضوع المعرفة، ومصادرها.
وإن بعض الأسئلة الأساسية لهذا النوع من المعرفة عبارةٌ عن: «ما هي المعرفة؟»، و«ما هو التبرير؟»، و«هل نحن نعلم؟»، و«كيف نعلم؟»، و«ما هو مقدار علمنا؟».
إن هذا النوع من المعرفة هو العلم المرادف لما يُصطلح عليه في الإنجليزية بـ (knowledge)، وبوصفه صفةً لبعض «القضايا» أو المتبنّيات القائمة في ذهن آحاد الأفراد، لا بوصفه اسماً لـ «فرع» أو «مجال» علميّ (discipline)، والذي هو حصيلة النشاط القائم والجماعي للعلماء، ويكون موضوعاً لدراسة (فلسفة العلم)([11]). في المعرفة بهذا المعنى يدور البحث حول ما هي القضية أو المعتقد الذي يمكن عدُّه علماً؟ أو ما هي القضية أو المعتقد الذي يمكن اعتباره مبرّراً؟
إن أحد أهمّ أبحاث هذا النوع من المعرفة هو بحث التشكيك، أو إمكان المعرفة والتبرير. وينقسم التشكيك إلى نوعين: «عامّ»([12])؛ و«خاصّ»([13]).
وإن التشكيك العامّ ينكر جميع أنواع المعرفة أو التبرير، أو أنه يجيز التشكيك فيها؛ وأما التشكيك الخاصّ فينكر مجرّد إمكان نوعٍ خاصّ من المعرفة، أو إمكان تبرير نوعٍ خاصّ من المعتقدات.
فعلى سبيل المثال: إن التشكيك في مجال وجود العالم الخارج عن الذهن ينكر إمكان العلم بالعالم الخارجي أو إمكان تبرير المتبنّيات المتعلّقة بهذا العالم، وإن التشكيك الأخلاقي ينكر إمكان العلم بالقِيَم والضرورات والمحظورات الأخلاقية، أو إمكان تبرير المتبنّيات الأخلاقية.
هناك بين علماء المعرفة خلافٌ بشأن ما إذا كان هذاالسؤال هو من نوع المعرفة «اللاحقة» أو هو من نوع المعرفة «السابقة». ويذهب جُلُّهم إلى القول بأن المعرفة علمٌ «معياري»([14]) أو «قِيَمي»([15])، يبحث فيه عن المعايير والقِيَم، أو الفضائل والرذائل المعرفية، أو عن معايير تقييم المعتقدات أو المتبنّيات، وهي المعايير أو القِيَم التي من الأفضل أن تكون بوصلتنا في القول بشيءٍ أو رفضه، والتي يجب علينا أو يحسن بنا اتّباعها من الناحية العقلانية، أو الفضائل والرذائل التي يحسن أن نعمل على تنميتها وتطويرها في وجودنا أو أن نطهِّر أنفسنا من دَنَسها.
طبقاً لهذا التوضيح تكون المعرفة شبيهةً بفلسفة الأخلاق، مع فارق أن فلسفة الأخلاق تبحث في مجال القِيَم والمعايير (الضرورات والمحظورات) ناظرةً إلى السلوك الجسدي أو الفضائل والرذائل النفسية بوصفها منشأً للسلوك الجسدي، في حين أن الموضوع المبحوث في المعرفة عبارةٌ عن القِيَم والمعايير الناظرة إلى التعقُّل وكسب المعرفة وتبرير المعتقدات. وعليه فإن موضوع القِيَم والمعايير المعرفية عبارةٌ عن أنواع خاصّة من السلوكيات الذهنية والنفسية، من قبيل: التفكير والاعتقاد أو عدم الاعتقاد، أو تصديق القضايا أو تكذيبها. في فلسفة الأخلاق يتمّ البحث عن الفضائل والرذائل «الأخلاقية»، وفي المعرفة يتمّ البحث عن الفضائل والرذائل «العقلانية». إن فلسفة الأخلاق تقول لنا: ما هو العمل الصالح؟ وما هو العمل القبيح؟ أو ما هو العمل الصائب؟ وما هو العمل الخاطئ؟ وأنه أساساً ما هو معنى الحُسْن والقُبْح، والصحيح والخطأ؟ وما هي طبيعة هذه الأمور؟ أما المعرفة فتقول لنا: ما هو المعتقد المبرّر؟ وما هو المعتقد غير المبرّر؟ وما هي القضية التي يحقّ لنا أو يجب علينا أو يحسن بنا أن نؤمن بها أو نرفضها؟ ومن الناحية المعرفية ما هو الشيء الذي يُعَدّ فضيلةً؟ وما هو الشيء الذي يُعَدّ رذيلةً؟
وفي مثل هذه الحالة يمكن للمعرفة أن تكون علماً «سابقاً» أو مقدّماً على التجربة «الحسّية»، ويكون أسلوب التحقيق فيها عبارة عن التفكير والتأمُّل العقلاني حول المشاهدات المعرفية والتبويب المنهجي لهذه المشاهدات. أو بعبارةٍ أخرى: تفسير التجارب المعرفية؛ للوصول إلى نظريةٍ منسجمة ومتناغمة مع المشاهدات والتجارب الناظرة إلى العلم والتبرير والمقولات ذات الصلة. تلعب المشاهدات العقلانية في المعرفة (وكذلك فلسفة الأخلاق) تقريباً دَوْر التجربة الحسّية في العلوم التجريبية، رغم اختلاف علماء المعرفة (وفلاسفة الأخلاق) بشأن تفسير هذه المشاهدات وموقعها وقيمتها واعتبارها المعرفي، وكذلك طريقة توظيفها.
وهناك جماعةٌ أخرى من علماء المعرفة تذهب ـ تَبَعاً لـ (كواين) ـ إلى التنزُّل بـ «المعرفة» إلى مستوى «علم النفس المعرفي»([16]). وطبقاً لهذه الرؤية التي تسمّى بـ «المعرفة المستطبعة»([17]) تكتسب المعرفة خصوصيةً «توصيفية»([18])، وتدخل في زمرة العلوم التجريبية، وتغدو علماً «لاحقاً» ومتأخِّراً عن التجربة «الحسّية». يذهب (كواين) إلى الاعتقاد بأن علم المعرفة فصلٌ من علم النفس التجريبي.
وعليه فإن تسمية المعرفة ووصفها باللاحقة أو السابقة بالمعنى الثالث رهنٌ بذهابنا إلى القول بأيّ واحدةٍ من هاتين الرؤيتين المذكورتين بشأن ماهيّة هذا الفرع. ولكنْ أيّ هاتين الرؤيتين نختارها سنصل إلى نوعٍ من المعرفة السابقة أو اللاحقة تختلف عمّا يقدِّمه الدكتور سروش باسم المعرفة السابقة واللاحقة (أي مع «أنطولوجيا العلم» ومع «فلسفة العلم») اختلافاً كاملاً، ولا يمكن أن يندرج ضمن أيّ واحدٍ من هذين الأمرين. إن أهمّ تفاوتٍ واختلاف للمعرفة بهذا المعنى عن «فلسفة العلم» هو الاختلاف من حيث الموضوع. إن موضوع هذا النوع من المعرفة عبارةٌ عن آحاد القضايا أو المتبنّيات التي تتمتَّع بهويّةٍ «فردية» و«غير تاريخية»، في حين أن موضوع فلسفة العلم هو «الفروع» أو «المجالات» العلمية التي تتمتَّع بهويّةٍ «جماعية» و«سارية» و«تاريخية».
ولا بأس من التذكير هنا بهذه النقطة، وهي أن مصطلح السابق واللاحق في القبض والبسط قد استعمل إلى حدٍّ ما بمعنىً مغاير لمعناهما المتعارف؛ فإن المعنى المتعارف لهذين المصطلحين يستعمل في التقدُّم على التجربة الحسّية، والتأخُّر عن التجربة الحسّية، وتوصيف نوعين مختلفين من العلم أو الاعتقاد أو القضية والحكم. إن العلم والمعتقد والقضية والحكم السابق هو الذي لا يكون اعتباره أو تبريره المعرفي رهناً بالتجربة الحسّية، وإنما يتمّ الحصول عليها وتبريرها من خلال مجرّد «التأمُّل»([19]) و«التدبُّر»([20]) والعقلانية أو «التجربة الذهنية» أو «الاختبار الخيالي»([21]). أما العلم والمعتقد والقضية والحكم اللاحق فهو الذي يكون في قيمته واعتباره المعرفي مديناً للتجربة الحسّية، ويحصل على تبريره من هذه الناحية.
إلاّ أن هذين المصطلحين قد استُعملا في القبض والبسط بمعنىً أخصّ، وهو عبارةٌ عن المعرفة من الدرجة الأولى (العلم)، والمعرفة من الدرجة الثانية (العلم بالعلم). ومن هذه الناحية فإن المعرفة السابقة علمٌ من الدرجة الأولى، لا يتوقَّف تحقُّقه على البسط التاريخي للعلم مورد البحث. وبعكس ذلك المعرفة اللاحقة ـ التي نفضِّل تسميتها بـ (فلسفة العلم) ـ، فهي نوعُ علمٍ يتوقَّف وجوده على التحقُّق الخارجي والبسط التاريخي للعلم مورد البحث. طبقاً لهذا المعنى من السابق واللاحق يجب عَدُّ «علم المعرفة» نوعاً من المعرفة السابقة؛ إذ حتّى لو كان هذا النوع من المعرفة نوعاً من العلم التجريبي ـ كما يدّعي كواين ـ فإنه لا يتوقَّف على البسط التاريخي للعلم ودراسة تاريخ العلم، رغم توقُّفه على التجربة وتأخُّره عنها. وكما أشَرْنا سابقاً فإن موضوع دراسة المعرفة بهذا المعنى ليست علماً بمعنى المجال العلمي المشتمل على هوية سارية وجماعية ومستقلّة عن العلماء، بل هو آحاد القضايا والمتبنّيات الموجودة في أذهان الأفراد. وطبقاً لهذا المعنى من المعرفة السابقة واللاحقة يمكن اعتبار علم المعرفة علماً من الدرجة الثانية، الذي يكون موضوعه ـ أو في الحدّ الأدنى أحد موضوعاته الأصلية ـ عبارةً عن العلم بمعنى القضية أو المتبنّى، الذي هو حالةٌ نفسيّة، وليس العلم بمعنى المجال أو الفرع العلمي. وعليه يمكن أن يكون هناك نوعٌ من المعرفة التي تكون من سنخ العلوم من الدرجة الثانية، رغم كونها من المعرفة السابقة([22]).
تنقسم الإبستيمولوجيا أو علم المعرفة إلى قسمين أو نوعين، وهما: العامّة؛ والخاصّة. وفي المعرفة العامة يتمّ بحث مطلق المتبنّيات والقضايا، في حين أن المعرفة الخاصة تبحث نوعاً خاصّاً من المتبنّيات أو القضايا.
فعلى سبيل المثال: إن معرفة الدين تبحث في قيمة واعتبار أو التبرير المعرفي للمتبنّيات والقضايا الدينية، وإمكان وأسلوب تبرير هذه المتبنّيات، وكذلك بشأن التشكيك الديني. ومعرفة الأخلاق تبحث بشأن قِيَم واعتبار أو التبرير المعرفي للقضايا والمتبنّيات الأخلاقية، وإمكان وأسلوب تبريرها، وكذلك في مورد خصوص التشكيك الأخلاقي. إن معرفة الدين بهذا المعنى هي غير معرفة الدين بالمعنى المنظور للدكتور سروش. فإن الدكتور سروش يشير بمعرفة الدين إلى نوعٍ أو قسم من «فلسفة العلم»، يكون موضوعه المعرفة الدينية بوصفها «فرعاً» أو «قسماً» من المعرفة، في حين أن المعرفة الدينية بالمعنى المتقدِّم ناظرةٌ إلى آحاد المتبنّيات والقضايا الدينية الناظرة إلى مجموعة الأفهام والمدركات وتفسيرات العلماء للدين من مصادر المعرفة الدينية.
هناك في ما يتعلّق بطبيعة وماهية المعايير المعرفية ثلاثة آراء جوهرية:
الرأي الأوّل: «النزعة الوظائفية»([23])، وهي الرؤية التي تبرِّر المعرفة في إطار امتثال الوظائف التي تقع في مقام اكتساب المعرفة على عاتق «المعرّف»([24]). وطبقاً لهذه الرؤية تكون المعايير المعرفية من سنخ الضرورات والمحظورات والأوامر والنواهي والإلزامات، وتعمل على بيان أو إبراز وظائفنا العقلانية في مقام قبول أو رفض القضايا والمتبنّيات. وإن أحد أهم الممثِّلين لهذا المنهج الفكري في المعرفة المعاصرة هو (تشيز هولم)([25]).
الرأي الثاني: هو الرأي «غير الوظائفي»([26])، وإنه ينكر إمكان تعريف التوجيه المعرفي في الإطار المذكور، ويرى أن المعايير المعرفية لا تبيِّن «الوظائف» الناظرة إلى قبول أو تقييم المتبنّيات. ويُعتبر (ألستون)([27]) من أبرز المدافعين عن هذه الرؤية([28]).
إن هاتين الرؤيتين «تتمحوران حول الاعتقاد»([29])، بمعنى أنهما يدَّعيان أن موضوع التقييمات المعرفية هو «الاعتقاد» أو «المعرفة»، وليس «المعتقِد» أو «المعرِّف».
الرأي الثالث: «المتمحور حول الفضيلة»([30])، يقول: إن أهمّ مفهوم في علم المعرفة هو مفهوم «الفضيلة» و«الرذيلة» المعرفية، أو في الحدّ الأدنى يجب على الفضائل والرذائل المعرفية أن تشكِّل جزءاً من أبحاثها المعرفية. تسعى جماعةٌ من علماء المعرفة، الذين ينزعون إلى الفضيلة من خلال تعريف سائر المفاهيم المعرفية، مثل: مفهوم التبرير والاعتقاد، في إطار الفضائل المعرفية، ترى هذه الجماعة أن المعرفة التي تتمحور حول الفضيلة تشكِّل موضوع التقييمات المعرفية أوّلاً وبالذات من قِبَل «المعتقِد» أو «المعرِّف»، دون «الاعتقاد» أو «المعرَّف». وإن أحد أهمّ الممثِّلين البارزين لهذه الرؤية في المعرفة المعاصرة هي (ليندا زاغسبسكي)([31]).
إن هذه الآراء الثلاثة متناظرةٌ مع الآراء المشابهة لها في فلسفة الأخلاق؛ إذ هناك بشأن ماهية المعايير الأخلاقية ثلاثة آراء أساسية في فلسفة الأخلاق أيضاً. طبقاً للرأي الأول، المعروف بـ «النزعة الوظائفية الأخلاقية»([32])، لا تكون الضرورات والمحظورات الأخلاقية تابعةً لنتائج العمل دائماً، وإن النتائج الحَسَنة والسيِّئة إنما تعتبر واحدةً من الملاحظات التي تُضاف إلى سائر الملاحظات الأخرى، التي تلعب دَوْراً في تحديد الوظيفة الأخلاقية. ومن أبرز المدافعين عن هذا الرأي (عمانوئيل كانْت).
والرأي الآخر، المعروف بـ «الاستنتاجية الأخلاقية»([33])، يقول: إن الضرورات والمحظورات الأخلاقية أو صوابية وخطأ الأعمال تابعةٌ لنتائجها الحَسَنة والسيِّئة تماماً، وليس هناك عملٌ يتَّصف من الناحية الأخلاقية بأنه واجبٌ أو محظور أو صائب أو خاطئ بغضّ النظر عن نتائجه. إن (جيرمي بينتام) و(ستيورات ميل) من المؤسِّسين لروايةٍ خاصة عن «الاستنتاجية» باسم «مذهب المنفعة»([34]).
إن كلاًّ من الوظائفيين والاستنتناجيين «يتمحوران حول العمل»، بمعنى أنهما يذهبان إلى الاعتقاد بأن موضوع التقييم الأخلاقي هو العمل.
والرأي الثالث، المعروف بـ «أخلاق الفضيلة»([35])، يقول: إن موضوع التقييمات الأخلاقية هي أوّلاً وبالذات فضائل ورذائل نفسيّة، وهي منشأ العمل، وليست العمل نفسه، وإن الحكم الأخلاقي للعمل تابعٌ للخصائص النفسيّة لفاعل ذلك العمل. ويُعَدّ (أرسطوطاليس) من أبرز المدافعين عن أخلاق الفضيلة.
وأما المعرفة من النوع الثالث أو الإبستيمولوجيا فيقع السؤال فيها عن الدَّوْر الذي تلعبه هنا؟ في تصوُّرنا إن هذا النوع من المعرفة مرتبطٌ بمحلّ بحثنا بشكلٍ كامل. وإن بعض الأدلّة التي يمكن إقامتها لصالح هذا المدَّعى هي:
أوّلاً: التحوُّل العلمي، وعلى الخصوص إذا كان من نوعه الثوري، مَدينٌ إلى حدٍّ كبير إلى تحوُّل المعايير والقِيَم المعرفية التي تعمل على توجيه التحقيق العلمي وتنظيم سلوك العلماء. إن القِيَم المعرفية السائدة والمهيمنة على سلوك العلماء في دائرة البحث والتحقيق إنما تتبلور في مسار التحقيق، وما لم تتغيَّر هذه القِيَم فمن العبث توقُّع التغيير والتحوُّل الجَذْري والجوهري والبنيوي في العلم. وحتّى إذا حصل تغيُّر وتحوُّل في سائر فروع المعرفة فإن ذلك التغيُّر والتحوُّل إنما سيؤثِّر في العلم مورد البحث فيما لو سمحت القِيَم المعرفية المقبولة لدى العلماء في ذلك العلم، أو أعلنت عن وجوب توظيف معطيات ونتائج سائر العلوم في العلم مورد البحث.
أرى أن هذه مسألة في غاية الأهمّية، ولكنّها لم تستَوْفِ حقَّها بالشرح والتفصيل في نظرية القبض والبسط كما ينبغي. وبطبيعة الحال فإن المدّعى العام لنظرية القبض والبسط، التي ترى في تحوُّل المعرفة الدينية تابعاً بشكلٍ عامّ لتحوّل المعارف غير الدينية، يشمل تحوُّل القِيَم المعرفية أيضاً؛ لأن هذه القِيَم بدَوْرها تمثِّل جزءاً من المعارف غير الدينية أيضاً. إلاّ أن هذه القِيَم تلعب دَوْراً خاصّاً وفريداً في هذا الشأن؛ إذ لو أراد التحوُّل في سائر المعارف البشرية أن يكون مؤثِّراً في المعارف الدينية فلا بُدَّ للمعايير المعرفية المقبولة لدى علماء الدين أن تأذن بذلك. وعلى هذا فإن مجرّد التحوُّل في المعارف غير الدينية، ما دامت القِيَم المعرفية لعلماء الدين لم تتحوَّل بَعْدُ، لن يكون لها تأثيرٌ واعٍ واختياري في تحوُّل المعرفة الدينية. وعلى المصلح الديني في الدرجة الأولى أن يركِّز هِمَّته على مجرّد إصلاح القِيَم المعرفية المهيمنة على السلوك العلمي لعلماء الدين.
إن مشكلة علماء الدين لا تقتصر على مجرّد عدم فهمهم لعلوم العصر فقط، بل إنهم حتّى لو فهموا هذه العلوم لن يعملوا على توظيفها في فهم الشريعة؛ لأن القِيَم المعرفية التي يتَّبعونها في فهم الشريعة لا تسمح بتوظيف هذه العلوم في فهم الشريعة؛ فإن القِيَم والضرورات والمحظورات المعرفية هي التي تقول لعلماء الدين ما هي ضرورات (ومحظورات) العلوم غير الدينية التي يجب تعلُّمها؟ وما هي الضرورات (والمحظورات) التي يجب توظيفها في هذه العلوم؟ وما هي ضرورات (ومحظورات) فهمهم للنصوص الدينية، التي يجب مقارنتها مع معطيات هذه العلوم؟ وكيف يجب استهلاك تلك المعطيات إذا اقتضَتْ الضرورة؟ وإن الاختلاف والاضطراب والتشويش الذي نراه في الإعلان الديني تجاه التحوُّلات الحاصلة في العلوم البشرية يعود بشكلٍ رئيس إلى اختلاف آرائهم في ما يتعلّق بالقِيَم المعرفية.
فعلى سبيل المثال: لو أخذنا بنظر الاعتبار الرأي المعرفي القائل بأصالة أو حجّية الظهور، والذي يقول بأن العقلاء يبنون على حجّية ظاهر الألفاظ ما لم تقُمْ قرينةٌ «قطعية» على الخلاف، فلو ضمَمْنا هذه القاعدة إلى الرأي المعرفي الآخر، الذي يرى ظنّية العلوم التجريبية، فإن النتيجة التي سنصل إليها هي وجوب عدم وجود أيّ دَوْر للعلوم التجريبية في فهم الشريعة، وأن علينا أن لا نرفع اليد عن ظاهر النصوص الدينية اعتماداً على نتائج العلوم التجريبية. وعليه فإن علماء الدين، حتّى إذا كانوا متخصِّصين في مجال العلوم التجريبية، لا يحقّ لهم أن يوظِّفوا معطيات هذه العلوم في فهم الشريعة. إن هذا «الحَظْر» المعرفي يحول دون الاهتمام الجادّ والمناسب لعلماء الدين بالعلوم التجريبية، كما أنه يمنع من توظيف معطيات هذه العلوم في فهم وتفسير الشريعة، حتّى إذا كان العالم الديني متخصِّصاً وعالماً بتلك العلوم.
وعليه ما لم يتمّ التصرُّف في هذه القِيَم المعرفية فإن مجرّد التعرُّف على العلوم غير الدينية ـ مهما كان معمَّقاً وتخصُّصياً ـ لن يجدي نفعاً. وهكذا يمكن لنا أن نستنتج أن المشكلة التي تواجهنا في مقام عصرنة المعرفة الدينية قبل أن تكون ناشئة عن «فلسفة العلم» تنشأ عن «علم العرفة».
وثانياً: يمكن العثور على الكثير من علماء الدين الذين يتمتَّعون باطّلاعٍ واسع على معلومات غير دينية متنوِّعة، وفي الوقت نفسه نرى معارفهم الدينية متشابهة إلى حدٍّ ما، أو أنها لا تختلف فيما بينها اختلافاً ملحوظاً. وهذا خيرُ شاهدٍ على نقض نظرية القبض والبسط؛ لأن نظرية القبض والبسط ترى أن تأثير المعرفة البشرية على المعرفة الدينية أمرٌ «قهريٌّ» و«لا إراديّ»، وتدَّعي أن المعرفة البشريّة إذا تحوَّلت لدى شخصٍ فإن معرفته الدينية سوف تتغيَّر، شاء ذلك أم أبى. وبطبيعة الحال لا أنكر أن بعض التواصل بين المعرفة البشرية والمعرفة الدينية قهريٌّ، ولا إرادي، وخارجٌ عن سيطرة البشر، ولكنّي لا أتَّفق مع الرأي القائل بأن معرفة الشخص غير الدينية إذا تغيَّرت فإن معرفته الدينية سوف تتغيَّر لا محالة؛ إذ ليس الارتباط بين المعرفتين ترابطاً ضرورياً وقهرياً وغير اختياري دائماً. وبعبارةٍ أخرى: من الأفضل أن نقسِّم ارتباط الفروع المختلفة للمعارف البشرية إلى نوعين: اختياري؛ وغير اختياري، ومناقشة حكم كلّ واحد من هذين القسمين بشكلٍ مستقلّ عن الآخر.
وعليه فإن الشيء الذي تحتاج إليه نظريةٌ مثل: نظرية القبض والبسط ليس هو مجرّد بيان تأثير المعارف البشرية على المعرفة الدينية، وإنما مضافاً إلى ذلك ـ أو قبل ذلك ـ لا بُدَّ من إثبات وجود ضرورة معرفيّة تدعو علماء الدين إلى توظيف المعارف البشرية في المعرفة الدينية، أو تفرض ذلك عليهم، بمعنى أن الموضوع الذي يجب على هذه النظرية أن تثبته هو أن المعارف غير الدينية «يجب» أن تؤثِّر في المعرفة الدينية، لا أن هذه المعارف تؤثِّر في المعرفة الدينية «واقعاً»، ولا أن تاريخ المعرفة الدينية يُثبت أن العلماء السابقين كانوا يقيمون معرفتهم الدينية على أساس معرفتهم غير الدينية. لا يمكن إثبات أو تبرير هذه «الضرورة» المعرفية من خلال مجرَّد دراسة تاريخ المعرفة الدينية، وفي الحقيقة إن إثبات وجود مثل هذا المعيار هو من مهامّ علماء المعرفة؛ إذ تعتبر واحدةً من مسائل علم المعرفة، وليست من مسائل فلسفة العلم، رغم أن اكتشاف مثل هذا المعيار وانتباه العالم المعرفي إلى وجود مثل هذا المعيار يفتقر إلى التعمُّق في تاريخ المعرفة الدينية. وعلى أيّ حالٍ فإن نجاح نظرية القبض والبسط رهنٌ بنقد أخلاق الاجتهاد أو الأخلاق الحاكمة على التفكير والبحث الديني.
وثالثاً: إن فلاسفة العلم إنما يتمكَّنون من اكتشاف التوصيات المنهجيّة ـ التي هي من سنخ المعايير المعرفية ـ بمساعدة النظريات المعرفية، ويعرضونها على العلماء بوصفها المنهج الصحيح في التحقيق العلمي. وإن كون «الضرورات» المنطقية هي غير «الضرورات» الأخلاقية، وأن استنتاج «الضرورات» المنطقية إنما يمكن من «الكينونات»، رأيٌ «معرفي»، وليس من «فلسفة العلم».
ومن هذه الناحية فإن نسبة «فلسفة العلم» إلى «علم المعرفة» هي نسبة المستهلك إلى المنتج. يضطرّ فلاسفة العلم إلى استهلاك النظريات المعرفية، وأن يراعوا شأن القِيَم المعرفية في تحقيقاتهم الفلسفية، وإلاّ فإن نشاطهم العلميّ سيفقد تبريره العقلاني. وعليه يمكن القول من هذه الناحية بتقدُّم علم المعرفة على جميع العلوم والفروع الفلسفية، بما فيها فلسفة العلم أيضاً؛ إذ من دون افتراض المعايير والقِيَم المعرفية لا يمكن وضع حجرٍ على حجرٍ، حتّى في فلسفة العلم نفسها.
د ـ شأن وآلية فلسفة العلم
إن من بين الموضوعات الهامّة الدخيلة في فهم نظرية القبض والبسط، والقول بها، وفي الوقت نفسه لا نعثر على توضيحٍ لها في نظرية القبض والبسط، ارتباطُ «فلسفة العلم» بـ «تاريخ العلم»، أو شأن وآليّة فلسفة العلم. والسؤال هنا: هل شأن فيلسوف العلم هو مجرَّد «توصيف» و«بيان» تاريخ العلم، أو يمكن لفيلسوف العلم، ويحقّ له من الناحية المنطقية، أن يصدر الأوامر والنواهي، ويعمل على إرشاد العلماء إلى أمرٍ أو أسلوبٍ معيَّن؟
هناك اختلافٌ بين فلاسفة العلم في بيان شأن ومنزلة «فلسفة العلم»، واختلافها عن «تاريخ العلم». والبحث يدور حول ما إذا كان لا بُدَّ من تصنيف فلسفة العلم ضمن العلوم «التوصيفية» أم ضمن العلوم «المعيارية» و«التشريعية»، وما إذا كانت مهمة الفلاسفة هي توصيف وبيان ماضي وحاضر العلم أم تقديم النصائح بالنسبة إلى مستقبل العلم. هل فلسفة العلم تبيِّن لنا كيفية «كينونة» العلم، ولماذا هو بهذه الكيفية، أم أنها تبين لنا الكيفية التي يجب للعلم أن يكون عليها؟ بمعنى هل الموضوع الذي يبحثه فلاسفة العلم هو العلم في مقام التعريف (العلم المثالي) أم العلم في مقام التحقُّق (العلم الموجود)؟
ليس هناك بين التوصيف والتبيين أيّ مواجهةٍ وتخالف، بل إنهما يكملان بعضهما. وإذا كان هناك من تقابلٍ فإنه بين التوصيف والتبيين من جهةٍ وبين التوصية من جهةٍ أخرى؛ إذ إن الأمر لا يخرج من إحدى حالتين:
فإما أن تعمل فلسفة العلم على توصيف وتبيين العلم، وفي هذه الحالة ستكون نظريات هذا العلم ناظرةً إلى العلم «الموجود»، وتستخبر وتُخبر عن وضع العلم كما «كان» و«يكون». وفلسفة العلم بهذا المعنى مرتبطةٌ تمام الارتباط بتاريخ العلم، والفرق القائم بينها وبين تاريخ العلم يكمن في أن تاريخ العلم يعمل على مجرَّد توصيف التحوُّلات العلمية، ويعمل على تقريرها وبيانها، في حين أن فلسفة العلم، بالإضافة إلى التوصيف والتقرير، تقدِّم بياناً فلسفياً متناسباً مع تاريخ العلم أيضاً. وعلى حدّ تعبير بعض فلاسفة العلم: إن فلسفة العلم تعمل على إصلاح تاريخ العلم من الناحية «العقلانية»([36]).
أما الحالة الثانية التي يمكن تصوُّرها بشأن ماهية فلسفة العلم فهي القول بأن فلسفة العلم عبارةٌ عن علمٍ معياريّ وتشريعيّ، من قبيل: علم المنطق والمعرفة وفلسفة الأخلاق، ممّا تكون النظريات فيه ناظرةً إلى «العلم المثالي»، وتقول لنا كيف «يجب» للعلم أن يكون؟ في هذه الحالة يشتدّ استناد فلسفة العلم على تاريخ العلم، واستنتاج «الوجوب» من «الكينونة»، والذي يعتبر من قِبَل الكثير من الفلاسفة ـ ومنهم: الدكتور سروش ـ نوعاً من المغالطة المنطقية.
ومن بين الانتقادات التي ذكرها بعض الناقدين على نظرية القبض والبسط هو القول بأننا من خلال دراسة تاريخ علم الفقه وسلوك الفقهاء السابقين ـ على سبيل المثال ـ لا يمكن لنا أن نخرج بأيّ توصيةٍ نقدِّمها للفقهاء المعاصرين، أو الذين سيأتون في المستقبل، والقول لهم بأن عليهم سلوك هذا الطريق في استنباط الأحكام الشرعية. فلو أن الفقهاء السابقين في مقام استنباط الأحكام قد استفادوا من العلوم غير الدينية، واعتمدوا في فتاواهم على نظريّاتٍ علمية أو فلسفية وكلامية، لا يكون لهذا النهج اعتبار أو حجِّية بالنسبة إلى الفقهاء المتأخِّرين. إن دراسة تاريخ العلم من وجهة نظر هؤلاء المنتقدين وإنْ كان يمكن أن تشتمل على بعض الفوائد العرضية التي تنطوي على العِبَر، ولكنْ لا يمكن لها من الناحية المنطقية أن تحمل أيّ توصيةٍ و«ضرورة» أو «محظور» للعلماء المعاصرين أو الآتين في المستقبل. وعليه لا يمكن لكشف منطق العلم من الاستناد إلى تاريخ العلم وسلوك العلماء السابقين؛ لما ينطوي عليه ذلك من المغالطة.
يستنتج هؤلاء الناقدون، من خلال دراستهم، أن كشف منطق علم الفقه أو الضرورات والمحظورات والقِيَم التي يجب أن تعمل على توجيه دفّة الأبحاث الفقهية يجب أن يضطلع بها كلّ فقيهٍ اعتماداً على «تحقيقاته الفقهية» الخاصّة، وإنّه من خلال التحقيقات الفقهية الخاصّة يمكن لكلّ فقيهٍ أن يكتشف لنفسه الضرورات والمحظورات المنطقية والمعرفية الحاكمة على تحقيقاته الفقهية.
وفي معرض الجواب عن هذا النقد يمكن لنا أن نتساءل: ما هو الفرق الفارق بين تاريخ علم الفقه وبين الفقه الذي هو حصيلة استنباط الشخص، بحيث يمكن التوصُّل من خلال الثاني إلى توصياتٍ معرفيّة لا يمكن التوصُّل إليها من خلال الأوّل؟ فلو أن تاريخ الفقه لم يكن يحمل أيّ توصيةٍ للفقهاء اللاحقين فإن فقههم نفسه لن يحتوي على أيّ توصيةٍ في هذا المجال.
لن يكون كلامُ أيّ فيلسوفٍ فقهي حجّةً بالنسبة إلى سائر فلاسفة الفقه، كما لا تكون هناك حجِّيةٌ لكلام أيّ فقيهٍ بالنسبة إلى الفقهاء الآخرين. وأما إذا لم يكن الفقيه المتخصِّص في الفقه متخصِّصاً في فلسفة الفقه، كما هو الحال في الغالب، لن يكون هناك أمام هذا الفقيه من طريقٍ سوى الرجوع في هذا المجال إلى فلاسفة الفقه، وسيكون رأي هؤلاء الفلاسفة حجّةً في حقِّه. صحيحٌ أن فتوى الفقيه ومنهجه ليس حجّةً بالنسبة إلى الفقيه الآخر، إلاّ أن فتوى فيلسوف علم الفقه حجّةٌ في حقّ الفقيه الذي هو ليس بفيلسوفٍ في علم الفقه، كما يكون تشخيص الطبيب في دائرة علاج الأمراض حجّةً في حقّ الفقيه غير المتخصِّص في علم الطبّ، وكما يكون رأي المتخصِّص في الموضوعات حجّةً في حقّ الفقهاء غير المتخصِّصين في مجال موضوعات الأحكام. إن أهمّ دليلٍ على حجِّية فتاوى الفقهاء في حقّ المقلِّدين هو السيرة العقلائية القائمة على وجوب رجوع الجاهل إلى العالم، ولا خصوصية في ذلك لعلم الفقه من وجهة نظر العقلاء، بل تشمل رجوع كلّ جاهلٍ إلى أيّ عالمٍ متخصِّص في سائر العلوم، ومن بينها: فلسفة الفقه، وفلسفة علم الدين أيضاً.
قد يُدَّعى بأن فلسفة الفقه من المقدّمات الضرورية لعلم الفقه، والذي لا يكون متبحِّراً أو متخصِّصاً في فلسفة الفقه لا يمكن أن يكون فقيهاً.
وجوابنا: إنه لا يوجد أيُّ تلازمٍ بين هذين الأمرين، كما هو الحال بين العلوم الأخرى وفلسفة تلك العلوم، في حين أن فلسفة كلّ علمٍ من مبادئ ذلك العلم. إن مهمّة العلماء عبارةٌ عن تطبيق قواعد فلسفة العلم، واتّباع تلك القواعد في مقام التحقيق العلميّ، وليس إثبات وتأييد ونقض وإبرام تلك القاعدة ذاتها. وبطبيعة الحال فإن الاطّلاع على فلسفة علمٍ من العلوم تمنح العالم فهماً أكثر عُمْقاً لذلك العلم. يمكن القول: إن الفقيه الذي لا يكون فيلسوفاً في الفقه لا يكون فقيهاً ضليعاً ومثالياً، ولكنْ لا يمكن القول: إن الذي لا يكون فيلسوفاً في الفقه لا يمكن أن يكون فقيهاً، كما لا يمكن القول: إن غير الفقيه لا يمكن أن يكون فيلسوفاً في الفقه. فلا ملازمة بين هذين القولين. لا يمكن اعتبار الفقه المثالي وفلسفة الفقه المثالية أمراً مساوياً للفقه الراهن وفلسفة الفقه الراهنة. فالكمال المنشود يكمن في أن يكون الفقيه فيلسوفاً في الفقه أيضاً، وأن يكون لفلاسفة الفقه اضطلاعٌ في الفقه أيضاً، ولكنْ لا يمكن إنكار إمكانيّة الفصل بين هاتين المقولتين.
الإشكال الآخر الذي يمكن إيراده على هذا القول هو أن هذا الاستدلال لو كان تامّاً فإن النتيجة التي يمكن الحصول عليها لا تكمن في أن الوصول إلى «فلسفة الفقه» يتوقَّف من الناحية العملية على التحقيق في «الفقه». فلو كان ذلك الاستدلال تامّاً فإنه سيدلّ على هذه النتيجة، وهي أن الوصول إلى «فلسفة الفقه» يتوقَّف من الناحية العملية على التحقيق في «فلسفة الفقه»، ولكنْ من الواضح أن الشخص الذي يريد التحقيق في مجال فلسفة الفقه لا مندوحة له من الرجوع إلى «تاريخ الفقه».
يُضاف إلى ذلك أن فلسفة الفقه إذا كانت من مقدِّمات ومبادئ الفقه ـ وهي كذلك ـ فإن البحث فيها لا محالة سيكون متقدِّماً على التحقيق في الفقه. إن نسبة فلسفة الفقه إلى الفقه كنسبة علم أصول الفقه إلى علم الفقه. وعليه كيف يمكن الخوض في الفقه قبل العمل على تنقيح المبادئ والمقدّمات الفلسفية للفقه؟! وكيف يمكن القول بأن فلسفة فقه كلّ شخص هي نتيجة تحقيقاته الفقهية؟! إن كلّ فقيهٍ لا يدخل حلبة الفقه إلاّ من خلال افتراض بعض الآراء والنظريات الخاصّة في باب فلسفة الفقه، ومن دون افتراض هذه المقدّمات والفرضيات في الفقه لا يمكن وضع حجرٍ على حجرٍ. إن فلسفة الفقه وإنْ كانت متأخِّرة عن تاريخ الفقه، بَيْدَ أن فلسفة الفقه لدى كلّ فقيه متقدِّمة على فقهه. وعليه كيف يمكن القول بأن على كلّ فقيهٍ أن يسعى إلى التحقيق الفقهي؛ من أجل التحقيق في فلسفة الفقه؟! إنّ مثل هذا الأمر مستحيل التحقُّق.
وعلى أيّ حالٍ يبدو أن هذا الإشكال واردٌ على نظرية القبض والبسط، وإنْ كان المنتقدون لم يستخدموا تعبيراً وتنسيقاً واضحاً أو دليلاً مناسباً لبيانه وتوجيهه. فقد عمد المنتقدون لتقريب إشكالهم إلى التمسُّك باحتمال خطأ العلماء السابقين، في حين أن احتمال الخطأ واردٌ في حقّ الشخص نفسه أيضاً، بل احتمال الخطأ بالنسبة إليه أقوى. فالمشكلة لا تكمن في أن العلماء السابقين يجوز عليهم الخطأ في هذا المورد، ولذلك لا يكون قولهم ورأيهم حجّةً بالنسبة لنا؛ إذ من الممكن أن نقع نحن في الخطأ بالنسبة إلى هذا المورد أيضاً. وإنما المشكلة تكمن في «كيف يمكن تبرير الضرورات والمحظورات المعرفية من خلال دراسة تاريخ العلم وسلوك العلماء السابقين؟». و«هل الذي يقوم بهذا الأمر لا يرتكب مغالطة «الوجوب» و«الكينونة»؟». وعلى كلّ حالٍ فإن الارتباط والنسبة بين فلسفة العلم وتاريخ العلم بحاجةٍ إلى توضيح. والسؤال المطروح هو: كيف يمكن لنا أن نستنبط من صُلْب توصيف وبيان ما حصل حتّى الآن في علمٍ من العلوم توصيةً لتوجيه العلماء اللاحقين؟ وكيف يمكن للماضي أن يكون منارةً تضيء لنا طريق المستقبل؟ ألا يكون هذا الأمر من قبيل: التقليد الأعمى لما كان عليه الأسلاف والأجداد، الأمر الذي يؤدّي إلى التخلُّف والركود العلمي؟
والمشكلة القائمة هنا هي أن المشاهدات التي لدينا في ما يتعلَّق بشأن وآلية فلسفة العلم يبدو أنها غير منسجمة فيما بينها؛ فإن فلسفة العلم من جهةٍ إذا أرادت أن تكون فلسفة علمٍ فعليها أن تكون لها نظرةٌ على تاريخ العلم، وإن فلسفة العلم المتعارضة مع تاريخ علمٍ من الأساس لا يمكن أن تكون فلسفةً لذلك العلم. من هنا لا يمكن لأيّ فيلسوف علمٍ أن يتجاهل تاريخ العلم تماماً. وإن عدم انسجام نظرية فلاسفة العلم مع النماذج العلمية يشكِّل دليلاً على بطلان تلك النظريات. يؤيِّد ذلك كلام بعض الفقهاء في ردّ بعض النظريّات والأفهام الفقهية الحديثة وغير المسبوقة، وذلك حيث يقال: «يلزم من ذلك فقهٌ جديد». إن معنى هذا الكلام هو أنه لا يمكن لأيّ فقيهٍ أن يستدلّ بشكلٍ يُعَدُّ معه استدلالُه مؤدِّياً إلى فقهٍ يخالف جميع ما يطلق عليه حتّى الآن تسمية الفقه؛ فإن مثل هذا الشيء، أيّاً كان، ليس فقهاً، ولا يمكن إطلاق تسمية الفقه عليه.
إن تسمية وتوصيف وإطلاق العناوين والمفاهيم على المصاديق الجديدة يتبع معايير وقواعد خاصّة. وإن أعضاء المجتمع اللغوي؛ لأُنسهم ومعرفتهم بالمصاديق السابقة (أي تاريخ ذلك الموضوع)، والتأمُّل في تلك المصاديق، يتعرَّفون على تلك القواعد والمعايير، ويأنسون بها بطريقةٍ ارتكازيّة، ويكتسبون مهارةً في التسمية والتوصيف، واستعمال العناوين. وهذه المسألة تصدق في باب العلم وأسماء العلوم أيضاً. وعلى هذا الأساس فإن فلسفة العلم إذا أرادَتْ أن تكون فلسفة علمٍ لا مناص لها من الاهتمام بتاريخ العلم بشكلٍ جادّ. ومن دون الاهتمام الجادّ بتاريخ العلم لا يمكن أن تكون لدينا فلسفة علم. وبطبيعة الحال إن الاهتمام بتاريخ العلم، وأخذه بجِدِّية، لا يعني تأييد كلّ ما حصل في تاريخ العلم، والمصادقة عليه.
ومن جهةٍ أخرى إذا أرادت فلسفة العلم أن تؤيِّد كلَّ ما حصل في تاريخ العلم، وتصادق عليه، وتأخذه بوصفه أمراً مسلَّماً ولا غبار عليه، وتنصح العلماء به وباقتفاء آثار السابقين في هذا المجال، فإنها ستفقد شأنها وآليّتها بوصفها فلسفة علمٍ، ولن تلبّي توقُّعاتنا من فلسفة العلم. إننا نريد من فلسفة العلم أن تعلِّمنا كيف نعصم أنفسنا من ارتكاب الأخطاء التي ارتكبها العلماء السابقون. إن شأن فلسفة العلم وما نتوقَّعه منها لا يُختزل بتوصيف وبيان تاريخ العلم، وإنما هذا التوصيف والبيان يعلِّمنا كيف نحصِّن أنفسنا من ارتكاب الأخطاء التي ارتكبها السابقون، فلا نكرِّر أخطاءهم، وكيف نتقدَّم خطوةً برَكْب العلم، ونجعله أقرب إلى الكمال المنشود. ومن هنا تُعَدُّ فلسفة كلّ علمٍ من مبادئ ذلك العلم. ويبدو بديهياً أن هناك شَرْخاً بين العلم «الراهن» والعلم «المثالي»، يشهد تاريخ العلم على أن النظريّات العلمية للعلماء تتأثَّر أحياناً بأمور غير علمية وغير عقلانية. يمكن لفلسفة العلم، بل يجب عليها، أن تقول لنا: لماذا وأين ولأيّ دليلٍ يحدث هذا الشَّرْخ؟ وكيف يمكن لنا أن نردم هذه الهوّة؛ لنكون أقرب من العلم المثالي؟
وباختصارٍ فإن المجموعة الثانية من المشاهدات التي نمتلكها بشأن فلسفة العلم تدلّ على أن فلسفة العلم هي علمٌ «معياريّ» يعلِّمنا ما الذي «يجب» علينا فعله للوصول إلى العلم المثالي؟ وكيف يتعيَّن علينا تنظيم تحقيقاتنا العلمية؛ كي نكون أقرب إلى الحقيقة، وأبعد من ارتكاب أخطاء السابقين؟ وهذا يحتِّم على فيلسوف العلم أن يتَّخذ بإزاء تاريخ العلم موقفاً «انتقاديّاً»، وأن يتَّخذ من سلوك العلماء موقف «الحَكَم»، وأن يعمل على إصلاح تاريخ العلم عقلانياً، وإلاّ فإن فلسفة العلم لن تلعب أيَّ دَوْرٍ في تحوُّل وتكامل العلم، في حين أن بيان التحوُّلات الحاصلة في تاريخ العلم يُثبت أن تلك التحوُّلات إلى حدٍّ ما رهنٌ بالتحوُّلات التي تحدث في الفرضيّات الفلسفية للعلماء بالنسبة إلى أسلوب العلم. إن العلم الأرسطي والعائد إلى العصور الوسطى يقوم على فلسفة العلم الأرسطي والعصور الوسطى، والعلم الجديد يقوم على فلسفة العلم الجديد.
وعلى هذا الأساس فإن المجوعة الثانية من المشاهدات التي نمتلكها في ما يتعلَّق بشأن ومنزلة وآليّة فلسفة العلم تقول لنا بأن فلسفة العلم علمٌ معياريّ وتشريعيّ، وإن الهَدَف منه عبارةٌ عن كشف وتصحيح أخطاء العلماء السابقين. وعليه فإن تاريخ العلم إذا كان مشتملاً على توصيةٍ ـ وهو كذلك ـ فإن تلك التوصية لا تنصح بـ «اتّباع آثار الأوَّلين واقتفاء خطواتهم». فلو اقتصرت مهمّة فلسفة العلم على توجيه العلماء المتأخِّرين بالحَذْو حَذْو العلماء السابقين، والعمل على تقليدهم واتّباعهم، فإنها ستفقد قيمتها، ولن تستحق عنوان فلسفة العلم. تقول لنا هذه المشاهدات: إن فلسفة العلم تختلف عن تاريخ العلم، في حين أن المشاهدات من المجموعة الأولى كانت تقول لنا: إن فلسفة العلم عبارةٌ عن توصيف وبيان تاريخ العلم. ويبدو أن هاتين المجموعتين من المشاهدات غير متناغمةٍ فيما بينها.
ذهب بعضُ فلاسفة العلم إلى حلّ هذا التعارض القائم بين هاتين المجموعتين من المشاهدات من خلال القول بأن فلسفة العلم بمنزلة «علم النحو»، بمعنى أن هاتين المجموعتين من المشاهدات المتنافية في ظاهرها موجودةٌ في مورد شأن ومنزلة علم النحو أيضاً. فإن القواعد النحوية في كلِّ لغةٍ تتوقَّف من جهةٍ على تاريخ تلك اللغة، وإن علماء اللغة لا مندوحة لهم في اكتشاف وتدوين قواعد اللغة من الرجوع إلى تاريخ تلك اللغة، وأولئك الذين تحدَّثوا ولا يزالون يتحدَّثون بتلك اللغة. فلو أراد لغويٌّ تدوين قواعد اللغة العربية دون الرجوع إلى تاريخ هذه اللغة فإن القواعد التي سيكتبها، أيّاً كانت، لن تكون قواعد للغة العربية. ومن جهةٍ أخرى نعلم أن بعض الناطقين باللغة العربية مهما تضلَّعوا في استعمال قواعد النحو العربي، إلاّ أنهم قد يرتكبون بعض الأخطاء النحوية عند التكلُّم أو الكتابة بهذه اللغة. من هنا يأتي تدوين القواعد النحوية لتصحيح الأخطاء، أو المنع من تكرارها عند استعمال اللغة العربية وممارستها. وعليه فإن لعلم النحو في آنٍ واحد وظيفةً «توصيفية»، ووظيفةً «توجيهية»، إلاّ أن قواعد اللغة لا تدَّعي أن كلّ ما حصل في تاريخ اللغة ولا يزال صحيحٌ مئة بالمئة، ويمكن اتّباعه دائماً، بل على العكس من ذلك، هي تردعنا عن مثل هذه التَّبَعية. إن قواعد اللغة تحكم بشأن تاريخ اللغة، بمعنى أن القواعد التي يكتشفها اللغوي من خلال الرجوع إلى تاريخ اللغة ليست منسجمةً مع تاريخ اللغة، وإنْ كانت في الوقت نفسه غير أجنبيةٍ عنها تماماً.
وعلى هذا الأساس، كما يكتشف اللغويون المعايير والقواعد النحوية من خلال الرجوع إلى تاريخ اللغة، ويحكمون طبقاً لذلك على تاريخ اللغة، ويخطِّئون جانباً من تاريخ اللغة، ويحظرون علينا اتّباعه، كذلك يمكن لفلاسفة العلم من خلال الرجوع إلى تاريخ العلم من اكتشاف المنطق وأسلوب التحقيق العلمي، وتبريره أيضاً. إن هذا المنطق والمنهج يبيِّن أخطاء العلماء السابقين، ويضعها بين أيدي العلماء اللاحقين الذين يريدون اتّباع ذلك المنطق، ويبيِّن لهم سبل الحيلولة دون تكرار تلك الأخطاء.
كما يصدق هذا الأمر بشأن علم المنطق أيضاً، حيث تمّ اكتشاف القواعد المنطقية من خلال الرجوع إلى تاريخ الاستدلال، وملاحظة ودراسة استدلالات المتقدِّمين، بَيْدَ أن هذه القواعد لا تأمرنا باتّباع الأساليب الاستدلالية للقدماء بشكلٍ كامل؛ إذ إن استدلالاتهم لم تكن صائبةً دائماً، حيث كانوا يرتكبون بعض الأخطاء في استدلالاتهم أحياناً.
من خلال هذا البيان يتَّضح ارتباط تاريخ العلم وفلسفة العلم، وكذلك ارتباط البُعْد التوصيفي من فلسفة العلم بالبُعْد المعياري منها. إن هذا الارتباط ليس ارتباطاً منطقياً واستنتاجياً؛ كي يمكن اعتباره مصداقاً لمغالطة «الوجوب» و«الكينونة»، هذا إذا تجاوزنا التشكيك الجادّ في اعتبار مثل هذا الاستنتاج من قبيل: مغالطة «الوجوب» و«الكينونة». إن الطريق الذي يتمّ سلوكه هنا هو أن فيلسوف العلم ـ من خلال الرجوع إلى تاريخ العلم ـ يعمل على اكتشاف القِيَم والمعايير (الضرورات والمحظورات) الحاكمة على سلوك العلماء، ثمّ يسعى إلى رفع التنافي القائم بين القِيَم والمعايير وبين سائر المتبنّيات المقبولة لديه؛ ليصل بذلك إلى نظريّةٍ معيارية يمكن الدفاع عنها. قد تكون كيفيّة هذا الاكتشاف خافيةً علينا، ولكنْ لا يمكن التشكيك في اعتبار وأصالة وصحّة هذا الأسلوب، وإنْ أمكن النقاش في نتيجة توظيف هذا الأسلوب في بعض الموارد الخاصّة. وهذا هو أسلوبُ اكتشاف منطق ومعرفة العلم. إن الرجوع إلى تاريخ العلم لا يعني تقليد العلماء السابقين والتعبُّد لكلماتهم، بل إن هذا الرجوع ضروريٌّ للوصول إلى المشاهدات العقلانية الناظرة إلى السلوك العلميّ للعلماء، وإن هذه المشاهدات إذا توفَّرت على الشروط اللازمة تُعَدُّ من وجهة النظر المعرفية معتبرةً ومبرّرة. وسوف تكون حجّةً بالنسبة إلى فيلسوف العلم ومَنْ يقلِّده.
وبعبارةٍ أخرى: إن فلاسفة العلم يتمكَّنون من خلال دراسة العلم الموجود (تاريخ العلم) من اكتشاف خصائص «العلم المثالي»، وسُبل الاقتراب منه. وعلى هذا الأساس فإن فلسفة العلم تعمل على توصيف «العلم الموجود» (العلم في مقام التحقُّق)، و«العلم المثالي» (العلم في مقام التعريف) أيضاً. إن فيلسوف العلم، من خلال مقارنة هذين العلمين، يمكنه اكتشاف المعاييير والقِيَم التي يجب مراعاتها من أجل الاقتراب من العلم المثالي، ويحقّ له أن «يوصي» الآخرين بهذه المعايير والقِيَم. وفي الوقت نفسه فإن الطريق الوحيد لكشف خصوصيات العلم المثالي، وإن الطريق الوحيد للوصول إليه أو الاقتراب منه، عبارةٌ عن دراسة ومناقشة العلم الموجود كما قد تبلور في تاريخ العلم.
يؤكِّد بعض المنتقدين لنظرية القبض والبسط على أن العلماء السابقين قد يكونون مخطئين. ويستنتج هؤلاء الناقدون من هذا الاحتمال أن تاريخ العلم لا يحتوي على أيّ اعتبارٍ أو حجِّية بالنسبة إلى فيلسوف العلم. بَيْدَ أن هذا الادّعاء في حدِّ ذاته يقوم على الكثير من الفرضيات المعرفية، ومن بينها: إن العلم مساوقٌ أو مرادفٌ لـ «اليقين»، وإن «احتمال» الخطأ يقضي على الحجِّية والاعتبار المعرفي. إلاّ أن الذي يؤمن بمثل هذا الرأي لن يتمكَّن من الوثوق والاعتماد حتّى على تحقيقاته؛ إذ إن احتمال الخطأ يصدق في حقِّه أيضاً. وعليه فإن الأمر دائرٌ بين شدّة وضعف احتمال الخطأ، وليس بين الخطأ وعدمه. وحيث إن الأمر كذلك يمكن القول بأن الرجوع إلى تاريخ العلم يقلِّل من احتمال وقوع الإنسان في الخطأ. إن فائدة الرجوع إلى تاريخ العلم لا تكمن في الاعتبار أو التقليد الأعمى لمناهج المتقدِّمين([37]). إن الرجوع إلى تاريخ العلم لا يتوقَّف على حجِّية آراء وأقوال وأساليب المتقدِّمين. إن رجوع العالم المعرفي وفيلسوف العلم إلى التاريخ إنما يكون من أجل اكتشاف منطق العلم، والذي يبدو بحَسَب الظاهر عدم وجود غير هذا الطريق. كما أن علم الأصول، الذي هو طبقاً لادّعاء الفقهاء، يعمل على اكتشاف منطق الفقه يستند إلى تاريخ الفقه، رغم عدم إمكان اعتبار هذا الاستناد مورداً من موارد استنتاج «الوجوب» من «الكينونة»، أو اعتبار قيمته متوقِّفة على حجِّية آراء الفقهاء السابقين في حقّ الفقهاء اللاحقين.
هـ ـ إثبات نظريّة القبض والبسط
كما تقدَّم فإن الدكتور سروش يسعى لإثبات نظرية القبض والبسط بمختلف الأدلة. وإن هذا الأمر ـ بالإضافة إلى الغموض في كلماته حول المنزلة الفلسفية أو العلمية لهذه النظرية، وكذلك فصل العلم عن الفلسفة ـ أضاف غموضاً جديداً في باب أسلوب إثبات وتقييم هذه النظرية. وفي ما يلي سنعمل على رفع هذا الغموض.
يمكن القول بشكلٍ صريح: إن نظرية القبض والبسط نظريةٌ فلسفية، وليست نظريةً علمية ـ تجريبية. وعليه لا بُدَّ في تقييم وتأييد أو إبطال هذه النظرية من توظيف أسلوبٍ خاصّ بالفلسفة، وليس أسلوباً خاصّاً بالعلوم التجريبية. ولكنّ السؤال يقول: أين يكمن الفرق بين أسلوب العلم وأسلوب الفلسفة؟ هناك الكثير من الإجابات المختلفة عن هذا السؤال، إلاّ أن مناقشتها ونقدها بأجمعها خارجٌ عن القدرة الاستيعابية هنا، ولكنْ لا بُدَّ مع ذلك من الاكتفاء ولو بالإشارة إلى بعض الأمور.
يُدَّعى في الفلسفة الإسلاميّة أن أسلوب الفلسفة يقوم على «البرهان»، ويعرِّف المسلمون البرهان بأنه «القياس المنتج لليقين». يقول هؤلاء الفلاسفة: إن غاية الفلسفة تكمن في تحصيل اليقين المنطقي، واليقين المنطقي لا يمكن تحصيله إلاّ من طريق القياس البرهاني. وإن البرهان قياسٌ تكون مقدّماته (أي مادّة الاستدلال) يقينية، ويكون شكله (أي صورة الاستدلال فيه) منتجةٌ لليقين أيضاً. وعلى هذا الأساس لو تتبَّعنا سلسلة الاستدلال القياسي من بدايته يجب أن نصل إلى مقدّمات تتّصف بأنها يقينيةٌ وبديهية أيضاً، وإن معرفتها اليقينية لا تتوقَّف على الاستدلال. طبقاً لهذه الرؤية في باب أسلوب التحقيق في الفلسفة يجب على الفلاسفة أن لا يوظِّفوا الشعر والخطابة والمشاهدة والتشبيه والتمثيل في الفلسفة.
بَيْدَ أن هذا الاتجاه في الفلسفة لا يَجِدُ له اليوم أنصاراً، حيث يمكن لنا بسهولةٍ أن نثبت أن الكثير من البراهين التي تذكر في الفلسفة الإسلامية تفتقر إلى خصائص القياس البرهاني، فهي غيرُ منتجةٍ لليقين، بمعنى أن ادّعاء اليقين المنطقي والمستند إلى الدليل في تلك الموارد مخالفٌ للعقلانية([38]). وعلى أيّ حالٍ لا يمكن بهذا المعيار أن نثبت أيّ شيءٍ لصالح نظريّة القبض والبسط أو ضدّها.
إلاّ أن المعيار الذي يقدِّمه لنا الاتّجاه الغالب في الفلسفة التحليلية؛ لنقد وتقييم وتأييد أو إبطال النظريّات الفلسفية، هو عبارةٌ عن «البديهة العقلانية»([39]). وطبقاً لهذه الرؤية يكون للبديهة العقلانية في مجال الفلسفة ذات المنزلة التي تتمتَّع بها التجربة الحسّية في مجال العلم. يرى الكثير من الفلاسفة التحليليين أن شأن الفلسفة يقوم على مواءمة وتنسيق([40]) البديهيات التي لدينا بشأن الموضوع مورد البحث. وبطبيعة الحال يختلف هؤلاء الفلاسفة حول مساحة وحدود البديهيات المعتبرة، والتي يمكن توظيفها. فهناك مَنْ يرى أن هذه البديهيات إنما تكون معتبرةً إذا كانت لغويةً، وتُعَدُّ من المرتكزات اللغوية([41]). وهناك مَنْ يرى أن البديهيات المعتبرة والمعتدّ بها هي أعمّ من البديهيات اللغوية وغير اللغوية. إن هؤلاء الفلاسفة كذلك يختلفون فيما بينهم حول أسلوب تنسيق ومواءمة هذه البديهيات، وحول الشأن والمنزلة المعرفية لهذه البديهيات، ولكنْ يمكن القول: إن في صُلْب كلّ استدلالٍ فلسفي يُقام لصالح أو ضدّ نظريةٍ ما هناك بديهيةٌ أو عددٌ من البديهيات العقلانية أو الفلسفية. طبقاً لما تقدَّم فإن شأن الاستدلال في الفلسفة لا يكمن في إثبات أو إبطال الآراء والنظريّات على نحو القطع واليقين، وإنما شأن الفلسفة هو أن تضع ذهن المخاطب ضمن أجواء تمكِّنه من مشاهدة صحّة أو خطأ المدَّعى مورد البحث. يمكن الحصول على هذه المشاهدات من مختلف الطرق، ولذلك فإن توظيف الشعر والخطابة والتشبيه والتمثيل في الفلسفة جائزٌ، بل واجبٌ؛ لأن هذه الأمور إما أن تُوجِد القدرة على المشاهدة العقلانية لدى الشخص، أو أنها توصلها إلى مرحلة الفعلية. وهذا ما نجده شائعاً بشكلٍ خاصّ في توظيف الأمثلة الحقيقية والافتراضية في أدلّة الفلاسفة التحليليين بشكلٍ كامل([42]).
إن البديهيات المنشودة للفلاسفة التحليليين تختلف عن البديهيات الإفلاطونية. إن هذه البديهيات لا تستند إلى فرضياتٍ ميتافيزيقية أو نفسيّة منسوخة، وإنما تُعَدُّ واحدةً من آليات القوّة العاقلة. وعليه فإن الشخص الذي يتمسَّك بالبديهة العقلانية ليس مضطرّاً إلى افتراض وجود قوّةٍ خاصّة ومبهمة ليس لها من آليّةٍ سوى المشاهدة. ثمّ إن الموضوع الذي يُكتَشَف أو يتمّ التعرُّف عليه أوّلاً وبالذات من طريق المشاهدة العقلانيّة (المعلوم بالذات) هو «المفهوم» أو «القضيّة» (التصوُّر والتصديق)، وليس الواقعية العينيّة والخارجية؛ فإن الواقعية الخارجية في هذا المورد معلومٌ بالعَرَض. وعليه فإن هذه البديهية، من حيث ارتباطها ونسبتها إلى الواقعية الخارجية، ومن حيث الدَّوْر الذي تلعبه في معرفة هذه الواقعية، هي من سنخ «العلم الحصولي»، وليست من سنخ «العلم الحضوري»؛ لأن العلم الذي يحصل من خلال هذه البديهية بشأن الواقعية الخارجية إنما يحصل بـ «واسطة» المفهوم. يسعى الفلاسفة من خلال تحليل المفاهيم إلى اكتشاف حقيقةٍ ما بشأن مصداق تلك المفاهيم أو ارتباط ونسبة مصاديق تلك المفاهيم.
فعلى سبيل المثال: إن الكلام والنقاش القائم في التعريف التقليدي للعلم (knowledge) إنما يكمن في السؤال القائل: هل كلُّ ما كان مصداقاً لـ «الاعتقاد الصادق والثابت» هو مصداقٌ لـ «العلم» أيضاً أم لا؟ وعليه فإن الموضوع الحقيقي مورد البحث هنا عبارةٌ عن ارتباط ونسبة مصاديق هذين المفهومين، رغم أن الفلاسفة يسعون إلى المضيّ بهذا البحث قُدُماً من خلال دراسة ربط ونسبة هذين المفهومين. إن التحليل المفهومي هنا وسيلةٌ لكشف الحقيقة بشأن المصداق، وإن بديهياتنا بهذا الشأن إنما هي بشأن مصداق هذه المفاهيم، وليس بشأن المفاهيم ذاتها. ومن خلال هذه البديهيات يمكن اكتشاف صحّة أو خطأ التعريف (وكذلك ما إذا كان إيجاد المعادلة المفهومية بين شيئين أمراً ثابتاً أو غير ثابت).
قد تتعارض هذه المشاهدات فيما بينها، وقد تتعارض مع المعلومات التي نحصل عليها من سائر القنوات المعرفية، وهو أمرٌ يحصل عادةً. وفي مثل هذه الحالة يجب قبل التمسُّك بها العمل على رفع التعارض القائم بينها. ومن هنا فإن جزءاً من مسار التنظير في الفلسفة ينفق في الحقيقة من أجل رفع هذه التعارضات.
إن الذين يتمسَّكون في الفلسفة بالبديهيات ليس من الضروري أن يكونوا من القائلين بـ «الحَدْسية»([43]). إن النزعة الحَدْسية نظريةٌ خاصّة في الفلسفة، ترى شأناً ومنزلة معرفيّة خاصّة للبديهيات والمشاهدات. وبطبيعة الحال فإن للنزعة الحَدْسية روايات وقراءات مختلفة. وإن القراءة المتطرِّفة لها عبارةٌ عن نوعٍ من الأصولية المقرونة بنوعٍ من الحتمية الجازمة، التي تعتبر المتبنّيات الشهودية «يقينية»، و«لا تقبل التشكيك» أو «الإبطال»، وغنيّة عن (أو غير قابلة لـ) «الإثبات الاستنتاجي». أما الروايات المعتدلة للنزعة الحَدْسية فلا تذهب إلى مثل هذه الادّعاءات الكبيرة، والتي تنطوي على الكثير من المبالغات. إن هذه الروايات تنطوي على ادّعاءات متواضعة، وتقول: إن المتبنّيات البديهية «ظنّية». وفي هذا التوجُّه تعتبر المشاهدات العقلانية في ظلّ بعض الظروف الخاصّة ذات قيمة. وتعتبر طريقاً موثوقاً لكسب المعرفة، وهو طريق ينتهي إلى الظنّ، دون اليقين. إن التبرير والإثبات الحاصل من هذا الطريق ليس تبريراً استنتاجياً وفي بادئ النظر، ويمكن لهذا التبرير أن يقوى أو يضعف من طريقٍ آخر (أي بمساعدة التبرير والإثبات الاستنتاجي).
إن هذا النوع من «النزعة الحَدْسية» ليست «أصوليّةً» بالضرورة، ويمكن أن تجتمع مع الترابط المنطقي([44]). إن النزعة الحسّية المعتدلة تعتبر القضايا والمتبنّيات الشهودية انسيابية، بمعنى أنها تتضمَّن القول بأن القضايا والمتبنّيات الشهودية هي بديهيةٌ وثابتة على نحوٍ مؤقَّت، بمعنى أنها قد تتحوَّل بالنسبة إلى أشخاص آخرين، أو في ظلّ ظروف أخرى، أو في عالمٍ آخر إلى قضايا ومتبنّيات نظريّة، وتترك مواقعها إلى قضايا ومتبنّيات أخرى. وعلى أساس هذا الأصل قد تقتضي مسؤوليتنا المعرفية منّا، في مسار رفع التعارض وإثبات القضايا والمتبنّيات، أن نتصرَّف في معتقدٍ رئيس أو عددٍ من المعتقدات الرئيسة.
إن من بين النتائج الهامّة التي يمكن استخلاصها من هذا البحث هو أن معيار فصل العلم عن الفلسفة ليس هو «القابلية على الإبطال»، وإنما هو خصوص «القابلية الحسّية على الإبطال»([45])، بمعنى أن هناك معياراً واحداً في دائرة العلم والفلسفة، وهو معيار التجربة، وإن اختلاف هاتين الدائرتين يكمن في نوع التجربة التي يتمّ تقييم النظريات من خلالها، وليس في أصل الرجوع إلى التجربة. في العلوم التجريبية تعتبر التجربة الحسّية معياراً للحكم والتقييم، وفي دائرة الفلسفة يكون المعيار هو التجربة الذهنية أو المشاهدة العقلانية. كما أن هذه الخصوصية لا تقتصر على العلم والفلسفة، فإن هذا الأمر يجري في سائر مجالات المعرفة. فعلى سبيل المثال: يمكن القول: إن الفرضيات والنظريات العرفانية من الناحية التجريبية «قابلةٌ للإبطال»، ولكنْ لا من خلال التجربة الحسّية أو الفلسفيّة، بل من خلال التجربة والشهود العرفاني، وهكذا الأمر بالنسبة إلى مجال الرياضيات أيضاً([46]).
وعلى هذا الأساس فإن الفرضيات في دائرة العلم، أو في دائرة الفلسفة، وفي سائر الدوائر الأخرى، يتمّ اختبارها وتقييمها من خلال «التجربة»، ويتمّ إثبات الأمثلة المؤيِّدة لفرضيةٍ ما بشكلٍ مؤقَّت. وإن الأمثلة المبطلة تُبْطِل تلك الفرضيّات أو تضعفها. وفي الكثير من هذه الدوائر لا تكون الأمثلةُ مفيدةً لليقين. وإن معنى عقم الاستقراء هو أن الاستقراء لا يُفيد اليقين، لا أنه لا يمكن من خلال الاستقراء إثبات أو تأييد فرضيّة علمية، حتّى على نحوٍ ظنّي([47]). إن الاستقراء على نوعين: أحدهما: «استقراء عددي»([48])؛ والثاني: «استقراء حَدْسي»([49]). أما الاستقراء العددي فهو الشائع في العلوم التجريبية، واليوم يتمّ، من خلال تطوُّر الأساليب الرياضية والإحصائية، يتمّ تعيين عدد الأمثلة التي نفتقر إليها لتعميم النتيجة إلى جمعيّةٍ إحصائيّة، كما يتمّ تعيين النسبة المئويّة لاحتمال الخطأ في هذا النوع من الاستقراء بشكلٍ دقيق. وأما «الاستقراء الحَدْسي» فهو عبارةٌ عن نشاطٍ ذهنيّ وعقلانيّ يتوصَّل الإنسان من خلاله، عبر التأمُّل والتعمُّق الفكري حول مثالٍ أو عدّة أمثلةٍ في مختبره الذهني، إلى «مشاهدة» صدق نتيجةٍ عامّة، وشمولها للأفراد المتناظرين والمشابهين لهذه الأمثلة.
في كلا نوعي الاستقراء يسعى الفرد من هذا الطريق إلى اكتشاف «الفرد بالذات» أو «الفرد الخالص»، والتعرُّف عليه، إلاّ أننا في الاستقراء العددي إنما نكتشف الفرد بالذات على نحوٍ «ظنّي»، في حين أننا في الاستقراء الشهودي قد نكتشف الفرد بالذات على نحو القطع واليقين، رغم ارتباط هذا الأمر بالمورد والمساحة المنشودة. يذهب اليوم عموم علماء المعرفة إلى إمكان اكتشاف الفرد بالذات في دائرة «المنطق» و«الرياضيات» على نحو القطع واليقين، وأما في مجال الفلسفة فلا. إن عدد الأمثلة والنماذج التي يحتاجها الفرد للوصول إلى الشهود وحصول الظنّ المقبول يرتبط بعوامل مختلفة، ومن بينها: الحالة الروحيّة والنفسيّة لهذا الفرد، وموروثه الذهني والمعرفي، وإلى الموضوع مورد البحث، وما إلى ذلك. ولكنْ تكفي أحياناً ملاحظة نموذجٍ واحد لإدراك النتيجة شهوديّاً. فعلى سبيل المثال: نجد في مجال الرياضيات كفاية دراسة مثلَّثٍ واحد لتعميم حكمه على جميع المثلَّثات الأخرى؛ أو في مجال المنطق يكفي بحث موردٍ خاصّ من موارد الاستدلال لمشاهدة أن شكلاً خاصّاً من الاستدلال منتجٌ أو عقيم. ولكنْ في الكثير من الحالات نحتاج إلى مقارنة نماذج وأمثلة متعدِّدة لإدراك النتيجة على المستوى الشهودي.
ولا بُدَّ من إضافة هذه المسألة، وهي أن أساليب التحقيق ـ في حدود معرفتي ـ، وكذلك الإثبات والتأييد أو إبطال النظريّات، أو ترجيح نظريّةٍ على نظريّات أخرى، في مجال «فلسفة الأخلاق» و«المعرفة» المعاصرة متشابهة ومتناظرة، بمعنى أن الفرد في كلا الموردين يسعى من طريق الاستقراء الشهودي إلى الحصول على الفرد الخالص أو الفرد بالذات، الذي هو موضوع المعيار الأخلاقي أو المعرفي، وبذلك يعمل على تأييد نظريّةٍ، ويضعِّف النظريات الأخرى. وبطبيعة الحال فإن نتيجة ذلك على كلا الموردين لن تتجاوز الظنّ، ولكنّه ظنٌّ معتبر، ويمكن الاعتماد والتعويل عليه. وإذا كان الاستقراء الشهودي في واحدٍ من هذين الفرعين أو المجالين من الفلسفة معتبراً سيكون معتبراً في الآخر أيضاً؛ إذ لا يوجد أيُّ فرقٍ بينهما من حيث أسلوب التحقيق. من هنا فإن القول بالشكّ في واحدٍ من هذين المجالين من الفلسفة والواقعية في الآخر يُعَدُّ نوعاً من التناقض([50]).
وهكذا إذا كانت المعايير مورد البحث في واحدٍ من هذين العلمين اعتبارية كانت في العلم الآخر اعتباريةً أيضاً، وإذا كانت اعتبارية المفاهيم المبحوث عنها في علمٍ ما متنافيةً مع الواقعية، وتؤدّي إلى عدم كون قضايا ذلك العلم معرفيةً وقابلةً للصدق والكذب، فلن يكون هناك أيُّ فرقٍ بين فلسفة الأخلاق وعلم المعرفة، وإن هذين الفرعين من المعرفة الفلسفية يتمتَّعان بخصائص منهجيّة ومعرفيّة ومنطقيّة واحدة. وعليه فإن الاستفادة من الاستقراء الشهودي (الذي هو أسلوبٌ لكشف الحقيقة والاقتراب منها) في علم المعرفة، ونفي إمكان الاستفادة منه في فلسفة الأخلاق، يخلو من الوجه، ويُعَدُّ ترجيحاً بلا مرجِّحٍ.
الأمر الآخر: إن فصل «مقام الكشف» عن «مقام الحكم» يعني فقط أن طرق ومصادر «كشف» النظريّات أعمّ من طريق ومصدر «إثباتها»، وليس بمعنى أن طريق كشف نظريّةٍ ما هو حَتْماً غير طريق إثباته؛ إذ يمكن لنظريةٍ ما أن تكتشف من طريق التجربة أو الشهود، ويمكن إثباتها من ذات الطريق أيضاً.
وفي ضوء هذا يمكن القول: إن نظرية القبض والبسط ليست استثناءً من هذه القاعدة؛ فإن الأدلة التي يقيمها الدكتور سروش لصالح هذه النظرية تستند في الحقيقة إلى المشاهدات المعرفيّة، وإن نتيجة تلك الأدلة ليست سوى الشهود أيضاً. إن هذه النظرية، كسائر النظريات الفلسفية، قابلةٌ للإبطال، وإن الطريق الوحيد لإثباته أو إبطاله عبارةٌ عن وزنه بميزان المشاهدات المعرفيّة التي نمتلكها بشأن الموضوع مورد البحث، الذي هو ارتباط ونسبة مختلف فروع المعرفة إلى بعضها. فإذا كانت هذه النظريّة أفضل من سائر النظريات الأخرى في انسجامها مع تلك المشاهدات، واستوعَبَتْ أكبر عددٍ من المشاهدات، وكانت موارد النقض عليها أقلّ بالمقارنة إلى النظريات الأخرى، وكانت في المجموع تقدِّم بياناً أفضل وأشمل لتلك المشاهدات، فإن مسؤوليّتنا العقلانية سوف تحتِّم علينا العمل على طبق هذه النظرية؛ بوصفها أفضل النظريّات المتاحة، ما لم نحصل على نظريّةٍ أخرى أفضل منها.
نرى أن النقد الذي يمكن إيراده على التفسير المقدَّم في نظرية القبض والبسط هو أن هذا التفسير أوّلاً: لا يفصل بين حكم الأنواع المختلفة للربط من بعضها، ويخفض جميع أنواع الربط المعرفي إلى نوعٍ خاصّ، بمعنى ربط جميع فروع المعرفة؛ وثانياً: لا يستوعب سوى نوعٍ خاصّ من تحوُّل المعرفة الدينية. إن هذا النوع من المعرفة هو الذي يحصل بشكلٍ تلقائيّ وغير إراديّ، وبمجرَّد الاطّلاع على التحوُّلات والتطوُّرات الحاصلة في سائر فروع المعرفة في المعرفة الدينية. ولكنْ تقدَّم أنّ هناك نوعاً آخر من التحوُّل والتكامل في المعرفة الدينية، وهو إراديٌّ، وإن هذا النوع من التحوُّل رهنٌ بتغيير الفرضيات المعرفيّة التي تجيز توظيف المعلومات البشريّة في مقام فهم الدين، وتوجبه على علماء الدين والباحثين في الشأن الديني.
وفي ما يلي نستعرض الأدلّة والشواهد المذكورة في نظرية القبض والبسط. فقد رأينا أن الدكتور سروش يسعى إلى تأييد نظرية القبض والبسط من خلال التمسُّك أوّلاً: بالقواعد المنطقيّة، وثانياً: بالأمثلة والنماذج التاريخيّة ـ الاستقرائيّة. وإن مراد الدكتور سروش من التأييد المنطقي في الحقيقة هو التمسُّك بالربط المنطقي القائم بين الأجزاء المختلفة من المعرفة. إلاّ أن هذا الربط والعلاقة إنما تقوم في الحقيقة بين القضايا الموجودة، وليس بين مختلف فروع المعرفة. وعلى أيّ حالٍ فإن مدَّعى نظرية القبض والبسط هو أن كلّ اكتشافٍ جديد في فرعٍ من فروع المعرفة البشرية يؤثِّر على نحوٍ مباشر أو غير مباشر في سائر فروع المعرفة الأخرى. يقول الدكتور سروش في تأييد هذا المدَّعى: إن النسبة المنطقية بين المعلومات الجديدة التي تدخل إلى الذهن والمعلومات السابقة لا تخرج من ثلاث حالات؛ فإن هذه المعلومات إما أن «تؤيِّد» المعلومات السابقة؛ أو «تبطلها»؛ أو أن تلزم «الحياد» بحَسَب الظاهر. وينتقل بعد ذلك من خلال مفارقة التأييد ومفارقة الرهان إلى إثبات أن المعلومات الجديدة إمّا مؤيِّدة لها أو مبطلة لها، وأن المعلومات التي تبدو بحَسَب الظاهر حياديّةً غيرُ حياديّةٍ حقيقة.
في ما يتعلَّق بمفارقة التأييد يمكن القول: إن اختصاص هذه العلاقة بالعلوم التجريبية يقوم على فرضيّةٍ خاصّة في باب معيار فصل العلم عن الفلسفة، والقضايا العلميّة عن القضايا الفلسفية. وتلك الفرضية بشأن تعريف القضية العلميّة والقضية الفلسفيّة. إن القضية العلميّة ـ طبقاً لهذه الرؤية ـ هي التي تكون قابلةً للتأييد أو الإبطال من طريق التجربة (الحسّية)، والقضية الفلسفية (العقليّة) هي التي لا تقبل التأييد أو الإبطال من هذا الطريق. ولكنْ رُبَما أمكن القول: إن جوهر مفارقة التأييد، أي القاعدة المنطقية التي تقوم عليها هذه المفارقة، لا تختصّ بالقضايا العلمية ـ التجريبية، وإن العلاقة المنطقيّة مورد البحث قائمةٌ بين كلّ قضيّةٍ وعكس نقيضها. وإذا كان هناك من اختلافٍ في البين فهو في كيفيّة العثور على الأمثلة والنماذج المؤيِّدة، أو المبطلة، أو التي تبدو في ظاهرها محايدةً. ونحصل على هذه النماذج في العلوم التجريبية من طريق التجربة الحسّية. ولكنْ يمكن القول: إن الأمر كذلك في مجال الفلسفة أيضاً، مع فارق أن النماذج المؤيِّدة أو المعارضة هنا يتمّ الحصول عليها من طريق التجربة الذهنيّة والمشاهدة العقلانيّة. ومن هذه الناحية لا فرق بين العلم والفلسفة. وإذا كان هناك من اختلافٍ فهو في نوع التجربة، وليس في أصل الاستفادة وعدم الاستفادة من التجربة، لا في اعتبار وعدم اعتبار التجربة.
وعلى فرض المحال لو اكتشف فيلسوفٌ من طريق الشهود العقلاني مورداً يكون فيه الشيء «حادثاً» أو «ممكناً»، وفي الوقت نفسه لا تكون له «علّةٌ»، لا مندوحة له من اعتبار مشاهدته موردَ نقضٍ لهذه القاعدة الفلسفية القائلة: «لكلّ حادثٍ أو ممكنٍ علّةٌ».
أو على فرض المحال لو شاهد في موردٍ ما اجتماعاً للوجود والعَدَم سيكون ذلك مورد نقضٍ لأصل امتناع النقيضين، وهكذا. إن القضية القائلة: «كلُّ ممكنٍ مفتقرٌ إلى علّةٍ» تعادل (أو في قوّة) القضية القائلة: «كلُّ غنيٍّ عن علّةٍ غيرُ ممكنٍ أو واجبٌ»، ولذلك فإن تأييد وإثبات وإبطال إحداهما يعادل تأييد وإثبات وإبطال الأخرى.
إن أحداث العالم الخارجي بالنسبة إلى القضايا الفلسفية (غير العلميّة) ليست حياديّةً. فلو أمطرت السماء غداً ولم تمطر ستبطل القضية القائلة: «إمّا أن تمطر السماء غداً أو لا تمطر»، بل يمكن القول أيضاً: إن القدرة على التنبُّؤ بأحداث العالم ليست صفةً خاصّة بالنظريّات والقضايا العلميّة، وإن النظريّات والقضايا الفلسفية الناظرة إلى عالم الخارج تحتوي على نوعٍ من التنبُّؤ بمسار الأحداث، رغم اختلاف التنبُّؤ العلمي عن التنبُّؤ الفلسفي. صحيحٌ أننا من خلال التمسُّك بالقاعدة الفلسفية القائلة: «كلُّ معلولٍ له علّةٌ» لا نستطيع التنبُّؤ بالأحداث التي ستقع غداً، وما هي عللها؟ بَيْدَ أنه يمكن التنبُّؤ بأن أيّ حادثةٍ ستقع غداً لا بُدَّ لها من علّةٍ حتماً. ولذلك ـ على فرض المحال ـ لو وقعت حادثةٌ دون علّةٍ فإنها ستبطل ذلك التنبُّؤ والتكهُّن الفلسفي.
ومضافاً إلى ذلك إذا نظرنا من زاوية العلِّية سنجد جميع أحداث وظواهر وموجودات العالم مترابطةً ببعضها، وليست الأحداث والظواهر الطبيعيّة والقابلة للتجربة الحسّية فقط. وعليه فإن دعوى اختصاص الترابط المنطقي القائم بين قضيةٍ وعكس نقيضها بمجال العلوم التجريبية تبدو غيرَ وجيهةٍ؛ فإذا كان هذا الارتباط قائماً بين القضايا فهو قائمٌ بين جميع القضايا وعكس نقيضها، وليس بين القضايا العلميّة ـ التجريبيّة فقط.
وعلى أيّ حالٍ فإن السؤال الجوهري هنا يقول: «هل يوجد مثل هذا الربط بين جميع القضايا؟». يذعن الدكتور سروش بأن الربط أمرٌ «معقول» و«تنظيري»، وليس أمراً «محسوساً»، وإنما تمكن رؤيته في ظلّ النظرية. وحيث إن الموضوع مورد البحث هنا هو الربط «المعرفي» فإن النظرية مورد البحث ستكون نظريّةً معرفية أيضاً. وعلى هذا الأساس فإن تأييد نظرية القبض والبسط من هذا الطريق رهنٌ بقبول نظريّةٍ معرفيّة يمكن في ظلِّها مشاهدة ربط مختلف فروع المعرفة. إلاّ أن التمسُّك بنظريّةٍ معرفيّة لتأييد نظرية القبض والبسط، التي هي بدَوْرها نظريّةٌ معرفيّة، يبدو أنه نوعٌ من المصادرة على المطلوب؛ لأن مضمون تلك النظريّة لا يَعْدُو شيئاً آخر غير الذي تدَّعيه نظريّة القبض والبسط.
إن الصحيح من وجهة نظرنا هو القول بأن للربط أنواعاً وأقساماً، وإن الربط مورد البحث هنا هو أمرٌ «مشهود»، وليس أمراً «محسوساً»، لا يمكن لنا أن نراه إلاّ من طريق الشهود المعرفي([51]). إن هذه المشاهدة تساعدنا على اكتشاف النظريّة، كما تساعدنا على تأييدها أيضاً. وإن كثرة هذه المشاهدات للنظريّة لا يُشكِّك في قيمتها واعتبارها المعرفي. إن النظرية المعرفيّة التي يتحدَّث عنها الدكتور سروش، ويسعى من خلالها إلى تأييد شمولية مدَّعى نظريّة القبض والبسط، تحتاج ـ مثل سائر النظريات الفلسفية الأخرى ـ إلى إثباتٍ، وإن الدليل الوحيد المتوفِّر لإثباتها هو هذه المشاهدات المعرفيّة. وعليه فإن السؤال هنا يقول: «هل مشاهداتنا المعرفيّة تؤيِّد وجود مثل هذا الربط؟». إن الطريق الوحيد الذي نراه للإجابة عن هذا السؤال هو البحث في الشواهد التاريخيّة ـ الاستقرائيّة، أي إن علينا أن نرى:
1ـ هل التأمُّل والتفكير العميق في تلك الشواهد يوصلنا إلى الإدراك الشهوديّ لهذا الربط أم لا؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب
2ـ هل يوجد لهذا الشهود معارِضٌ أقوى منه أم لا؟
وعليه يمكن أن نستنتج بأن الدليل الوحيد الذي يمكن من خلاله تأييد نظرية القبض والبسط هو هذه النماذج والأمثلة التاريخيّة ـ الاستقرائيّة التي تؤدِّي إلى الشهود المعرفي([52]).
كما لا بُدَّ من التفكيك بين أنواع الربط الأربعة التالية:
1ـ ارتباط «بعض» القضايا والمتبنّيات ببعضها.
2ـ ارتباط «جميع» القضايا والمتبنّيات ببعضها.
3ـ ارتباط «بعض» فروع المعرفة ببعضها.
4ـ ارتباط «جميع» فروع المعرفة ببعضها.
إن هذه الأنواع من الفصل لا نراها في نظرية القبض والبسط، ونرى أن جانباً من الغموض الموجود في هذه النظريّة يأتي من هذه الناحية. إن هذه الأنواع من الفصل تشتمل على نتائج هامّة في مجال التوصيات المعرفيّة، سنأتي على ذكرها لاحقاً. إن بعض الأمثلة والنماذج التاريخيّة ـ الاستقرائيّة الواردة في نظرية القبض والبسط تؤيِّد ارتباط «بعض» القضايا والمتبنّيات، وبعضها يؤيِّد «جميع» القضايا والمتبنّيات، وبعضها يؤيِّد ارتباط «بعض» فروع المعرفة ببعضها الآخر، وبالتالي فإن بعضها الآخر يؤيِّد ارتباط «جميع» فروع المعرفة ببعضها. وبطبيعة الحال فإن هذه الأنواع الأربعة من الروابط مترابطةٌ فيما بينها، ولكنّنا بحاجةٍ إلى شواهد مستقلّة لتأييد هذا الادّعاء. وعلى كلّ حالٍ فإن هذه الأنواع الأربعة من الروابط ليست عين بعضها، ولا يمكن الانتقال من أحدها وجعله جسراً للوصول إلى الآخر، ولرُبَما أمكن القول: إن هذه الأنواع الأربعة من الارتباط تخضع للبحث والدراسة في فرعين مختلفين من فروع الفلسفة، بمعنى أن النوعين الأوّل والثاني من هذه الأنواع الأربعة يبحثان في «علم المعرفة»، في حين يتمّ بحث النوعين الثالث والرابع منها في «فلسفة العلم».
يؤكِّد الدكتور سروش على أن موضوع علم المعرفة وموضوع نظريّة القبض والبسط عبارةٌ عن ارتباطٍ قائم بين مختلف فروع المعرفة. ولكنّنا لا نرى ذلك؛ لأن علم المعرفة الحديث لا يخوض في مجرَّد «هندسة» و«جغرافيا» المعرفة فقط، وإن ارتباط القضايا والمتبنّيات يحظى بنفس الأهمِّية من الناحية المعرفية. وبالمناسبة فإن بعض أنواع الارتباط المبحوثة في نظريّة القبض والبسط هي حالة ارتباط القضايا والمتبنّيات، وليست حالة ارتباط مختلف فروع المعرفة، ونحن لا نخوض في «هندسة» و«جغرافيا» المعرفة دائماً.
كما يحسن لتوضيح المدَّعى بشكلٍ أفضل أن نقسِّم الربط مورد البحث إلى نوعين: «منطقي»؛ و«معرفي»، وأن نبحث كلَّ واحدٍ من هذين القسمين على انفرادٍ. إن المراد من الربط المنطقي في هذا المقام هو الربط القياسي والاستدلالي. وإن هذا النوع من الربط ينقسم بدَوْره إلى نوعين: «إنتاجي»؛ و«غير إنتاجي». وإن الربط الإنتاجي على سبيل المثال هو أن نحصل من تركيب قضيّةٍ أو عددٍ من القضايا «الفلسفية» الخالصة على نتيجةٍ علميّة أو إثباتها، والعكسُ صحيحٌ أيضاً، أو أن نحصل من خلال تركيب قضيّةٍ أو عددٍ من القضايا «الفيزيائية» الخالصة على نتيجةٍ «أحيائية» أو إثباتها، والعكسُ صحيحٌ أيضاً. إن مثل هذا الربط لا يقوم بين القضايا وبين مختلف فروع المعرفة؛ لأن القول بوجود مثل هذا الربط لا يعني رفع الحواجز المنطقية القائمة بين مختلف فروع المعرفة. إن هذا الحاجز المنطقي لا يقتصر على العلوم الحقيقية والاعتبارية، ولا يقتصر على مجرَّد الفصل بين القضايا المشتملة على «الوجوب» عن القضايا المشتملة على «الكينونة»، وإنما يوجد مثل هذا الحاجز بين «الكينونة الفلسفية» و«الكينونة العلمية»، وبين «الكينونة الفيزيائية» و«الكينونة الأحيائية» أيضاً، وإنّ تجاهل أو رفع هذه الحواجز يُعَدُّ نوعاً من المغالطة أيضاً، بمعنى أن الأدلة القائمة على مثل هذه المقدّمات يكون عقيماً وفاقداً للاعتبار من الناحية المنطقية.
إن النتيجة التي نحصل عليها من هذا البحث عبارةٌ عن معيارٍ منطقي ومعرفي يقول: «يجب أن لا يقوم مثل هذا الارتباط بين مختلف القضايا والفروع المعرفية»، أو «يحظر إقامة مثل هذا الارتباط بين القضايا أو مختلف فروع المعرفة».
وهنا لا بُدَّ من الالتفات إلى هذه المسألة، وهي أن «المنطق» علمٌ «معياريّ» و«دستوريّ»، وعندما يُقال بعدم وجود هذا الارتباط من الناحية المنطقيّة يعني لا يجوز لنا أو لا يحقّ لنا من الناحية المنطقيّة أن نقيم مثل هذا الارتباط بين قضيّتين أو فرعين مختلفين من فروع المعرفة. إن مضمون هذه القاعدة المنطقيّة عبارةٌ عن «حظر» وحكم ودستور، وليس بيان واقعية وحقيقة عينية. وسوف نأتي على هذه المسألة في المستقبل بمزيدٍ من الشرح والتفصيل.
والمراد من الارتباط المنطقيّ غير الإنتاجيّ نوعٌ آخر من الارتباط القياسي والاستدلالي الذي يمكن على أساسه ـ مثلاً ـ أن نستنتج أو نثبت نتيجةً علميّة أو فلسفيّة من طريق تركيب قضايا علميّة وقضايا فلسفيّة. إن مثل هذا الارتباط قائمٌ بين الكثير من القضايا والكثير من الفروع المعرفيّة، أو يمكن أن يكون قائماً، ويبدو وجوده أو جوازه بديهياً. إن لكلّ علمٍ فرضيّات هي من مسائل سائر العلوم. ومضافاً إلى ذلك يمكن لوجود هذا الارتباط تقسيم العلوم إلى قسمين: علوم «منتجة»؛ وعلوم «مستهلكة». وبطبيعة الحال فإن مثل هذا الارتباط محكومٌ وخاضع للقواعد المنطقيّة، بمعنى أنه لا يمكن استنتاج أو إثبات كلّ نتيجةٍ من خلال تركيب أيّ مقدّمة بأيّ مقدّمةٍ أخرى. وإن هذا التحليل ينطوي بدَوْره على توصيةٍ و«وجوب» منطقي أو معرفي يقول: «يجب إقامة مثل هذا الارتباط بين القضايا ومختلف الفروع العلميّة»، أو «يجوز قيام مثل هذا الارتباط بين القضايا أو مختلف فروع المعرفة».
إن مرادنا من الارتباط المعرفي هو الارتباط الذي يحظى بأهمِّيةٍ على المستوى المعرفي، وإن لهذا النوع من الارتباط تداعياتٍ معرفيّةً، ولكنها غيرُ منطقيّةٍ. كما أن للارتباط المعرفي أنواعاً وأقساماً مختلفة. يمكن القول بأن ارتباط مختلف فروع المعرفة يحصل بنحوٍ عامّ من طريق النظريات المعرفيّة «الموحِّدة». إن النظريات الموحِّدة ناظرةٌ إلى تقسيم مصادر المعرفة، وإثبات وتفسير ارتباط هذه المصادر ببعضها، فإن تقسيم العلوم ـ على سبيل المثال ـ طبقاً لأسلوب التحقيق إلى ثلاثة أقسام: «عقلية»؛ و«نقلية»؛ و«تجريبية»، الوارد في نظرية القبض والبسط، وبيان الارتباط بين هذه الأقسام الثلاثة، يُعَدُّ واحداً من هذه النظريات. إن هذه النظرية تخوض في منزلة وموقع «العقل» و«التجربة الحسِّية» و«النقل» بوصفها ثلاثة مصادر معرفيّة مختلفة، وتنظر إلى القيمة والاعتبار المعرفي لهذه المصادر الثلاثة والمعلومات الناتجة عنها وطريقة الارتباط القائمة بين هذه المصادر، وتعمل على «تفسير» أو «تنظيم» كيفيّة التلفيق وتركيب المعطيات الحاصلة من هذه المصادر. ولو تخلَّتْ هذه النظرية عن موقعها لصالح نظريّةٍ أخرى ستكون هناك نسبةٌ جديدة بين مختلف فروع المعرفة، بمعنى أن الأشخاص الذين يمتلكون نظريّاتٍ معرفيّةً مختلفة سيقيمون ارتباطاً بشكلٍ متفاوتٍ بين مختلف فروع المعرفة، وسوف يحلّون التعارض القائم بين القضايا والمتبنّيات المستندة إلى مختلف مصادر المعرفة بأساليب متفاوتة.
فعلى سبيل المثال: لو التزم شخصٌ بالنظرية المعرفية للأخباريين، والتي يكون لـ «النقل» فيها، بالقياس إلى «العقل»، منزلةٌ واعتبارٌ معرفي أعلى وأقوى، ففي هذه الحالة ستكون رؤيتُه لنسبة وارتباط العلوم العقلية والعلوم النقلية، ومقدار أهمِّية هذه العلوم، وكذلك أسلوب حلّ تعارض نتائج التحقيقات الحاصلة في هذه العلوم، مختلفةً أيضاً.
وعلى هذا القياس لو التزم شخصٌ بالرؤية المعرفية للوجوديين المنطقيين ـ والتي على طبقها تختزل المعرفة في العلم التجريبي، وتعتبر القضايا غير العلميّة مهملةً وفاقدة للمعنى، وتكون القابليّة على الاختبار التجريبي معياراً لوجود المعنى والمفهوم ـ سوف يقيم نسبةً جديدة بين العقل والنقل والتجربة.
كما أن نزاع الفلاسفة «العقلانيين» والفلاسفة «الحسِّيين» في فلسفة الغرب مثالٌ آخر يمكن أن نسوقه في هذا المجال أيضاً.
إن شأن النظريّات المعرفيّة الموحِّدة لا يقتصر على مجرَّد كشف الارتباط أو طريقة الارتباط بين مختلف فروع المعرفة، أي إن الأمر ليس كما لو أن هذه النظريّات حاضرةٌ في ذهن المعرفيّين فقط، وأن العلماء الذين يشتغلون بالعلوم من الدرجة الأولى لا يستفيدون من هذه النظريات. إن هذه النظريات حاضرةٌ أيضاً في أذهان العلماء أنفسهم بشكلٍ عمليّ، وتشكِّل جزءاً من الأرضيّة اللازمة لتحصيل المعرفة. وفي ضوء حضور هذه النظريّات يقوم ارتباطٌ خاصّ بين مختلف فروع المعرفة، ويحصل بينها تناغمٌ وتوازنٌ خاصّ، حتّى وإنْ كان هؤلاء العلماء قد لا يلتفتون إلى وجود هذه النظريّات وتأثيرها بشكلٍ تفصيليّ([53]).
وعلى أيّ حالٍ يمكن القول: إن التأثير الذي تتركه أنواع التحوُّل والتكامل الأخرى في فرعٍ علميّ على سائر الفروع الأخرى ليس «بلا واسطة»، بل إن هذا التأثير يحصل من طريق نظريّةٍ معرفية تعمل على بيان أو تنظيم ارتباط مختلف الفروع العلميّة، وتقول للعلماء كيف ومتى يحقّ لهم أو يجب عليهم إقامة الارتباط بين مختلف فروع المعرفة؟ وكيف يعملون على حلّ التعارض القائم بين الآراء والنظريّات المطروحة في هذه الفروع؟ وكيف يستفيدون من معطيات سائر الفروع العلميّة؟ وهكذا.
وبالإضافة إلى النظريات المعرفيّة الموحِّدة هناك نظريّاتٌ معرفيّة أدقّ، تنظر إلى بيان وتنظيم ارتباط العلوم التي تندرج في واحدةٍ من تلك المجموعات الثلاثة. فإن فلسفة العلم بالمعنى العامّ للكلمة ـ على سبيل المثال ـ ناظرةٌ إلى العلوم التجريبية، وتبحث في مجال المنزلة والاعتبار المعرفي للتجربة الحسِّية، وارتباط الفرضيّة والمشاهدة، وارتباط هذه العلوم ببعضها، ومنشأ الثورات العلميّة، ومنطق وأسلوب العلم. وتغدو هذه النظريات أدقّ أحياناً، وتحصر دائرة بحثها وتحقيقها بالعلوم الطبيعيّة أو العلوم الإنسانيّة، مثل: فلسفة العلوم الاجتماعية، التي تبحث بشأن المبادئ المعرفية للعلوم الإنسانية، و«المعرفة من طريق الشهادة»([54])، التي تتكفَّل بدراسة المعارف «النقلية» من الزاوية المعرفية.
وهناك أيضاً نظريّاتٌ معرفية أشدّ دقّةً تختصّ بمجموعةٍ أو فرعٍ علميّ واحد، وتحقِّق في أسلوب التحقيق، وأسلوب إثبات النظريات والقضايا المطروحة في تلك المجموعة أو ذلك الفرع العلميّ الخاصّ، من قبيل: فلسفة الفيزياء، وفلسفة علم النفس، وفلسفة الاقتصاد، ومعرفة الأخلاق، التي تُعَدُّ جزءاً من فلسفة الأخلاق. وعليه يمكن تقسيم الروابط المعرفية القائمة بين مختلف فروع المعرفة إلى قسمين: «عامّة»؛ و«خاصّة»، أو إلى: «كلِّية»؛ و«جزئية»، والعمل على تنمية أو القول بنظريّةٍ خاصّة في باب كلّ واحدٍ من هذه الروابط. ولكنْ لا ينبغي اعتبار هذين النوعين من الارتباط شيئاً واحداً، أو اتّخاذ أحدهما جسراً للعبور إلى الآخر.
إن هذه النظريّات «معياريةٌ»([55])، بمعنى أنها تفسِّر أو تنصح وتجيز أخلاق التفكير والتحقيق التي يجب اتّباعها في فرعٍ أو عددٍ من الفروع المعرفية الخاصّة. إن شأن النظريّات المعرفيّة هو توجيه العلماء، والقول لهم: كيف يُثبتون فرضياتهم؟ وكيف يعملون على نقد وتقييم الفرضيات الأخرى؟ وكيف يعملون على حلّ التعارضات؟ ومتى وأين وكيف يحقّ لهم أن يتوصَّلوا إلى نتائج من تحقيقاتهم العلميّة في خارج إطار ذلك العلم؟ ومتى وأين وكيف يحقّ لهم الانتفاع من التقدُّم الحاصل في سائر الفروع المعرفيّة؟ وهكذا. إلاّ أن كشف وإثبات هذه النظريّات إنما يمكن من خلال المشاهدات المعرفيّة فقط، ولا بُدَّ للوصول إلى هذه المشاهدات من الرجوع إلى تاريخ وسنّة المعرفة ذات الصلة، والعمل على إصلاح ذلك التاريخ وتلك السنّة عقلانياً.
إن النتيجة العامّة التي يمكن أن نستخلصها من هذا البحث هي أننا نتعامل هنا مع طَيْفٍ من الروابط في غاية التنوُّع، وهي بأجمعها هامّة، وتستحقّ الاهتمام من الناحية المعرفيّة. لا يمكن، بل لا يجب، خفض هذه الروابط، وتحويلها إلى مجرَّد ارتباطٍ واحد. إن بعض هذه الروابط تقوم بين مجموعتين من القضايا فقط، أو يمكن ويجب إقامتها بينها؛ وبعضها الآخر يقوم بين فرعين علميّين؛ وبعضها بين مجموعتين من العلوم التي يشتمل كلُّ واحدٍ منها على مختلف الأفراد، وبالتالي هناك أيضاً نوعٌ خاصّ من الارتباط القائم بين جميع فروع المعرفة. إننا لبيان كلّ واحدٍ من هذه الروابط نحتاج إلى نظريّةٍ مستقلّة، وإن كلّ واحدةٍ من هذه النظريّات تتألَّف من ثلاثة أركان، وهي: التوصيف؛ والتفسير؛ والتوصية. إن الشواهد المتنوِّعة للغاية، والتي ذُكرت في نظرية القبض والبسط، يمكن تقسيمها إلى عدّة مجموعاتٍ مختلفة، وإن كلّ واحدةٍ من هذه المجموعات إنما تؤيِّد بعض هذه الروابط والنظريّات فقط، ولا تؤيِّدها بأجمعها. وفي الحقيقة فإن نظريّة القبض والبسط ليست نظريّةً واحدة، بل هي تركيبٌ وتلفيق من عدّة نظريّاتٍ مختلفة، وفي الحدّ الأدنى فإن طرحها على عدّة نظريّاتٍ يساعد على فهمها بشكلٍ أفضل، كما سيُساعد على نقدها وتقييمها بشكلٍ أوضح.
وبالتالي فإن إدراج أو إقحام جميع فروع المعرفة تحت مظلّة نظريّةٍ معرفية موحِّدة لن يستلزم سراية كلّ اكتشاف يحدث في إحدى الفروع المعرفيّة من طريق تلك النظرية إلى سائر الفروع الأخرى أيضاً؛ إذ أوّلاً: إن كلّ اكتشاف يحدث في المعارف من الدرجة الأولى لا يستوجب تغيير وتحوُّل المعرفة من الدرجة الثانية الناظرة إلى تلك المعرفة من الدرجة الأولى، وسائر المعارف الأخرى من الدرجة الأولى أيضاً. وثانياً: لكي يؤثِّر التحوُّل الحاصل في فرعٍ معرفي على الفروع الأخرى يجب أن تكون هناك إمكانيّة لإثبات أن هذا التأثير جائزٌ ومسموح به من الزاوية المنطقية والمعرفية.
وعلى هذا الأساس فإننا نوافق على أصل وجود الارتباط بين جميع الفروع العلميّة، ولكننا لا نستطيع الموافقة على تبويب هذا الارتباط في إطار التعبير القائل: «إن كلّ اكتشافٍ جديد يحصل في علمٍ يؤدّي إلى حدوث التغيير والتحوُّل في جميع الفروع العلمية»، وبالتالي «يتعيَّن على كلّ عالمٍ للقول بقضيّةٍ أو عقيدةٍ خاصّة وإثباتها أن يعمل على تنقيح جميع قضاياه ومعتقداته الأخرى أيضاً». وبطبيعة الحال فأنا لا أنسب مثل هذا القول إلى الدكتور سروش بضرسٍ قاطع، إلاّ أن بعض كلماته يُوهِم هذا الأمر والفهم لعلاقة العلوم؛ فإن القول بأن «بعض» الاكتشافات أو الفرضيّات العلميّة، من قبيل: نظرية تطوُّر الأنواع، لدارْوِن، أو نظرية مركزيّة الشمس، قد تَرَكَتْ تداعياتها الواسعة وطويلة الأمد على الفلسفة والعلوم الاجتماعية والكلام والمعرفة الدينية وغيرها، ليس دليلاً صالحاً للموافقة على القول بأن «جميع» الاكتشافات أو الفرضيّات العلمية لها ذات التأثير والخصوصية. أجل، لا ننفي احتمال أن تحصل سائر الاكتشافات العلميّة في المستقبل على هذا التأثير، وليس لدينا في الوقت الراهن دليلٌ ضدّه، إلاّ أن هذا الاحتمال مجرَّد احتمالٍ عقليّ بَحْت، وليس بالمستوى الذي تحتِّم علينا مسؤوليتنا العقلانية والمعرفية أن نرتِّب الأثر على مثل هذا الاحتمال في تفكيرنا وتحقيقنا بشأن فرعٍ معرفي خاصّ. إن العقلانية في مجال المعرفة الدينية تقتضي منا في مقام معرفة الدِّين وإثبات المتبنّيات والأحكام الدِّينية أن نعمل على تنقيح وتصحيح القواعد ما فوق الدِّينية في المعرفة الدِّينية، وعلى رأسها الفرضيّات الناظرة إلى المعايير العقلانيّة لهذ النوع من المعرفة. وليس من الضروريّ؛ لكي نثبت مثل هذه التوصية، أن نثبت أن «جميع» الفروع المعرفيّة مرتبطةٌ ببعضها.
ـ يتبع ـ
الهوامش
(*) أستاذٌ في جامعة المفيد، وأحد الباحثين البارزين في مجال الدين وفلسفة الأخلاق، ومن المساهمين في إطلاق عجلة علم الكلام الجديد وفلسفة الدين.
([1]) يقول الدكتور سروش في مقدمة المبادئ ما بعد الطبيعية للعلوم الحديثة (سروش، «پيشگفتار»، مبادي ما بعد الطبيعي علوم نوين: 10 (طهران، انتشارات صدرا): إن فلسفة العلم من فروع المعرفة. وهي على قسمين: سابقة؛ ولاحقة. وإن المعرفة اللاحقة تنقسم بدَوْرها إلى ثلاثة أقسام، وهي: التحقيق التاريخي في المبادئ غير العلمية للعلم؛ والآخر: الإصلاح العقلاني لتاريخ العلم والتحليل المنطقي لأجزائه وأعضائه الداخلية؛ والثالث والأخير: البيان المعرفي والنفسي والاجتماعي لسلوك العلماء الجماعي.
([7]) propositional knowledge or knowledge that.
([11]) إن العلم في مجال المعرفة يرادف ما يُصطلح عليه في الإنجليزية بـ (knowledge)، وفي فلسفة العلم يُرادف ما يُصطلح عليه في الإنجليزية بـ (science).
([17]) naturalized epistemology.
([22]) إن معنى العلم أو المعرفة من الدرجة أو المرتبة الأولى والثانية في كلمات الدكتور سروش مغاير للمعنى المتعارف لهذه الأمور في الثقافة الفلسفية الغربية. ففي هذه الثقافة المعرفية إنما يُعتبر العلم من الدرجة الثانية إذا كان ناظراً إلى فرع علمي (discipline)، وإلاّ سيكون من الدرجة أو المرتبة الأولى، حتّى إذا كان ناظراً إلى فقرة من العلم أو المعرفة (knowledge). وعليه فإن الذي يقع مورداً للبحث في الفيزياء أو الرياضيات هو المعرفة أو العلم من الدرجة أو المرتبة الأولى، والذي يقال بشأن الفيزياء أو الرياضيات هو المعرفة أو العلم من الدرجة أو المرتبة الثانية. إلاّ أنه إذا كان الشخص يعلم بأن حاصل ضرب 2 في 2 يساوي 4، ويعلم بعلمه هذا (يعني أنه يعلم ويعلم أنه يعلم)، فإن هذا العلم بالعلم لا يُعتبر في عُرْف الثقافة الفلسفية الغربية علماً من الدرجة أو المرتبة الثانية، في حين يذهب الدكتور سروش إلى اعتبار هذا العلم بالعلم معرفة أو علماً من الدرجة أو المرتبة الثانية أيضاً. مع الشكر الجزيل لسماحة الأستاذ مصطفى ملكيان على هذا التنويه الدقيق.
([23]) deontic / deontological.
([24]) cogniser / epistemic agent.
([25]) R. M. Chisholm (1916 ـ 1999م): فيلسوفٌ معرفي أمريكي، كسب شهرته من خلال تحقيقاته وأبحاثه في مجال الميتافيزيقا وحرية الإرادة والمعرفة وفلسفة الإدراك الحسّي. وقد تمَّتْ ترجمة كتابه (نظرية المعرفة) إلى اللغة الفارسية.
([27]) W. P. Alston (1921 ـ 2009م): فيلسوفٌ مسيحيّ بارز ترك الكثير من البحوث والدراسات الهامّة والمؤثِّرة في فلسفة اللغة والمعرفة وفلسفة الدين والفلسفة المسيحية.
([28]) للوقوف على انتقادات ألستون للنـزعة الوظائفية والمعرفة أو المعرفة الوظائفية انظر:
– Alston, W. P. (1988) «The Deontological Conception of Epistemic Justification», in J. Tomberline (ed.) Philosophical Perspectives, p. 2, 275 – 299.
وقد عمد الدكتور الإيراني المعاصر وحيد دستجردي فيلسوف العلم والمعرفة في مقالة له إلى نقد أدلة الستون ضد النـزعة الوظائفية والمعرفية، انظر:
– Vahid, H. (1998) «Deontic vs. Non-deontic Conceptions of Epistemic Justification», Erkenntnis, p. 48, 285 – 301.
([29]) doxastic / belief-oriented.
([31]) L. T. Zagzebski (1946 ـ ؟): فيلسوف في الدين والأخلاق والمعرفة. تعود شهرته إلى شرحه وتنسيقه لإحدى الصيغتين والروايتين الشهيرتين في باب المعرفة المتمحورة حول الفضيلة.
([33]) moral consequentialism.
([36]) rational reconstruction.
([37]) مضافاً إلى ذلك هل الاعتبار بتاريخ العلم ـ الذي يعتبره منتقدوه بوصفه الفائدة المترتِّبة على الرجوع إلى تاريخ العلم ـ هو شيءٌ آخر غير اكتشاف الأخطاء التي ارتكبها السابقون واكتشاف المعايير والقواعد التي يحول اتباعها دون تكرار تلك الأخطاء؟
([38]) انظر ـ على سبيل المثال ـ أدلة صدر المتألِّهين لصالح أصالة الوجود، وضدّ أصالة الماهية في المجلد الأول من الأسفار، واستدلال ابن سينا في كتاب الشفاء على إثبات تجرُّد النفس، وهو الاستدلال المعروف بـ «الإنسان المعلَّق في الفضاء»، وكذلك استدلاله على بداهة القضايا المعيارية في منطق المشرقيين.
([42]) إن هذا الأسلوب، أي الاستفادة من التمثيل والعمل على توظيف الاستدلال التمثيلي والشهودي الخاصّ بالفلسفة التحليلية الغربية، وفي كتبنا العرفانية، وكتابات بعض الفلاسفة المسلمين من ذوي المشارب العرفانية، شائعٌ على نطاقٍ واسع، انظر، على سبيل المثال: مثنوي معنوي، وشرح المنظومة للسبزواري، وتعليقات الملا هادي السبزواري على الأسفار الأربعة.
([43]) الحدسية (intuitionism): نظرية تقول بأن الحقائق الأساسية تدرك بالحدس، أو أن القِيَم والواجبات الأخلاقية يمكن إدراكها بالبداهة. انظر: منير البعلبكي، المورد الحديث، معجم إنجليزي ـ عربي.
([45]) وهذا الادّعاء مقبولٌ من قِبَل الدكتور سروش أيضاً. فإنه يقول: «يمكن توظيف المشاهدات التجريبية في إبطال المدعيات التجريبية، كما يمكن توظيف المشاهدات المعرفية في إبطال المدعيات المعرفية». (سروش، قبض وبسط تئوريك شريعت، نظريه تكامل معرفت ديني: 518، طهران، مؤسّسه فرهنگي صراط).
([46]) كما رأينا في الفصل الثالث، فإن هذا الأمر من مقتضيات العقلانية النظرية.
([47]) وبطبيعة الحال لا بُدَّ من استثناء بوبر وأتباعه من هذه القاعدة؛ لأن هؤلاء يذهبون إلى استحالة حتّى ما كان من قبيل: التأييد الظني للنظريات العلمية من قناة التجربة والاستقراء أيضاً.
([50]) إن معنى هذا الكلام هو أن الشكّ «الموضعي» (local) في الأخلاق غير معقول، بمعنى أن الفرد لا يستطيع إثبات موقفه المشكّك في مجال الأخلاق من خلال القول بالواقعية في مجال المعرفة؛ لأن المعايير المعرفية لا تختلف كثيراً عن المعايير الأخلاقية. وقد ذكرنا مزيداً من الشرح والتفصيل بشأن الاستدلال ضدّ الشكّ الأخلاقي الموضوعي في كتابنا (أخلاق تفكُّر أخلاقي).
([51]) وبطبيعة الحال، حيث إن الشهود مورد بحثنا هو من فعل العقل، يمكن القول: إن ربط المشهود معقولٌ أيضاً، ويبدو أن هذا الادّعاء صادقٌ في مورد جميع الروابط، بما في ذلك الروابط القائمة بين الظواهر الطبيعية أيضاً، بمعنى أن الربط أمر معقول دائماً. إننا ندرك من خلال التجربة أن الماء كلما بلغت درجة حرارته مئة درجة سانتيغراد فإنه سيبلغ مرحلة الغليان، ولكننا لا ندرك أن هذا الغليان «مرتبط» بتلك الدرجة المئوية. مع الشكر الجزيل لسماحة الأستاذ مصطفى ملكيان على تصحيحه الخطأ الذي ارتكبته في مورد اعتبار الربط أمراً معقولاً على الدوام.
([52]) يقول الدكتور سروش في نقد بعض كلمات المنتقدين في باب مفارقة التأييد: «إن الخطأ الآخر الذي ارتكبه هو أنه توهّم أننا نريد من مفارقة التأييد تأييدها، ولم يدرك أننا إنما أردنا ربطها، دون تأييدها. فإننا إذا حصلنا على نتيجة من مفارقة التأييد فهي أن القضايا التي تبدو في ظاهرها غير مرتبطة ليست كذلك، وأنها مترابطة في مقام الإثبات. وإن هذا الارتباط مهما كان ضعيفاً يبقى داخلاً في دائرة الارتباط، وهذا هو المطلوب». (سروش، قبض وبسط تئوريك شريعت، نظريه تكامل معرفت ديني: 604، طهران، مؤسّسه فرهنگي صراط). ولكنّنا نرى أن دلالة مفارقة التأييد على الربط دلالة شهودية، وليست دلالة قياسية واستدلالية، بمعنى أن الالتفات إلى هذه المفارقة يؤدي بنا إلى مشاهدة الربط القائم.
([53]) لا بُدَّ من الإشارة هنا إلى أن تقدُّم المعرفة أو أخلاق التفكير والتحقيق على العلوم الأخرى يعني تقدُّم العقل العملي على العقل النظري، أو تقدُّم الأيديولوجيا على العقيدة.