د.الشيخ محمد جواد أرسطا(*)
لقد أسند الإمام الحسين× ثورته في بعض الموارد إلى النصّ والتكليف، وأحياناً إلى دعوة أهل الكوفة. والسؤال الرئيس الذي نسعى إلى الإجابة عنه في هذه المقالة هو: ما هو العامل الذي كان له التأثير الأكبر من هذين العاملين، والذي لولاه لكان أصل الثورة منتفياً بانتفائه؟
في البداية عمد كاتب هذه المقالة؛ للإجابة عن هذا السؤال، للبحث في الكتب والرسائل التي كتبها أهل الكوفة إلى الإمام الحسين×، وجواب الإمام لهم، لينتقل بعد ذلك إلى البحث حول تأثير النصّ في نهضة الإمام×، ليخلص بعد ذلك إلى نتيجةٍ مفادها: إن الدافع الرئيس لثورة الإمام، والذي لا يُستراب فيه، هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وأما دعوة أهل الكوفة له فلم يكن لها من التأثير في الحدّ الأقصى إلاّ بمقدار إتمام الحجّة على الإمام×، حيث سار في ضوئها، وطلب المساعدة ممَّنْ استصرخه؛ لينصره على تحقيق أهدافه وغاياته الإلهية، وأن يتولّى قيادة معشرٍ أصرّوا عليه بالقدوم عليهم، وأظهروا له حاجتهم الماسّة إلى قيادته. يُضاف إلى ذلك أن المستفاد من كلمات وسيرة الإمام الحسين× ـ كما هي سيرة أمير المؤمنين والإمام الحسن’ ـ أن حكم الناس لا يكون من طريق القهر والغلبة.
إن السؤال الرئيس المطروح في هذه المقالة بصدد البحث عن الدَّوْر الذي لعبه كلٌّ من: النصّ؛ ودعوة أهل الكوفة للإمام الحسين×، وبيعتهم لممثِّل الإمام، في ثورته؟ وبعبارةٍ أخرى: أيٌّ من هذين العاملين كان له الأثر المؤسِّس والرئيس في ثورة عاشوراء، بحيث اذا انتفى هذا العامل ينتفي أصل الثورة؟
إن المراد من «النصّ» في السؤال المتقدِّم هو الآيات والروايات التي تدعو الإمام الحسين× إلى إعلان الثورة على حكم يزيد، وتوجب ذلك عليه، حيث استند الإمام× في بعض مواطن ثورته إلى هذه النصوص، حيث قال: «إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي|، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب×…»([1]).
والنصّ الذي يستند إليه الإمام هنا هو «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» بوصفه واجباً شرعياً على كلّ مسلمٍ بحكم الآيات الكريمة والروايات الشريفة.
ومن ناحيةٍ أخرى كان الإمام الحسين يُسند حركته وثورته إلى دعوة أهل الكوفة. كما اعتبر مسلم بن عقيل ـ في أجوبته عن رسائلهم ـ ممثِّلاً عنه، وأرسله سفيراً من قِبَله إليهم، وقال في الرسالة التي حملها مسلم بن عقيل إليهم: «بعثتُ إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي، وأمرته أن يكتب إليّ بحالكم وأمركم ورأيكم، فإنْ كتب إليَّ أنه قد أجمع رأي ملأكم وذوي الفضل والحِجَى منكم على مثل ما قدمت عليّ به رسلكم، وقرأت في كتبكم، أقدم عليكم وشيكاً، إنْ شاء الله…»([2]).
وللإجابة عن هذا السؤال لا بُدَّ أوّلاً من البحث في الكتب التي أرسلها أهل الكوفة إلى الإمام الحسين×، والكتاب الذي بعثه الإمام الحسين جواباً عن تلك الكتب، لننتقل بعد ذلك إلى البحث بشأن تأثير النصّ في ثورة الإمام×، لنصل في الختام إلى الجمع بين الأدلّة المتوفّرة بين أيدينا، والخروج منها بالنتيجة النهائية.
1ـ أثر دعوة أهل الكوفة في ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)
1ـ إن الرسالة الأولى التي أرسلها شيعة الكوفة إلى الإمام الحسين×، بعد استشهاد الإمام الحسن×، تقول: «بسم الله الرحمن الرحيم، للحسين بن عليّ من شيعته وشيعة أبيه أمير المؤمنين: سلامٌ عليك، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو. أما بعد، فقد بلغنا وفاة الحسن بن عليّ، عليه السلام يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيّاً… ما أعظم ما أصيب به هذه الأمّة عامّة، وأنت وهذه الشيعة خاصّة، بهلاك ابن الوصيّ وابن بنت النبيّ… ونحن شيعتك المصابة بمصيبتك، المحزونة بحزنك، المسرورة بسرورك، السائرة بسيرتك، المنتظرة لأمرك، شرح الله صدرك، ورفع ذكرك، وأعظم أجرك، وغفر ذنبك، وردّ عليك حقّك»([3]).
لم يُؤْتَ في هذا الكتاب على دعوةٍ صريحة إلى النهضة والثورة، وإنما هي في وارد القيام بواجب العزاء والمواساة للإمام الحسين بشهادة أخيه الأكبر، ومشاركته في المصاب الذي حلّ بالأمّة الإسلامية، ولا سيَّما شيعة أمير المؤمنين. وفي ختام الرسالة هناك تأكيدٌ من قِبَل الموقِّعين عليها والمشاركين في كتابتها على مشاركتهم الإمام الحسين× في مصابه وحزنه، وفي فرحه وسروره، والسير على نهجه.
وهناك نقطتان يمكن ملاحظتهما في هذا الكتاب، وهما:
النقطة الأولى: لقد عرَّف المشاركون في كتابة الرسالة عن أنفسهم بوصفهم أتباع الإمام الحسين×، وأنهم ينتظرون أمره؛ فإن التعبير بـ «السائرة بسيرتك، المنتظرة لأمرك» يشير تلويحاً إلى أنهم يترقَّبون موقفاً جديداً من قِبَل الإمام الحسين×، وهو بالضرورة موقفٌ معارض للسلطة الحاكمة؛ لأن الموقف الذي تمّ التمسُّك به حتّى ذلك الحين من قِبَل الإمام الحسن×، وتَبَعاً له من قِبَل الإمام الحسين×، هو عدم الظهور بموقفٍ شديد المخالفة للسلطة، والالتزام بمضمون عهد الصلح المُبْرَم مع معاوية بن أبي سفيان. وفي العبارة الأخيرة: «وردّ عليك حقّك» (الذي يحمل إشارةً إلى حقِّه في الحكومة والولاية على المسلمين) تأكيدٌ على هذه النقطة.
النقطة الثانية: يُفْهَم من العبارات الأخيرة الواردة في هذا الكتاب أن بعض المشاركين في كتابتها ـ في الحدّ الأدنى ـ لم يكونوا على قناعةٍ تامّة بموقف الإمام الحسن× في مواجهة حكم معاوية. وإن التعبير بـ «المنتظرة لأمرك» يشير إلى أنهم يتوقَّعون موقفاً من الإمام الحسين× في مواجهة حكم معاوية، مغايراً لموقف الإمام الحسن×، وإلاّ فإنّ ذكر هذه العبارة لن يكون في محلِّه، إلاّ إذا كان مراد الكاتبين منها أنهم ينتظرون أيّ نوعٍ من الأوامر التي يصدرها والمواقف التي يتَّخذها، أعمّ من أن يكون موقفاً جديداً من السلطة الحاكمة أو أن يكون استمراراً للنهج الذي خطّه الإمام الحسن×. بَيْدَ أن هذا الفهم ـ بطبيعة الحال ـ لا يبدو منسجماً مع ظاهر العبارة.
2ـ أما الكتاب الآخر الذي كتبه شيعة الكوفة إلى الإمام الحسين× في تلك الفترة فهو الكتاب الذي كتبه (جعدة بن هبيرة)، وقد تحدَّث فيه بشكلٍ صريح عن ضرورة القيام ضدّ سلطة معاوية، واستعداد الشيعة للشهادة في سبيل ذلك: «أما بعد، فإن مَنْ قِبَلنا من شيعتك متطلّعة أنفسهم إليك، لا يعدلون بك أحداً. وقد كانوا عرفوا رأي الحسن أخيك في دفع الحرب، وعرفوك باللين لأوليائك، والغلظة على أعدائك، والشدّة في أمر الله؛ فإنْ كنتَ تحبّ أن تطلب هذا الأمر فأقدم علينا، فقد وطنّا أنفسنا على الموت معك»([4]).
لم يشتمل الكتاب الأوّل على دعوةٍ صريحة للإمام الحسين× من قِبَل أهل الكوفة، إلاّ أن هذا الكتاب يُصرِّح فيه المشاركون في كتابته بدعوة الإمام× إلى الخروج واستلام زمام الحكم؛ إذ المراد من قولهم: «هذا الأمر» ـ كما هو واضحٌ ـ هو الحكم والسلطة والولاية على المسلمين، وأضافوا إلى ذلك أنهم على استعداد للتضحية بأنفسهم من أجل تحقيق هذا الأمر.
ومن ناحيةٍ أخرى إن عدم رضا الكاتبين عن موقف الإمام الحسن× تجاه سلطة معاوية، الذي لاح من الكتاب السابق بنحوٍ وآخر، قد ظهر في هذا الكتاب على نحوٍ أوضح. وعليه فقد استوجب ذلك من الإمام الحسين× أن يبدي رأيه بوضوحٍ في جوابه عن الكتاب. ومن هنا فقد كتب إليهم الإمام ما يلي: «أما أخي فأرجو أن يكون الله قد وفَّقه وسدَّده في ما يأتي، وأما أنا فليس رأيي اليوم ذلك، فالصقوا رحمكم الله بالأرض، واكمنوا في البيوت، واحترسوا من الظنّة، ما دام معاوية حيّاً؛ فإنْ يحدث الله به حَدَثاً وأنا حَيٌّ كتبتُ إليكم برأيي، والسلام»([5]).
وبذلك عمد الإمام الحسين من جهةٍ إلى تأييد منهج أخيه الإمام الحسن×، وأنه سائرٌ على ذات النهج؛ إذ لم يحدث شيءٌ يغيّر الأوضاع السياسية للعالم الإسلامي يستوجب تغيير الاستراتيجية من قِبَل الإمام الحسين×. وحيث إن الاستراتيجية السابقة كانت مرسومةً من قِبَل إمامٍ معصوم كان يجب الاستمرار عليها بحَسَب القاعدة ما لم يحدث متغيّر يؤدّي إلى الفوضى؛ إذ ليس هناك أيّ اختلاف بين الأئمة المعصومين^، فكلهم من نورٍ واحد. ومن ناحيةٍ أخرى يعمل على توجيه الشيعة إلى إعداد أنفسهم لثورةٍ محتملة بعد موت معاوية بن أبي سفيان، وأن لا يذهب بهم التصوُّر إلى أن الأمر الراهن بعدم التحرّك ضدّ السلطة الحاكمة هو أمرٌ ثابت ومستمرّ إلى الأبد، وإنما هو أمرٌ مرحليّ ومؤقّت تحكمه الظروف الخاصة لتلك المرحلة من توقيع بنود الصلح مع معاوية بن أبي سفيان، وعليه لا بُدَّ من الانتظار إلى ما بعد موت معاوية، والنظر إلى ما سيكون عليه شكل السلطة وطبيعة الحكم، وهل سيتمّ العمل على طبق بنود وثيقة الصلح، وتسليم الأمر إلى الإمام الحسين×، أم أنهم سينقضون العهد، ويعطون الأمر إلى شخصٍ من بني أميّة، ليكون خليفةً لمعاوية؟
إذن لا بُدَّ من الانتظار على كلّ حالٍ، والتريُّث إلى حين موت معاوية، والوقوف على الأمر الذي سيصدره الإمام إلى الناس في حينها، حيث عبَّر الإمام عن ذلك بقوله: «…فإنْ يحدث الله به حَدَثاً وأنا حيٌّ كتبتُ إليكم برأيي».
3ـ هناك أخبارٌ كثيرة تشير إلى وجود ارتباط متواصل بين أهل الكوفة والإمام الحسين×، بحيث إنهم كانوا من حينٍ لآخر يبعثون الوفود إلى الإمام، ليستطلعوا رأيه بشأن المورد المذكور، والموقف الذي يجب عليهم أن يتّخذوه بهذا الصدد. وهذا يشهد على أن أهل الكوفة كانوا يعتبرون الإمام الحسين× إماماً مفروض الطاعة عليهم([6]). ومن بين تلك الوفود الوفد الذي توجّه إلى الإمام الحسين× بعد استشهاد حجر بن عديّ. لقد اجتاحت الإمام سحابة سوداء من الحزن الشديد عند سماعه بجريمة قتل حجر وصحبه. وقد تناهى خبر لقاء الإمام بهذا الوفد إلى والي المدينة مروان بن الحكم، فسارع إلى إرسال كتابٍ إلى معاوية يسأله فيه عن الموقف الذي يجب عليه أن يتَّخذه في هذا الشأن: «إن رجالاً من أهل العراق قدموا على الحسين بن عليّ، وهم مقيمون عنده يختلفون إليه، فاكتب إليَّ بالذي ترى»([7])، فكتب معاوية إلى مروان كتاباً يأمره فيه بعدم التعرُّض للإمام الحسين×، ولم يَرَ في سلوك الإمام ما ينقض بنود الصلح، وفي الوقت نفسه أرسل كتاباً إلى الإمام× يذكِّره فيه بوجوب التمسُّك بمعاهدة الصلح، وذيَّله بتهديدٍ قال فيه: «متى تكِدْني أكِدْك»([8])، فكتب الإمام الحسين× إليه في الجواب: «ما أريد حربك، ولا الخلاف عليك»([9]).
وقد نقلت بعض المصادر التاريخية جواب الإمام× بمزيدٍ من التفصيل، وأضافت إلى العبارة السابقة ما يلي: «…وما أظنّ لي عند الله عذراً في ترك جهادك، وما أعلم فتنةً أعظم من ولايتك أمر هذه الأمّة»([10]).
طبقاً لهذه الرواية يكون الإمام الحسين× قد أكَّد على عدم نقضه لبنود الصلح مع معاوية، وأنه لا يريد الحرب معه؛ وفي الوقت نفسه أشار إلى أن هذا لا يعني أنه يراه صالحاً للخلافة على المسلمين، وأن سكوته عنه وعدم محاربته له رهنٌ بالشروط الخاصّة التي تحكم الأوضاع الراهنة، وأن تكليفه الأوّلي هو الوقوف بوجه معاوية ومجاهدته؛ لأنه يرى ولايته على المسلمين من أكبر الفتن والمصائب، ولكنْ حيث إن ذلك لم يكن يؤدّي إلى النتائج المطلوبة؛ بسبب السياسة المتَّبعة من قِبَل معاوية، وتمكُّنه بالحيلة والنفاق من تحسين صورته أمام الناس، وعدم مجاهرته بالفسق والفجور والخروج عن تعاليم الدين صراحةً، وكان الدخول معه في مواجهة سيؤدّي إلى سفك الكثير من دماء الشيعة وإضعاف موقفهم في المجتمع أكثر من ذي قَبْل، يُضاف إلى ذلك وثيقة الصلح الموقَّعة بين الإمام الحسن× ومعاوية بن أبي سفيان، ولم يَبْدُ من معاوية ما يشير إلى نقضه بشكلٍ جادّ، لذلك كلِّه فإن الإمام الحسين× كان يرى من واجبه عدم القيام بحربٍ ضدّ معاوية بالعنوان الثانوي.
4ـ ومن بين الكتب التي أرسلها أهل الكوفة إلى الإمام الحسين×، ودعَوْه فيها إلى الخروج على حكم معاوية، كان الكتاب الذي وصله عندما قام معاوية بانتهاك بنود الصلح، التي كانت تنصّ على أن الخلافة بعد معاوية تنتقل إلى الإمام الحسن× إنْ كان حيّاً، أو إلى أخيه الإمام الحسين× إذا لم يكن الإمام الحسن على قيد الحياة. ولكنّ معاوية، وفي إجراءٍ صريح منه في انتهاك هذا الشرط، بدأ بأخذ البيعة من الناس لوَلَده يزيد.
لم يستجِبْ الإمام الحسين× لهذه الدعوة. فتوجَّهت جماعةٌ من أهل الكوفة إلى محمد بن الحنفية، وعرضوا عليه الخروج معهم على معاوية، فلم يقبل ذلك منهم أيضاً، وجاء إلى الإمام الحسين، وعرض عليه الأمر، فقال الإمام× له: «إن القوم إنما يريدون أن يأكلوا بنا، ويستطيلوا بنا، ويستنبطوا دماء الناس ودماءنا»([11]).
وإذا صحَّتْ هذه الرواية التاريخية فإن ذلك يعني أن الجماعة التي حاولت استنهاض الإمام ودعوته إلى الثورة لم تكن تريد الله في سَعْيها إلى ذلك، ولم يكن لها وَعْيٌ صحيح بمنزلة الإمام الحسين× كإمامٍ للأمّة، بل كانوا يريدون ضمان مصالحهم. وحيث قال الإمام×: «إن القوم إنما يريدون أن يأكلوا بنا…» كذلك لم يكن الأمر ليختلف بالنسبة لهم بين أن يكون المتصدّي لقيادة هذه الثورة هو شخص الإمام الحسين× أو أيّ شخصٍ آخر، ولذلك فإنهم بمجرّد أن رفض الإمام دعوتهم توجَّهوا إلى محمد بن الحنفية، في حين أنهم كانوا على علمٍ ودراية بعناية الإمام عليّ× في مدّة حكمه بالإمام الحسين، وما كان يتَّصف به الحسين من مؤهّلات الإمامة وعظمة المكانة والمنزلة، بوصفه سبطاً لرسول الله|.
من هنا فقد أدَّت هذه الأمور إلى رفض الإمام الحسين× لطلبهم، ولكنه في الوقت ذاته لم يرفض أصل فكرة الخروج. ورُبَما كان في هذه العبارة التي وردت كتتمّة للرواية التاريخية المتقدّمة إشارة إلى هذه الحقيقة: «…فأقام الحسين على ما هو عليه من الهموم؛ مرّةً يريد أن يسير إليهم؛ ومرّة يجمع الإقامة عنهم»([12]).
فإنْ صحّ هذا الكلام فإنه يشير إلى أن الإمام الحسين× كان من جهةٍ يعيش ألماً وحزناً بسبب الأوضاع المستجدّة؛ ومن ناحيةٍ أخرى كان يسعى إلى إعداد الأمة للثورة ضدّ السلطة الحاكمة. ولذلك كان تارةً يريد الحركة نحوهم؛ ويحجم عن ذلك تارةً أخرى. كما يحتمل أن يكون الإمام× على معرفة ببعض الأشخاص الصادقين في دعوتهم، ولم يكن يرغب في بثّ اليأس والإحباط في نفوسهم؛ بسبب عدم الاستجابة لما عرضوه عليه، ولم يشأ إخماد جَذْوة الثورة على الظلم في نفوسهم.
5ـ عن محمد بن بشر الهمداني قال: اجتمعَتْ الشيعة في منزل سليمان بن صرد، فذكرنا هلاك معاوية، فحمدنا الله عليه، فقال لنا سليمان بن صرد: إن معاوية قد هلك، وإن حسيناً قد تقبض على القوم ببيعته، وقد خرج إلى مكّة، وأنتم شيعته وشيعة أبيه؛ فإنْ كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه؛ وإنْ خفتم الوهل والفشل فلا تغرّوا الرجل من نفسه، قالوا: لا، بل نقاتل عدوَّه ونقتل أنفسنا دونه([13]).
وبعد هذا الكلام سارع المجتمعون في منزل سليمان بن صرد إلى كتابة رسالة إلى الإمام الحسين، وذكروا في صدرها أسماء كبار الشيعة في الكوفة، وهم من الثقاة المعتمدين، أي: سليمان بن صرد، والمسيّب بن نجبة، ورفاعة بن شداد، وحبيب بن مظاهر. وجاء في هذه الرسالة: «…أما بعد، فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبار العنيد، الذي انتزى على هذه الأمّة، فابتزّها أمرها، وغصبها فيئها، وتأمّر عليها بغير رضا منها، ثمّ قتل خيارها، واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولةً بين جبابرتها وأغنيائها. فبُعداً له كما بعدت ثمود. إنه ليس علينا إمامٌ، فأقْبِلْ؛ لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ. والنعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعةٍ، ولا نخرج معه إلى عيدٍ. ولو قد بلغنا أنك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتّى نلحقه بالشأم، إنْ شاء الله. والسلام ورحمة الله عليك»([14]).
وفي بعض المصادر التاريخية أن هناك آخرين بادروا إلى الكتابة إليه، وأرفقوا كتبهم مع هذا الكتاب، حتّى بلغ مجموع كتبهم ما يقرب من المئة وخمسين صفحة([15]).
إن الذي روى هذه الحادثة، وهو محمد بن بشر الهمداني، والذي كان من بين شيعة الكوفة الذين اجتمعوا في منزل سليمان بن صرد، قد أضاف قائلاً: «ثمّ سرحنا بالكتاب مع عبد الله بن سبع الهمداني وعبد الله بن وال، وأمرناهما بالنجاء، فخرج الرجلان مسرعين حتّى قدما على حسين، لعشر مضين من شهر رمضان، بمكّة».
6ـ قال محمد بن بشر الهمداني: «ثمّ لبثنا يومين، ثمّ سرحنا إليه قيس بن مسهر الصيداوي وعبد الرحمن بن عبد الله بن الكدن الأرحبي وعمارة بن عبيد السلولي، فحملوا معهم نحواً من ثلاث وخمسين صحيفة، من الرجل والاثنين والأربعة»([16]).
7ـ وأضاف محمد بن بشر الهمداني قائلاً: «ثمّ لبثنا يومين آخرين، ثمّ سرحنا إليه هانئ بن هانئ السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي، وكتبنا معهما: (بسم الله الرحمن الرحيم)، لحسين بن عليّ من شيعته من المؤمنين والمسلمين. أما بعد: فحيهلا، فإن الناس ينتظرونك، ولا رأي لهم في غيرك، فالعجل العجل. والسلام»([17]).
8ـ لقد تكرَّرت هذه الرسائل والكتب، حتّى بلغت حجماً قال معه ابن طاووس في كتاب (اللهوف): رُبَما وصل عدد الكتب إلى الإمام الحسين× في اليوم الواحد ستّمائة كتاب. وفي المجموع تجمّع عند الإمام ما يقرب من اثني عشر ألف كتاب، ومع ذلك لم يُجِبْ الإمام على أيٍّ منها.
وعلى الرغم من أن كتب أهل الكوفة كانت تحتوي على عبارات مختلفة، فإنها بأجمعها كانت تشترك في مضمونٍ واحد، وهو دعوة الإمام إلى الثورة ضدّ حكم يزيد، ومعاهدته على النصرة والتضحية بأنفسهم من أجله.
وجاء في بعض الرسائل قولهم: «إنا معك، ومعنا مئة ألف سيف»([18])، وطلبوا منه أن يعجِّل بالقدوم، وأن لا يبطئن عليهم، قائلين: «عجِّلْ القدوم، يا بن رسول الله؛ فإن لك بالكوفة مئة ألف سيف؛ فلا تتأخَّرْ»([19]).
وفي بعض الكتب التاريخية قيل: إن عدد الذين أبدَوْا استعدادهم لنصرة الإمام الحسين× أكثر من ذلك، بحيث إن بعض المصادر قالت: إن عددهم وصل إلى مئة وأربعين ألف رجل([20]). ولكنْ حتّى إذا كان هذا العدد مبالغاً فيه فإن هناك أمراً لا يمكن الشكّ فيه، وهو أن الأكثرية الساحقة من أهل الكوفة قد تعهّدت للإمام الحسين بالنصرة، والوقوف إلى جانبه في الثورة ضدّ الحكم الأموي، وأنهم سيقاتلون في ركابه.
فهل صحيحٌ أن الإمام الحسين× لم يُجِبْ كلّ هذه الكتب والعهود الصادرة من قِبَل الأكثرية، ومطالبهم المتكرِّرة، استناداً إلى سابقتها في نقض العهود التي سبق لها أن أبرمتها مع أمير المؤمنين والإمام الحسن’، وأنهم لم يكونوا أوفياء لهما، وخذلوهما وتركوهما وحيدين أمام أعدائهما؟ ألا يقوى الاحتمال، مع وجود كلّ هذه الكتب والرسائل والعهود والإعلان عن إعداد العدّة والعدد، أن أهل الكوفة قد تنبَّهوا إلى أخطائهم وتقصيرهم السابق، وأنهم الآن بصدد التكفير عمّا سبق أن بدر منهم؟
ألم تتمّ بذلك الحجّة على الإمام الحسين×، وأنه لم يبْقَ هناك عذرٌ له في القيام والثورة مع وجود هذا العدد من الأنصار؟
إن الإمام الحسين× بعد وصول هذه الكتب، والمعلومات التي حصل عليها مشافهةً من حَمَلة تلك الكتب، لم يذهب إليهم في بداية الأمر بنفسه، وإنما أرسل إليهم ابن عمّه وثقته مسلم بن عقيل؛ ليحرز بذلك صدق نواياهم ومدَّعياتهم، وكتب إلى أهل الكوفة قائلاً: «أما بعد، فإن هانئاً وسعيداً قدما عليَّ بكتبكم، وكانا آخر مَنْ قدم عليَّ من رسلكم، وقد فهمتُ كلّ الذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جلّكم: إنه ليس علينا إمامٌ، فأقبل؛ لعلّ الله أن يجمعنا بك على الهدى والحقّ. وقد بعثت إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي، وأمرته أن يكتب إليَّ بحالكم وأمركم ورأيكم؛ فإنْ كتب إليَّ أنه قد أجمع رأي ملأكم وذوي الفضل والحِجَى منكم على مثل ما قدمت عليَّ به رسلكم، وقرأت في كتبكم، أقدم عليكم وشيكاً، إنْ شاء الله»([21]).
بعد أن وصل مسلم بن عقيل إلى الكوفة، وأخذ الناس يبايعونه جماعاتٍ جماعات؛ بوصفه رسول الإمام الحسين×، أرسل كتاباً إلى الإمام يخبره فيه أن أهل الكوفة على أتمّ الاستعداد لمبايعته بأجمعهم. وهنا أرسل الإمام× كتابه الثاني إلى أهل الكوفة، وقال لهم فيه: «أما بعد، فإن كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني فيه بحُسْن رأيكم، واجتماع ملأكم على نصرنا، والطلب بحقّنا، فسألت الله أن يحسن لنا الصنع، وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر. وقد شخصت إليكم من مكّة يوم الثلاثاء، لثمان مضين من ذي الحجّة، يوم التروية. فإذا قدم عليكم رسولي فاكمشوا أمركم وجدُّوا، فإنّي قادمٌ عليكم في أيامي هذه، إنْ شاء الله»([22]).
وبالنظر في هذه الرسائل والكتب يمكن تقسيمها إلى مجموعتين:
الأولى: الكتب التي أرسلت إلى الإمام الحسين× بعد استشهاد الإمام الحسن×. وهي تعبِّر عن استعداد أهل الكوفة إلى القتال في ركاب الإمام الحسين ضدّ سلطة معاوية بن أبي سفيان.
الثانية: الكتب التي أرسلت إلى الإمام الحسين× بعد موت معاوية، وهي تحمل إصراراً وتأكيداً على الإمام ومطالبته بقيادة الثورة ضدّ الحكم الأموي، وأن يتولّى إمامة المسلمين، وهي تؤكِّد في الوقت نفسه على أن أهل الكوفة على أتمّ الاستعداد للتضحية بأنفسهم في سبيل ذلك.
وكان جواب الإمام عن المجموعة الأولى من الرسائل أن الظرف لم يحِنْ بَعْدُ لإعلان الثورة، وأنه لا بُدَّ من الالتزام ببنود الصلح الموقَّع بين الإمام الحسن× ومعاوية بن أبي سفيان، كما كانت سيرة الإمام الحسن×. وأما المجموعة الثانية من الكتب فإن الإمام لم يُجِبْ عنها إلاّ بعد أن بلغت أعداداً كبيرة، حتّى بلغ عددها في بعض الروايات اثني عشر ألف رسالة. وقد أجاب عنها في بداية الأمر بإرسال مسلم بن عقيل إلى أهل الكوفة. وبعد أن بلغه كتابه بعزم واجتماع كلمة الناس على نصرته والمطالبة بحقّه الإلهي في الإمامة، ثمّ أرسل إليهم سفيره الثاني قيس بن مُسهر الصيداوي، انطلق بنفسه بعده، وسار بركب أهل البيت إلى حيث الكوفة.
ولكنْ هل كانت دعوة أهل الكوفة الإمام× للخروج والثورة على حكم يزيد هي العلّة التامة لثورته، بحيث لو لم تكن هذه الدعوة من أهل الكوفة لما خرج الإمام أصلاً، أم أن العلة الرئيسة للثورة كانت شيئاً آخر، وأن دعوة أهل الكوفة لم يكن لها ذلك الدَّوْر الرئيس في ثورة الإمام الحسين×؟ سنأتي على ذكر الإجابة عن هذا السؤال بعد القسم الثاني من هذه المقالة.
2ـ تأثير النصّ في ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)
إن الإمام الحسين× منذ أن رفض دعوة حاكم المدينة إلى مبايعة يزيد، وأعلن الاستعداد للخروج من المدينة، والانطلاق في حركته التاريخية، أشار في بعض المواطن إلى سبب ثورته، ولخَّص ذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو محاربة البِدْعة وإحياء السنّة، وكلّها مفاهيم مقتبسةٌ من النصوص الشرعية.
وفي ما يلي نبحث في هذه الموارد:
1ـ بعد أن امتنع الإمام× عن مبايعة حاكم المدينة الوليد بن عقبة، بالنيابة عن يزيد، حيث كان قد طلب منه البيعة، اتَّخذ الإمام قراره بالخروج إلى مكّة المكرّمة. وفي ذات الوقت كتب وصيّة لأخيه محمد بن الحنفيّة، وختمها بخاتمه. وكان نصّ هذه الوصيّة ما يلي: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به الحسين بن عليّ بن أبي طالب إلى أخيه محمد، المعروف بابن الحنفية: إن الحسين يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، جاء بالحقّ من عند الحقّ، وأن الجنة والنار حقّ، وأن الساعة آتيةٌ لا رَيْبَ فيها، وأن الله يبعث مَنْ في القبور. وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدي|، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب×؛ فمَنْ قبلني بقبول الحقّ فالله أَوْلى بالحقّ؛ ومَنْ رَدَّ عليَّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ وهو خير الحاكمين. وهذه وصيّتي يا أخي إليك، وما توفيقي إلاّ بالله، عليه توكلتُ وإليه أنيب»([23]).
تشتمل هذه الوصية على عددٍ من النقاط الجديرة بالملاحظة، وهي:
النقطة الأولى: لقد بادر الإمام إلى كتابة وصيّته. وقد صدَّرها ببيان عقيدته الحقّة، فعل الموقن بأنه قد بلغ نهاية حياته، وأنه عمّا قريبٍ سيلبّي دعوة ربّه.
لا شَكَّ في أن الإمام الحسين كان يعلم بمصيره، وأنه في طريقه إلى الاستشهاد، وأنه سيُقتل على يد يزيد وجيشه. وسوف نأتي على ذلك بمزيدٍ من الأدلة في الأبحاث القادمة.
النقطة الثانية: إن الإمام الحسين من خلال استعماله لكلمة «إنما»، التي تفيد الحصر، وإتيانه بجملةٍ موجبة بعد جملةٍ سالبة، قائلاً: «إني لم أخرج… وإنما خرجتُ…»، يصرِّح بأن السبب الرئيس من ثورته هو طلب الإصلاح في الأمّة الإسلامية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
النقطة الثالثة: لقد أقام الإمام الحسين× سلوكه في ثورته على سيرة النبيّ الأكرم| والإمام عليّ×، وقال بأن على الآخرين الإذعان إلى الحقّ واتّباعه، وأن الآخرين إذا لم يقوموا بواجبهم فإنه لن يتخلّى عن التكليف الإلهيّ الملقى على عاتقه، وإنه سيواصل طريقه بصبرٍ واستقامة حتّى يحكم الله بينه وبين الذين خذلوه ولم ينصروه.
2ـ عندما وصل الإمام الحسين× إلى مكّة المكرّمة ألقى خطبةً بأصحاب النبيّ|، وتحدَّث في مستهلِّها عن أهمّية فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن بني إسرائيل إنما لعنوا بسبب تركهم العمل بهذه الفريضة الإلهية. ثم أشار إلى منزلة الصحابة العالية بين الناس، ثمّ عاتبهم على سكوتهم عن المنكرات المتفشِّية في المجتمع الإسلاميّ، ولا ينكرونها بقولٍ ولا فعلٍ.
ثم انتقل بعد ذلك إلى الحديث عن خروجه وحركته، وأنه لم يكن يريد بذلك متاعاً قليلاً من الدنيا، وإنما غايته إظهار معالم الدين والإصلاح في البلاد؛ ليأمن المظلومون من عباد الله، ويتمّ العمل بالواجبات والسنن والأحكام الإلهيّة، ثمّ حذَّر مخاطَبيه أنهم إذا تخلّوا عن نصرته فسوف يسلِّط الله الظالمين عليهم، وأنهم سيعملون على إطفاء النور الذي أوقده رسول الله|: «…اللهمّ إنك تعلم أنه لم يكن ما كان منا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام، ولكنْ لنري المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويعمل بفرائضك وسنّتك وأحكامك…»([24]).
وفي بعض المصادر تمّ نقل هذه الخطبة عن أمير المؤمنين عليّ×. ويبدو أن السبب في ذلك يعود إلى التشابه بين ما ورد في آخر هذه الخطبة مع كلامٍ للإمام عليّ× مذكور في نهج البلاغة. بَيْدَ أن مجرّد هذا لا يبدو مقنعاً؛ لاحتمال أن يكون الإمام الحسين× قد ذكره على سبيل الاستشهاد بكلامٍ من خطبة لوالده. كما يُحتمل أيضاً أن يكون هذا التشابه بين الكلامين قد حصل صدفةً، وهو ناشئٌ من كون الأئمة^ بأجمعهم من نورٍ واحد، وينظرون إلى الأمور والحقائق من زاويةٍ واحدة([25]).
وقد بيَّن الإمام الحسين× في هذه الخطبة أن غايته الرئيسة من الثورة هي الإصلاح في الأمّة الإسلامية، وبيان معالم الدين، وضمان الأمن للمظلومين، والعمل بالأحكام والسنن الإلهيّة، ومآل هذه الأمور بأجمعها إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ إذ إن كلّ واحد منها من المعروف الذي تمّ تركه في فترة حكم بني أميّة، وكان الإمام الحسين× المصداق الأبرز لـ «العلماء بالله»، الذين هم بصريح قول الإمام الحسين في ذات هذه الخطبة تكون مجاري الأمور والأحكام بأيديهم، إذ قال: «…ذلك بأن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه…»، والذين يبذلون كلّ ما عندهم من أجل إحياء السنّة وإماتة البِدْعة.
ثم إن كلام الإمام الحسين× في مستهلّ هذه الخطبة، الذي أشار فيه إلى أهمّية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما حلّ ببني إسرائيل من اللعنة؛ بسبب تركهم العمل بهذه الفريضة الإلهية الهامّة، وعلى أساس ذلك حذَّر علماء الإسلام من إهمال وترك القيام بهذه الفريضة الكبرى، يشكِّل في حدّ ذاته قرينةً على أن الهدف الرئيس في ثورة الإمام الحسين× هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن سائر الأمور التي ذكرها في تتمّة خطبته إنما تعود بأجمعها إلى هذه المسألة.
3ـ بعد أن وصل الإمام الحسين× إلى مكّة المكرّمة أرسل كتاباً إلى الزعماء وكبار الشخصيّات في البصرة، من أمثال: مالك بن مسمع البكري، ومسعود بن عمرو، والمنذر بن الجارود، قال فيه: «أما بعد، فان الله اصطفى محمداًﷺ على خلقه، وأكرمه بنبوته، واختاره لرسالته، ثم قبضه الله إليه، وقد نصح لعباده، وبلَّغ ما أرسل بهﷺ. وكنّا أهله وأولياءه وأوصياءه وورثته، وأحقّ الناس بمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومنا بذلك فرضينا، وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنّا أحقُّ بذلك الحقّ المستحقّ علينا ممَّنْ تولاّه، وقد أحسنوا وأصلحوا وتحرّوا الحقّ، فرحمهم الله وغفر لنا ولهم. وقد بعثتُ رسولي إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيِّهﷺ؛ فإن السنّة قد أميتت، وإن البِدْعة قد أحييت. وإنْ تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدِكُمْ إلى سبيل الرشاد. والسلام عليكم ورحمة الله»([26]).
لقد أشار الإمام الحسين× في هذه الرسالة، بعد تأكيده على أحقّيته في خلافة رسول الله وتولّي زمام أمور المسلمين بعد النبيّ، إلى نقطتين، وهما:
أوّلاً: إننا إذا كنّا قد تنازلنا عن حقّنا في برهة من الزمن، ولم نسْعَ إلى استعادته أو المطالبة به، فمَرَدُّ ذلك إلى أن ذلك في تلك المرحلة الزمنية كان من شأنه أن يؤدّي إلى الفتنة والفرقة بين المسلمين، ولذلك فقد آثرنا غضّ الطَّرْف عن ذلك؛ لأن الحيلولة دون الفرقة وحقن دماء المسلمين يحظى بأهمّية أكبر من المطالبة بحقّنا الإلهي.
وثانياً: أما الآن فإن أوضاع العالم الإسلاميّ قد تغيَّرت وتنكّرت، وإن الإسلام لم يعُدْ يسلك طريق الإنحراف فحَسْب، بل إنه متعرِّضٌ لخطر الزوال، وإن سنّة النبيّ قد أميتت، والبدعة قد أحييت. ومن ناحيةٍ أخرى إن الثورة المرتقبة في ظلّ الظروف الراهنة ستؤدّي إلى إراقة بعض الدماء الطاهرة لعددٍ من المسلمين الأطهار الأخيار فقط، وفي المقابل سوف يترتَّب على ذلك نتائج في غاية الأهمّية، ومن بينها: يقظة الأمة الإسلامية، وتوجيه أنظار الناس إلى ممارسات الحكومة الظالمة وسياساتها الباطلة التي تمارسها باسم الإسلام. وفي ظلّ هذه الأوضاع يجب على إمام المسلمين أن يقوم بأعباء قيادة الأمّة الإسلامية، وأن يعمل على التضحية بنفسه وأعزّ ما لديه من أجل إحياء السنّة والقضاء على البدعة.
ومن هنا يكون الإمام الحسين× قد بيَّن الهدف الرئيس من ثورته في هذه الرسالة، ولخَّص سبيله في إحياء السنّة، وهذا يدخل في دائرة الأمر بالمعروف، والوقوف بوجه الترويج للبدعة، وهذا يدخل في دائرة النهي عن المنكر.
4ـ التقى الإمام الحسين× في طريقه إلى الكوفة بجيش الحُرّ بن يزيد الرياحي، وألقى عليهم خطبتين في منزل شراف، وشرح لهم بعض الأمور، وبعد ذلك حدث في منزل بيضة ما استوجب أن يتكلَّم مع جيش الحُرّ مرّةً ثالثة، وأن يبيِّن لهم بعض الحقائق حول أسباب حركته وثورته؛ ليكون كإمامٍ للأمّة قد مارس دَوْره في الهداية وإتمام الحجّة حتّى في حقّ أولئك الذين خرجوا إلى قتاله. وممّا قاله الإمام الحسين× في هذه الخطبة: «أيّها الناس، إن رسول اللهﷺ قال: مَنْ رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحُرَم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول اللهﷺ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيِّر عليه بفعلٍ ولا قولٍ كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله. ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطَّلوا الحدود، واستأثروا بالفَيْء، وأحلّوا حرام الله، وحرَّموا حلاله، وأنا أحقُّ مَنْ غيَّر…»([27]).
وبذلك استند الإمام الحسين× في هذه الخطبة أوّل الأمر إلى كلام النبيّ الأكرم|، حيث قال: «مَنْ رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرام الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيِّر عليه بفعلٍ ولا قولٍ كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله».
ثم قام الإمام الحسين× بتطبيق هذه الكبرى الكلّية على حكومة بني أميّة، وصرَّح قائلاً: «ألا وإن هؤلاء [بنو أميّة] قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفَيْء [الخاصّ بأهل بيت رسول الله]([28])، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله». ثم أشار الإمام إلى منزلته في هذا الشأن قائلاً: «وأنا أحقُّ مَنْ غيَّر»، بمعنى أنه الأنسب والأكفأ والأحقّ بتولّي قيادة الأمة الإسلامية من أولئك المفسدين الذين عملوا على تحريف الدين الإسلامي([29]).
وبذلك يكون الإمام الحسين× في هذه الخطبة قد أعلن أن السبب الرئيس الذي دعاه إلى الثورة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهل هناك منكرٌ أكبر من أن يستولي سلطانٌ جائر على أمور المسلمين، فيحلِّل حرام الله، ويحرِّم حلاله، وينقض عهود الله ومواثيقه، ويعمل على خلاف سنّة رسول الله، ويعمل بين عباد الله بالإثم والعدوان؟!
5ـ وبعد وصول ركب الإمام الحسين× إلى كربلاء، في اليوم الثاني من المحرَّم سنة 61هـ، توقَّف بالركب وقفةً قصيرة، خطب خلالها في أصحابه وأولاده وأهل بيته خطبةً أشار فيها إلى تغيُّر أوضاع الدنيا، وانتشار الموبقات، وانعدام الفضائل، قائلاً: «…ألا ترَوْن أن الحقّ لا يُعْمَل به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقّاً، فإني لا أرى الموت إلاّ سعادة، ولا الحياة مع الظالمين إلاّ بَرَماً…»([30]).
ومن الواضح أن عدم العمل بالحقّ، وعدم الكفّ عن الباطل، من أكبر المنكرات التي يجب النهي عنها، بحيث يجدر بالمؤمن أن يتمنّى الموت ولقاء الله في مثل هذه الحالة؛ إذ إن الحياة في ظلّ هذه الأوضاع لا تحتوي على غير النَّكَد والمِحَن.
ومن خلال التدقيق في هذه العبارات المأثورة عن الإمام الحسين× في هذا الموضع ندرك أن العلّة الرئيسة في ثورته لا تعدو «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». وبطبيعة الحال هناك في بعض الموارد تصريحٌ بعبارة: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، كما في وصيّته إلى أخيه محمد بن الحنفية، حيث قال فيها: «أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر»([31]). وأحياناً يتمّ التعبير بعباراتٍ أخرى مردُّها في الواقع إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنْ لم تكن تشتمل على ذات هذا المصطلح.
والآن حان الوقت للإجابة عن السؤال الرئيس لهذه المقالة، وهو: كيف يمكن الجمع بين استناد الإمام الحسين× في حركته إلى دعوة وبيعة أهل الكوفة من جهةٍ والاستناد إلى النصوص من جهةٍ أخرى؟ وأيٌّ من هذين العنصرين كان هو السبب الرئيس في ثورة الإمام الحسين×؟
من خلال التدقيق في كلمات وخطب الإمام الحسين× يمكن الوصول إلى هذه النتيجة: لا شَكَّ في أن السبب الرئيس في ثورة الإمام هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وأما دعوة أهل الكوفة وبيعتهم له فإن أقصى ما كان لها من الأثر هو إتمام الحجّة على الإمام×؛ لتحمله في مواصلة ثورته على الإقبال نحوهم (حيث وعدوه بالنصرة وبايعوه على ذلك)، والاستعانة بهم في تحقيق غايته الإلهية، ويتولّى في الوقت نفسه أمر هداية الأمّة التي أصرَّتْ عليه بالقدوم، وأكَّدت على حاجتها إليه.
ولإثبات هذه الحقيقة يمكن الاستناد إلى النقاط التالية:
أوّلاً: إن الإمام الحسين× منذ اللحظة الأولى التي دُعي فيها إلى مبايعة يزيد أعلنها صراحةً أنه لن يبايع يزيد؛ لأنه متجاهرٌ بالفسق والفجور وارتكاب المعاصي والذنوب الكبيرة، ولأنه لا يصلح لخلافة رسول الله|، والولاية على الأمة الإسلامية أبداً.
وقال الإمام الحسين× لحاكم المدينة الوليد بن عتبة، الذي دعاه إلى بيعة يزيد: «أيُّها الأمير، إنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، وبنا فتح الله، وبنا ختم الله، ويزيد رجلٌ فاسق شارب الخمر، قاتل النفس المحرَّمة، معلنٌ بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله…»([32]).
إن هذا الكلام الواضح والصريح إنّما قاله الإمام الحسين× في بداية خلافة يزيد، وإرساله الكتب إلى عمّاله في مختلف الأمصار الإسلاميّة بأخذ البيعة له، مع تأكيدٍ خاصّ بأخذ البيعة من أشخاصٍ بعينهم، وهم كلٌّ من: الإمام الحسين×، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، حيث كان هؤلاء النَّفَر قد امتنعوا من البيعة ليزيد عندما طلبها معاوية منهم، فقال لعامله على المدينة: «خُذْ الحسين وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير أخذاً شديداً، ليست فيه رخصة، حتّى يبايعوا. والسلام»([33]). وفي هذه الفترة لم تصدر أيُّ دعوةٍ إلى الإمام الحسين من أهل الكوفة.
وفي اليوم التالي لهذا اليوم، الذي قال فيه الإمام الحسين× هذه الكلمات، رأى مروان بن الحكم، واقترح مروان على الإمام الحسين في هذا اللقاء أن يبايع يزيد، زاعماً أن هذا أنفع لدينه ودنياه! فقال له الإمام في الجواب: «إنا لله وإنا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام إذ قد بُلِيَتْ الأمّة براعٍ مثل يزيد. ولقد سمعتُ جدّي رسول الله| يقول: الخلافة محرَّمة على آل أبي سفيان؛ [فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه، وقد رآه أهل المدينة على المنبر فلم يبقروا، فابتلاهم الله بيزيد الفاسق]([34])»([35]).
وبذلك يكون الإمام الحسين× قد صرَّح بأن خلافة يزيد تعتبر مصيبةً كبرى على الأمّة الإسلامية، وأنها لو تحقَّقت سوف تقوِّض الإسلام من أساساته، وقد أشار الإمام إلى ذلك بقوله: «وعلى الإسلام السلام…».
كما اعتبر يزيد أسوأ من معاوية؛ لأن ابتلاء الأمّة بيزيد الفاسق كان نتيجة لرؤيتهم معاوية على المنبر، ولكنّهم مع ذلك لم يقتلوه تنفيذاً لوصيّة النبيّ الأكرم|، ونتيجةً لهذا ابتلاهم الله بمَنْ هو أسوأ من معاوية. وعليه إذا كان قتل معاوية واجباً على الأمة الإسلامية فإن قتل يزيد أوجب. هل يمكن مبايعة شخص فاسق مهدور الدم بوصفه خليفةً لرسول الله|؟ وهل هناك مَنْ تحدَّث بمثل هذا الوضوح وهذه الصراحة والشجاعة بشأن الموقف من خلافة يزيد وأصل الحكم الأمويّ؟
وقد صدر ما يُشبه هذا الكلام عن الإمام الحسين× في مواطن متعدِّدة، حيث أعلن الإمام هناك بشكلٍ صريح أيضاً أنه لن يبايع يزيد مهما كلَّف الأمر وتحت جميع الظروف، ومن ذلك قوله: «يا أخي لو لم يكن في الدنيا ملجأٌ ولا مأوى لما بايعتُ يزيد بن معاوية…»([36]).
ومن الواضح أن الامتناع عن البيعة ليزيد، واعتباره فاسقاً ومهدور الدم، لا يعني غير الثورة على حكمه؛ إذ إن الحكومة الأمويّة لن تتحمَّل وجود شخصٍ يحمل المكانة والمنزلة الممتازة للإمام الحسين وهو يرفع لواء المعارضة صراحةً؛ لأن ترك مثل هذا الشخص لحال سبيله سوف يؤدّي لا محالة إلى تقويض دعائم الحكم الأمويّ والقضاء عليه نهائياً. وبالتالي فإن الإمام الحسين× كان يرى حرمة البيعة ليزيد منذ البداية، وامتنع عنها. وبخروجه من المدينة إلى مكّة أعلن انطلاقة ثورته بوصفها واجباً من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في حين لم تكن قد وردَتْ عليه أيُّ دعوةٍ من أهل الكوفة.
وثانياً: إن الكتب الأولى التي أرسلت إلى الإمام الحسين× من أهل الكوفة كانت في الأساس بعد موت معاوية وانطلاق الإمام في ثورته، حيث رفض مبايعة يزيد، وخرج من المدينة المنوَّرة إلى مكّة المكرّمة. وفي هذه الأثناء اجتمع شيعة الكوفة في منزل سليمان بن صرد الخزاعي، حيث قال لهم سليمان: إن الحسين× قد رفض مبايعة يزيد، وخرج إلى مكة، وأنتم من شيعته وشيعة أبيه؛ فإنْ كنتم تعلمون أنكم تنصرونه وتحاربون عدوَّه فاكتبوا إليه؛ وإنْ وجدتم من أنفسكم وَهْناً وضعفاً فلا تغرُّوه، فقالوا بأجمعهم: بل نقاتل عدوّه ونقتل أنفسنا دونه، فقال سليمان: إذن أرسلوا إليه كتبكم وادعوه([37]).
وبذلك لا يكون الإمام الحسين قد انطلق في نهضته بتأثيرٍ من دعوة أهل الكوفة، وإنما خرج على يزيد ـ كما ورد في تصريحه في وصيّته لأخيه محمد بن الحنفية ـ للقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كما أنه في بداية الثورة لم يتوجَّه إلى الكوفة أوّلاً، وإنما ذهب إلى مكّة، ولم يغيِّر مسيره نحو الكوفة إلاّ بعد أن وصلته الكثير من الكتب المرسلة من أهل الكوفة، وإرسال سفيره إليهم، وأخذ البيعة منهم.
لا شَكَّ في أنه لو كانت دعوة أهل الكوفة هي العلّة التي دعَتْ الإمام الحسين× للإعلان عن الثورة لوجب على الإمام أن لا يرفض البيعة ليزيد ابتداءً عندما عُرضت عليه، ولا يصف يزيد صراحةً بأنه فاسقٌ، وأنه مهدور الدم، ويجب قتاله، وإنما كان عليه المشاغلة والتسويف حتّى يتمّ التأكُّد من صدق أهل الكوفة في دعوتم له، ويُحْرِز استعدادهم لنصرته ورفد ثورته.
ولو كانت بيعة أهل الكوفة هي السبب في ثورة الإمام الحسين× لما كان هناك معنىً لقوله: «لو لم يكن في الدنيا ملجأٌ ولا مأوى لما بايعتُ يزيد بن معاوية…»([38])، بل كان عليه أن يقول: «لو كان لي أنصارٌ لما بايعتُ يزيد بن معاوية».
ولو كان السبب الرئيس في ثورة الإمام الحسين× يكمن في بيعة أهل الكوفة لوجب على الإمام حين علم بنقضهم لبيعته أن يتخلّى عن مواصلة ثورته، وأن يبايع يزيد اضطراراً من باب التقية؛ لأنه فقد الناصر، وبذلك يسقط عنه واجب القيام بالثورة، في حين أن الإمام لم يفعل ذلك.
وثالثاً: أشار الإمام الحسين×، ضمن خطبته التي ألقاها على جيش الحرّ بن يزيد الرياحي، إلى تأثير النصّ في ثورته، كما تعرَّض إلى دَوْر دعوة أهل الكوفة له في هذا الخصوص أيضاً. وقال لهم: إنه إنما خرج على أساس النصّ والأمر الصريح لرسول الله|، ورأى نفسه لذلك مكلَّفاً بالخروج على يزيد، حيث يقول: «أيها الناس، إن رسول اللهﷺ قال: مَنْ رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحُرَم الله…». وفي هذا الموضع من خطبته أشار الإمام الحسين إلى حكمٍ عامّ ذكره رسول الله|، وهو وجوب الخروج على السلطان الجائر الذي يحلّ حرام الله، وينقض عهد الله، ويخالف سنّة رسول الله|، ويعامل الناس بالإثم والعدوان.
ثم حدَّد مصداق هذا الحكم العامّ والحكم الظالم بـ «يزيد» و«حكّام بني أميّة» بقوله: «ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفَيْء، وأحلّوا حرام الله، وحرَّموا حلاله».
إن الإمام الحسين×؛ انطلاقاً من هذا الاستدلال المستند إلى النصّ الشرعي، يرى وجوب مخالفة حكم يزيد والثورة عليه، وبذلك قال بأن السبب الرئيس لثورته هو العمل بالتكليف الإلهيّ الذي ألقاه النبيّ الأكرم| على عاتق كلّ مسلمٍ يعيش تحت ظلّ سلطة حاكمٍ جائر، ينتهك أحكام الله وسنّة رسوله.
نلاحظ أن الإمام الحسين× في هذا الموضع من خطبته ـ الذي هو في مقام بيان حكمٍ إلهيّ وواجبٍ شرعي (أي وجوب مخالفة الحاكم الجائر) ـ لا يشير إلى دعوة وبيعة أهل الكوفة، الأمر الذي يثبت أن هذه الدعوة ليس لها أيّ علاقةٍ بهذا الحكم الإلهي. ثمّ تعرَّض بعد ذلك إلى دعوة أهل الكوفة وبيعتهم لسفيره، حيث قال: «وقد أتَتْني كتبكم، وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم، أنكم لا تسلموني ولا تخذلوني؛ فإنْ تممتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم…؛ وإنْ لم تفعلوا ونقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي من أعناقكم فلعمري ما هي لكم بنكر، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم…».
إن الإمام× في هذا الموضع من كلامه يرى أن أهل الكوفة يجب عليهم الوفاء بوعدهم، وعدم نكث بيعتهم له، وأنهم إنْ فعلوا ذلك سيصيبوا رشدهم وكمالهم الإنسانيّ، وأضاف إلى ذلك أنهم إنْ نقضوا بيعتهم فإنهم سيضرّون أنفسهم؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ (الفتح: 10)([39]).
والنقطة الملفتة للانتباه أن الإمام يقول لهم: إنكم إنْ نقضتم بيعتكم «سيغني الله عنكم»، ولا يقول لهم أبداً: إنكم إنْ نقضتم بيعتكم فإنّي سأحجم عن ثورتي. وعليه فإن كلام الإمام الحسين× في هذه الخطبة يثبت أن دعوة أهل الكوفة لم يكن لها أيّ تأثيرٍ في تبلور نواة الثورة، ولن يكون لنقضها تأثير في إيقافها وعدم استمرارها.
وشبيهٌ بهذا الكلام ما قاله الإمام الحسين× في منزل شراف، بعد الفراغ من صلاة العصر بإمامته، وقد اقتدى به الحُرّ وجيشه، فقال لهم: «أيُّها الناس، إنّكم إنْ تتَّقوا الله وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله عنكم، ونحن أهل بيت محمد| أَوْلى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدَّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجَوْر والعدوان؛ فإنْ أبيتم إلاّ الكراهة لنا، والجهل بحقِّنا، وكان رأيكم الآن غير ما أتَتْني به كتبكم وقدمت به عليَّ رسلكم، انصرفت عنكم»([40]).
لقد تحدَّث الإمام الحسين× في بداية هذه الخطبة عن مقتضى التقوى ومعرفة الحقّ أن يلتزم الناس بولايته وإمامته؛ لأنه أحقّ شخصٍ بإمامة المسلمين، ولكنّه أضاف في الوقت نفسه أنه لا يريد أن يفرض نفسه عليهم، ولذلك فإنهم إنْ امتنعوا من بيعتهم ونقضوا عهدهم فإنه سينصرف عنهم إلى جهةٍ أخرى، ولن يقدم عليهم، أي إن طريق الحقّ معروفٌ، وإن تكليف الناس معلومٌ، ولكنْ ليس هناك إجبارٌ في الأمر؛ إذ يقول الله تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ (البقرة: 256)، فإذا أراد شخصٌ أن يسير على خلاف مرضاة الله لا يمكن إجباره على سلوك طريق الحقّ.
يجب التدقيق في عبارة الإمام الحسين× إذ يقول: «فإنْ أبيتم إلاّ… الجهل بحقّنا، وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم وقدمت به عليّ رسلكم، انصرفت عنكم»، ولم يقُلْ: إنه سينصرف عن أصل النهضة والثورة، وإنما سيغيِّر وجهته إلى ناحيةٍ أخرى فقط؛ وذلك لأنه يرى حرمة مبايعة يزيد؛ إذ إنه سمع من جدّه رسول الله| يقول: «الخلافة محرَّمة على آل أبي سفيان»؛ ويرى أن خلافة يزيد ستقوّض أساس الدين الإسلامي، وفي ذلك قال: «وعلى الإسلام السلام؛ إذ قد بليت الأمة براعٍ مثل يزيد». وإنه لن يبايع يزيد حتّى إذا لم يبْقَ له أيّ ملاذٍ وملجأ في الدنيا: «لو لم يكن في الدنيا ملجأٌ ولا مأوى لما بايعتُ يزيد بن معاوية». ويزيد لا يقبل بأدنى من البيعة أو القتل، وفي ذلك كان الإمام الحسين× يقول: «والله لا يَدَعونني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فإذا فعلوا سلَّط الله عليهم مَنْ يذلّهم، حتّى يكونوا أذلّ من فَرْم المرأة»([41]).
وبالالتفات إلى ما تقدَّم يتَّضح أن السبب الرئيس لثورة الإمام الحسين× هو العمل بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يكن لدعوة أهل الكوفة وبيعتهم لسفير الإمام× سوى توجيه مسار الثورة بعد أن أعلن عن انطلاقتها من قِبَل الإمام الحسين، حيث وصلته الكثير من الكتب من أهل الكوفة، وأصرّوا عليه بالقدوم نحوهم، وبذلك أتمّوا الحجّة عليه؛ إذ قالوا: إنهم شيعته، وإنهم على استعداد للتضحية بكلّ شيء في سبيل الله، وعبَّروا عن شدّة حاجتهم إلى قيادته، ومن هنا رأى الإمام من واجبه أن يسارع إلى نجدتهم، وأن يواصل ثورته من خلال الاستعانة بهم؛ وذلك لأن احتمال تحقيق الانتصار الظاهريّ معهم سيكون أقوى.
وفي الحقيقة لقد كان وضع الإمام الحسين×، من حيث إقبال الناس عليه، شبيهاً بوضع أمير المؤمنين× بعد مقتل الخليفة الثالث؛ إذ أحاط به المهاجرون والأنصار وهجموا عليه، حتّى وطأوا قدمَيْه وأسقطوا عنه رداءه. وعندما طالبته هذه الحشود بقبول الخلافة وجد الإمام أن الحجّة قد تمَّتْ عليه، وقال في ذلك: «لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالمٍ ولا سغب مظلومٍ، لألقيتُ حبلها على غاربها»([42]).
لقد بدأ الإمام الحسين× ثورته على أساس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في وقتٍ لم يكن أهل الكوفة قد وجَّهوا إليه دعوةً بالقدوم نحوهم. ثم وفي أثناء الثورة أرسلوا إليه عدداً كبيراً من الرسائل والكتب، يصرّون عليه فيها بالقدوم إليهم، وبذلك أُلْقِيَتْ مسؤوليةٌ أخرى على عاتق الإمام الحسين×. وقد ألزمته هذه المسؤولية بأن يستجيب، وأن يتولّى إمامتهم؛ إذ كانوا يقولون: «إنه ليس علينا إمامٌ، فأقبل؛ لعلّ الله يجمعنا بك على الحقّ»([43]). وكانوا يلحّون عليه بالتعجيل في القدوم إليهم؛ لأنهم لا يرتضون غيره إماماً عليهم: «فحيّهلا، فإن الناس ينتظرونك ولا رأي لهم في غيرك، فالعجل العجل»([44]).
إن الإمام الحسين×، من خلال حركته من مكّة المكرّمة إلى الكوفة، يكون قد عمل بكلا المسؤوليتين والتكليفين الإلهيّين؛ إحداهما: الاستمرار في ثورته، انطلاقاً من مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومواجهة السلطة الأمويّة الفاسدة والمبتدعة، والأخرى: الاستجابة لدعوة الشيعة الذين لم يكن لهم إمامٌ، وكانوا يطالبونه بأن يتولّى إمامتهم.
وعلى هذا الأساس تكون دعوة أهل الكوفة وحركة الإمام× نحوهم هي في الحقيقة مجرَّد أمرٍ عرضيّ حدث أثناء قيام الإمام بالثورة، دون أن يكون لها أيّ دَوْرٍ في بلورة الثورة الحسينية. ولذلك فإن نقض أهل الكوفة لعهدهم لم يُثْنِ الإمام عن مواصلة مسيرته وثورته.
نقطتان
1ـ شرط عدم وجود مفسدة في الإنكار
إن من شرائط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن لا يكون هناك ظنٌّ بتعرّض الشخص الآمر بالمعروف أو مسلمٍ آخر للضرر، وعليه إذا كان هناك احتمالٌ عقلائي بوجود الضرر سوف يكون وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ساقطاً قطعاً بإجماع الفقهاء([45]). والمراد بالضرر هنا هو الأعمّ من الضرر الذي يطال النفس أو المال أو العرض([46]).
والدليل على ذلك حكومة أدلة نفي الضَّرَر ونفي الحَرَج على أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر([47]). يُضاف إلى ذلك أن هناك رواياتٍ خاصة في هذا الشأن، مثل: الرواية المأثورة عن الإمام الرضا×، التي كتبها في رسالةٍ إلى المأمون، حيث قال: «والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان إذا أمكن، ولم يكن خيفةٌ على النفس»([48]).
وعن الإمام الصادق× أنه قال: «إنما يُؤْمَر بالمعروف ويُنْهَى عن المنكر مؤمنٌ فيتَّعظ [ويتوب من ذنبه]، أو جاهلٌ [بتأثير من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر] فيتعلَّم [ويميّز المعروف من المنكر]، فأما صاحبُ سوطٍ أو سيف فلا»([49]).
يبدو أن المراد من «صاحب السوط والسيف» هو الشخص الذي يمتلك القدرة والسطوة والقهر والغلبة، بحيث إن أمره ونهيه يؤدّي إلى الإضرار بالآمر والناهي، وفي هذه الحالة يسقط عنه وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفي روايةٍ أخرى عن الإمام الصادق× قال فيها، مخاطباً المفضَّل: «يا مفضَّل، مَنْ تعرَّض لسلطانٍ جائر فأصابَتْه بليّةٌ لم يُؤجَر عليها، ولم يرزق الصبر عليها»([50]).
إن الإمام الحسين× لم يكن يحتمل عقلائياً أنه سوف يتعرَّض؛ بسبب خروجه على حكم يزيد، إلى الضرر هو وعائلته وأصحابه فحَسْب، بل إنه استناداً إلى الكثير من الروايات كان يعلم علم اليقين أنه سوف يُقْتَل، وأن مصيره هو الشهادة([51]).
وعليه كيف اختار الثورة على حكم يزيد، استناداً إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، رغم علمه بوجود مثل هذا الضَّرَر أو احتماله في الحدّ الأدنى؟
وحتّى لو تجاهلنا علم الإمام الحسين× باستشهاده؛ إذ سبق له أن سمع وعلم بذلك من جدِّه رسول الله|، ومن أبيه أمير المؤمنين×، مع ذلك ليس هناك شكٌّ في أنه بعد أن بلغه خبر مقتل مسلم بن عقيل، ونقض أهل الكوفة لعهودهم، حصل له علمٌ بأن الإصرار على مواصلة الثورة سيؤدّي إلى أضرار عليه وعلى أهل بيته وأصحابه، ولن يكون هناك إمكانية لتداركها، ولكنّه مع ذلك أصرّ على مواصلة الثورة! فما هو السرّ في ذلك؟! كيف يمكن تفسير هذا الموقف من الإمام الحسين× انطلاقاً من المباني الفقهية؟
قبل الدخول في تفاصيل الإجابة عن هذا السؤال لا بُدَّ من التذكير بأن فعل الإمام الحسين× بوصفه سنّةً صادرة عن معصومٍ يُعَدُّ في حدّ ذاته واحداً من مصادر الفقه، وعليه لا ينبغي تقييم فعل الإمام بواسطة الموازين الفقهية، بل العكس هو الصحيح؛ إذ ينبغي تقييم الموازين الفقهية بواسطة فعل الإمام×. وفي هذا الأمر لا شَكَّ في أن مرادنا من طرح هذا السؤال هو البحث في بيان الارتباط العلميّ لفعل الإمام الحسين بالروايات الصادرة عن سائر الأئمة المعصومين^ في خصوص موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي إننا نروم البحث فيما إذا كان هناك تعارضٌ بين هاتين الطائفتين من الأدلة في خصوص الموضوع مورد البحث أم لا؟
أـ هناك من العلماء مَنْ أجاب عن هذا السؤال بالقول: في ما يتعلَّق بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن نأخذ بنظر الاعتبار أمرين، وهما:
1ـ الموقع الخاصّ للعاصي.
2ـ موقع الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر.
فإذا كان العاصي في موقعٍ يجعل من سلوكه عملاً يُقتدى به، ويؤدّي اقترافه للمعاصي إلى ظهور بِدْعةٍ في أمر الدين من جهةٍ، وكان الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من جهةٍ أخرى يتمتَّع بشخصيةٍ بارزة ومؤثِّرة بين المؤمنين، وكان من أولياء الدين وحُماته، وجب عليه الخروج من أجل الحيلولة دون تسلُّل البِدَع إلى الدين، حتّى لو أدّى هذا الخروج إلى إلحاق الضرر به على المستوى المالي والجسدي.
وفي الأساس قام الكثير من الشخصيات الكبيرة في الدين على هذا الأساس بالتضحية بأموالهم وأرواحهم والمقرَّبين منهم في سبيل الدفاع عن كيان وبيضة الإسلام والولاية، والحيلولة دون ظهور تيارٍ منحرف أو دخيل على الإسلام. ومن هؤلاء الأشخاص الكبار يمكن لنا أن نذكر: ميثم التمّار، وحجر بن عديّ، وأبا ذرّ الغفّاري. كما كانت هذه هي سيرة الأنبياء أيضاً. ولو كان الأمر على خلاف ذلك لما أمكن لدينٍ إلهيّ أن يجد لنفسه موضعاً من الأرض؛ فإن النبيّ إبراهيم× حارب الوثنية وعبادة الأصنام، ولم يتردَّد أبداً في مواجهة القوّة العظمى للطاغوت، ولم يتخلَّ في سبيل ذلك عن ماله وراحة أهله فحَسْب، وإنما قدَّم روحه على طبق من الإخلاص، وعرَّض نفسه لنار النمرود، دون التخلّي عن رسلته التوحيدية.
وهكذا فعل النبيّ يحيى×، الذي رغم أنه لم يكن صاحب رسالةٍ عالمية، إلاّ أنه رفع لواء المعارضة بوجه طاغوت عصره، وأعلن عن مخالفته لزواجٍ غير مشروع، وسار في إصراره على هذه المعارضة إلى حدّ التضحية بنفسه، وأُهدي رأسه المقطوع في طست إلى ذلك الطاغوت.
وهكذا رأى الإمام الحسين×؛ بوصفه خليفة رسول الله| بحقٍّ، والشخص الذي ترنو إليه الكثير من الأنظار، وتشخص إليه الأبصار في كافّة أنحاء العالم الإسلاميّ، رأى من واجبه ـ على أساس هذه الفريضة ـ أن يخرج على حكم الطاغوت الأمويّ؛ لأنه كان يتجاهر بارتكاب المنكر، وترك المعروف، والابتداع في الدين([52]).
وطبقاً لهذا الجواب يكون اشتراط عدم وجود مفسدة على الإنكار مختصٌّ بالآمر العادي من الناس، وغير ناظر إلى الموارد الخاصّة والاستثنائية. والمراد من الموارد الخاصّة ما كان من قبيل: أن يكون الشخص العاصي بحيث يتأسّى الآخرون بأفعاله، ويؤدّي فعله إلى الابتداع في الدين من جهةٍ، وأن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من الأولياء وحُماة الدين، بحيث يُعَدُّ سكوته وعدم ردعه للعاصي تأييداً شرعياً له، ويوجب بذلك تسلُّل البدعة إلى الدين.
وأما في مورد عامّة الناس فيبقى اشتراط عدم وجود المفسدة في الإنكار على حاله، ولذلك فإن تكليفهم في مواجهة الطاغوت المبتدِع يختلف عن تكليف أئمة وكبار الدين في هذا الخصوص([53]).
ب ـ الجواب الآخر الذي يمكن إبداؤه عن السؤال مورد البحث هو أن اشتراط عدم وجود مفسدة في الإنكار إنما يبقى على اعتباره ما لم يترتَّب على ترك الإنكار مفسدةٌ أكبر؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كان مشتملاً على مفسدة بالنسبة إلى الآمر والناهي، ومن ناحيةٍ أخرى كان ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشتملاً على مفسدةٍ أكبر، لن يكون هناك رَيْبٌ؛ من باب قاعدة تقديم الأهمّ على المهمّ، ودفع الأفسد بالفاسد، في اختيار المفسدة الأقلّ، للخلاص من المفسدة الأكبر. وعلى هذا الأساس إذا كانت مسألة الحفاظ على أصل الدين تتوقَّف على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بحيث يؤدّي ترك هذه الفريضة إلى الابتداع في الدين والقضاء على أصل الدين، ففي مثل هذه الحالة يجب التضحية بكلّ مهمٍّ من باب وجوب الحفاظ على الأهمّ، حتّى إذا كان ذلك المهمّ هو النفس الشريفة للإمام المعصوم×، ناهيك عن غيره من الأنفس الأخرى.
وطبقاً لهذا البيان يتعيَّن على كلّ شخصٍ مهما كانت منزلته ـ سواء أكان رجلاً عادياً أو شخصية عظيمة في الدين ـ إذا رأى كيان الدين في خطرٍ أن يقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتّى إذا انطوى قيامه بهذه الفريضة الإلهيّة على ضَرَر يصيب ماله أو نفسه أو عرضه؛ إذ إن كلّ ضَرَرٍ يهون في مقابل الحفاظ على أصل الدين.
وفي تأييد هذا الرأي يمكن الاستناد إلى كلام الإمام الحسين× الذي قال فيه: إن خروجه على الحكم الأمويّ ليس مهمّةً خاصّة به فقط، وإنما هو واجبٌ على كلّ مسلمٍ، ومن ذلك: خطبته التي ألقاها في جيش الحُرّ بن يزيد الرياحي، والتي قال لهم فيها: «أيُّها الناس، إن رسول اللهﷺ قال: مَنْ رأى سلطاناً جائراً… فلم يغيِّر عليه بفعلٍ ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله…»([54]).
إن ابتداء الإمام الحسين كلامه بعبارة: «أيُّها الناس»، واستشهاده بعد ذلك بحديث النبيّ الأكرم؛ إذ قال بشكلٍ مطلق: «مَنْ رأى سلطاناً جائراً…»، يدلّ على شمول التكليف بالخروج والثورة على حكم يزيد، وعدم اختصاص هذا الحكم بالإمام وأولياء الدين فقط.
كما ألقى الإمام الحسين× خطبةً أخرى في اليوم الثاني من محرَّم الحرام من سنة 61هـ، في اليوم الأول من وصوله إلى أرض كربلاء، حيث قال: «ألا ترَوْن أن الحقّ لا يعمل به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله…».
إن الإمام، من خلال تمرير كلمة «المؤمن» بشكلٍ مطلق، يقول: في مثل هذا الوضع، حيث لا يتمّ العمل بالحقّ، ولا يتمّ اجتناب الباطل، يجدر بالمؤمن (وليس أولياء الله الكبار فقط) أن يضحّي بنفسه، وأن يتمنّى لقاء الله والشهادة في سبيله.
كما أن دعوة الإمام الحسين× لمختلف الأشخاص إلى الالتحاق به، والمساهمة في ثورته ضدّ يزيد، يؤيِّد هذا المعنى أيضاً، أي إن الإمام الحسين كان يرى الخروج على الطاغوت الأمويّ واجباً على الجميع، وليس تكليفاً خاصّاً به وبأئمّة الدين فقط، ولا سيَّما أن بين الذين دعاهم الإمام الحسين× مَنْ لم يكونوا من كبار الشخصيات الدينية أبداً، بل كان منهم مَنْ هو معروفٌ بسوء ماضيه، مثل: عبيد الله بن الحُرّ الجعفي، الذي كان عثمانيّ الهوى، وقد ارتحل بعد مقتل عثمان إلى معاوية، وكان في حرب صفّين في معسكر معاوية ضدّ الإمام عليّ×، كما كان معروفاً بقطع الطرق والغارة على القوافل والآمنين([55]). وقد ذهب الإمام الحسين× بنفسه إلى لقاء عبيد الله، وقال له ضمن كلامه معه: «إن عليك ذنوباً كثيرة، فهل لك من توبةٍ تمحو بها ذنوبك؟»([56]).
وبذلك يبدو أن الرأي الثاني هو الأقوى في الجواب عن السؤال مورد البحث، وهو الأنسب بظواهر الأدلّة والروايات، وإنْ أمكن الجمع بين الرأيين من حيث النتيجة العملية، ببيان أن من بين شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر احتمال تأثير الأمر والنهي في الشخص المأمور بالمعروف والمنهي عن المنكر. ولم نجِدْ اختلافاً بين فقهاء الشيعة في هذا الشأن([57]). وقد تمسَّكوا لذلك بأدلة، من قبيل: رواية مسعدة بن صدقة، عن الإمام الصادق×، بشأن معنى الحديث النبويّ القائل: «إن أفضل الجهاد كلمة عدلٍ عند إمامٍ جائر»، قال: «هذا على أن يأمره بعد معرفته، وهو مع ذلك يقبل منه، وإلاّ فلا»([58]).
وعلى هذا الأساس قد يقال: عندما يحكم المجتمع الإسلامي شخصٌ جائر، مثل: يزيد، لا يعمل بالحقّ ولا يحجم عن الباطل (ألا ترَوْن إلى الحقّ لا يُعْمَل به، وإلى الباطل لا يُتَناهى عنه)، ويعمل على إماتة السنّة وإحياء البِدْعة (فإن السنّة قد أُميتَتْ، والبِدْعة قد أُحْيِيَتْ)، ويوقن الناس العاديين أن أمرهم ونهيهم له لا يؤثِّر في مثل هذا الحاكم، بل قد يعود ذلك بالضَّرَر المالي والجسدي عليهم، يكون وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ساقطاً عنهم؛ بسبب الافتقار إلى أحد الشروط.
وأما في مورد أولياء الله وأئمّة الدين فالأمر مختلفٌ؛ إذ إن الموقع والمكانة الاجتماعية التي يحتلّونها بين الناس تجعلهم في مقام القدوة، ولا شَكَّ في أن خروجهم على الحاكم الجائر سيكون مؤثِّراً، ويمكن الوثوق بتأثير ذلك على واقع المجتمع الإسلاميّ، وفي أسوأ الظروف لن يترتَّب على أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر أدنى من احتمال التأثير، وهذا المقدار يكفي لتحقُّق شرط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والنتيجة هي أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإنْ كان واجباً على جميع المسلمين، وليس على خصوص أئمّة الدين فقط، ولكنْ في مواجهة الحكّام الجائرين ـ من أمثال: يزيد ـ، الذين يصرّون على إنكار الحقّ والتزام الباطل، احتمالُ التأثير الذي يُعَدُّ واحداً من شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غيرُ متحقِّقٍ بالنسبة إلى عامّة الناس، ولذلك تكون هذه الفريضة ساقطةً عن عاتقهم، ولكنْ حيث يكون هذا الشرط متحقِّقاً بالنسبة إلى أولياء الدين يكون وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً عليهم من هذه الناحية، وغيرَ ساقطٍ عنهم.
وعلى هذا الأساس يكون الرأي الأوّل والثاني في الجواب عن السؤال مورد البحث قريبين من بعضهما (رغم بُعْدهما عن بعضهما من الناحية النظرية)؛ إذ في ظلّ ظروفٍ كالظروف الزمنية للإمام الحسين× في مواجهة حكم يزيد غالباً ما يكون تأثير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منحصراً بالأئمّة وأولياء الدين، في حين أن هذا الشرط لا يتحقّق بالنسبة إلى عامّة الناس، ولذلك لا يجب عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر([59]).
2ـ دَوْر قناعة وإيمان الناس في ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)
من الأمور الجديرة بالتأمُّل في ثورة الإمام الحسين× اهتمامُه بعنصر القناعة وإيمان الناس بما يدعوهم إليه. وتوضيح ذلك: إن الإمام الحسين رغم خروجه والإعلان عن ثورته حتّى قبل دعوة أهل الكوفة، وذلك على أساس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلاّ أنه في أثناء الثورة ووصول ما لا يُحْصَى من الرسائل والكتب من أهل الكوفة لم يستجِبْ لهم إلاّ بعد أن أرسل ابن عمّه مسلم بن عقيل سفيراً من قِبَله، وبعد أن وصل مسلم وأرسل تقريره إلى الإمام عن أوضاع الكوفة، وأحرز أن الناس يريدون منه القدوم إليه حقيقةً.
وهذا ما أكَّد عليه الإمام الحسين× في كتابه الذي أرسله مع مسلم بن عقيل إلى أهل الكوفة؛ إذ يقول: «…فإنْ كتب إليَّ أنه قد أجمع رأي ملأكم وذوي الفضل والحِجَى منكم على مثل ما قدمت عليَّ به رسلكم، وقرأت في كتبكم، أقدم عليكم وشيكاً، إنْ شاء الله…»([60]).
وقد تقدَّم أن عدد الرسائل التي بعث بها أهل الكوفة إلى الإمام الحسين× قد بلغ ـ طبقاً لبعض الروايات التاريخية ـ اثني عشر ألف رسالة.
إن هذا العدد الكبير من الرسائل والكتب، مع الالتفات إلى مضامينها، حيث تجمع كلّها على حثّ الإمام ودعوته للتوجُّه نحو الكوفة والثورة ضدّ يزيد، ومعاهدتهم له على نصرته والوقوف إلى جانبه، من شأنه أن يقنع كلّ شخصٍ بأن أهل الكوفة كانوا على قناعةٍ تامّة بقدوم الإمام إليهم. إلاّ أن الإمام الحسين× رغم ذلك؛ وبسبب دقّته وبُعْد نظرته، لم يكْتَفِ بذلك، وإنما أرسل إليهم مسلم بن عقيل، لينقل له حقيقة الأمر عن كثبٍ؛ ليحرز بذلك أن رأي كبارهم وأصحاب الشأن منهم قد استقرّ على ذات ما ورد في كتبهم، وما أبلغه رسلهم مشافهة.
ومن الواضح أن اجتماع رأي كبار القوم وأصحاب المنازل والمراتب الرفيعة يعبِّر عن رؤية عامّة الناس؛ لأن السواد الأعظم من الناس هو في الغالب تابعٌ لرأي كبار القوم، ومن النادر أن يشذّ رأي عامّة الناس عن رأي أصحاب الفضل وقادة القوم، ولا يكون رأي الملأ معبِّراً عن رأي عموم أبناء المجتمع، ولا سيَّما بالنسبة إلى أوضاع تلك الحقبة من عصر المجتمع الإسلامي، حيث نجد من عامّة المسلمين اهتماماً كبيراً بما يقوله كبارهم، ويطيعونهم في ما يرَوْنه.
ومن كلمات الإمام الحسين الأخرى التي تثبت شدّة اهتمامه بعنصر قناعة الناس وإقبالهم ورضاهم ما قاله في منزل شراف، بعد إقامة صلاة الظهر، حيث خاطب جيش الحُرّ بن يزيد الرياحي قائلاً: «…وإنْ كنتم لمقدمي كارهين انصرفتُ عنكم إلى المكان الذي أقبلتُ منه إليكم»([61]).
وللإمام الحسين× كلامٌ شبيه بهذا، قاله بعد الفراغ من صلاة العصر في ذات المنزل، خاطَب به الجماعة نفسها، إذ قال: «…وإنْ أبيتم إلاّ الكراهة لنا، والجهل بحقِّنا، وكان رأيكم الآن غير ما أتَتْني به كتبكم، أنصرف عنكم»([62]).
لا يخفى أن الإمام الحسين×، كما سبق أن ذكرنا، وكما يبدو من ظاهر هذه العبارة، لا يريد من الرجوع الانصراف عن الثورة، وإنما المراد هو مجرّد عدم مواصلة الطريق إلى أهل الكوفة؛ لأن الإمام الحسين، مثل والده وأخيه’، لا يريد أن يفرض نفسه على الناس رغم إرادتهم، أو أن يتأمَّر عليهم دون رضاهم، أو أن يقيم حكمه على أساس مبدأ «الغلبة».
فإن أمير المؤمنين× لم يقبل بتولّي الحكم والخلافة الظاهرية إلاّ بعد هجوم الناس عليه من كلّ جانبٍ، وإصرارهم عليه بذلك، وقال في هذا الشأن: «وبسطتم يدي فكفَفْتُها، ومددتموها فقبضتُها، ثمّ تداككتم عليَّ تداكّ الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها، حتّى انقطعت النعل، وسقطت الرداء، ووُطئ الضعيف. وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إيّاي أن ابتهج بها الصغير، وهدج إليها الكبير، وتحامل نحوها العليل، وحسرت إليها الكعاب»([63]).
وكذلك الإمام الحسن× لم يفرض نفسه على الناس، ولم يرْضَ بالخلافة إلاّ برضاهم، كما بيَّن ذلك في كتابٍ له، حيث قال: «إنّ علياً ـ رضوان الله عليه ـ لمّا مضى لسبيله… ولاّني المسلمون الأمر بعده…»([64]).
وباختصارٍ يُفْهَم من كلمات وسيرة الإمام الحسين×، كما يُفهم من سيرة أبيه أمير المؤمنين عليّ× وأخيه الإمام الحسن×، أنهم لم يكونوا يرَوْن شرعيةً للحكم على الناس من طريق القهر والغلبة، ولم يكونوا ليسلكوا هذا الطريق للوصول إلى السلطة أبداً. وعلى حدّ تعبير السيد الخامنئي: «إن من بين خصائص حكومة أمير المؤمنين× أنها منبثقةٌ من إرادة الناس ورغبة الجماهير. فليس في منطق أمير المؤمنين× الهيمنة والسلطة على الناس من طريق (الغلبة). فعلى الرغم من علمه بأن الخلافة من حقِّه، ولكنّه تخلّى عنها، ولم يطالب بها، حتّى كان الناس هم الذين جاؤوا إليه وأصرّوا عليه بقبولها، وألحّوا عليه، ورُبَما ذرفوا الدموع كي يحملوا الإمام على الاستجابة لمطالبهم وتولّي زمام أمورهم. وعندها فقط أخذ الإمام بمقاليد الأمور. وقد صرَّح بأنه لو لم يُقبل الناس إليَّ، ولم يُصرّوا عليَّ، ولم أرَ منهم الجدّ في ذلك، لما كانت لي إربةٌ في الخلافة… لقد أعطاه الناس السلطة، وأخذها منهم، وحافظ عليها بجدارةٍ واقتدار…»([65]).
الهوامش
(*) باحثٌ متخصِّصٌ في مجال الفقه والحقوق العامّة.
([1]) المجلسي، بحار الأنوار 44: 329؛ مقتل الخوارزمي 1: 188.
([2]) تاريخ الطبري 7: 235؛ مقتل الخوارزمي 1: 195 ـ 196.
([4]) الدينوري، الأخبار الطوال: 203.
([6]) نظر: محمد نعمة السماوي، موسوعة الثورة الحسينية 4: 105، دار المرتضى، بيروت، 1422هـ.
([7]) الدينوري، الأخبار الطوال: 205.
([8]) المصدر نفسه؛ تاريخ ابن كثير (البداية والنهاية) 8: 164.
([9]) الدينوري، الأخبار الطوال: 205 ـ 206.
([10]) تاريخ ابن كثير (البداية والنهاية) 8: 164.
([12]) المصدر نفسه؛ السيوطي، تاريخ الخلفاء: 192.
([13]) تاريخ الطبري 3: 227؛ المفيد، الإرشاد: 210؛ ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف: 14.
([14]) المصادر نفسها؛ ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب 4: 90؛ ابن الجوزي، تذكرة الخواصّ: 244.
([15]) تاريخ ابن الأثير (الكامل في التاريخ) 3: 385.
([16]) ابن طاووس، اللهوف على قتلى الطفوف: 15.
([21]) تاريخ الطبري 7: 235؛ المفيد، الإرشاد: 204؛ مقتل الخوارزمي 1: 195 ـ 196.
([22]) تاريخ الطبري 7: 289؛ تاريخ ابن كثير (البداية والنهاية) 8: 168.
([23]) مقتل الخوارزمي 1: 188؛ المجلسي، بحار الأنوار 44: 329.
([24]) ابن شعبة الحرّاني، تحف العقول: 168 ـ 170؛ المجلسي، بحار الأنوار 97: 79.
([25]) انظر: محمد نعمة السماوي، موسوعة الثورة الحسينية 4: 183. كما أن الكثير من المصادر والكتب الروائية لم تُشِرْ إلى تاريخ إلقاء الإمام الحسين× لهذه الخطبة، وما إذا كان قد ألقاها قبل الانطلاق في ثورته وامتناعه عن مبايعة يزيد وخروجه من المدينة المنوّرة إلى مكّة المكرّمة أو بعد ذلك. بَيْدَ أن الذي يبدو من ظاهر قوله×: «اللهمّ إنك تعلم أنه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان …» أن الإمام قد ألقى هذه الخطبة بعد الانطلاق في ثورته. ويبدو أن عبارة: «ما كان منّا» تحمل إشارة إلى هذه الثورة. وهذا ما ارتضاه بعض الكتّاب أيضاً. انظر: المصدر نفسه.
([27]) المصدر السابق 7: 300؛ مقتل الخوارزمي 1: 234؛ المجلسي، بحار الأنوار 44: 381.
([28]) هكذا ورد في النصّ. والظاهر أن المراد بالفَيْء هنا يعود إلى عموم المسلمين، لا إلى خصوص أهل البيت، كما هو واضحٌ. المعرِّب.
([29]) وقد ورد التعبير عن هذه الجملة في بحار الأنوار بالقول: «إني أحقّ بهذا الأمر»، وهي أكثر وضوحاً وصراحة في الإشارة إلى قيادة الأمّة الإسلامية.
([30]) تاريخ الطبري 7: 300؛ مقتل الخوارزمي 2: 5؛ ابن طاووس، اللهوف على قتلى الطفوف: 79.
([31]) مقتل الخوارزمي 1: 188؛ المجلسي، بحار الأنوار 44: 329.
([32]) تاريخ الطبري 7: 216؛ مقتل الخوارزمي 1: 182؛ ابن طاووس، اللهوف على قتلى الطفوف: 19.
([33]) المجلسي، بحار الأنوار 44: 325.
([34]) العبارة ما بين المعقوفتين غير موجودة في كتاب اللهوف، لابن طاووس. المعرِّب.
([35]) ابن طاووس، اللهوف على قتلى الطفوف: 20؛ مقتل الخوارزمي 1: 185.
([37]) تاريخ الطبري 3: 227؛ تاريخ ابن الأثير (الكامل في التاريخ) 3: 385؛ ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف: 14.
([39]) وتمام الآية هو: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾. إن هذه الآية تتحدَّث عن بيعة المسلمين مع النبيّ الأكرم|، وقد عمد الإمام الحسين× ـ وهو خليفة رسول الله| بالحقّ ـ إلى تطبيق هذه الآية على نفسه، وقال بأن ضرر نكث البيعة من قبل الناس إنما يعود عليهم فقط.
([40]) الطبرسي، إعلام الورى بأعلام الهدى: 232؛ المجلسي، بحار الأنوار 44: 377.
([41]) تاريخ الطبري 7: 275؛ تاريخ ابن الأثير (الكامل في التاريخ) 4: 39؛ الطبرسي، إعلام الورى بأعلام الهدى: 231.
([42]) نهج البلاغة: 50، الخطبة رقم 3.
([43]) تاريخ الطبري 3: 277؛ تاريخ ابن الأثير (الكامل في التاريخ) 3: 385.
([44]) ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف: 15.
([45]) انظر: النجفي، جواهر الكلام 21: 371.
([47]) انظر: المصدر نفسه؛ الخوانساري، جامع المدارك 5: 405.
([48]) الصدوق، عيون أخبار الرضا 2: 124، دار العلم، قم.
([49]) الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة 11: 400 ـ 401.
([51]) انظر على سبيل المثال: الراوندي، الخرائج: 26؛ البحراني، مدينة المعاجز: 244؛ المجلسي، بحار الأنوار 44: 331؛ ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف: 23، 65؛ تاريخ الطبري 7: 275؛ 5: 383؛ تاريخ ابن كثير (البداية والنهاية) 8: 169؛ ابن قولويه، كامل الزيارات: 75؛ مقتل الخوارزمي 1: 226. وقد وردت الكثير من الروايات في هذا الشأن من طرق الشيعة وأهل السنّة. وللوقوف على المزيد، غير ما تقدَّمت الإشارة إليه، يمكن الرجوع إلى كتاب (سيرتنا وسنّتنا)، للعلامة الأميني، وكتاب (موسوعة الثورة الحسينية) 4: 194، لمؤلِّفه محمد نعمة السماوي.
([52]) انظر: محمد صادق نجمي، سخنان حسين بن عليّ× أز مدينة تا كربلاء: 131 ـ 132، انتشارات إسلامي، قم. (مصدر فارسي).
([53]) انظر: المصدر نفسه؛ ناصر مكارم الشيرازي، القواعد الفقهية 1: 437، مدرسة الإمام عليّ بن أبي طالب×، قم، 1416هـ.
([54]) تاريخ الطبري 7: 300؛ تاريخ ابن الأثير (الكامل في التاريخ) 3: 280.
([55]) تاريخ الطبري 7: 168؛ محمد صادق نجمي، سخنان حسين بن عليّ× أز مدينة تا كربلاء: 140.
([56]) تاريخ الطبري 7: 306؛ تاريخ ابن الأثير (الكامل في التاريخ) 3: 282.
([57]) النجفي، جواهر الكلام 21: 367.
([58]) الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة، أبواب الأمر والنهي، الباب 2، الحديث 1.
([59]) وبطبيعة الحال إذا قام الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر في مثل هذه الظروف بدعوة الناس إلى نصرته وجب عليهم تلبية أمره والقيام بنصرته؛ وذلك لقول رسول الله|: «مَنْ سمع رجلاً ينادي: يا للمسلمين فلم يُجِبْه فليس بمسلمٍ». الكليني، أصول الكافي 2: 164، ح5.
([60]) تاريخ الطبري 7: 235؛ تاريخ ابن الأثير (الكامل في التاريخ) 3: 267.
([61]) تاريخ الطبري 7: 297 ـ 298؛ المفيد، الإرشاد: 224 ـ 225.
([63]) نهج البلاغة، الخطبة رقم 229.
([64]) عزيز الله العطاردي، مسند الإمام الحسن المجتبى×: 332.
([65]) كلمة السيد عليّ الخامنئي في حشدٍ من أبناء الشعب، بمناسبة مولد أمير المؤمنين، في اليوم الثالث عشر من شهر رجب سنة 1423هـ، والمنشور نصّها في صحيفة جمهوري إسلامي، العدد 6735: 3، بتاريخ: 31 / 6 / 1381هـ.ش، السنة الرابعة والعشرون.