أ. د. عبد الأمير كاظم زاهد(*)
مفهوم الأصول والأصوليّة في التراث الإسلاميّ
يعود مفهوم الأصوليّة في التداول الوضعي المعجمي إلى المراد من لفظة «أصل»، فقد قال الجرجاني في التعريفات: إنَّ الأصل هو ما يُبنى عليه غيره، والأصول جمع أصل، وهو في اللغة عبارةٌ عمَّا يفتقر إليه غيره، ولا يفتقر هو إلى شيء، وهو ما يثبت حكمه بنفسه ويبنى عليه غيره([1]). ومنه جاءت تسمية الأسس والقواعد العامّة بالأصول، وقد سُمّيت بذلك لأنها أُسس يُفتقر إليها، وتصلح دليلاً على ما يؤسّس عليها، وهي قواعد عامّة مبرهنٌ عليها. فالأصوليّة إذن مصطلحٌ مشتقّ من لفظة الأصل الذي يرتكز عليه الشيء ويبنى، فيكون بمعنى القاعدة أو الركيزة التي يرتكز عليها الشيء([2]). قال في المحيط: الأصل أسفل الشيء([3]). ويُراد به أيضاً مفهوم الأساس. وهنا تظهر دلالة أخرى، هي البدايات الأولى لنشأة الأفكار. وقد ورد في لسان العرب أنَّ الأصوليّة في اللغة مأخوذةٌ من الفعل أصَّلَ، وأصَّل الشيء يؤصّله إذا عاد به إلى الأصول الأولى والثوابت. ولأنّ أصلَ الشيء أساسُه الذي يقوم عليه، والنسبة إليه أصولي([4])، يكون معنى التأصيل الكشف عن هذا الأصل، وتحديد طبيعة الانتساب إليه، أي تحديد هويّته من حيث النشأة، أي إنّ الفكر الراهن ناتج عن الأُسس التي تقوم عليه الظواهر، أو الواقع الاجتماعي المعيَّن. ويسمّى الشيء أصيلاً إذا كان ينتمي إلى الأصل أو يتمسَّك به.
المفهوم المعاصر للأصوليّة الإسلاميّة
أما في الاصطلاح التقليدي فقد استخدم الأصل بما يقابل الفرع. واستعمله أهل اللغة وعلوم الأولين بمعنى الدليل، أو المستند([5]). لذلك قيل: إنّ أصل المسألة كذا أي دليلها كذا؛ وقيل: هو المبدأ الذي نشأ عنه الفكر الراهن، أو النظرية الحالية التي تنتسب إليه، فيكون بمعنى الجَذْر، أو السبب، أو الشرط، لرؤيةٍ فكريّة متأخّرة عنه ومؤسّسة عليه.
وتكون الأصوليّة ـ على ما تقدَّم من معانٍ معجمية واستعمالية ـ هي الآراء والأفكار والنظريات المنتسبة إلى أصلٍ فكري، سواء أكان دينياً أم فلسفياً أم أصولاً ثقافيّة تأسيسيّة أخرى.
أما الاستعمال المتداول في هذه الأيام فقد اتّخذ منحًى آخر، بحيث اختلفت دلالته بحَسَب بِنْية الثقافة التي يستعمل في نطاقها المفاهيمي. فالمصطلح لم يكن من منتجات الثقافة العربيّة، ولم يتدرَّج معناه في عرف التخاطب العربي؛ فقد اتَّضح بما قدَّمناه من المعنى المعجمي حتّى الاصطلاحي. أما الإطلاق المعاصر فقد نشأ في رحم الثقافة الغربية، وانتقل معناه من الثقافة الغربية إلى ثقافة العرب والمسلمين. وكان معناه في المنشأ الثقافي له أنّه الرؤية الفكريّة المعاصرة التي تتَّخذ من الأصل التأسيسي مرجعاً أساسياً لها، وسنداً مطلقاً ونهائياً، سواء أكان ذلك الأصل دينياً أم سياسياً أم عرقياً، ليكون الأساس في مفاهيمها والضابط لسلوكها([6]). وطبقاً لهذا التعريف فإنّ الاتجاهات الدينيّة جميعاً هي اتّجاهات أصوليّة؛ لأنها جميعاً رؤية تتخذ من أصولها الدينيّة مرجعاً أساسياً وسنداً مطلقاً ونهائياً. ولعلَّ هذا هو سبب نزعة أغلب الباحثين والكتَّاب لربط هذا المفهوم بالأديان؛ وأطلقه بعضهم على التيارات الدينيّة، سواء المتشدِّدة أم غير المتشدِّدة. وهذه النزعة تتعامل مع كلّ المنظّمات الدينيّة على أنها منظّماتٌ أصولية. فيكون المراد بالأصوليات هي التيارات أو الجماعات الدينيّة مطلقاً. وعلى هذا المعيار فإنّ كلّ منتسبٍ إلى فكرٍ تراثيّ قديم يتمسّك به كرؤية للحاضر هو أصوليّ. ولوجود هذا المعنى في مختلف المذاهب الدينيّة فكلّ الرؤى ذات الأُسس الفكريَّة رؤىً أصولية؛ بينما الواقع الماثل أمامنا ليس كذلك؛ فلقد ظهرت في القرن الماضي في العالم الإسلامي حركاتٌ إحيائية، تدعو إلى إعادة فهم الإسلام وتطبيقه في الحياة المعاصرة، لكنّها لم تكن تتّخذ كلمة الأصوليّة اسماً لها، ولم يطلق عليها آنذاك هذا الاسم، ولم تتَّسم بالتشدُّد والعنف والذهنية التغييريّة الانقلابيّة. وربما أطلق على بعضها (الاتّجاهات السلفيّة)، إلاّ أنّ الباحث المدقِّق لا يرادف بين مصطلح السلفيّة ومصطلح الأصوليّة، إلاّ إذا وقع في الالتباس، أو كان يُراد باللفظ العودة إلى الأصول والعمل بمقتضاها. إلاّ أنّ هذه الجماعات لم تُسَمَّ بالأصوليّة، ولم تكن كلّها متشدّدةً تفرض مقولاتها بكلّ الوسائل على الغير، وكان لبعضها منهجٌ إصلاحيّ، كحركة جمال الدين الأفغاني ومحمد عَبْدُه، إضافةً إلى أنها لا ترى استعمال الوسائل القَسْرية كطريقٍ لنشر الفكر أو نشر الدين.
لهذه الأسباب، ولما تقدَّم من التداخل والالتباس في دلالة المصطلح، صار ضرورياً الكشف عن مواطن نشأة المصطلح؛ لأنّ مفهوم الأصوليّة صار واحداً من المفاهيم التي اتَّسمت بالاستعمال غير الدقيق من جهة المعنى والدلالة. ولأنّ هذا المفهوم ظلَّ فضفاضاً لا يخلو من العمومية فإنّ التحقيق في مفهومه ودقّة استعماله أصبح حاجةً معرفيّةً. ففي الثقافة الإسلاميّة التقليديّة مثلاً كان ولا يزال يُستعمل لفظ الأصل والأصول بمعناه اللغوي المعجميّ، ويُراد به الأُسُس؛ ومنه: علم أصول الدين، أي أُسُسه ومرتكزاته وحقائقه الأولى والمبادئ العامّة له؛ ومنه: علم أصول الفقه، أي المصادر الأساسية التي يُستقى منهاالتشريع الإسلامي، أو هو قوانين الاستنباط الأساسية للفقه الإسلامي. ولم نجِدْ في تراثنا المعنى المستعمل حاليّاً للأصوليّة؛ فمصطلح الأصوليّة الذي يستعمل اليوم مصطلحٌ نشأ في أروقة ثقافة الغرب مؤخّراً، بمعناه الحالي الذي نشأ في رواق ذلك الفكر.
يقول جيل كيبل: لقد ظهر المصطلح على أثر نشر سلسلة من اثني عشر مجلداً في الولايات المتحدة بين (1910 ـ 1915) تحت عنوان: (الأصول). وكانت تلك المجلدات تضمّ تسعين مقالةً حرَّرها اللاهوتيون البروتستانت المعارضون للمصالحة مع الحداثة([7]). وقد اعتُمدت هذه الرسائل لتبيان العناصر التقليديّة للعقيدة المسيحيّة، والثوابت التي يرى الأصوليون أنها أركان المسيحيّة الأولى. وبذلك يؤكِّد كيبل أنّ المصطلح نشأ أوّلاً في رواق الفكر الغربي وأحضان الفكر الديني المسيحي، ثمّ نقل من ثقافة الغرب إلى الواقع المعرفي الإسلامي، ليُطلَق مصطلحاً على الجماعات الإسلامية التي تتبنّى الظواهر المتشدِّدة في الثقافة الإسلاميّة. لذلك شكا كثيرون من تعدُّد التداعيات الدلالية في استعماله كوصف للظواهر الدينيّة الإسلاميّة المتعدِّدة([8]).
ولتغاير الثقافتين، ولاختلاف نشأة المصطلح ومجاله التداولي، فقد صار معناه متغايراً ومتفاوتاً بحَسَب الاستعمال (إرادة الخطاب). ولهذا الأمر صلةٌ بمَنْ يرى أنّ مفهوم الأصوليّة صار اسماً لأتباع تيارٍ بروتستانتي ظهر في الولايات المتحدة في عشرينيات القرن الماضي، ويقصد «جماعة الإنجيليين المحافظين التابعين للطوائف البروتستانتية»([9]). وهذا معناه أنّ المصطلح اسمٌ لأولئك الذين آمنوا والتزموا بما جاء بالسلسلة التي صدرت مطلع القرن الماضي، وتكوَّنت أفكارهم ورؤاهم بناءً عليها، مع التذكير أنّ ذلك قد حصل في أمريكا. أما في أوروبا الغربية فيرى روجيه جارودي أنّ المصطلح لم يدرج في المعاجم والقواميس الشهيرة، كمعجم روبير الكبير، والموسوعة العالمية الفرنسية، حتّى 1966م، إلاّ أنّه بعدها قد عرَّفه قاموس لاروس الصغير أنّه موقف أولئك الذين يرفضون تكييف أيّ عقيدةٍ مع الظروف الجديدة. وكان قد أطلقه قاموس لاروس على الكاثوليكية([10])، وذلك بعد عام 1966م. وعرَّفها قاموس أكسفورد بأنها عبارةٌ عن «التمسُّك الصارم بالمضامين الأُرثوذكسية التقليديّة وبحرفية النصوص المقدَّسة، ومعاداة الليبراليّة والحداثة»([11]). وتعتبر نهاية السبعينيّات من القرن الماضي البداية الزمنية لانتشار مصطلح الأصوليّة في المجال الدولي، وفي مجالنا التداولي العربي الإسلامي؛ إذ في عام 1980م كانت الصحف الأمريكية تنشر الكثير عمّا تسميه بالمدّ الأصوليّ الإسلاميّ، ولا سيَّما بعد ظهور التجربة الإسلاميّة في إيران على مسرح الحدث العالمي([12]). ثمّ عُمِّم بعد ذلك، فصار مصطلحاً دالاًّ على جماعات الإسلام السياسي ذات البُعْد المحلّي والإقليمي والدولي([13])، من دون أنْ نجِد دقّةً في تصنيف هذه الجماعات بحَسَب السمات العامّة والتفصيلية، التي يتفاوت توافرها والالتزام بها في هذه الجماعات.
إنّ سبب اختيارنا لمصطلح الأصوليّة في عنوان البحث، من دون بقية الأسماء التي تطلق على الجماعات الإسلاميّة، هو هذا الشيوع الذي أسهمت به وسائل الإعلام، والتزم به الخطاب السياسي والديني المعاصر، رغم أنّه تعبيرٌ فيه الكثير من تعدُّد القصدية، لكنّ انتشاره جعلنا نلتزم به، بوصفه أصبح مصطلحاً معروفاً ومتداولاً. لكنني أعتقد أنّه يحتاج في مجال البحث العلمي إلى ضبطٍ مفهومي، وتحديدٍ مصداقي. وهو ما سنحاوله في هذا البحث، حتّى نجد مسوّغاً ـ بعد عرض السمات ـ لإمكان إطلاقه وصفاً للجماعات الجهاديّة الإسلاميّة التي تستخدم العنف كوسائل تبشيريّة([14]). ولعلَّ ما يشفع لضبطه أيضاً كونه أصبح المصطلح الأكثر تداولاً في الأوساط البحثيّة والأكاديميّة، الإقليميّة والدوليّة. لذا آثرنا اعتماده، رغم الالتباس الذي سنحاول إزالته، وتحديد المراد الدقيق منه، من خلال وضع السمات المعيارية للاستعمال، وتحديد نوع الجماعات.
الالتباس في الإطلاق المعاصر
إنّ رحم هذا المصطلح هو الثقافة غير الإسلاميّة. وإنّه قد شاع تداوله عن طريق وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث ليشمل كافّة الجماعات الدينيّة المتشدِّدة، المعادية للحداثة، سواء أكانت هذه الجماعات سياسيّةً أم عرقيةً أم تنتمي إلى ثقافةٍ تاريخيّة أم جماعات دينيّة يهوديّة أم مسيحيّة أم إسلاميّة أم منتسبة إلى أديان أخرى. وأصبح اسماً للجماعات المحافظة المغالية في تشدّدها، سواء من الماركسيين أم يهود إسرائيل أم التيار الإنجيلي البروتستانتي أم جماعة السيخ في الهند أم التاميل في سيريلانكا أم الإسلاميين الحركيين في عالمنا الإسلامي. ويعزِّز رؤيتنا هذه ما يضعه السيد غسان بن جدّو للمصطلح من معايير، ومنها: إنها تلك التي تتبنَّى استخدام العنف؛ وثانيها: مَنْ كان هدفهم تغيير الواقع تغييراً جوهرياً، فيقول: لكي نطلق على هذه الجماعة بأنها أصولية فإنما نطلقه على أيّ حركةٍ تتوسَّل بالعنف بكلِّ أشكاله لتغيير الواقع العالمي لمصلحة الإسلام بطريقتها الخاصّة([15]). كما يعزِّز رؤيتنا في ضرورة وضع السمات العامّة كمعايير لمَنْ سنطلق عليه من الجماعات مصطلح «الأصوليّة» محاولة روجيه جارودي، الذي يضع عشرة من المعايير الأساسية للأصولية، هي: «الجمود، رفض التكيف، عدم التسامح، الانغلاق، التحجُّر المذهبي، التصلُّب، العناد، المحافظة، الانتساب إلى التراث، العودة إلى الماضي، معاداة كلّ نموٍّ وتطوّر»([16]). إلاّ أنّ هذه السمات يمكن دمجها مع بعضها، وتصنيفها تصنيفاً آخر؛ فهي متداخلةٌ ومكرَّرة؛ لأنّنا نرى أهمّية تمييز الأصوليّة السلفيّة على المستوى الأيديولوجي والواقع الاجتماعي في ضرورة التفريق بين تنوّعاتها في النظرة والموقف. ونفسِّر التحاق الشباب بهذه الجماعات أنّ الإنسان الفطريّ يرتبط بالفكر الدينيّ بسرعة، وأنّ الإنسان البسيط فطريّاً يقدّس التعاليم الدينيّة الأولى، ويتناغم مع المقدَّس بحيث لا تتكوَّن عنده الجرأة للتساؤل وإبداء الشكّ. ومن نتائج ذلك أنّ المؤمنين به يمارسون حياتهم طبقاً للمفاهيم الدينيّة، ويوجِّهون أنشطتهم تَبَعاً لمقتضاه النظري والعملي، من حيث الانقياد التامّ والطاعة المطلقة. ففي علم الاجتماع الدينيّ يرى جان بول ويليم أنّ الدين عبارةٌ عن نظام رموز يعمل ويثير لدى البشر حوافز قويّة وعميقة ومستديمة، عبر صياغة مفاهيم عامة حول الوجود، وإعطاء هذه المفاهيم مظهراً حقيقاً بحيث تبدو تلك الدوافع وكأنّها لا تستند إلاّ إلى الحقيقة. ويقول: إنّ الدين طريقة تصرُّف في المجتمع يقتصر على تواصل رمزيّ منتظم عبر الشعائر والمعتقدات، ويطرح عبر جاذبيّة شعبية مؤسّساً لمفاهيم تفوق التجربة أو الحقيقة الارتقائية([17]). وعليه يكون الجهل وانعدام المنهج العلمي في تلقي المعرفة الدينيّة سبباً مهمّاً في جذب الشباب للانخراط في الجماعات الأصوليّة. وأبرز سبب هو عدم التفريق بين الحركات الإسلاميّة الإصلاحيّة والحركات السلفيّة غير العنيفة والجماعات الأصوليّة الجهاديّة التي تسوِّغ لنفسها استخدام القوّة كوسيلة لنشر الدين. وعلى ذلك أظن أنّ أيّ مواجهةٍ للأصولية تحتاج إلى رؤيةٍ علمية مدروسة؛ لبناء أجيالٍ واعية ومثقّفة، ولديها القدرة على ممارسة الشكّ والتحليل والحوار مع كلّ أنماط الفكر الدينيّ، ولا سيَّما طُرُق نشر الدين. وأرى أنّ استعمال العنف عند هذه الجماعات هو الميزة المهمة والأساسية كوسيلةٍ لنشر الدين. فهذه في ما أرى تُعَدّ من أهمّ السمات للأصوليّات؛ لأنها تزعم أنها تحمل رسالةً إلهية لتغيير العالم، فتتكوّن في ذهنيتها رؤيتها الانقلابية التغييرية، وتسمح لنفسها باستخدام العنف باسم الإله. ومن ذلك نجد أنّ أتباعها يعانون صعوبةً في التعايش والاندماج مع بيئةٍ عقائدية مخالفة لهم حتّى في التفاصيل الجزئية، وتحفّزهم هذه الرؤية لكي يكونوا مكلَّفين دينياً بإخضاع الآخرين لمتطلّبات رؤيتهم بكلِّ الوسائل، بما فيها العنف والإكراه على المعتقد والطقوس. ونشير هنا إلى أنّ الفكر الأصولي قد أجرى تحوّلاتٍ أساسية في تفاصيل فقه الجهاد والأمر بالمعروف بوصفها واجباتٍ دينيّةً مقدّسة على الإنسان أنْ يؤدّيها؛ تصديقاً لإيمانه. وهي من أبرز أدوات الجماعات الأصوليّة في ممارسة العنف. وسيتّضح ذلك تفصيليّاً في ثنايا هذه الأطروحة. كذلك تكشف السمات العامّة للأصوليّة أنهم ينطلقون من عقيدةٍ يرَوْنها الجامعة للحقيقة الكاملة والمطلقة، وهذا يعني أنهم يعتقدون بنفي الصّحة عن كلّ الأطروحات الاعتقاديّة الأخرى، ويحكمون على تلك العقائد بالبطلان والضلال، وبناءً على ذلك يعتبرون أتباع الأديان الأخرى في زمرة الذين تجب هدايتهم بكلِّ الوسائل، وأنّ مخالفيهم يخوضون في جهلٍ عارم ووَهْمٍ وضلالة وشرك، أما هم فإنهم يمتلكون الحقائق الحيّة والخالدة والصالحة لكلّ زمانٍ ومكان. ولأنهم يرَوْن أنّ نظريتهم معصومة عن الخطأ، وأنها تملك إجابةً عن كلّ التساؤلات الحاضرة والمستقبلية([18])، فقد أسقطوا الاعتبار عن كلّ النظريات والمذاهب الأخرى.
وينبِّه روجيه جارودي إلى أنَّ من السمات المهمّة للأصولية أنها ترتبط دائماً بزمن ماضٍ، وأنها تقوم على معتقدٍ مؤسَّس في عصر سابق([19]). وهنا يتعمَّد جارودي أن لا يفرِّق بين كون المعتقد معتقداً تاريخياً أو معتقداً دينياً ماضوياً؛ إيماناً منه بوجود أنواع متعدِّدة من الأصوليّات، أو لأنهم لا يفصلون بين الحقائق الدينيّة والحَدَث التاريخي حينما يتحوّل إلى مستندٍ للتدليل والبرهنة على قيمة أفكار الحاضر. وإنّ هذا الارتباط بالماضي ليس ارتباطاً تاريخيّاً كبقيّة ظواهرنا المعاصرة، إنما الارتباط عبارةٌ عن تحوُّل الحَدَث التاريخي إلى المصدر الذي منه يجري استمداد المقولات والأفكار. وبذلك يتحوَّل ذلك الماضي إلى أنموذجٍ يفرض اتّباع تلك السلوكيّات وأنماط الفهم، واعتبار ذلك كلّه معياراً للحاضر، ودليلاً للمواقف إزاء الأفكار والآراء والنظريات المعاصرة في مجالات بناء الإنسان والدولة.
مما تقدَّم أعتقد أنَّ ما يصحّ إطلاق مصطلح الأصوليّة الجهاديَّة عليه هم:
ـ الجماعات التي تعتمد على أصول دينيّة أساسيّة (كعقيدة وتعاليم)، نصّاً أو تأويلاً، وتؤمن بأنّ تلك الأصول هي الحقيقة التامّة والمطلقة والخالدة، وتعتقد أنّ الدفاع عنها والالتزام بفرضها على الغير واجبٌ إلهي، وتؤمن بضرورة التغيير الشامل وبالوسائل كافّة، وتعدّ التجربة العملية الأولى لتلك الأصول النظرية هي التجربة المعيارية، وتقرأ التطوّرات الحضاريّة اللاحقة بناءً عليها، من خلال منهجية حرفية نصوصية ماضوية متعصبة رافضةً كلّ التطوّرات المدنية والتحديث، ويستحيل عليها التكيُّف مع ضرورات الأزمنة.
إنَّ هذا الوصف ـ مع مراعاة مجموع عناصره ـ سيؤسِّس لبحث السمات العامّة؛ للتفريق بين الجماعات الدينيّة المختلفة التي يعجّ بها عالمنا؛ إذ إننا نلجأ إلى ضبط التوصيف من خلال السمات الثابتة لأن هناك جماعاتٍ إسلامية متفاوتة في تبنّي الأفكار والتقاليد، فليس من الصحيح أنْ نصفها جميعاً بوصفٍ واحد (جماعات أصولية)؛ ففيهم المعتدلون؛ وفيهم المتطرِّفون؛ وفيهم مَنْ يراعى المتغيِّر؛ وفيهم مَنْ لا يستخدم العنف؛ وفيهم مَنْ تجد لديه فسحةً للحوار، ودرجةً من التسامح مع الآخر العقائدي.
إنّ الفكر الأصوليّ بناءً على ما تقدَّم من السمات العامّة هو فكرٌ ذو نزعةٍ أيديولوجية، ونسقٌ من التصوُّرات التي تتميَّز عن المعرفة المجمع عليها، أو المعرفة العلميّة المعتادة. ولأنّه يغلِّب الوظيفية الاجتماعيّة فيها على الوظيفية المعرفية([20])؛ أو هو تعبيرٌ فكريّ عن أزمةٍ، ولكنْ توجِّهه مساعٍ لتوظيفه مصلحياً، فإن هذا يفسِّر ما يُراد إدخاله على المفاهيم العقائدية، وما يُراد إدخاله على فهم الجهاد. ومن ذلك: ما استظهره الدكتور الجابري، من أنّ تنظيرات الخوارج السياسيّة ليست إلاّ غطاءً أيديولوجياً لمواقفهم السياسيّة([21])، فلمّا سقط الغطاء الأيديولوجي بالحوار، وتبادل البراهين والمناظرات، تراجعوا إلى عنفٍ عدمي([22]).
إنّ هذه المقدمة الأوّلية، التي تحاول تحديد نطاق المصطلح، تتطلّب في ما أعتقد الغوص التفصيلي في السمات العامّة للأصوليّة الإسلاميّة. وبالجمع والسَّبْر والتقسيم وضمّ المتناظر إلى نظيره وجدْتُ أنّ السمات العامّة للفكر الأصوليّ يمكن أنْ تقسَّم على أربعة محاور: العقائدية؛ والاجتماعية؛ والسياسية؛ والمنهجية.
إنَّ ظاهرة التشدُّد المتنوّعة في أيديولوجيّتها، والمتعدِّدة في أزمانها المتعاقبة، تستثير لدى الباحثين النزعة التحليلية، وتدفعهم لكي يحلِّلوها بوصفها صورةً من صور التطرُّف الخطير، وأنموذجاً من الانحراف عن السلوك الوسطيّ الاعتداليّ المفترض في الإنسان عموماً، والإنسان المعاصر خصوصاً. وقد صنّفت ظواهر التشدُّد من جهة الحاضن الفكريّ إلى أصوليّات تنمو في حواضن دينيّة؛ وأخرى ذات دوافع أيديولوجية غير دينيّة؛ وهناك الأصوليات العرقيّة أو الأصوليّات الثقافيّة. لكنّ الأكثر بروزاً ظاهرة التشدُّد الدينيّ، الذي يظهر مرّةً بصورة الصحوة الدينيّة؛ ويظهر أخرى بصورة الإصلاح الدينيّ؛ ويظهر أحياناً بصورة الانبعاث الدينيّ؛ ويظهر بصورة الحركات السلفيّة، أوالحركات الأصوليّة، بحيث تداخلت كلّ هذه الصور فاستعارت من بعضها السمات وملامح التجسُّد العملي السلوكي.
ويؤيِّد روجيه جارودي عدم حصر الأصوليّات بالأديان، فيقول: «هناك المتعصِّبون السلفيّون التكنوقراطيون (هكذا)، الذين يزعمون معرفه كلّ الإجابات تحت مفهومٍ بالٍ للعلم، ويؤمنون بهيمنة الغرب الأبدية؛ وهنالك التعصُّبية الستالينية والرومانية (الكاثوليكية)، والتعصُّبية اليهوديّة والإسلاميّة»([23]). فالتشدُّد والتعصُّب والأصوليّة ظاهرةٌ اجتماعيّة سياسيّة ذات غطاء أيديولوجيّ، سرعان ما تتمكّن من السيطرة على «ذهن الإنسان غير الواعي»، وتتحكَّم في رؤاه وقناعاته وسلوكه، أيّاً كان باعثها ومحتواها الفكري (دينيّة أو علمانيّة أو عرقيّة أو مناطقية…إلخ)، وتدفعه إلى ممارساتٍ حادّة وعدوانية في كثير من الأحيان.
وعلى الرغم من التركيز الإعلامي، بل وتركيز بعض مراكز الأبحاث، على أنّ الأصوليّات ناتجةٌ عن التفكير الديني، فإنّ الباحث يتّفق مع مَنْ يرى أنّ الأصوليّة نزعةٌ أيديولوجية يمكن أن تنمو في الوسط الديني والوسط غير الديني على السواء. ونشاطر روجيه جارودي الرأي في أنّ الدين ليس هو الحاضن الوحيد للأصوليّات([24])،وكذلك السيد يس الذي يقول: «رغم أنّ الأصوليّة تستخدم أساساً كوصف لبعض الاتجاهات الدينيّة، سواء في اليهوديّة أم المسيحيّة أم الإسلام، لكنّ الصحيح أنّ لها معنًى واسعاً يصدق على أيّ أيديولوجيّةٍ، حتّى لو كانت وضعيّةً في منبتها، أو مادّيةً في اتجاهاتها، كالماركسية، على سبيل المثال»([25]). فالنزعة الأصوليّة انكفاءٌ منغلق على الذات الثقافيّة أو العرقيّة أو الدينيّة، واعتبارها الحقيقة المطلقة، والتصرُّف مع الآخر على هذا الأساس.
إن انتشارها وتعدُّدها في مراحل متعاقبة من تاريخ الإنسان على الأرض يشير إلى الإمكان الفعليّ أنْ توجد متى تهيّأت لها ظروفها الذاتية والموضوعية.
وفي تقديري أنّ العقل الإنسانيّ ما لم يتزوَّد بالأدوات المعرفيّة والمنهجيّة البرهانيّة لفهم الدَّوْر الإيجابيّ للأفكار في بناء حياةٍ إنسانيّة كريمة، كمقدّمةٍ لوَعْي ما ينبغي أن يتحصّل من المعارف المتاحة، فإنّه يبقى أرضاً صالحةً لاستحواذ سلوكيّات التشدُّد عليه، ولا سيَّما إذا لاح في ثناياها غرضٌ سياسيّ أو منفعيّ، عاجلٌ أو آجل.
لهذا نجد كثيرين يرَوْن أنّ الأصوليّات في الحقيقة ما هي إلاّ ظواهر سياسيّة، أما الجانب الديني فيها فيأتي في المرتبة التالية للأهداف السياسيّة؛ لأنَّ الجماعات الأصوليّة تحوِّل أتباعها إلى أفراد منتمين إلى حزبٍ سياسي، وتتحوَّل هي إلى ما يشبه الأحزاب الأيديولوجية، وتتحوَّل نظريّتها إلى برنامجٍ تعبويّ تحريضي، بل يتحوّل دَوْرها أكثر من دَوْر الأحزاب؛ لأنها تشترك معها في سمةٍ أساسية، أنها لا تفسِّر الواقع تفسيراً عملياً، وتضع لمشكلاته الحلول من «فلسفتها» التي تؤمن بها، كما تفعل الكثير من الأحزاب السياسيّة، بل تلوي عنق الواقع لتجعله مطابقاً للأفكار التي آمنَتْ بها.
وعلى الرغم من تعدُّد أنواع الأصوليّات، كما يذهب جارودي وغيره، فإنّ الإعلام الغربي، بل أغلب دوائر الإعلام العالميّ، يبرّز الأصوليّة الإسلاميّة وكأنّها هي الأصوليّة الوحيدة في العالم، أو هي الأكثر خطورةً. بل إنَّ هناك دوائر إعلامية تصوِّر المسلمين جميعاً على أنهم شعوبٌ يستبطن دينهم نزعةً أصوليةً، تعتمد العنف كوسيلة للتعبير عن تبنّي المعتقدات، ووسيلة لنشرها، وتطلق عليهم صفة الإرهاب، من دون تمييزٍ. على الرغم من أنّ الواقع المعاصر قد عرف مجموعةً من الحركات الأصوليّة مختلفة الأجناس؛ فقد أظهرت حرب البوسنة حركات أصوليّة عنفيّة متعدّدة الأيديولوجيّات؛ وكذلك ظهرت منظمة تحرير إيرلند (I.R.A) كجماعة أصولية ذات تحدّيات خطيرة؛ وتناقلت الأخبار مجازر ارتكبها السيخ والهندوس ضدّ غيرهم؛ وذكر التاريخ التصرُّفات اليهوديّة التي صدرت من الجماعات والأحزاب والحركات الدينيّة اليهوديّة، أو من الدولة الإسرائيليّة ضدّ الفلسطينيين والعرب المتاخمين للكيان الصهيوني، بل إنها طالت حتّى العرب في بلدانٍ غير متاخمة له.
لذلك يرجّح الباحث أنّ الأصوليّات ظاهرةٌ متعدِّدة الحواضن، ومن الخطأ حَصْرها في نطاق فكريّ أو دينيّ. وإنّ أسبابها عديدةٌ؛ منها ما له علاقة بوَعْي الإنسان؛ ومنها ما له علاقة بالبيئة الاجتماعية والحضارية.
أسباب ظهور الأصوليّات الإسلاميّة
يعتقد روجيه جارودي أنّ الإنسان الذي لا يملك تصوّراً عن الدَّوْر الإيجابي والإنساني للعقيدة التي يؤمن بها سيقع في النزوع نحو التطرُّف والتشدُّد، ولا يكبح ذلك إلاّ العقلانية والوَعْي لدَوْر الاعتقاد البنّاء في تحفيز التضامن مع الإنسان، وإسناد تطلُّعاته نحو حياةٍ إنسانية يتمتَّع فيها بحقوقه المدنيّة والسياسيّة، وحرّياته الكاملة وحقّه في اختيار العقيدة التي يراها، وحقّه في التعبير عن اعتقاداته([26]) بالوسائل الحضاريّة السلميّة.
ونشاطره الرأي في أنّ الأصوليّات لا يمكن اعتبارها ظاهرةً دينيّة حَصْراً، وليس من الإنصاف حَصْرها في دينٍ ما أو مجموعةٍ ما؛ لأنها نزوعٌ إنسانيّ يظهر في منطقة فراغٍ عقلي يتراجع فيه وَعْي الحاضر، ووضوح الدَّوْر الإنسانيّ للمعتقد أو لعموم الثقافة، فيظهر التشدُّد تحت عنوانات الانبعاث الدينيّ أو القوميّ، أو تحت عنوان الإصلاح الدينيّ أو الاجتماعيّ، أو تحت حافز العودة إلى الذات، ولا سيَّما في ظلِّ هاجس القلق على الهويّة الحضاريّة والاعتقاديّة، بعد أن ينشر الأصوليون الخوف على ضياع الهويّة الثقافيّة لمجموعةٍ من الناس، إلى غير ذلك من تبريراتٍ ذرائعيّة للتشدُّد. ويظهر في الأصوليّات شعورٌ بامتلاك الحقيقة، منعكساً في تقييم الخيارات الفكريّة الأخرى. لذلك قلنا: إنّ وجود ذهنيّةٍ بشريّة غير واعية بنسبيّة المعرفة في المعتقدات والثقافات الأُمَميّة هو في ظنّ الباحث سببٌ مهمّ من أسباب ظهور الأصوليّات، وإنْ لم يكن السبب الوحيد أو العلّة التامّة؛ فإنّه قد يتعاضد معه الشعور الجَمْعي بالإحباط، أو الشعور بضرورة ردّ فعلٍ على هواجس الغَلَبة الحضاريّة. ورُبَما يكون الفقر وعدم قدرة البيئة الاقتصاديّة لتلك الشعوب على تلبية الحاجات الأساسيّة أحد عوامل نشأة الأصوليّات. ويعزو جارودي ظهورها إلى سببٍ سياسي، فيرى أنّ التعصُّب السلفيّ بكلّ أشكاله في العالم الثالث قد ولد نتيجةً لطروحات الغرب منذ عهد النهضة لغرض أنموذجه الإنمائيّ وثقافته([27]).
ويؤيِّد ما يذهب إليه جارودي أنّ نخبةً من مفكِّري الغرب يبذلون جهداً استثنائيّاً للحديث عن الأنموذج الأخير، أو ما يطلقون عليه: نهاية التاريخ، أو الإنسان الأخير، كما هو إطلاق فوكوياما([28])، أو الحديث عن فوبيا الإسلام إزاء حضارة الغرب، كما عند هنتنغتون([29])؛ لتكريس اتّهام المسلمين، بل والدِّين الإسلاميّ نفسه بالإرهاب، ممّا يدفع بالمسلمين إلى الردّ على مثل هذه الأطروحات بتبنّي أفكار أكثر انكفاءً على الذات، وأكثر إثارةً للكراهيّة وتصاعد روح العداء لعموم الغرب، وبذلك تنشأ بعض مبرّرات ظهور الأصوليّات، التي تؤسِّس رؤاها على الكراهيّات بين الأمم والأديان والثقافات والأعراق.
ومن مثيري الحوافز لظهور الأصوليات الإسلاميّة المفكِّر الأمريكي برنارد لويس([30])، تلك الشخصية الفكريّة المؤثِّرة في اليمين الأمريكي، الذي يقرِّر في كتابه «أين يكمن الخطأ؟» (what went wrong?) أنّ عمر الصراع بين الإسلام والمسيحيّة هو عمر الإسلام ذاته([31]). وبذلك يتبنّى رأياً مفاده أنّ التجربة الروحيّة الإسلاميّة بكلّ ما فيها من إيجابيّات ومعارف وقِيَم رفيعة هي عبارةٌ عن مشروع صراعٍ عدوانيّ ضدّ المسيحيّة في طول تاريخه. وهذا ما لا يقول به أشدّ المتعصِّبين في العالم.
ويرى أنّ الإسلام بطبيعته يعادي الإنجازات المدنيّة للغرب؛ لأنها من إنتاج الكفّار([32]). والحال أنّ فئةً قليلةً من المسلمين الأصوليّين تتبنّى هذا الرأي. ولا يجوز منهجيّاً تعميم هذا الموقف على المسلمين جميعاً، بل على الإسلام ذاته([33]). ثمّ يقارن بين الإسلام والمسيحيّة، فيقول: إنّ عالم المسيحيّة فقط هو الذي يتعايش فيه الله والقيصر معاً؛ لأنّ المسيحين تعلَّموا منذ البداية من التجربة والوصايا التمييز بين الله والقيصر، وعرفوا الواجبات المتعلِّقة بكلٍّ منهما، بينما لم يتلقَّ المسلمون أمراً كذلك([34]). وهذا الموضوع لا يسلم عند النقد؛ لتغاير التصوُّرات والتوجُّهات إزاء فكرة الدولة والسلطة بين الإسلام والمسيحيّة.
ومن هذه المقدّمات وغيرها في الكتاب ذاك، وفي سلسلة من المحاضرات والمقالات التي نشرها لويس، يصل إلى أنّ سلسلةً كاملةً من الحركات الجهاديّة المتطرِّفة يجمعها هدفٌ هو إلغاء الإصلاحات العلمانيّة التي حدثَتْ في القرن الماضي، والرجوع إلى ما كانت عليه أجيالهم الأولى. ولعلّ من عوامل تحفيز الأصوليّات النزعة العولمية (Globalism)، وهي رؤيةٌ جديدة تفسِّر مجريات العالم المعاصر ضمن مفهوم الكونيّة، الذي يرتكز على أربع عمليات أساسية، هي: المنافسة بين القوى الفاعلة في عموم العالم؛ والابتكار التكنولوجي؛ وانتشار عوامل الإنتاج؛ والتحديث. وقد تجاوز هذا المفهوم للكونيّة مفهوم العالمية الذي سبقه؛ إذ إنّه يتماهى مع العلم، فيرى أنّ الإنسان يمكن أن يتوصَّل إلى الإفادة من الأرض والفضاء كمساحةٍ للاستثمار؛ لذلك فإنَّ الاستقرار والأمن العالميّ والسلام شرطٌ ضروريّ لهذه الكونيّة حتّى تحقِّق أغراضها. ومن ذلك مثلاً أنّها تسعى إلى تقليل الاعتبار للخصوصيّات الدينيّة والثقافيّة، والدفع بثقافةٍ كونيّة، والحفاظ على الأمن الدوليّ وتحصينه، وأن لا يترك تحت رحمة قادةٍ محلّيين يعبثون بالاستقرار الذي يحول دون تحقيق الكونيّة لأغراضها، فتمنح نفسها حقّ التدخُّل في أيّ مكانٍ من العالم؛ لفرض السِّلْم والاستقرار، ونشر القِيَم الجديدة.
إنّ هذه النزعة التي سادَتْ أواخر القرن الماضي أوجدت بالمقابل مبرِّراً لظهور جماعاتٍ انكفأَتْ على خصوصيتها، وأظهرَتْ قِيَماً مضادةً لقِيَم النزعة الكونيّة. وقد تجسَّد ذلك في حركات انفصال أقاليم عن الدولة الأمّ تحت مبرّرات عرقيّة أو دينيّة أو ثقافيّة، مثل: جنوب السودان. وتجسّد في مناهضة العولمة في الرؤى التي تعتمد الخصوصيّات. وظهر التعصُّب للذات الفكريّة كردٍّ على تهديد الكونيّة للهويّات الحضاريّة لتلك الجماعات.
إنَّ العالم الراهن اليوم يشهد اشتباكاً بين القِيَم الكونيّة وما يقابلها من معايير للجماعات الأصوليّة، سواء أكانت أصوليّاتٍ عرقيّةً أم مناطقيّة أم دينيّة أم ثقافيّة. وقد ظهرت هذه القِيَم واضحةً في المجالين العقائدي والسياسي، الذي تجسّد في تكفير الثقافة الغربيّة وقِيَمها لدى الجماعات الأصوليّة الإسلاميّة، ورفض الديموقراطيّة على الطريقة الغربية، وطرح بدائل تراثيّة مقابلها، هي دولة الخلافة.
يقول السيد ياسين: (إلى جانب القوى الدينيّة في العالم الإسلاميّ فإنّ هناك أصوليّين ماركسيّين راديكاليّين، يواصلون شنّ معركة ضدّ النزعة الكونيّة، تحت شعار مناهضة الاستتباع الحضاريّ؛ ففي نظر هؤلاء أنّ كلّ فكرةٍ آتية من الغرب هي جزء من التَّبَعيّة الحضاريّة للغرب)([35]).
أقول: بالقدر الذي تحقّق فيه النزعة الكونية تقدُّماً في تحقيق أهدافها؛ لما تملكه من قوّةٍ عسكريّة واقتصاديّة وإدرايّة، فإنّ الأصوليّات توغل بالتطرُّف في التوسُّع بإعلاء خصوصيّتها الثقافيّة، وادّعاء امتلاكها للحقيقة واليقين المطلق، الذي سيكون المحرِّك الأساس لها، ما يدعم خاصّية التشدُّد بزخمٍ هائل من التحيُّزات العرقيّة والسياسيّة والدينيّة كردٍّ على هذه النزعة، التي تحاول أن تجعل أهمّية الخصوصيّات الثقافيّة والدينيّة لدى شعوب العالم تأتي بالدرجة الثانية بعد معايير العولمة. وتجد في عالمنا ثقافات يدّعي أصحابها، صراحةً أو ضمناً، أنها أسمى الثقافات، كما تجد اتّجاهات دينيّة ترى أنّ الدين الذي تنتمي إليه أسمى الأديان قاطبةً، وتتّفق كلّ هذه الاتّجاهات في مقاطعة الفكر الغربيّ، وتصفه بأنّه مهد المادّية والانحلال.
إنّ هذا كلّه من الأسباب غير المباشرة لظهور الأصوليّات. أما الأسباب المباشرة فهي طبيعة النصّ الدينيّ، وإشكاليّات فهم ذلك النصّ، وتفسير مسار التجربة الدينيّة، وعدم اعتماد مبدأ المعرفة النسبيّة.
إنّ اليونِسكو الدوليّ، الذي يهتمّ بالثقافة والتربية والعلوم، ويدعم الاتجاهات الخصوصية للثقافات والأديان، بحاجة إلى أن يضع توصيفاً معياريّاً أو منهجيّاً لدَوْر للثقافات المحليّة، ولا سيَّما في ضوء سَعْيها المنهجيّ للتوصيف والتوأمة والتكامل، ويشجّع شعوبها على الوسطيّة والاعتراف بالقيمة المعرفيّة للثقافات الأخرى، والتعامل مع النزعة العولميّة والكونيّة بما يحقِّق التكامل بينها وبين الخصوصية الثقافيّة، بما يحقِّق مصالح الإنسان؛ لأنَّ الكونيّة في ما أعتقد ناتجٌ حتميّ للتطوُّر العلميّ في مجال الاتّصال والمواصلات. ومن دون ذلك سيقع العالم في الجمود. وعند ذاك ستطفو على سطح الحدث العالميّ ظواهر التعصُّب والغلوّ الثقافي والانغلاق على الذات، بنهجٍ عدائيّ للآخر، ولا يتحرَّج من استعمال العنف كوسيلةٍ للتعبير عن ذاته. وكمَثَلٍ يضربه برنارد لويس: الميل الشديد إلى اعتبار أنّ فروع أحكام الإسلام ونظام الحكم الإسلامي هو الحلّ فقط للسعادة وإنهاء الشقاء الإنسانيّ([36]). ثمّ إنّ المَيْل إلى تبنّي التشدُّد الأصوليّ عند الإنسان رُبَما يكون مَيْلاً غريزيّاً فطريّاً متى تهيّأت له ظروفه، التي منها: الجهل والفقر، والإحباط، والشعور بالهزيمة، ومعاناة المغلوبيّة، وانعدام الوَعْي بإيجابيّة المعتقد. وإنّ أيّ أمّةٍ أو شعبٍ أو مجموعةٍ من الناس رُبَما تكون مرشّحةً لتبنّي مواقف أصوليّة، على تفاوت في مقدار التشدُّد واستعمالات العنف، متى حصلت ظروفٌ حاضنة لنشوء النَّزْعة الأصوليّة وتطوّرها. وليس من الصحيح القول: إنّ الثقافة الفلانيّة أو الدين الفلانيّ أو المذهب الفلانيّ أو القوميّة الفلانية هي بذاتها وبطبيعتها جماعة أصوليّة. لذلك تعدَّدت أنواع الأصوليّات تعدُّداً غير محصورٍ بنطاقٍ دينيّ أو قوميّ، أو نطاق ثقافةٍ معينة. لكنْ لمّا كان الدين ـ أيّ دين ـ يؤثِّر بعمقٍ في الحياة الاجتماعيّة، وبالبنى الفكريّة في العقل الجَمْعي والممارسة الاجتماعيّة، ولا سيَّما مع ارتباط فكرة الخلاص الملازمة للدين بصورةٍ تبدو أكثر من ارتباطها بالأفكار الدنيويّة الأخرى، فقد كان له أثرٌ مهمّ في صناعة دافعٍ مهمّ من دوافع الأيديولوجية والسلوكية المتشدِّدة([37]). وإنّ الذهنيّة الدينيّة مهيّأةٌ باستمرارٍ لتحويل الالتزام الدينيّ من نطاقه الفرديّ إلى الفعل الجماعيّ، ومن التمسُّك به مع ترك الآخرين لاختياراتهم إلى فرضه على الآخرين، ومن الاعتزاز به إلى التشدُّد والتعصُّب لمفاهيمه وتعاليمه، ومن التبشير به بالحكمة إلى فرضه بالقَسْر. وبذلك تنشأ دواعٍ ذاتيّة للأصوليّات الدينيّة، إضافةً إلى الدواعي الموضوعية.
ونجد في التفكير الدينيّ عموماً مَيْلاً إلى المحافظة أكثر من المَيْل إلى التحديث والتجديد. ونجد هاجساً يحذِّر من القِيَم الجديدة؛ لأنها في عُرْف ذلك التفكير غريبة المنشأ عن الدين. كما نجد عند المتديِّنين رضاً عن الذات، وقناعةً بما هو كائنٌ، وإنْ تعارض ذلك مع الواقع. وتظهر في أروقة التفكير الدينيّ انعكاساتٌ لمنطق المؤامرة؛ إذ يرى بعض المتديِّنين أنّ الأعداء (أي أتباع الديانات الأخرى) في محيطه متوثِّبون من كلّ جانبٍ للإجهاز عليهم. وتتحكَّم في العقل الدينيّ النماذج التاريخيّة، بل ينتصب النموذج التاريخيّ كمقياسٍ معياريّ للاحق الفكري([38]).
إنّ هذه الأولويّات، التي تبدأ صغيرةً عند الدارسين، وتصنّف في اللامفكَّر فيه، تظهر أوّل الأمر طاقةً ساكنةً. وحالما تستثيرها أسبابٌ موضوعيّة تقفز إلى مجال المفكَّر فيه، والمعبَّر عنه بمواقف متشدِّدة، ثمّ تلبس رداءً عقائدياً، وسلوكاً غالباً ما لا يتردَّد في استخدام العنف.
الهوامش
(*) رئيس قسم الدراسات العليا في كلِّية الفقه، ومدير مركز الدراسات، في جامعة الكوفة. من العراق.
([1]) الجرجاني، التعريفات 1: 8.
([2]) الصاحب بن عبّاد، المحيط في اللغة 3: 233.
([4]) ابن منظور، لسان العرب، 13: 16، مادة «أصل».
([5]) محمد تقي الحكيم، الأصول العامة للفقه المقارن: 35.
([6]) طيب تيزيني، الإسلام والعصر: 239.
([7]) روبن راتب، رؤية جديدة للدين الإسلامي، نقلاً عن: جيل كيبل، يوم الله: 66.
([8]) إيمانويل هيمان، الأصولية اليهوديّة: 11.
([10]) روجيه جارودي، الأصوليات المعاصرة: 37.
([11]) قاموس أكسفورد، مفردة Fundamentals.
([12]) عبد الرحمن اللويحق، الغلوّ في الدين في حياة المسلمين المعاصرة: 174.
([13]) عماد علي عبد السميع حسين، الأصولية الإسلاميّة والأصوليّات الأخرى: 176.
([14]) جمال البدري، الأحزاب الدينيّة الإسرائيليّة، النشأة والتطوُّر والوظيفة: 177.
([15]) غسان بن جدّو، خطاب الإسلاميين والمستقبل (حوار مع: فضل الله): 23.
([16]) جارودي، الأصوليّات المعاصرة: 15.
([17]) جان بول ويليم، الأديان في علم الاجتماع: 137.
([18]) إيمانويل هيمان، الأصوليّة اليهوديّة: 12؛ عيسى دياب، الأصوليّة والعنف في المسيحيّة والإسلام: 16.
([19]) روجية جارودي، الأصوليّات: 48.
([20]) ناجية الوريمي، الإسلام الخارجي: 15.
([21]) محمد عابد الجابري، نقد العقل السياسي ـ الحلقة الرابعة: 304.
([22]) هشام جعيط، جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكِّر: 225.
([23]) جارودي، أصول الأصوليّات والتعصُّبات السلفيّة: 9.
([24]) راجع: المصدر السابق: 5.
([25]) سيد يس، الكونية والأصولية (نقد العقل التقليدي) 1: 207.
([26]) روجيه جارودي، الأصوليات المعاصرة: 17.
([28]) فوكوياما، نهاية التاريخ: 85.
([29]) هنتنغتون، صدام الحضارات: 17.
([30]) برنارد لويس: مفكِّرٌ بريطاني، متخصِّص بتاريخ الإسلام والشرق الأوسط (علم اجتماع الحضارات). هاجر إلى أمريكا عام 1974م، وكوَّن مدرسةً استشراقية، وصار من أكبر المنظِّرين لليمين الأمريكي. له أكثر من أربعة وعشرين كتاباً، وقد وصف بأنّه أشهر مستشرق بعد موت جاك بيرك، تُعَدّ كتبه مراجع كلاسيكية للباحثين؛ كذلك ينظر: هاشم صالح، برنارد لويس والحركات الأصولية المعاصرة: 74؛ عبد الأمير كاظم زاهد، قراءات في الفكر الإسلاميّ المعاصر: 142.
([31]) برنارد لويس، أين يكمن الخطأ؟ صدام الإسلام والحداثة: 24.
([33]) Gerges, Fawaz A. America and Political Islam: Clash of Cultures or Clash of Interests?.
([34]) برنارد لويس، أين يكمن الخطأ؟ صدام الإسلام والحداثة: 91. ينظر:
1- Lewis, Bernard. The Political language of Islamic.
2- Mayer, A.E. Islam and Human Rights: Tradition and Politics.
3- Murata, Schiko and Wiliam c. chittick. the vision of islam.
([35]) سيد يس، الكونية والأصولية 2: 41.
([36]) برنارد لويس، أين يكمن الخطأ؟: 94.
([37]) جان بول ويليم، الأديان في علم الاجتماع: 174.
([38]) للتفاصيل والاستزادة ينظر: د. لويس صليبا، الديانات الإبراهيمية: 108.