د. الشيخ رضا برنجكار(*)
المقدّمة
إن مسألة الجبر والتفويض من أوائل المسائل المطروحة في تاريخ علم الكلام، وقد أدّت بدَوْرها إلى تأسيس بعض المدارس الكلامية. وتعود أهمّية هذه المسألة إلى أبعادها المتعدّدة والمتنوّعة. ويمكن القول: إن عقلانية الكثير من العقائد الدينية رهنٌ بتوفُّر تصوّر وإدراك صحيح لهذا الموضوع. ومن بين هذه العقائد يمكن لنا الحديث عن فلسفة إرسال الرسل، والتكليف، والثواب والعقاب، والمعاد، والعدل الإلهي. في تاريخ الكلام الإسلامي نواجه مدرستي الجَبْر والتفويض، حيث تبلورتا في إطار المسائل المتعلقة بإرادة الإنسان وإرادة الله والقضاء والقَدَر الإلهيين. لقد مثلت هاتان المدرستان حدَّيْ الإفراط والتفريط في موضوع إرادة الإنسان، وقد تمّ طرح نظريات أخرى أيضاً في إطار بيان الطريقة الوسطى بينهما. ومن بين هذه النظريات يمكن لنا تسمية «نظرية الكسب»، وتقريراتها المتعدّدة.
وفي الأحاديث الشيعية، ضمن بيان اللوازم الفاسدة المترتبة على عقيدة الجبر والتفويض، يتمّ بيان نظرية خاصة تعرف بنظرية «الأمر بين الأمرين». وحيث تمّ إطلاق التفويض في النصوص الدينية على الكثير من المعاني؛ ومن ناحيةٍ أخرى حيث هناك اختلافٌ وغموض في تحديد القائلين بالتفويض ومعانيه الخاصة في مسألة الجبر والتفويض، سوف نعمد في هذا المقال أوّلاً إلى بياني معاني التفويض، لننتقل بعد ذلك إلى بيان مفهوم وملاك التفويض المذكور في مسألة الجبر والتفويض.
التفويض ومعانيه
إن «التفويض» لغة يعني تسليم أمر لشخصٍ، وجعل ذلك الشخص حاكماً ومهيمناً على ذلك الأمر([1]). وبملاحظة فاعل ومتعلق وكيفية التفويض تكون له أقسام ومعانٍ متعدّدة؛ بعضها إيجابي، ويحمل قيمةً أخلاقية؛ وبعضها الآخر سلبي، ومرفوض من الناحية الدينية. وفي ما يلي نعمل على بيان هذه الأقسام والمعاني:
1ـ إن أول معاني التفويض أن يفوّض الإنسان تدبير أموره إلى الله عزَّ وجلَّ. هذا، وإن تفويض الأمور إلى الله والتوكُّل على الله متقاربان. كما أنهما من حيث المعنى اللغوي قريبان من بعضهما أيضاً. ومن هنا نجد بعض اللغويين يأخذ كلّ واحد منهما في تعريف الآخر. فقد عرَّف الفيومي «التوكُّل» قائلاً: «وكلت الأمر إليه: فوّضته إليه واكتفيت به»([2]). وقد عرّف ابن فارس «التفويض» بالقول: «اتكال في الأمر على آخر، وردّه عليه»([3]). وبالإضافة إلى ما تقدّم، فقد ذكر اللغويون خصائص أخرى في تعريف التوكّل، من قبيل: «الاكتفاء، والاعتماد، والوثوق من قبل الموكِّل تجاه الوكيل، وعجز أو إظهار العجز من قبل الموكِّل»([4]). إن هذه الخصائص وإنْ لم تؤخذ من معنى التفويض، ولكنْ يبدو أنها من لوازم التفويض؛ لأن الشخص الذي يفوّض أموره وأعماله إلى آخر فإنه يعتمد عليه عادةً([5])، ويرى نفسه عاجزاً عن القيام بذلك العمل. وعليه فإن «التفويض» و«التوكُّل» وإنْ اختلفا مفهوماً، ولكنهما متقاربان في المعنى.
وجاء في الروايات ضمن بيان درجات التوكّل ما مضمونه: «فوّضوا أمركم إلى الله، وتوكّلوا عليه»([6]).
في توضيح المعنى الأول للتفويض يمكن القول: إن لدى الله تعالى إرادتين: إحداهما: الإرادة التكوينية؛ والأخرى: الإرادة التشريعية. وإن إرادة الله التكوينية لا تتخلف، ولا يمكن لشخصٍ أن يمنع من تأثيرها، وبمجرّد وقوعها يتحقّق متعلقها ـ وهو المراد ـ في الخارج. قال الله تعالى في هذا الشأن: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (يس: 82). وأما الإرادة التشريعية لله سبحانه وتعالى، والتي تتمثل بأوامره ونواهيه، فيمكن أن تتخلَّف، ولا يكتب لها التحقّق؛ نتيجة لعصيان المكلَّف لها. لا قدرة ولا قِبَل للإنسان في الوقوف بوجه الإرادة التكوينية، ولا خيار له تجاهها سوى التسليم إلى أمر الله؛ وأما في ما يتعلق بالإرادة التشريعية فهو مختارٌ، ويمكنه التسليم لأوامر الله ونواهيه أو يخالفها ويعصيها؛ إذ من شرائط التكليف القدرة والاستطاعة على الفعل والترك.
فإذا قام شخصٌ في دائرة الإرادة التشريعية لله بتسليم إرادته وأمره للإرادة الإلهية، لا في الأعمال الظاهرية فقط، بل في جميع أبعاد حياته، ولا سيَّما في سرّه وخلواته وتدبير أمور حياته([7])، يكون بذلك قد بلغ مقام التفويض. وفي الحقيقة، كما أن الإرادة التكوينية لله مفروضةٌ ومهيمنة على الإنسان تكويناً وجبراً، فإن الإنسان باختياره وإرادته يجعل الإرادة التشريعية لله حاكمةً على إرادته واختياره، ويترك أموره إلى إرادة الله.
إن لازم مثل هذا التفويض أن يكون الشخص مطمئناً إلى قدرة الله المطلقة وإرادته الخيِّرة في حقه، وأن يكون راضياً بتدبيره وإرادته، ويعلم أنه لن يتحقّق أيّ شيء إلاّ بإذنه، وأن جميع الممتلكات والأموال والطاقات والقوى إنما هي من الله، وأنه متى ما أراد الله أمكنه أن يسلبه جميع ذلك. وعليه فإن مثل هذا التفويض، في الوقت الذي لا يتنافى مع حرّية وإرادة الإنسان، ينسجم مع قدرة الله المطلقة أيضاً([8]).
وجاء في الحديث أن رسول الله| قال: «إذا قال العبد: (لا حول ولا قوّة إلاّ بالله) فقد فوّض أمره إلى الله، وحقّ على الله أن يكفيه»([9]).
إن هذا المعنى من التفويض يحظى في الأخلاق الدينية بأهمّية خاصة. وقد تمّ التعريف به في الأحاديث بوصفه: ركن الإيمان([10])، وحقيقة العبودية([11])، واليقين([12]). ومن بين آثاره يمكن الإشارة إلى: عناية الله الخاصّة بالإنسان([13])، والطمأنينة الروحية([14])، والقدرة على تحمّل الصعاب وتصاريف الحياة([15]).
2ـ المعنى الثاني من التفويض هو التفويض التشريعي من قِبَل الله للناس، بمعنى أنه في ما يتعلق بالتكاليف والأعمال التي يجب عليهم فعلها أو تركها قد تركهم إلى أنفسهم، ورفع التكليف عنهم.
وهذا المعنى من التفويض يمكن أن يكون على شكلين:
الشكل الأوّل: أن تكون جميع الأفعال مباحة، ويمكن للإنسان أن يفعل كل شيء. وهذا المعنى هو الإباحية ونفي مطلق التكليف. وقد عرَّف البغدادي بفرقة المزدكية بوصفها من الفرق الإباحية قبل الإسلام، وبفرق الخرّمدينيّة ـ التي تنقسم بدورها إلى قسمين، وهما: البابكية؛ والمازيارية ـ بوصفها من الفرق القائلة بالإباحية بعد ظهور الإسلام، وضمن الجغرافيا الإسلامية([16]). كما تمّ اتهام بعض فرق الغلاة والمتصوّفة بالإباحية أيضاً([17]). ويمكن اعتبار فرقة أبي مسلمة من القائلين بهذه المسألة أيضاً([18]).
الشكل الثاني: إن هناك تكاليف على الناس، ولكن تحديد تلك التكاليف يعود إليهم، وإنهم يستطيعون من خلال الاستعانة بعقولهم أن يدركوا حُسْن وقُبْح ومصالح ومفاسد جميع الأفعال، دون حاجة إلى الشرائع والأحكام الدينية. وقد نُسب هذا القول في العالم الإسلامي إلى محمد بن زكريّا الرازي، وعلى أساسه اعتبر منكراً للنبوّة([19]).
وقد فسّر الشيخ المفيد معنى التفويض في حديث: «لا جبر، ولا تفويض، بل أمرٌ بين الأمرين» بالشكل الأول من المعنى الثاني للتفويض، أي الإباحية. فهو بعد أن فسّر «الجبر» بإجبار شخص على عمل، ورأى أن حقيقته إيجاد الفعل فيه، قال: «والتفويض هو القول برفع الحظر عن الخلق في الأفعال، والإباحة لهم مع ما شاؤوا من الأعمال. وهذا قول الزنادقة وأصحاب الإباحات. والواسطة بين هذين القولين أن الله تعالى أقدر الخلق على أفعالهم، ومكّنهم من أعمالهم، وحدّ لهم الحدود في ذلك، ورسم لهم الرسوم، ونهاهم عن القبائح بالزجر والتخويف والوعد والوعيد، فلم يكن بتمكينهم من الأعمال مجبراً لهم عليها، ولم يفوِّض إليهم الأعمال؛ لمنعهم من أكثرها، ووضع الحدود لهم فيها، وأمرهم بحَسَنها، ونهاهم عن قبيحها. فهذا هو الفصل بين الجبر والتفويض»([20]).
وقد بيَّن الشيخ الصدوق الصورة الثانية من المعنى الثاني للتفويض في إطار توضيح عبارة: «لا جبر، ولا تفويض، بل أمرٌ بين أمرين»، قائلاً: «عنى بذلك أن الله ـ تبارك وتعالى ـ لم يجبر عباده على المعاصي، ولم يفوِّض إليهم أمر الدين حتّى يقولوا فيه بآرائهم ومقائسهم، فإنه ـ عزَّ وجلَّ ـ قد حدَّ ووظّف وشرّع وفرض وسنّ وأكمل لهم الدين»([21]).
ونقل في موضع آخر حديثاً عن الإمام الصادق×. في توضيح عبارة: «لا جبر، ولا تفويض، بل أمرٌ بين أمرين»: «مثل ذلك مثل رجل رأيته على معصية، فنهيتَه فلم ينتهِ، فتركتَه، ففعل تلك المعصية، فليس حيث لم يقبل منك فتركتَه أنت الذي أمرتَه بالمعصية»([22]).
وفي هذا الحديث يبدو أن «النهي» إشارة إلى عدم التفويض، وأن «الإهمال» و«عدم الإجبار» ناظرٌ إلى عدم الجبر.
وإن للطبرسي كلاماً شبيهاً ببيان الشيخ المفيد والشيخ الصدوق؛ إذ يقول: «فأما التفويض الذي أبطله الصادق×، وخطّأ مَنْ دان به، فهو قول القائل: (إن الله ـ عزَّ وجلَّ ـ فوّض إلى العباد اختيار أمره ونهيه، وأهملهم…)»([23]).
ثم روى بعد ذلك عن الإمام الصادق× قوله: «لو فوض الله أمره إليهم على جهة الإهمال لكان لازماً له رضا ما اختاروه، واستوجبوا به الثواب، ولم يكن عليهم في ما اجترموا العقاب؛ إذ كان الإهمال واقعاً»([24]).
وفي حديثٍ آخر روي عن الإمام الصادق× أنه قال، بعد ردّ الجبر والتفويض: «لو فوَّض إليهم لم يحصرهم بالأمر والنهي»([25]).
3ـ تفويض بعض أمور الدين إلى النبيّ الأكرم| وأهل بيته^، حيث تمّ تأييد ذلك والتأكيد عليه في الآيات والأحاديث، إلاّ أن بيان موارد وحدود هذا التفويض يؤدّي إلى اتساع رقعة البحث بما لا ينسجم والغاية الرئيسة لهذه المقالة المختصرة([26]).
4ـ التفويض التكويني للخلق والرزق من قبل الله إلى مجموعة بعينها، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى قد فوّض أمر خلق العالم، وإيصال الرزق، وتلبية حاجة الكائنات في العالم، إلى النبيّ الأكرم| وأهل بيته^. وقد ذهب الشيخ المفيد إلى القول بأن مصداق المفوّضة بهذا المعنى هم جماعةٌ من الغلاة. وقال في هذا الشأن: «المفوضة فرقة من الغلاة الذين غلَوْا في حقّ بعض المخلوقين، وأجروا في حقهم الأحكام الإلهية، تعالى الله عن ذلك. وقول هذه الفرقة الذي فارقوا به غيرهم أنهم قالوا في الأئمّة^ أنهم عبادٌ مخلوقون، وأن ذواتهم حادثة، ونفَوْا سمات القِدَم عنهم، وقالوا: إن الله تعالى تفرّد بخلقهم خاصّة، ثم فوَّض إليهم خلق العالم بما فيه، وجعل إليهم أمر الخلق والرزق وجميع الأفعال الواقعة في الكون»([27]).
وهناك عبارةٌ للشيخ الطوسي يمكن أن يستشفّ منها ذات هذا المعنى من التفويض؛ إذ يقول: «إن هذا الدليل يدلّ على أن الصنعة [خلق العالم] تنتهي إلى صانع قديم، ولا يدلّ على أن صانع العالم بلا واسطةٍ هو القديم تعالى، فيحتاج في إبطال ذلك إلى طريقةٍ أخرى، ليبطل مذهب المفوّضة وغيرهم»([28])؛ لأن المفوّضة يقولون بأن خلق الكون ينتهي في نهاية المطاف إلى الله سبحانه وتعالى، وإن الواسطة بين الله والكون هم الأئمة^، وإنهم هم الذين خلقوا العالم.
رُوي عن الإمام الرضا× أنه قال: «مَنْ زعم أن الله يفعل أفعالنا ثمّ يعذِّبنا عليها فقد قال بالجبر، ومن زعم أن الله عزَّ وجلَّ فوّض أمر الخلق والرزق إلى حججه^ فقد قال بالتفويض، والقائل بالجبر كافرٌ، والقائل بالتفويض مشركٌ»([29]).
5ـ التفويض التكويني للأفعال من قِبَل الله إلى الناس، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى قد خوَّل الناس القدرة على فعل الأشياء، وأنه تخلّى عن ممارسة هذه القدرة. وعلى هذا الأساس، رغم تفويض القدرة إليهم إلاّ أنهم إنما حصلوا على ذلك من قِبَل الله، ولكنهم بعد حصولهم على هذا التفويض يقومون بأفعالهم على نحو الاستقلال، ولن يكون تحقُّق أفعالهم منوطاً بإذن الله وإجازته التكوينية، بل حيث إن الله لا يكون قادراً على القيام بهذه الأفعال فإنه لا يكون قادراً على الحيلولة دون وقوعها، ويكون عاجزاً بالنسبة إلى متعلّق قدرة وإرادة الإنسان.
كما أن هذا المعنى من التفويض يمكن أن يكون بدَوْره على شكلين:
الشكل الأوّل: أن يتمّ تفويض جميع الأفعال إلى الإنسان.
الشكل الثاني: إن هذا التفويض إنما يقتصر على موارد خاصّة فقط، من قبيل: التكاليف الشرعية.
إن لازم هذا التفويض من جهةٍ هو استقلال الإنسان؛ ومن جهةٍ أخرى عجز الله وضعفه. رُوي عن الإمام الباقر× أنه قال: «إن الله عزَّ وجلَّ لم يفوِّض الأمر إلى خلقه وَهْناً منه وضعفاً، ولا أجبرهم على معاصيه ظلماً»([30]).
يتّضح من هذا الحديث وأمثاله أن الملاك والعلامة الرئيسة للتفويض ـ المطروح في مقابل الجبر ـ هو ضعف الله وعجزه، وأن ملاك الجبر هو ظلمُ الله للعباد. وإن سبب عجز الله يكمن في أنه لا يستطيع الوقوف أمام تأثير ما هو مقدورٌ للإنسان. رُوي عن الإمام الصادق× أنه قال: «الله أكرم من أن يفوِّض إليهم»([31]).
وفي روايةٍ أخرى عنه× أنه قال: «إن الناس في القدر على ثلاثة أوجه: رجل يزعم أن الله عزَّ وجلَّ أجبر الناس على المعاصي فهذا قد ظلم الله في حكمه، فهو كافرٌ؛ ورجل يزعم أن الأمر مفوَّض إليهم فهذا قد أوهن الله في سلطانه، فهو كافرٌ؛ ورجل يزعم أن الله كلَّف العباد ما يطيقون، ولم يكلِّفهم ما لا يطيقون، وإذا أحسن حمد الله، وإذا أساء استغفر الله، فهذا مسلمٌ بالغ»([32]).
ورد في حديثٍ أنه تمّ تناول مسألة الجبر والتفويض في مجلس الإمام الرضا×، فقال: «ألا أعطيكم في هذا أصلاً لا يختلفون، ولا يخاصمكم عليه أحدٌ إلاّ كسرتموه؟ قلنا: إنْ رأيت ذلك، فقال: إن الله تعالى لم يُطَعْ بإكراهٍ، ولم يعْصَ بغلبة، ولم يهمل العباد في ملكه. هو المالك لما ملكهم، والقادر على ما أقدرهم عليه؛ فإنْ ائتمر العباد بطاعته لم يكن الله عنها صادّاً، ولا منها مانعاً؛ وإنْ ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل، وإنْ لم يحُلْ ففعلوا فليس هو الذي أدخلهم فيه»([33]).
يتّضح من هذه الحديثين أن الجبر المرفوض هو الذي لا يمنح فيه الله الإنسانَ القدرة على الفعل، ومع ذلك يكلِّفه بفعله. ولازم هذا نسبة الظلم إلى الله. والتفويض يعني أن الله يعطي القدرة إلى الإنسان بشكلٍ مطلق، بحيث لا يملك بعد ذلك أيّ قدرة على الحيلولة دون ما يصدر عن الإنسان من الأفعال. ولازم ذلك نسبة الضعف والعجز إلى الله من جهةٍ؛ وإثبات الاستقلالية للإنسان من جهةٍ أخرى. و«الأمر بين الأمرين» يعني أن يمنح اللهُ القدرة للإنسان على القيام بالأفعال التي تقع مورداً للتكليف، وفي الوقت نفسه يبقى مالكاً لزمام تلك القدرة، بل حيث تقع قدرة الإنسان في طول قدرة الله، ويكون الله في هذه العلاقة الطولية هو الأقدر، يمكن له في كلّ لحظةٍ أن يحدّ من تأثيرها أو يسلبها تماماً.
إن سلب القدرة بمعنى أن لا يتمكّن الإنسان من القيام بالفعل الحقيقي والأولي له، الذي هو في حقيقته فعلٌ وجداني وقلبي، وعبارةٌ عن الإرادة الحقيقية للأفعال. وإن المنع من تأثير القدرة والإرادة يعني أن الإنسان رغم إرادة الفعل، إلاّ أن هذا الفعل لا يكتب له التحقُّق على المستوى الخارجي.
وقد تمَّ التأكيد في الحديث على تفوُّق قدرة الله على قدرة الإنسان: «هو… القادر على ما أقدرهم عليه»([34]).
القضاء والقَدَر
لتوضيح المعنى الخامس من التفويض تجدر الإشارة إلى ارتباطه بمسألة القضاء والقدر. ولا يخفى بطبيعة الحال أن البحث بشأن القضاء والقدر ومعناهما الدقيق في الآيات والأحاديث، ونظريات المتكلِّمين فيهما، تحتاج إلى مجالٍ أوسع. ولكنْ باختصارٍ يمكن اعتبارهما حضور الله وتدخّله وتصرّفه في مقدار وحدود الأشياء والأفعال وتحقّقها.
رأينا أن التفويض يؤدّي إلى حرّية الإنسان المطلقة، واستقلاله في أفعاله الاختيارية، وخلع يد الله وعجزه تجاه هذه الأفعال. إن لازم هذا المعنى هو نفي القضاء والقدر، وتدخّل وتصرّف الله في أعمال الإنسان، الذي يتمّ بيانه عادة بعنوان «القدر»، ويطلق على القائلين به مصطلح «القدرية». وعلى الرغم من إطلاق مصطلح «القدرية» على كلتا الجماعتين، أي القائلين بالقضاء والقدر و«الجبرية»([35])، وكذلك القائلين بنفي القضاء والقدر و«المفوِّضة»([36]) أيضاً، إلاّ أن هذا المصطلح يطلق في العادة على المنكرين للقضاء والقدر. ونحن هنا سنأخذ هذا المعنى بنظر الاعتبار أيضاً.
بسبب مطابقة مفهوم التفويض لاعتقاد الشيخ الكليني فقد اختار عنوان «الجبر والقدر والأمر بين الأمرين» لأحاديث الجبر والتفويض([37]). وفي الروايات أيضاً نجد في بعض الأحيان استعمال القدر بدلاً من التفويض في مقابل الجبر أيضاً. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أنه رُوي عن الإمام الصادق× أنه قال: «لا جبر، ولا قدر، ولكنْ منزلة بينهما»([38]).
وفي حديثٍ آخر عنه× أنه قال: «الله أكرم من أن يكلِّف الناس ما لا يطيقون، والله أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد»([39]).
وقال في موضعٍ آخر: «إن الله ـ عزَّ وجلَّ ـ خلق الخلق فعلم ما هم صائرون إليه، وأمرهم ونهاهم، فما أمرهم به من شيءٍ فقد جعل لهم السبيل إلى الأخذ به، وما نهاهم عنه من شيءٍ فقد جعل لهم السبيل إلى تركه، ولا يكونون آخذين ولا تاركين إلاّ بإذن الله»([40]).
وعلى هذا الأساس فإن الناس من جهةٍ ليسوا مجبرين؛ لأنهم يتمتّعون بالقدرة والإرادة؛ كما أن الاعتقاد بالتفويض من جهةٍ أخرى ليس صحيحاً؛ لأن القضاء والقدر الإلهي حاكمٌ عليهم، ولا يمكنهم فعل أيّ شيء، إذا كان الله قد أذن بتحقّقه تكويناً، ولا يحول دون صدوره. قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (التكوير: 29).
«قد كان ورد على عبد الملك [بن مروان] رجلٌ من القدرية، فحضر جميع مَنْ كان بالشام، فأعياهم جميعاً، فقال: ما لهذا إلاّ محمد بن عليّ، فكتب إلى صاحب المدينة أن يحمل محمد بن عليّ إليه، فأتاه صاحب المدينة بكتابه، فقال أبو جعفر×: إني شيخٌ كبير لا أقوى على الخروج، وهذا جعفر ابني يقوم مقامي، فوجِّهه إليه، فلما قدم على الأموي أزراه لصغره، وكره أن يجمع بينه وبين القدريّ؛ مخافة أن يغلبه، وتسامع الناس بالشام بقدوم جعفر؛ لمخاصمة القدرية، فلما كان من الغد اجتمع الناس بخصومتهما، فقال الأمويّ لأبي عبد الله×: إنه قد أعيانا أمر هذا القدريّ، وإنما كتبتُ إليه لأجمع بينه وبينه، فإنه لم يَدَعْ عندنا أحداً إلاّ خصمه، فقال: إنّ الله يكفيناه، قال: فلما اجتمعوا قال القدريّ لأبي عبد الله×: سَلْ عما شئت، فقال له: اقرأ سورة الحمد، قال: فقرأها، وقال الأمويّ ـ وإنا معه ـ: ما في سورة الحمد علينا، إنا لله وإنا إليه راجعون، قال: فجعل القدري يقرأ سورة الحمد حتّى بلغ قول الله تبارك وتعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، فقال له جعفر: قِفْ، مَنْ تستعين؟ وما حاجتك إلى المعونة؟ إن الأمر إليك، فبُهِتَ الذي كفر»([41]).
ويبدو أن المعنى الأصلي للتفويض في الأفعال، الذي يتمّ طرحه في مقابل الجبر في الأفعال، هو هذا المعنى الخامس، رغم أن المعنى الثاني والرابع يطرحان في مقابل الجبر أيضاً. ويمكن العثور على وجهٍ جامع بين المعنى الثاني والخامس، واعتباره معنى سادساً، ببيان أن ما يُطرَح في مقابل الجبر المطلق هو التفويض المطلق، وعلى طبق ذلك تكون الأفعال بشكلٍ مطلق (تكويناً وتشريعاً) قد تُركت للإنسان. ويحتمل أن تكون بعض الأحاديث ناظرةً إلى هذا المعنى، من قبيل: الحديث المنقول في المعنى الثاني، وهو الحديث القائل: «لو فوّض إليهم لم يحصرهم بالأمر والنهي»، بمعنى أن الله لو كان ترك جميع الأمور إلى الإنسان بالمطلق لما كان هناك معنىً لتشريع الأحكام من قبل الله.
مَنْ هم المفوِّضة؟
علينا الآن أن نرى مَنْ هم المفوّضة بالمعنى الخامس. يمكن التعريف بجماعتين بوصفهما مصداقاً لهذا المعنى، وهما:
الجماعة الأولى: هي الجماعة التي تعرف بـ «المرجئة القدرية»، حيث تنقسم المرجئة إلى ثلاثة([42]) أو أربعة([43]) أقسام، واحدة منها هي «المرجئة القدرية». إن هذه الجماعة التي تعتبر من أوائل الفرق الكلامية بين المسلمين كانت تؤمن بـ «الإرجاء»([44])، وتقول في الوقت نفسه بنفي التقدير الإلهي في أفعال الإنسان. ومن أبرز وجوه هذه الفرقة الكلامية: معبد الجهني، وغيلان الدمشقي، ومحمد بن شبيب، وأبي شمر، وصالح. وقد عرَّف الشهرستاني بغيلان الدمشقي بوصفه القدريّ الأول([45]). وقد ذهب ابن كثير إلى الاعتقاد بأن معبد الجهني هو أوّل مَنْ تكلّم في القدر، وأن غيلان الدمشقي إنما أخذ هذا منه. وقد نقل أن معبد الجهني بدَوْره قد تعلم القَدَر من شخصٍ نصراني من أهل العراق([46]). وقد ذكر المستشرقون آراء متعدّدة في هذا الشأن([47]).
والذي يمكن نسبته إلى هذه الجماعة بالقطع واليقين هو إنكار القول بالجبر. وقد شاع أمر هذه الجماعة في عصر بني أمية إلى حدٍّ كبير. وقد نقل القاضي عبد الجبّار المعتزلي عن أستاذه أبي علي الجبّائي أن أوّل مَنْ أظهر القول بالجبر هو معاوية بن أبي سفيان، وأنه إنما قام بذلك لتبرير أعماله وممارساته، وإضفاء الشرعية على حكومته. ومن هنا فقد ذهب [القاضي عبد الجبّار] إلى الاعتقاد بأن أمثال غيلان الدمشقي إنما قُتل على يد بني أمية؛ بسبب معارضته للجبر([48]).
وإن أهم وثيقة بشأن عقائد المرجئة القدرية رسالة غيلان الدمشقي إلى الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز. وفي هذه الرسالة صرَّح برفض القول بالجبر، معتبراً إياه مشتملاً على نسبة الظلم والقبيح إلى الله([49]). ولا يمكن لنا أن نستنبط القول بالتفويض من هذه الكلمات. بَيْدَ أن مؤرِّخي علم الكلام قد نسبوا إلى هذه الجماعة عقائد أخرى؛ فقد نقل أن معبد الجهني قال لشخصٍ يتعلّل بنفي التقدير الإلهي: «لا قَدَر، والأمر أنف». وقد فُهم من هذا الكلام أنه لم يكن ينفي القول بالقضاء والقَدَر الإلهي فقط، وإنما كان ينكر علم الله الأزلي أيضاً([50]).
وقد نسب الشهرستاني والبغدادي القول بالقَدَر إلى هذه الجماعة([51]). وقد عدّ الشهرستاني من بين آراء أبي شمر القَدَر ونسبة تقدير الخير والشرّ إلى الإنسان([52]). قال البغدادي: «والعدل الذي أشار إليه أبو شمر شركٌ على الحقيقة؛ لأنه أراد به إثبات خالقين كبيرين غير الله تعالى»([53]). فلو صحّت نسبة هذه الأمور المتقدّمة إلى هذه الجماعة أمكن اعتبارها من «المفوّضة»؛ إذ إنها من جهة تنكر القضاء والقَدَر، كما أنها من جهةٍ أخرى تضع البشر في عرض الله، ولازم كلا هذين الأمرين هو القول بالتفويض.
والجماعة الثانية التي يمكن نسبة التفويض إليها هم المعتزلة. بَيْدَ أن المتكلّمين من الإمامية في البحث عن الجبر والتفويض يذهبون عادةً إلى اعتبار المعتزلة موافقين لرأيهم. وقد سلك هذا النهج كلٌّ من: العلاّمة الحلّي في كتبه الكلامية([54])؛ والفاضل المقداد وأبي الفتح بن مخدوم الحسيني في شرحَيْهما على الباب الحادي عشر([55]). كما أن الشيخ المفيد يرى أن المعتزلة ـ باستثناء ضرار وأتباعه ـ موافقون للإمامية([56]). وكما رأينا في البحث عن المعنى الثاني من التفويض، فإنه في إيضاح الحديث القائل: «لا جبر، ولا تفويض، بل أمرٌ بين أمرين»، كان يفسِّر التفويض بالمعنى الثاني، أي الإباحية، وطبقاً لذلك لا يمكن اعتبار المعتزلة من القائلين بالتفويض.
اختلاف آراء المعتزلة في قدرة الله على مقدور العبد
أما المعنى الأصلي للتفويض في الأفعال فهو المعنى الخامس. ومن هنا يجب أن نرى ما إذا كان المعتزلة بهذا المعنى يندرجون ضمن المفوّضة أم لا. وعلى أساس القول بأن ملاك التفويض هو العجز وعدم قدرة الله على أفعال الإنسان يرتبط هذا الأمر بالمسألة الكلامية القائلة: «هل الله تعالى قادرٌ على مقدور العبد أم لا؟». وقد أرجع الأشعري هذه المسألة إلى اختلافين، وهما:
أوّلاً: هل الله قادرٌ على مقدور العبد أم لا؟
وثانياً: هل الله قادرٌ على جنس مقدور العبد أم لا؟
وقد ذكر هذين البحثين في الجزء الأول والثاني من كتاب (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلّين). ويمكن بيان خلاصة أبحاثه على النحو التالي، حيث يقسِّم المعتزلة في هاتين المسألتين إلى ثلاث فرق، وهي:
1ـ «قال الشحّام: إن الله يقدر على ما أقدر عليه عباده، وإن حركة واحدة مقدورة تكون مقدورة لقادرين: لله؛ وللإنسان. فإن فعلها القديم كانت اضطراراً، وإن فعلها المحدث كانت اكتساباً [واختياراً] … زعم الشحّام أن الله يقدر على ما أقدر عليه عباده، وأن حركة واحدة تكون مقدورةً لله وللإنسان؛ فإنْ فعلها الله كانت ضرورةً؛ وإنْ فعلها الإنسان كانت كسباً»([57]).
2ـ «قال إبراهيم [النظّام] وأبو الهذيل وسائر المعتزلة والقدرية، إلاّ الشحّام: لا يوصف البارئ بالقدرة على شيءٍ يقدر عليه عباده، ومحالٌ أن يكون مقدور واحد لقادرين»([58]).
إن القائلين بالقول الثاني ـ وهم جميع المعتزلة، عدا الشحّام ـ ينقسمون إلى قسمين([59]):
أـ «قال محمد بن عبد الوهّاب الجبائي وكثير من المعتزلة: إن البارئ سبحانه قادر على ما هو من جنس ما أقدر عليه عباده، من الحركات والسكون وسائر ما أقدر عليه العباد، وإنه قادر على أن يضطرهم إلى ما هو من جنس ما أقدرهم عليه»([60]).
ب ـ «قال البغداديون من المعتزلة: لا يوصف البارئ بالقدرة على فعل عباده، ولا على شيء هو من جنس ما أقدرهم عليه»([61]).
ومن بين أقوال المعتزلة الثلاثة، لا يؤدّي القول الأول إلى التفويض؛ لأن إعطاء القدرة للإنسان بحيث لا يلزم منها رفع القدرة عن الله ونسبة العجز له. وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار الله قادراً على أفعال الإنسان، بل أقدر منه على ذلك، رغم أن الله في مورد الفعل الاختياري الذي يقع مورداً للتكليف لا يستفيد من قدرته. إن الله تعالى ـ طبقاً لهذا القول ـ قد أعطى الإنسان القدرة والاستطاعة، ولكنّه في الوقت نفسه يستطيع أن يحول دون فعله. وإن هذه الحيلولة قد تكون من خلال سلب أصل القدرة والاستطاعة من الإنسان، ومن الممكن أن تبقى الاستطاعة لدى الإنسان وتحول دون تأثير الفعل الخارجي، وتمنع من عمله. وعلى هذا الأساس فإن الله تعالى هو الأقدر من كلّ حيثٍ، وعلى أيّ شكل، ويمكنه أن يمنع من تأثير فعل الإنسان، سواء في ذلك فعله الجوانحي ـ أي الإرادة ـ أو فعله الجوارحي والخارجي. إن هذه النظرية هي ذات نظرية «الأمر بين أمرين» التي يقول بها الأئمة الأطهار^ والمتكلِّمون من الإمامية. ومن بين المعتزلة لا يمكن عدُّ أيّ شخص موافقاً لهذه النظرية بحَسَب الظاهر، سوى شخصٍ واحد، هو الشحّام.
والقول الثالث المنسوب إلى المعتزلة في بغداد هو التفويض المَحْض؛ لأن لازمه القول برفع يد الله بالكامل وعجزه عن القيام بأفعال الإنسان، بمعنى أنه مع ثبوت الاستطاعة للإنسان لا يمكن لله أن يمنع الإنسان من القيام بأفعاله بأيّ حالٍ من الأحوال، سواء بالنسبة إلى أصل المقدور أو جنسه. وبطبيعة الحال فإن تمكّن الله من سلب أصل القدرة من الإنسان أو عدم تمكّنه سيكون طبقاً لهذا القول أمراً مشكوكاً فيه. بَيْدَ أن القدر المتيقَّن هو أنه مع ثبوت قدرة الإنسان يكون الله عاجزاً بالنسبة إلى فعل الإنسان، ولذلك يكون التفويض صادقاً.
وأما القول الثاني الذي يمثِّل الحدّ الوسط بين القولين فهو التفويض المعتدل؛ إذ من حيث إن الله عاجزٌ عن أصل مقدور العبد، وغير قادر عليه، وإن الفعل قد تمّ تفويضه إلى الإنسان، يكون قولاً بالتفويض؛ ومن حيث إن الله قادرٌ على جنس ذلك المقدور، ويمكنه أن يجبر الإنسان على جنس مقدوره، ويمنع من تأثير جنس المقدور، لن يكون قولاً بالتفويض.
وبناءً على هذا البيان المذكور يتّضح أن جميع المعتزلة قائلون بالتفويض، باستثناء الشحّام، رغم أن بعض المفوّضة متمحّضون في هذا القول، وبعضهم معتدلون.
لقد خصّص القاضي عبد الجبّار المعتزلي فصلاً مستقلاًّ وموسّعاً من كتابه (المغني) بعنوان: «في استحالة مقدور لقادرين أو لقدرتين»، وأقام عليه الكثير من الأدلة. وإن بعض مباحث هذا الفصل تمثِّل آراء أستاذَيْه: أبي عليّ الجبّائي، وأبي هاشم الجبّائي([62]). كما أنه يرى استحالة تعلّق قدرتين من قادر واحد على مقدورٍ واحد([63]). وقد أعاد هذا الكلام في كتبه الأخرى أيضاً([64]).
وقد نسب الشهرستاني القول بأن الله غير قادر على ذنوب البشر إلى النظّام المعتزلي؛ إذ ينقل عنه قوله: «إن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على الشرور والمعاصي، وليست هي مقدورة للباري تعالى؛ خلافاً لأصحابه، فإنهم قضَوْا بأنه غير قادر عليها، لكنه لا يفعلها؛ لأنها قبيحة»([65]). وعليه يمكن اعتبار النظّام ـ طبقاً لهذا القول ـ من المفوّضة. بَيْدَ أن أصحابه لم يكونوا يقولون بالتفويض. كما نسب القول بعجز الله عن بعض الأمور الأخرى إلى النظّام أيضاً([66]).
وقد ذكر الشهرستاني أن من بين العقائد الأخرى التي يقول بها أبو عليّ الجبّائي وأبو هاشم الجبّائي القول بنسبة الأفعال إلى العباد على نحو الخلق والاستقلال([67])، بمعنى أن العباد يستقلّون عن إرادة الله في خلق أفعالهم. وقد رأينا من خلال الأبحاث السابقة أن ملاك التفويض يكمن في استقلال الإنسان في أموره.
يمكن اعتبار المعتزلة من حيث إنكار القضاء والقدر الإلهي من القائلين بالتفويض. ومن ألقاب المعتزلة الأخرى «القدرية»([68]). ومن العقائد التي ينسبها البغدادي إلى جميع المعتزلة القول بأن الله ليس له أيّ صنع وتقدير في أفعال العباد، وحتّى أعمال سائر الحيوانات. ورأى أن ذلك هو السبب في تسمية المعتزلة بـ «القدرية»([69]). كما نسب الفضل بن شاذان نفي القضاء والقدر إلى المعتزلة أيضاً([70]). ونُقل أيضاً أن واصل بن عطاء ـ مؤسّس مدرسة الاعتزال ـ قد تأثَّر في الاعتقاد بالقدر بمذهب معبد الجهني وغيلان الدمشقي([71]).
الهوامش
(*) عضو الهيئة العلميّة في جامعة طهران، ومناصرٌ معروف للمدرسة التفكيكيّة.
([1]) انظر: أحمد بن فارس بن زكريا، معجم مقاييس اللغة 4: 460، تحقيق: عبد السلام محمد هارون ، مكتب الإعلام الإسلامي، قم، 1404هـ؛ الجوهري، الصحاح 3: 1099، تحقيق: أحمد عبد الغفور العطار، دار العلم للملايين، بيروت، 1407هـ؛ الفيومي، المصباح المنير: 483، دار الحجرة، 1405هـ؛ ابن الأثير، النهاية 3: 479، إسماعيليان، قم، 1367هـ.ش.
([2]) الفيّومي، المصباح المنير: 670.
([3]) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة 4: 460.
([4]) انظر: الفيومي، المصباح المنير: 670؛ ابن فارس، معجم مقاييس اللغة 6: 136؛ الزمخشري، أساس البلاغة: 508؛ الجوهري، الصحاح 5: 1845؛ ابن الأثير، النهاية 5: 221.
([5]) الكليني، الكافي 2: 65، ح5، تصحيح: علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1338هـ.
([6]) انظر: المصدر السابق 2: 65، ح5؛ المجلسي، بحار الأنوار 78: 336، ح18، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1362هـ.ش.
([7]) المجلسي، بحار الأنوار 1: 225، ح77.
([8]) على الرغم من أن المعنى المذكور للتفويض ولوازمه هو غير مسألة الجبر والتفويض المصطلح، إلاّ أنه يتناغم تماماً مع نظرية (الأمر بين الأمرين).
([9]) أحمد بن محمد بن خالد البرقي، المحاسن 41: 53.
([10]) ورّام، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر 2: 184، دار التعارف، بيروت.
([11]) انظر: المجلسي، بحار الأنوار 1: 225، ح77.
([12]) انظر: المصدر السابق 70: 180، ح48.
([13]) انظر: سورة غافر: 45؛ البرقي، المحاسن 41: 53.
([14]) انظر: المجلسي، بحار الأنوار 1: 78، ح164، الباب الأول.
([15]) انظر: المصدر السابق 1: 77 ـ 225.
([16]) انظر: عبد القاهر البغدادي، الفرق بين الفرق: 201 ـ 202، دار الكتب العلمية، بيروت.
([17]) انظر: محمد جواد مشكور، فرهنگ فرق إسلامي: 5، بنياد پژوهشهاي إسلامي آستان قدس رضوي، مشهد، 1372هـ.ش.
([18]) كان هؤلاء يعتقدون بإمامة أبي مسلم الخراساني، وحلول روح الله فيه، وكانوا يعتقدون بإباحة جميع الأشياء. انظر: النوبختي، فرق الشيعة: 75، ترجمه إلى اللغة الفارسية: محمد جواد مشكور، مركز انتشارات علمي وفرهنگي، طهران، 1361هـ.ش.
([19]) تاريخ فلسفة در إسلام 1: 628، تحقيق: م. م. شريف، مركز نشر دانشگاهي، طهران، 1362هـ.ش.
([20]) المفيد، تصحيح الاعتقاد (مجموعة مصنَّفات الشيخ المفيد) 5: 46 ـ 47.
([21]) الصدوق، التوحيد: 206، تصحيح: السيد هاشم الحسيني الطهراني، جماعة المدرّسين، قم، 1357هـ.ش.
([22]) الصدوق، الاعتقادات (مجموعة مصنّفات الشيخ المفيد) 5: 29، المؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى الألفية للشيخ المفيد، قم، 1413هـ.ش؛ الكليني، الكافي 1: 160، ح13؛ الصدوق، التوحيد: 362، تصحيح: السيد هاشم الحسيني الطهراني.
([23]) الطبرسي، الاحتجاج 2: 254، تحقيق: إبراهيم بهادري ومحمد هادي به، أسوة، طهران، 1413هـ.
([25]) الكليني، الكافي 1: 159، ح11.
([26]) انظر: المصدر السابق 1: 265 ـ 268؛ المجلسي، بحار الأنوار 17: 1 ـ 14؛ 25: 328 ـ 350.
([27]) المفيد، تصحيح الاعتقاد (مجموعة مؤلّفات الشيخ المفيد) 5: 133؛ المفيد، أوائل المقالات: 21، 124، تصحيح: مهدي المحقق، مؤسسة مطالعات إسلامي، طهران، 1372هـ.ش.
([28]) الطوسي، تمهيد الأصول: 27، انتشارات دانشگاه طهران.
([29]) الصدوق، عيون أخبار الرضا× 1: 124، ح17، تصحيح: السيد مهدي الحسيني اللاجوردي، طوس، قم، 1363هـ.ش؛ الطبرسي، الاحتجاج 2: 198؛ روضة الواعظين: 47.
([30]) المجلسي، بحار الأنوار 5: 17، ح26.
([31]) الصدوق، التوحيد: 363، ح11، تصحيح: السيد هاشم الحسيني الطهراني.
([32]) المصدر السابق: 360، ح5.
([33]) الصدوق، عيون أخبار الرضا× 1: 144، ح48؛ الصدوق، التوحيد: 361، ح7، تصحيح: السيد هاشم الحسيني الطهراني.
([34]) الصدوق، التوحيد: 361، ح7؛ المجلسي، بحار الأنوار 5: 123، ح70 و71.
([35]) انظر على سبيل المثال: المجلسي، بحار الأنوار 5: 47، ح73 و74 و75.
([36]) انظر على سبيل المثال: الصدوق، التوحيد: 382.
([37]) انظر: الكليني، الكافي 1: 155.
([38]) الكليني، الكافي 1: 159، ح10؛ التوحيد 3: 360؛ المجلسي، بحار الأنوار 5: 116، ح47.
([39]) الكليني، الكافي 1: 160، ح14؛ 162، ح4؛ الصدوق، عيون أخبار الرضا× 2: 125؛ التوحيد 4: 360.
([40]) المجلسي، بحار الأنوار 5: 51، ح84؛ التوحيد 1: 359.
([41]) المجلسي، بحار الأنوار 5: 55، ح98.
([42]) انظر: عبد القاهر البغدادي، الفرق بين الفرق: 18.
([43]) انظر: الشهرستاني، الملل والنحل 1: 139، تحقيق: محمد سيد كيلاني، دار الفرقة، بيروت.
([44]) للوقوف على معنى (الإرجاء) انظر: المصدر السابق نفسه.
([45]) انظر: ابن النديم، الفهرست: 201، تحقيق: رضا تجدّد، طهران، 1350هـ.ش.
([46]) انظر: الحافظ ابن كثير، البداية والنهاية 9: 34، مكتبة المعارف، بيروت، 1410هـ.
([47]) انظر: حسين عطوان، الفرق الإسلامية في بلاد الشام في العصر الأموي: 29، ترجمه إلى اللغة الفارسية: حميد رضا شيخي، تحت عنوان: (فرقه هاي إسلامي در سرزمين شام در عصر أموي)، بنياد پژوهشهاي إسلامي آستان قدس رضوي، مشهد، 1371هـ.ش.
([48]) انظر: القاضي عبد الجبّار المعتزلي، المغني في أبواب التوحيد والعدل 8: 4.
([49]) انظر: أبو زهرة، تاريخ المذاهب الإسلامية: 107.
([50]) انظر: المصدر السابق: 106.
([51]) انظر: الشهرستاني، الملل والنحل 1: 145، تحقيق: محمد سيد كيلاني؛ عبد القاهر البغدادي، الفرق بين الفرق: 18.
([52]) انظر: الشهرستاني، الملل والنحل 1: 154.
([53]) عبد القاهر البغدادي، الفرق بين الفرق: 154.
([54]) انظر: العلاّمة الحلّي، نهج الحقّ وكشف الصدق: 101، تصحيح: عين الله الحسني الأرموي، دار الهجرة، قم، 1407هـ؛ العلاّمة الحلّي، أنوار الملكوت في شرح الياقوت: 110، تحقيق: محمد النجمي الزنجاني، رضي بيدار، قم، 1363هـ.ش؛ العلاّمة الحلّي، كشف المراد: 308، تصحيح: الشيخ حسن زاده الآملي، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1407هـ.
([55]) انظر: المقداد السيوري، النافع يوم الحشر ومفتاح الباب: 27، 156، تحقيق: مهدي المحقّق، مؤسسة الدراسات الإسلامية في جامع مك غيل، طهران، 1365هـ.ش.
([56]) انظر: المفيد، أوائل المقالات: 15.
([57]) أبو الحسن الأشعري، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلّين 1: 251؛ 2: 205.
([58]) المصدر السابق 2: 205. وفي الصفحة رقم 251 من الجزء الأول من هذا الكتاب نسب الأمر المتقدِّم إلى (أكثر المعتزلة).
([59]) لقد ذكر الأشعري كلا هذين القولين في كتابه (مقالات الإسلاميين) بشكلٍ مستقلّ، في معرض البحث في السؤال القائل: (هل يقدر الله على جنس مقدور العبد أم لا؟)، ولكن حيث إن الذي يرى الله قادراً على أصل مقدور العبد فإنه سيراه قادراً على جنس مقدور العبد بالأولوية. وعليه فإن الاختلاف في قدرة الله على جنس مقدور العبد سوف يطرح نفسه في الواقع بين المنكرين لقدرة الله على مقدور العبد.
([60]) أبو الحسن الأشعري، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين 2: 206. وفي الصفحة رقم 251 من الجزء الأول من هذا الكتاب نسب الأمر المتقدِّم إلى (جماعة من المعتزلة). كما نسب العلاّمة الحلّي هذا الأمر إلى أبي علي الجبّائي وأبي هاشم الجبّائي وأتباعهما. انظر: أنوار الملكوت في شرح الياقوت: 88.
([61]) المصدر السابق 2: 205. وفي الصفحة 251 من الجزء الأول نسب الأمر المتقدِّم إلى (جماعة من المعتزلة). كما نسب العلاّمة الحلّي هذا الأمر إلى البلخي وهو من مشايخ المعتزلة في بغداد. انظر: أنوار الملكوت في شرح الياقوت: 91.
([62]) انظر: القاضي عبد الجبّار المعتزلي، المغني في أبواب التوحيد والعدل 8: 109 ـ 161.
([63]) انظر: المصدر السابق 8: 130.
([64]) انظر: القاضي عبد الجبّار المعتزلي، المحيط بالتكليف: 356 ـ 366، تحقيق: عمر السيد عزمي وأحمد فؤاد الأهواني، المؤسّسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر، القاهرة؛ شرح الأصول الخمسة: 375، تحقيق: عبد الكريم عثمان، مكتبة وهبة، القاهرة، 1384هـ.ش.
([65]) الشهرستاني، الملل والنحل 1: 54.
([67]) انظر: المصدر السابق 1: 81. وقد نسب أبو زهرة القول بإرادة الإنسان المستقلّة إلى جميع المعتزلة. انظر: أبو زهرة، تاريخ المذاهب الإسلامية: 106.
([68]) انظر: الشهرستاني، الملل والنحل 1: 43؛ أبو زهرة، تاريخ المذاهب الإسلامية: 106.
([69]) انظر: عبد القاهر البغدادي، الفرق بين الفرق: 79.
([70]) انظر: الفضل بن شاذان، الإيضاح: 6، تصحيح: السيد جلال الدين المحدّث، انتشارات دانشگاه طهران، 1363هـ.ش.