الشيخ مازن المطوري(*)
إشكاليّتان في حجّية الظهور أمام الشيخ الأنصاري
مع إطلالة الشيخ مرتضى الأنصاريّ (1214 ـ 1281هـ) شهدت أبحاث علم أصول الفقه قفزةً ملحوظة جدّاً، حتّى حقّ له أن يحظى بتوصيف المؤسِّس للمدرسة الحديثة في علم الأصول.
بعد تأكيده لأصالة حرمة العمل بالظنّ والاستدلال عليها بالكتاب والسنّة، عقد الشيخ الأنصاري البحث في الموارد المستثناة من تلك الحرمة، وتحت عنوان: الأمارات المستعملة في استنباط الأحكام الشرعية من ألفاظ الكتاب والسنّة ذكر قسمين: الأوّل: ما يعمل لتشخيص مراد المتكلّم عند احتمال إرادة خلاف ذلك، وأمثلة ذلك: أصالة الحقيقة وأصالة العموم والإطلاق، ويجمعها أصالة عدم القرينة الصارفة عن المعنى الذي يقطع بإرادة المتكلِّم الحكيم له لو حصل القطع بعدم القرينة؛ والثاني: ما يعمل لتشخيص أوضاع الألفاظ، وتمييز مجازاتها من حقائقها، وظواهرها عن خلافها، كما في تشخيص أن لفظ (صعيد) موضوعٌ لمطلق وجه الأرض أو التراب خاصة.
والبحث في الظهور وحجّيته من القسم الأوّل. وقد قرَّر الأنصاري أن اعتبار هذا القسم ممّا لا إشكال فيه ولا خلاف، والوجه التعليلي في ذلك: «كون تلك الأمور معتبرةً عند أهل اللسان في محاوراتهم المقصود بها التفهيم. ومن المعلوم بديهةً أن طريق محاورات الشارع في تفهيم مقاصده للمخاطبين لم يكن طريقاً مخترعاً مغايراً لطريق محاورات أهل اللسان في تفهيم مقاصدهم»([1]).
يرتكز الشيخ الأنصاري في هذا النصّ إلى الغاية والهدف المتوخّى من الوضع والاتفاق الضمني بين أهل المحاورة، وهو نفس الوجه العقلاني الذي تقدّم قَبْلاً من صاحب هداية المسترشدين، وقبله المرتضى وآخرون. ووفق هذا المعنى لا مبرّر لأن يقع البحث في حجّية الفهم الراجح من الألفاظ (الظهور)؛ كونه الطريق المنسجم مع بناء أهل المحاورة، ولا سبيل غيره يحقّق الأغراض ويتجاوز الإشكاليات والصعاب. وهذا المعنى سيدعو السيد الخوئي& في حقبةٍ لاحقة إلى التأكيد على أن البحث في حجّية الظهور ليس بحثاً أصولياً بمعناه الفنّي؛ لأن الأصولي يبحث عن الدليلية ولا خلاف في حجية الظهور ودليليته الكلية، وهو موقفٌ سليم جداً([2]).
غير أن الشيخ الأنصاري أكّد وقوع الاختلاف في موضعين: أحدهما: جواز العمل بظواهر القرآن الكريم، الإشكالية التي أثارها الأخباريون؛ والثاني: في أن حجّية الظهور هل تختصّ بالمخاطبين أو هي مطلقةٌ تعمّ غير المخاطبين. فالخلاف في الصغرى بحَسَب الاصطلاح، وليس في كبرى حجّية الظهور والتعويل عليه. ولأجل ذلك عقد الأنصاري البحث في الإشكاليتين. وأولى الإشكاليتين ـ كما قرّر الأنصاري ـ ناظرةٌ إلى أن المقصود بالخطاب القرآني لا يمكنه استفادة المطلب منه مستقلاًّ عن بيانات السنّة النبوية وبيانات أئمّة أهل البيت^. أما الثانية فهي ناظرةٌ إلى منع كون المتعارف بين أهل اللسان اعتماد غير مَنْ قُصد إفهامه بالخطاب، على ما يستفيده من الخطاب بواسطة أصالة عدم القرينة عند التخاطب([3]).
وسوف نستعرض على شكل فهرس هاتين الإشكاليتين، وفق ما أفاده الشيخ الأنصاري، بما يتلاءم ومتابعتنا التاريخية.
في ما يخص الإشكالية الأولى فقد أورد الأنصاري أقوى وجهين تمسّك بهما الأخباريون لإسقاط حجّية ظهور الخطاب القرآني. يتمثّل الأول منهما في جمع من الأخبار؛ والثاني العلم بطروّ التقييد والتخصيص والتجوُّز في أكثر ظواهر الكتاب، وهو يسقطها عن الظهور. إن النتيجة التي يعطيها الوجه الأوّل أن الخطاب القرآني ليس من قبيل المحاورات العُرْفية، ومن ثمّ فالمتكلِّم هنا لم يقصد تفهيم مطالبه بنفس تلك الخطابات، وإذا لم تكن عُرْفية فلا معنى للاعتماد فيها على الظهور والفهم الراجح لمقصود المتكلِّم.
وعلى كلّ حال فقد رفض الأنصاري كلا الوجهين، وأورد عليهما مجموعة من الملاحظات([4]).
وأما الإشكالية الثانية، والتي أُثيرت في كلمات صاحب المعالم وصاحب الوافية وصاحب القوانين، فبعد أن قام الأنصاري بشرحها وتحليلها، وبيان الوجوه المعقولة فيها، نصَّ قائلاً: «ولكنّ الإنصاف أنه لا فرق في العمل بالظهور اللفظي وأصالة عدم الصارف عن الظاهر بين مَنْ قُصد إفهامه ومَنْ لم يُقْصَد؛ فإن جميع ما دلّ من إجماع العلماء وأهل اللسان على حجّية الظاهر بالنسبة إلى مَنْ قُصد إفهامه جارٍ في مَنْ لم يُقصد؛ لأن أهل اللسان إذا نظروا إلى كلامٍ صادر من متكلِّمٍ إلى مخاطَب يحكمون بإرادة ظاهره منه إذا لم يجدوا قرينةً صارفة بعد الفحص في مظانّ وجودها، ولا يفرِّقون في مرادات المتكلِّمين بين كونهم مقصودين بالخطاب وعدمه. فإذا وقع المكتوب الموجّه من شخصٍ إلى شخص بيد ثالثٍ فلا يتأمّل في استخراج مرادات المتكلِّم من الخطاب الموجَّه إلى المكتوب إليه. فإذا فرضنا اشتراك هذا الثالث مع المكتوب إليه في ما أراد المولى منه فلا يجوز له الاعتذار في ترك الامتثال بعدم الاطّلاع على مراد المولى. وهذا واضحٌ لمَنْ راجع الأمثلة العُرْفية»([5]).
لقد صار طابعاً مميّزاً لحقبة تلاميذ الوحيد البهبهاني رفض الإشكاليّتين معاً: إشكالية عدم حجّية ظاهر الخطاب القرآني من جهةٍ، والتي أثارها الأخباريون؛ وإشكالية عدم شمول حجّية الظاهر لغير المخاطبين والموجودين من جهةٍ ثانية، والتي أُثيرت في كلمات صاحب المعالم والوافية والقوانين، فلم يستثنوا الموردين من حجّية الظهور المطلقة التي آمنوا بها.
لم يتعرّض الأنصاري في ما كتبه في فرائد الأصول إلى تعريف الظهور وتحديد موضوعه؛ لكونه بحثاً يتعلّق بمباحث الألفاظ التي لم يتعرّض لها في الفرائد. وقد خلَتْ تقريرات بحثه الموسومة (مطارح الأنظار)، بقلم: تلميذه أبو القاسم الكلانتري الطهراني، من البحث في الدلالة الوضعية وحقيقتها، وتحديد المراد من الظهور وموضوعه. ويبدو لنا من طريقة تعامله مع بعض المسائل، ونمط استدلالاته، تبنِّيه للرأي المعروف في الظهور، وهو أن موضوعه الدلالة الوضعية والمعاني الحقيقية التي وُضعَتْ لها الألفاظ.
غير أنه في تقريرات درسه (مطارح الأنظار) تعرّض لمطالب ترتبط بإشكالية حجّية الخطاب لغير الموجودين والمخاطبين. وقد تناول فيها تعريف الخطاب وشيئاً يرتبط به. ففي تعريف الخطاب ذكر أن الخطاب بمعناه المصدري عبارةٌ عن توجيه الكلام نحو الآخر للإفهام، ونصّ على أن هذا المعنى يحصل بمجرّد المواجهة بالكلام للآخر، وإنْ لم يكن الكلام مقروناً بواحدةٍ من أدوات الخطاب، كالنداء. فإذا اقترن الكلام بأداة الخطاب (ياء النداء مثلاً) فهذا المورد هو محلّ النزاع في شمول الخطاب لمَنْ تأخَّر عنه زماناً([6]).
ومن النصوص التي أوردها الأنصاري والمرتبطة بمتابعتنا قوله: «إن المشافَه إنما يأخذ بالظاهر من حيث هو ظاهر، وغيره إنما يأخذ به من حيث إنه الظاهر عند المشافَه، وإنْ كان طريق ثبوته هو الظاهر أيضاً. فليس ذلك تفصيلاً في حجّية الظواهر»([7]).
يؤكّد الأنصاري في هذا النصّ على مسألة أن الحجّة من الظهور هو الظهور عند المشافه، أو ما يعرف بظهور عصر النصّ، وغير المشافَه يحتاج إلى إثبات ذلك الظهور، أي إثبات أن ما توصّل إليه من فهمٍ للنصّ ومن ظهورٍ هو نفس الظهور عند المشافَه، وإنْ كان طريق إثبات ذلك يمرّ عبر الظهور نفسه.
إذا ما انتقلنا إلى طبقة تلاميذ الشيخ الأنصاري فالمحطّة الأولى التي نتوقَّف عندها تتمثَّل في المحقِّق النهاوندي(1322هـ) في كتابه (تشريح الأصول). وكتاب التشريح هذا يُعتبر أقدم مصدرٍ وصل إلينا نظَّر لمسلك التعهُّد في تفسير الوضع، النظرية التي سيتبنّاها بعد ذلك آخرون، أبرزهم: السيد الخوئي والشيخ الحائري، رحمهما الله.
بنى المحقِّق النهاوندي، كما ألمحنا، على تفسير الوضع بالتعهُّد، ومن ثم ستكون الدلالة التصديقية معلولةً للوضع. وبعد أن قرّر النهاوندي مبناه في الوضع، وذكر أن الوضع يقتضي حمل اللفظ على إرادة تفهيم الموضوع له، نصَّ قائلاً: «اعلَمْ أن الوضع يقتضي حمل اللفظ على إرادة تفهيم الموضوع له، ولا بُدَّ لنا في إثبات عموم المدَّعى من تمهيد مقدّماتٍ، وإلاّ فثبوته في الجملة محلّ وفاقٍ، ولا إشكال فيه»([8]).
وبعد إيراده لأربعة مقدّماتٍ نصَّ قائلاً في المقدّمة الرابعة: «إن الاستعمال في الموضوع له هو إعمال الوضع وإنجازه لتفهيم الموضوع له باللفظ. وهذه الإرادة هي الإرادة الثابتة حال الوضع الإجمالية المشرفة على مقدّمة المراد من بيان أصل الإرادة، ولم يحدث حين الاستعمال إلاّ إيجاد اللفظ الكاشف عن نفس الإرادة التفهيمية، فالوضع واللفظ كلاهما كاشفان عن إرادة تفهيم الموضوع له، لا فرق بينهما إلاّ من حيث الإجمال والتفصيل، ومن حيث الشأنية والفعلية…»([9]).
بنى المحقِّق النهاوندي ذلك على مسلكه في التعهُّد، ووفق ذلك فإن موضوع الظهور هو الدلالة التصديقية الثانية (الإرادة الجدّية). وهو موضوع أصالة الحقيقة.
وبشأن عمل العقلاء بأصالة الحقيقة نجد المحقِّق النهاوندي قد أدخل مطالب تتعلّق بالمولويات والتعبُّديات في هذا البحث، في بادرة هي الأولى من نوعها. ومن المستحسن نقل نصّ كلامه، حيث قال: «أما بناء العُرْف والعقلاء على العمل بأصالة الحقيقة فمسلَّمٌ، إلاّ أن مبنى عملهم هو ما ذكرناه من استكشاف الوجوب التعبُّدي من المولى بواسطة الوضع واستصحابه، وبواسطة أن طرحه موجبٌ للمخالفة الكثيرة، لا أن لبنائهم مدخليّة في قُبْح طرح أصالة الحقيقة؛ فإنّ بناء العقلاء إنما هو لما يدركه عقلهم، ومَنْ لا يدرك ما أدركوا كيف يعامل هو معاملتهم؟! أي كيف يعامل المولى معه معاملة المدركين؟! والقول بأن العلم الإجمالي سببٌ واقعي موجبٌ للعمل متحقِّقٌ غير مسلّم؛ إذ لعل تفصيلية العلم بذلك السبب موجب العمل، والسبب للعمل هو العلم التفصيلي، ومع الاحتمال كيف يجب تقليد العُرْف؟! وأيّ دليلٍ قام على تَبَعيّة العُرْف والعقلاء وتقليدهم؟! ومجمل الكلام أن التكليف دائرٌ مدار العلم والبيان، ومع احتمال إرادة المجاز سقط الخطاب عن كونه بياناً…»([10]).
ونجده في موضعٍ آخر يجري الاستصحاب لإثبات أصالة الحقيقة ودفع إرادة المجاز([11])!
وفي ما يخصّ الخطابات الشرعية قرَّر المحقِّق النهاوندي أنها محمولةٌ على لغة العرب والعُرْف، ما لم يعلم بوضع اصطلاحٍ خاصّ، فقال: «لا إشكال ولا رَيْبَ في أن الألفاظ الواردة في شرعنا من كتاب الله وسنّة النبيّ|، وكلام الأئمّة^، إنما هي محمولةٌ على لغة العرب، ما لم يعلم خلافه من وضعٍ خاصّ واصطلاح خاصّ في الشرع. أما حمل كلام النبيّ| والأئمّة^ فواضحٌ؛ لأنها لغتهم. وأما حمل كلام الله عليها فلعموم قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾…»([12]).
وعلى كلّ حالٍ فالملاحظ أن المحقِّق النهاوندي قد أدخل عناصر جديدة في بحثه الدلالي عن الظهور والحقيقة. وهي عناصر جديرةٌ بالدرس النقدي، ولكنّ الذي يُؤسَف له أننا لا نجد حضوراً لنصوص هذا المحقِّق في كلمات علماء أصول الفقه، عرضاً ونقداً.
يمكننا هنا تثبيت مجموعة من الاستنتاجات أو الخطوط العامّة التي أحاطت واكتنفت البحث في حجّية الظهور في حقبة مدرسة كربلاء الأصولية وتلاميذ الوحيد البهبهاني:
1ـ تطوّر البحث في حجّية الظهور تطوّراً ملحوظاً.
2ـ ولادة إشكالية ظهور الخطاب القرآني وتركيزها كرُكْنٍ مهمّ في بحث حجّية الظهور.
3ـ الوقوف بشكلٍ دقيق عند إشكالية حجّية الخطاب بالنسبة إلى غير المخاطبين وغير المشافهين.
4ـ انبثاق مسألة الظنّ بالوفاق وعدم الظنّ بالخلاف.
5ـ كالحقبة التي سبقتها لم تشهد حقبة الوحيد البهبهاني وتلاميذه تحريراً واضحاً وكبيراً للمراد من الظهور، وتحديد موضوعه وأقسامه.
6ـ شهدت هذه الحقبة بروز ظاهرة الاستدلال على حجّية الظهور بالروايات والسيرة والإجماع.
7ـ تعميق الوجه التعليلي الذي ذكره السيد المرتضى لحجّية الظهور.
8ـ الطابع المميِّز لهذه الحقبة تناول مسألة الظهور في أركان ثلاثة: حجّيته مطلقاً لحالة الظنّ بالوفاق وعدم الظنّ بالخلاف؛ حجّيته للمخاطَبين وغير المخاطَبين؛ حجّية الظهور القرآني.
9ـ الفراغ من كبرى حجّية الظهور بشكلٍ كلّي.
حجّية الظهور مع الآخوند الخراساني وتلامذته
لقد أسهمَتْ مدرسة الشيخ مرتضى الأنصاري بحظٍّ كبير في تطوير علم أصول الفقه عند الشيعة بشكلٍ غير مسبوق في الحواضر العلمية الشيعية والسنّية. فقد أسَّس الأنصاري لمدرسةٍ أصولية حديثة راسخة المباني، وفتح في البحث الأصولي آفاقاً واسعة أمام الباحثين بفعل ما توفَّر عليه من عناصر الإبداع والذهنيّة الوقّادة الناقدة، وخرّج مجموعةً من التلاميذ الذين ساروا على خطاه. ويعتبر الشيخ المحقِّق محمد كاظم الخراساني (1255 ـ 1329هـ) واحداً من أبرز محقِّقي تلاميذ الأنصاري، والذي بدَوْره كتب في علم الأصول كتابه المعروف (كفاية الأصول)، الذي أصبح محوراً للدراسات العالية الأصولية في حوزات المعرفة الدينية في شتّى بلدان الحواضر العلمية الشيعية.
وعلى العادة الجارية في مدرسة الأنصاري تناول الخراساني البحث في حجّية الظهور في أركانه الثلاثة: في عدم اشتراط حصول الظنّ الشخصي فعلاً، ولا الظنّ بعدم الخلاف في حجّيته، وفي عدم اختصاص الحجّية بمَنْ قُصد إفهامه، وفي حجّية ظواهر الكتاب.
بدايةً قرّر الخراساني عدم وجود شبهةٍ في لزوم اتّباع ظاهر كلام الشارع في معرفة مراده وتعيينه؛ إذ قد استقرّت طريقة العقلاء على اتّخاذ الظهور أساساً في معرفة مراد المتكلّم من جهةٍ، وعدم ردع الشارع ولا اتّخاذه طريقةً خاصة في مقام إبراز مقاصده من جهةٍ ثانية. كتب قائلاً: «لا شبهة في لزوم اتّباع ظاهر كلام الشارع في تعيين مراده في الجملة؛ لاستقرار طريقة العقلاء على اتّباع الظهورات في تعيين المرادات، مع القطع بعدم الردع عنها؛ لوضوح عدم اختراع طريقةٍ أخرى في مقام الإفادة لمرامه من كلامه، كما هو واضحٌ»([13]).
غير أن المحقِّق الخراساني لم يتوقَّف لتعريف الظهور، وتحديد موضوعه. ولكنْ بمعونة مبناه في تفسير الوضع يمكننا التعرُّف على ذلك. لقد بنى الخراساني على أن الوضع عبارةٌ عن اختصاص لفظٍ بمعنىً بشكلٍ يحصل ارتباط خاصّ بينهما، وهذا الارتباط والاختصاص يحصل إما من تخصيص الواضع بشكلٍ إراديّ واعٍ؛ وإما من كثرة استعمال لفظٍ مخصوص في معنىً مخصوص. والأوّل ينتج لنا الوضع التعييني الإرادي الواعي، والثاني ينتج لنا الوضع التعيُّني([14])، هذا من جهةٍ.
ومن جهةٍ ثانية قرّر الخراساني أنّ تبادر المعنى من اللفظ وانسباقه إلى الذهن من دون قرينةٍ إضافية علامةٌ على الحقيقة، أي علامة على استعمال اللفظ في المعنى الموضوع له، ولولا الوضع لما تبادر المعنى وانسبق إلى الذهن. فالتبادر علامةٌ على الوضع([15]).
وهذا ينتج لنا أن المنسبق والمتبادر من اللفظ إلى الذهن (الظهور والفهم الراجح) هو المعنى الوضعي. فالدلالة الوضعية هي المرادة للمتكلِّم بحَسَب الأصل، وهي موضوع الظهور والفهم الراجح، ما لم يقُمْ دليلٌ على إرادة الخلاف. فالظهور والفهم الراجح هو المتبادر وفق الأوضاع اللغوية التي لا يخرج عنها الحكيم في إيصال مرامه وأغراضه. نعم، قد توجب القرائن الخروج عن المعنى الحقيقي الموضوع له إلى التجوُّز أو الاشتراك أو النقل أو الإضمار أو التخصيص. فحينئذٍ يكون اللفظ ظاهراً في تلك المعاني غير الحقيقية الأصلية، فيكون الظهور وفق ذلك أوسع دائرة من المعاني الحقيقية. غير أنه في المعاني الحقيقية ناشئٌ من الوضع وأصل ربط الألفاظ بالمعاني، أما في المعاني الأخرى فهو ظهورٌ ناشئ من القرائن([16]).
أيّاً ما كان الأمر فبعد أن قرَّر الآخوند الخراساني اعتبار الظهور وعدم الخلاف في لزوم اتّباعه ركَّز حديثه في الفروع التي وقعت محلاًّ للبحث في الحقبة المتأخّرة، وهي ثلاثة كما ألمحنا: الأولى: في أن حجّية الظهور هل يشترط فيها حصول الظنّ الشخصي فعلاً وعدم الظنّ بالخلاف؟ والثانية: في أن حجّية الظهور هل تختصّ بمَنْ قُصد إفهامه والمشافَهين أو تعمّ غير المخاطَبين والمعدومين؟ والثالثة: في إشكالية الأخباريّين في عدم حجّية ظهور الخطاب القرآني.
في ما يخصّ الفرع الأول قرَّر الخراساني أن سيرة العقلاء في العمل بالظهور غير مقيَّدة بحصول الظنّ الشخصي فعلاً بمراد المتكلِّم، ولا بعدم الظنّ بالخلاف. وعلَّل ذلك بأن العقلاء لا يقبلون ترك العمل بالظهور، والاعتذار بعدم حصول الظنّ الفعلي بالوفاق أو بوجود ظنّ بالخلاف([17])!
أما الإشكالية التي طرحها المحقِّق القمّي وآخرون، والمتعلِّقة بحجّية الظهور لغير المخاطَبين ولغير مَنْ قُصد إفهامه، فقد قرَّر المحقِّق الخراساني عدم اختصاص حجّية الظهور والاعتماد عليه في معرفة مراد المتكلِّم بمَنْ قُصد إفهامه. والشاهد على ذلك، كما رأى الخراساني، أن الشهادة تصحّ لكلّ مَنْ سمع الإقرار من الإنسان، وإنْ لم يكن مقصوداً بالإفهام، بل ولو قصد عدم إفهامه([18]).
وقرّر ذات المعنى في ما يخصّ إشكالية ظهور الخطاب القرآني. «ولا فرق في ذك بين الكتاب المبين وأحاديث سيد المرسلين والأئمّة الظاهرين، وإنْ ذهب بعض الأصحاب إلى عدم حجّية ظاهر الكتاب»([19]). ثمّ أخذ في استعراض ونقد الوجوه التي تمسّك بها الأخباريون، بما لم يزِدْ فيه على أستاذه الأنصاري([20]).
لقد تعدَّدت الدراسات الأصولية وتشعَّبت كثيراً بعد المحقِّق الخراساني بشكلٍ يكون من المتعذِّر ملاحقتها جميعاً؛ لمعرفة تطوُّرات البحث في حجّية الظهور. وبسبب ذلك سوف نقتصر على أهمّ الدراسات الأصولية بعد الشيخ صاحب الكفاية، متمثِّلةً بدراسات الأعلام الثلاثة من تلاميذه (العراقي؛ الإصفهاني؛ النائيني)، ثمّ في دراسات السيدين الخوئي والصدر، رحمهم الله جميعاً.
مقاربات المحقِّق النائيني في حجّية الظهور
بداية قرَّر المحقِّق الشيخ محمد حسين النائيني (1276 ـ 1355هـ) أن ظهور اللفظ في معناه الأفرادي، والمعروف بالدلالة التصوُّرية، تابعٌ للعلم بالوضع. وليس لعدم القرينة في الكلام دخلٌ في حصوله. فالعالم بوضع لفظٍ خاصّ لمعنىً مخصوص ينتقل عند سماعه إلى معناه الموضوع له حتّى في حالة نصب المتكلِّم قرينةً على عدم الخلاف. فالفهم هنا عائدٌ للعلم بالوضع، وليس بسبب القرينة على عدم الخلاف.
وأما على مستوى الدلالة التصديقية فهي بمعنيين: الأوّل: ظهور اللفظ في ما قاله المتكلِّم، بحيث لو أراد السامع النقل بالمعنى لفعل؛ والثاني: ظهور الكلام في ما أراده المتكلِّم بشكلٍ يكون حجّةً قاطعة للعذر. والمعنى الأوّل منهما يتقوّم بعدم وجود قرينة في الكلام أو ما يحتمل كونه قرينةً؛ إذ مع وجود القرينة المتّصلة ينقلب الظهور التصديقي إلى ما تقتضيه القرينة. وأما بوجود ما يصلح للقرينة فلا ينعقد الظهور من أصلٍ، ويكون مُجْمَلاً. وأما المنفصلة فلا تهدم الظهور، وإنّما تهدم المرتبة الثانية من الدلالة التصديقية، أي مرتبة الحجّية والكشف عن مراد المتكلِّم واقعاً([21]).
بعد أن قرّر المحقِّق النائيني هذا المعنى انتقل إلى تقرير أن حجّية الظهور في الجملة أمرٌ مسلّم، ولا كلام فيها، بل قيام المدنية والتواصل بين الناس رَهْنٌ بهذا الظهور والتعويل عليه. وهذه نقطةٌ مهمة في ما قرَّره الشيخ النائيني. فالنائيني، وخلافاً لما عليه جُلُّ مَنْ تقدَّمه، لا يحتاج إلى إقامة أدلّةٍ على حجّية أصل الظهور؛ فأصل الظهور قائمٌ في أساس مدنيّة حياة الإنسان والتواصل بين الآدميّين، ممّا يعني أن التدليل عليه يقع لا محالة في مفارقة الدَّوْر.
«ونعني بحجِّية الظواهر الحكم بأن ما تكفّله الكلام من المعنى الظاهر فيه هو المراد النفس الأمري، والبناء على أن الكلام بظاهره قد سيق لإفادة المراد. ولا إشكال في أن بناء العقلاء على ذلك في الجملة، بل عليه يدور رحى معاشهم ونظامهم؛ فإنه لولا اعتبار الظهور والبناء على أن الظاهر هو المراد لاختلّ النظام، ولما قام للعقلاء سوقٌ. ومن المعلوم أنه ليس في طريقة العقلاء ما يقتضى التعبُّد بذلك، بل لمكان أنهم لا يعتنون باحتمال عدم إرادة المتكلِّم ما يكون الكلام ظاهراً فيه؛ لأن احتمال إرادة خلاف الظاهر إنما ينشأ من احتمال غفلة المتكلِّم من نصب قرينة الخلاف، أو احتمال عدم إرادة استيفاء مراده من الكلام، ونحو ذلك ممّا يوجب انقداح احتمال عدم إرادة المتكلِّم ظاهر الكلام. وكلّ هذه الاحتمالات منفيّةٌ بالأصول العقلائية التي جَرَتْ عليها طريقتهم، والشارع قرَّرهم عليها ولم يردَعْ عنها، بل اتَّخذها طريقةً له أيضاً؛ لأنه أحدهم، فإنه ليس للشارع طريقٌ خاصّ في بيان مراداته، بل يتكلَّم على طبق تكلُّم العقلاء، بل لا يتطرَّق بعض الاحتمالات التي توجب الشكّ في إرادة ظاهر الكلام في كلامه، كاحتمال الغفلة عن نصب القرينة، فلم يبْقَ إلاّ احتمال عدم إرادة استيفاء تمام مراده من الكلام، وهو منفيٌّ بالأصل»([22]).
إن اتّجاه بحثنا لا يقرّر أن الشارع لم يردع عن العمل بالظهور فحَسْب، وإنما يقرِّر عدم إمكان الردع، إذ لا تتوفَّر طريقةٌ متاحة غير الظهور حتّى يردع من خلالها، ممّا يعني الوقوع في مفارقة الدَّوْر.
غير أن المحقِّق النائيني، وعلى سيرة مدرسة المحقِّق البهبهاني، قرَّر وقوع الاختلاف في ثلاثة مسائل ترتبط بحجّية الظهور، هي: ظهور الخطاب القرآني؛ واختصاص الظهور وعدم اختصاصه بمَنْ قُصد إفهامه؛ واشتراط الحجّية بالظنّ بالوفاق أو بعدم الظنّ بالخلاف أو عدم الاشتراط. ولأجل ذلك عقد البحث في هذه الإشكاليات الثلاثة، التي تمثِّل أضلاع البحث في حجّية الظهور في مدرسة الأصول الحديثة منذ زمان الوحيد البهبهاني.
في ما يخصّ إشكالية حجّية ظاهر الخطاب القرآني، والتي صار البحث فيها طابعاً ثابتاً في الدراسات الأصولية منذ أيام إثارتها من قِبَل الأمين الإسترآبادي، فقد قرَّر المحقِّق النائيني قائلاً: «والحقُّ في المقام هو القول بعدم خروج ظواهر الكتاب عن قاعدة حجّية الظواهر بالخصوص؛ فإن الأخبار الواردة في المقام ـ على كثرتها ـ على قسمين: فطائفةٌ منها في مقام النهي عن التفسير بالرأي والاعتماد في تعيين المرادات من الكتاب على الاستحسانات، كما كان ذلك مرسوماً بين المخالفين؛ وطائفة في مقام المنع عن العمل بالظواهر والاستقلال في الفتوى، من دون مراجعة الأئمّة صلوات الله عليهم. ومن الواضح أن كلتا الطائفتين أجنبيّةٌ عما هو المهمّ في المقام من جواز العمل بالظهور الكتابي بعد مراجعة التفسير وعدم العثور على ما يكون قرينةً على خلاف الظاهر في كلمات الراسخين في العلم صلوات الله عليهم أجمعين.
وأما العلم الإجمالي [بوجود مخصِّصات ومقيِّدات…] فمقتضاه عدم العمل بتلك الظهورات قبل الفحص عمّا يكون صارفاً لها. ونحن نسلِّم ذلك، وإنما المدَّعى هو جواز العمل بها بعد الفحص بالمقدار اللازم فيه. وقد تعرَّضنا لأصل وجوب الفحص ومقداره في بحث العموم والخصوص، فراجِعْ. ثم على تقدير ظهور تلك الأخبار في عدم جواز العمل بالظهور الكتابي مطلقاً فلا بُدَّ أن تُحْمَل على ما ذكرناه؛ جَمْعاً بينها وبين الأخبار الكثيرة الدالّة على وجوب الرجوع إلى الكتاب والعمل على طبقه، وعَرْض الأخبار والشروط على الكتاب، الصريحة في جواز العمل بالظهور الكتابيّ، فيكون المنهيّ بعد الجمع بين الأخبار هو الاستقلال في الفتوى وعدم الرجوع إلى كلمات الطاهرين، بل المعارضة معهم، كما كان يصنعه علماء الجَوْر في تلك الأزمنة»([23]).
نلاحظ هنا أن المحقِّق النائيني لم يخرج عن إطار ما قرَّره علماء أصول الفقه من حجِّية ظواهر الخطاب القرآني، ولا عن طبيعة الملاحظات التي سجَّلوها على إشكالية الإسترآبادي في وجوهها الأساسية.
وأما الإشكالية التي أثارها المحقِّق القمّي، أعني تقييد حجّية الظهور بمَنْ قُصد إفهامه دون غيره، والتي مثَّلت المسألة الثانية المهمّة في أبحاث الظهور عند متأخِّري علماء الأصول، وقد خلص منها القمّي إلى انسداد باب العلم؛ نظراً لكون الأخبار الواردة عن المعصومين^ لم يقصد منها إلاّ خصوص المشافهين دون غيرهم، ومن ثم تختصّ حجّيتها بهم، فأمام هذه الإشكالية قرَّر المحقِّق النائيني أن أفضل تقريبٍ لها يتمثَّل في ما أفاده الشيخ الأنصاري. ولأجل ذلك عمد أوّلاً إلى تقرير مقاربة الأنصاري، ثمّ توقَّف ناقداً لها. ويمكننا تلخيص تقريب الأنصاري في مجموعة نقاط:
1ـ إن المدرك في حجّية الظهور يتمثَّل في أصالة عدم الغفلة من قِبَل المتكلِّم عن بيان تمام مراده، وعدم غفلة السامع عن القرائن المذكورة في خطاب المتكلِّم.
2ـ إن احتمال إرادة خلاف الظاهر، مع افتراض أن المتكلِّم في مقام البيان لتمام مراده، واحتمال خفاء تلك الإرادة على المتلقّي، يستند إما إلى غفلة المتكلِّم عن بيان تمام مراده؛ وإما إلى غفلة السامع عن القرائن المذكورة في خطاب المتكلِّم. وكلا الغفلتين مدفوعةٌ بالأصل؛ أي أصالة عدم غفلة المتكلِّم عن بيان تمام مراده، وأصالة عدم غفلة المتلقِّي والسامع عن ملاحظة القرائن المذكورة في الخطاب.
3ـ إن مورد جريان هذين الأصلين هو خصوص المقصود بالإفادة، وأما في غير المقصود بالإفادة والإفهام فإن لاحتمال إرادة غير الظاهر وخفاء القرائن بالنسبة إليه باباً واسعاً وأسباباً متعدّدة، لا يكتفى في دفعها بأصالة عدم الغفلة المتقدِّم؛ إذ قد جَرَتْ عادة المتلقّي المقصود بالإفهام على الاعتماد على القرائن المنفصلة والحالية، وهي قرائن لا يلتفت إليها غير المقصود بالإفهام.
4ـ إن افتراض إمكان جريان أصالة عدم القرينة في حقّ غير المقصود بالإفهام إنما يكون ويتماشى مع افتراض عدم العلم باعتماد المتكلِّم على القرائن المنفصلة، وأما مع افتراض العلم باعتماده على القرائن المنفصلة فلا يمكن حينئذٍ الأخذ بالظاهر من خطابه بالنسبة لغير المقصود بالإفهام. ومن الواضح كذلك أن الأئمّة^ كانوا كثيراً ما يعتمدون على القرائن المنفصلة، بل رُبَما أخَّروا البيان عن وقت الخطاب والحاجة؛ لمصلحةٍ مقتضية لذلك.
5ـ إن ظاهر الخطابات الروائية إنما تكون حجّةً بالنسبة لغير المقصود بالإفهام في حالة وصولها بالشكل الذي صدرَتْ فيه، ولكنْ مع ملاحظة تقطيعها واحتمال وجود قرائن اختفَتْ بسبب التقطيع لا يبقى وثوقٌ بإرادة الظاهر منها، فتسقط عن الحجّية.
هذا هو حاصل المقاربة التي ذكرها الشيخ الأنصاري لإشكالية المحقِّق القمّي في اختصاص حجّية الظهور بمَنْ قُصد إفهامه دون غيره. ومن المهمّ هنا أن نشير إلى أن هذه الإشكالية تقترب في بعض وجوهها من الإشكالية المعاصرة التي تقرِّر تاريخية النصوص والدلالة.
قرَّر المحقِّق النائيني عدم تمامية المقاربة التي ذكرها الشيخ الأنصاري لإشكالية اختصاص حجّية ظواهر الخطاب بالمشافهين، ولاحظ على ذلك:
أوّلاً: إن مدرك أصالة الظهور هو بناء العقلاء على أساس كاشفية الألفاظ عن المراد الواقعي للمتكلِّم، وليس أصالة عدم الغفلة؛ إذ العلاقة بين أصالة الظهور وأصالة عدم الغفلة عرضيّةٌ، ولا رَبْطَ لأحدهما بالأخرى، فضلاً عن كون أصالة عدم الغفلة مَدْرَكاً لأصالة الظهور.
ثانياً: إن الأئمّة^ وإنْ كان دَيْدَنهم الاعتماد على القرائن المنفصلة، بل رُبَما تأخير البيان عن وقت الحاجة، إلاّ أن هذا غاية ما ينتجه لنا وجوب الفحص عن المعارض، وليس عدم حجّية الظهور بعد الفحص.
ثالثاً: «وأما ما أفاده من استلزام التقطيع لعدم حجّية الظهور فهو على تقدير تسليمه أخصّ من المدَّعى؛ لعدم وفائه بعدم حجّية الأخبار غير المقطَّعة الموجودة في عصرنا… مع أن استلزام التقطيع للخلل في ظهورات الأخبار ممنوعٌ جدّاً؛ فإن المقطّعين هم العلماء الأخيار الملتفتين إلى ذلك، ولا محالة يلاحظون في تقطيعاتهم عدم الإخلال بتلك الظواهر. نعم، لو كان المقطِّع عامياً أو مَنْ لا يوثق بدينه لكان لاحتمال الخَلَل في تلك الظواهر مجالٌ واسع، ولكنْ لا مجال لهذا الاحتمال إذا كان التقطيع من مثل هؤلاء العلماء الذين حازوا من مراتب العلم والتُّقى ما هي غاية المنى»([24]).
رابعاً: «إنّا لو سلَّمنا عدم حجّية الظواهر لغير المقصودين بالإفهام لما ترتَّب عليه ما رامه من عدم حجّية ظواهر الأخبار بالنسبة إلينا. وتوضيح ذلك: إن الأخبار الصادرة من المعصومين سلام الله عليهم لو كانت منقوشةً في جسمٍ، وبقيت إلى زماننا، لكنّا مُسلِّمين بعدم حجّيتها، بناءً على اختصاص الحجّية بخصوص المقصود بالإفادة. لكنها ليست كذلك، بل هي نقلت يداً بيدٍ إلى أن انتهَتْ إلى مُصنِّفي جوامع الأخبار قدَّس الله أسرارهم. وعليه فالراوي الأوّل إمّا كان مقصوداً بالإفهام أو كان حاضراً في مجلس الإفادة. وعل كلّ حال فنقله للرواية لفظاً أو معنى للراوي الثاني، مع سكوته وعدم تنبيهه على وجود قرينةٍ على خلاف الظاهر، يدلّ على عدمها، وإلاّ لكان خائناً في نقله، والمفروض وثاقة الراوي، وكون الراوي الثاني بالإضافة إليه مقصوداً بالإفهام. وننقل الكلام إلى تمام وسايط الرواية، إلى أن تنتهي إلى مصنِّفي الجوامع قدَّس الله أسرارهم. وإذا انتهى الأمر إليهم فلا إشكال أن جوامعهم من قبيل: تصنيف المصنِّفين. والمقصود بالإفهام في أمثال ذلك هو كلّ مَنْ ينظر إلى تلك المصنَّفات، فيكون حالنا في الأخذ بتلك الظهورات، والاعتماد فيه على أصالة عدم القرينة بعينها، هي حال الراوي الأوّل الذي ينقل عن الإمام×. وعليه فلا يفيد اختصاص حجّية الظواهر بمَنْ قُصد إفهامه في عدم حجّية الأخبار المروية في الجوامع المعتبرة، حتّى ينتهي الأمر إلى حجّية مطلق الظنّ؛ لأجل انسداد باب العلم والعلمي، كما ذهب إليه المحقِّق المذكور»([25]).
وهكذا يخلص المحقِّق النائيني إلى أن حجّية الظهور مطلقةٌ بالنسبة إلى المقصودين بالإفهام وغير المقصودين بالإفهام، كما هي مطلقةٌ بالنسبة إلى الظهور القرآني وغيره.
وأما الركن الثالث في بحث حجّية الظهور، والمتمثِّل في إشكالية اشتراط الظنّ بالوفاق وعدم الظنّ بالخلاف أو عدم اشتراطهما، فقد أكَّد المحقِّق النائيني وجود صورتين:
الأولى: أن يكون الظنّ بالخلاف معتبراً. وفي مثل هذه الصورة سيكون هذا الظنّ قرينةً على خلاف الظهور، بل موجباً لسقوط الظهور عن الحجّية.
الثانية: أن يكون الظنّ بالخلاف غير معتبرٍ. وفي مثل هذه الصورة يعتمد الشيخ النائيني مقاربةً تفرِّق بين الظهور الذي يكون في مقام الاحتجاج وبين الظهور الذي لا يكون في مقام الاحتجاج؛ ففي الظهور الأوّل، أي الصادر من الموالي إلى العبيد، كالأخبار الواردة من المعصومين^، والتي مقامها الاحتجاج من المولى على العبد وبالعكس، قرَّر عدم تقييد حجّية الظهور بعدم الظنّ بالخلاف.
وأما في الظهور الثاني، الذي لا يكون في مقام الاحتجاج، وإنما غرضه كشف المراد الواقعيّ وترتيب الأثر على طبقه، كما لو فرض وقوع كتابٍ من تاجرٍ إلى تاجرٍ آخر بين ثالثٍ، فأراد كشف ما فيه من تعيين الأسعار، فهو إذا احتمل عدم إرادة الكاتب ظواهر مكتوباته لا يرتِّب عليه الأثر يقيناً، وهذا معناه أن الأخذ بالظهور في غير مقام المولوية والاحتجاج مقيّد بأعلى مراتب الظنّ والمعروفة بالاطمئنان، وبمجرّد احتمال إرادة خلاف الظاهر احتمالاً عقلائيّاً تسقط تلك الظهورات عن الكاشفية، فضلاً عن وجود الظنّ بالخلاف([26]).
بصرف النظر عمّا قد يَرِدُ من ملاحظاتٍ نقيّة على ما تضمَّنته معالجات الشيخ النائيني لإشكالية الظهور المعروفة؛ إذ لا تُعنى دراستنا بذلك تفصيلاً، ولكنْ ما يُلاحَظ هنا أن الشيخ النائيني لم يَزِدْ في تناوله لمسائل الظهور وإشكاليّاته الأساسية عمّا سبقه، ولم يخرج عن الإطار العامّ الذي تناولوا في فضائه إشكاليات فهم الخطاب وحجّية ذلك الفهم.
ومن المهمّ هنا أن نلاحظ كذلك أن الشيخ النائيني، وخلافاً لآخرين، لم يستدلّ على اعتبار الظهور وحجّيته، وإنما اعتبر العمل بالظهور والجَرْي على مقتضاه من أساسيّات قيام مدينة حياة الإنسان، والتواصل بين بني البشر. وهو موقفٌ سليم جداً بحَسَب اتّجاه البحث الذي تلاحقه هذه الدراسة.
تفريعات المحقِّق العراقي في حجّية الظهور
فرَّع المحقِّق الشيخ ضياء الدين العراقي (1278 ـ 1361هـ) البحثَ في حجّية الظهور بعد تأسيس الأصل في جعل الطرق والأمارات، وبعد فراغه من إمكان الجعل والتعبُّد بها.
ابتدأ بالتعرُّض لإشكالية تقرِّر رجوع أصل العمل بالظهور، الذي هو أصل وجوديّ لأصلٍ عدميّ يقرِّر أصالة عدم القرينة على خلاف الحقيقة. غير أن العراقي أمام هذه الإشكالية ذكر مقاربةً قرَّر فيها: بما أن الغرض من هذه الأصول اللفظية، سواء كانت وجوديةً أو عدمية، هو استكشاف مراد المتكلِّم فإن عدم القرينة على خلاف الحقيقة والعموم (مثلاً) إنما يلازم إرادة الحقيقة، بناءً على ما هو المعروف من عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة. وأما بناءً على جواز إبراز الكلام على خلاف المراد دون قرينةٍ (وهو مختار العراقي) فإن عدم القرينة على المجاز لا يقتضي الاستعمال الحقيقي إرادته، حتّى على مستوى الإرادة الاستعمالية، فضلاً عن الجدّية.
على أساس ذلك كيف تغني أصالة عدم القرينة في استكشاف الحقيقة؟ وإنما اللازم بحَسَب المحقِّق العراقي أن نؤسِّس لأصلٍ آخر ينصّ على أنه مع عدم القرينة وحصول الشكّ في إرادة الحقيقة أو لا هل يقتضي الأمر إرادة الحقيقة جدّاً أو لا؟ فيكون أصل عدم القرينة محقِّقاً لموضوع الأصل الوجوديّ (الظهور)، وليس مغنياً عنه، كما في الإثارة المتقدِّمة أول الحديث([27]).
بعد ذلك تعرَّض إلى المسائل المعهودة والمتداولة في بحث الظهور. فأوّل ما تعرّض له هو أن الأصل الوجوديّ هل يكفي التمسُّك فيه مجرّدُ الشكّ في إرادة المعاني الحقيقية، حتّى مع عدم وجود ظهورٍ فعلي للألفاظ في المقام؛ بسبب اتّصال الخطاب بما يصلح لأن يكون قرينةً، أي الشكّ في قرينيّة الموجود، أو لا يكفي؟
قرَّر المحقِّق العراقي في ذلك أن التمسُّك بالأصل الوجودي المدار فيه على الظهور الفعليّ ولو في المعاني المجازية؛ والسبب هو عدم حجّية الظهور عند اتّصال الخطاب بما يصلح للقرينيّة أو مشكوك القرينيّة. وهذا يعني أن الظهور الذي هو حجّةٌ ومعتبر عند بني البشر أعمّ من المعاني الحقيقية والمجازية([28]).
كما أن موضوع هذا الأصل الوجودي الحجّة هو الظهور التصديقي الناشئ من كون المتكلِّم في مقام الإفادة والاستفادة؛ لأن القدر المتيقَّن من السيرة العقلائية التي تمثِّل دليل حجية الظهور هو الظهور التصديقي، دون أن تشمل الظهور التصوُّري الناشئ من انسباق المعنى إلى الذهن؛ بسبب التبادر أو قرينةٍ ما. ولكنْ بعد معرفة أن القدر المتيقَّن من السيرة العقلائية هو الظهور التصديقي فهل يعتبر في ذلك حصول الظنّ الشخصي أو لا؟ قرَّر المحقِّق العراقي قائلاً: «نعم، بناءً على اعتبار الظهور التصديقي ليس المدار على التصديق الظنّي الفعلي؛ لقيام السيرة على الخطوط والأسناد القديمة، مع الجزم بعدم الظنّ الفعلي لهم، وحينئذٍ المدار التامّ على الظهور النوعيّ غير المتنافي مع الشكّ الفعلي وجداناً»([29]).
وأما الإشكالية التي أثارها المحقِّق القمّي، والمرتبطة بسعة دائرة الحجّية لغير المشافهين أو اختصاصها بالمقصودين بالإفهام، فقد قرَّر العراقي الموقف العامّ الذي يتبنّاه عامّة علماء أصول الفقه منذ عهد الوحيد البهبهاني، والذي قرَّر فيه قائلاً: «كما أن المدار ليس على الظهور المزبور لخصوص مَنْ قُصد افهامه؛ لبداهة الأخذ بإقراره عند تكلُّمه مع الغير بلا التفاتٍ منه على وجود السامع المزبور في المجلس. فما عن القمّي& في تفصيله هذا منظورٌ فيه، كالنظر في وجه توجيه كلامه بإرجاعه إلى أصالة عدم الغفلة؛ إذ لهذا الأصل مقامٌ، ولأصالة الظهور مقامٌ آخر، كما لا يخفى»([30]).
يتناغم العراقيّ في هذا الموقف مع موقف معاصره المحقِّق النائيني في رفض مقاربة الشيخ الأنصاري لمدرك مبنى المحقِّق القمّي في إرجاع حجِّية الظهور إلى أصالة عدم الغفلة، كما تقدَّم التوقُّف عنده.
أما بشأن الإشكاليّات المرتبطة بحجّية ظهور الخطاب القرآني فقد كتب المحقِّق العراقي قائلاً: «في المقام شبهةٌ أخرى من العلم الإجمالي على خلاف ظواهر ما ورد من الشرع في الكتاب والسنّة. ومثل هذا العلم مانعٌ عن حجّيتها. ومجرّد الفحص عن المخصِّص أو القرينة على الخلاف، وعدم الظَّفَر بها أيضاً، غير كافٍ في رفع العلم المزبور؛ لعدم خروج المشكوك عن طرفيّة العلم المزبور.
ويمكن الفرار عن هذه الشبهة أيضاً بأن دائرة العلم المزبور رُبَما تكون بمقدار لو تفحّصنا عنه لظفرنا به؛ إذ حينئذٍ من أوّل باب الطهارة إلى آخر الديات بعدما كان تحت مثل هذا العلم فالعقل يحكم في كلّ بابٍ بعدم الإقدام بالعمل قبل الفحص، فيفحص، فإنْ ظفر به يأخذ به، وإلاّ يستكشف أنه من الأوّل خارجٌ عن دائرة العلم المزبور. وبمثل هذا العلم الإجمالي يكتفى أيضاً دليلاً لوجوب الفحص عن كلّية الأحكام، فضلاً عن الفحص عن المخالف للظواهر، من دون فرق أيضاً بين ظواهر الكتاب والسنّة…
نعم، في خصوص ظواهر الكتاب شبهاتٌ واهية أخرى في جواز الأخذ بها، منها: إن ظواهر الكتاب ليس لبيان الإفادة والاستفادة، بل أوحي إلى النبيّ| لمَحْض الإعجاز. ومنها: الأخبار الواردة في حرمة تفسيرها. ولا يخفى ما في جميعها»([31]). ثمّ مضى في نقد الوجوه التي استدلّ بها الأخباريون على المنع من الأخذ بالظهور القرآني أو إبطاله من أصلٍ، وخلص إلى حجّيتها.
المحقِّق الإصفهاني في مقاربته الفلسفيّة لحجّية الظهور
حرَّر المحقِّق الشيخ محمد حسين الإصفهاني(1361هـ) آراءه الأصولية في كتاب (نهاية الدراية)، الذي كتبه شرحاً لمؤلَّف أستاذه المحقِّق الخراساني (كفاية الأصول).
تابع الإصفهاني الإطار العام لما قرَّرته أبحاث علم أصول الفقه بشأن حجّية الظهور، والموقف من إشكاليّاته الأساسية، وإنْ كان قد اختلف في بعض المواقف التفصيلية.
في ما يرتبط بمسألة اشتراط عدم الظنّ بالخلاف في حجّية الظهور قرَّر الإصفهاني أن عدم الظنّ بالخلاف يعتبر إما من جهة كونه جزء المقتضي في حجّية الظهور، وإما من جهة كونه مانعاً. والأوّل لا مجال له؛ لأن الظهور إنما يكون حجّةً من حيث كشفه عن مراد المتكلِّم (أي الدلالة التصديقية الثانية)، والمعتبر في الكشف هو الفعلي أو الذاتي، وعدم الظنّ بالخلاف غير معتبرٍ في الكشف الذاتي قطعاً؛ لتحقُّق الكشف الذاتي حتّى مع الاقتران بالظنّ بالخلاف. وكذلك الحال في ما يرتبط بالكشف النوعي.
أما في الكشف الفعلي الشخصيّ فاعتبار عدم الظنّ بالخلاف راجعٌ إلى اعتبار الظنّ الفعلي بالوفاق، بينما محلّ الكلام في عدم الظنّ بالخلاف، لا الظنّ بالوفاق.
كما لا مجال للثاني، أي من جهة كون الظنّ بالخلاف مانعاً؛ لأن الظنّ بالخلاف إنما يصير مانعاً إذا كان حجّةً لعدم تصوُّر مزاحمة ما ليس بحجّة (الظنّ بالخلاف) للحجّة، وهو الظنّ أو الظهور في المراد. فإذا افترضنا حجّيته فالظنّ بالخلاف المعتبر عدمه؛ لأنه حجّة على خلاف الظاهر. فإذا كان الظنّ بالخلاف حجّة، وسقط الظاهر عن الحجّية، كان المورد محلّ وفاقٍ بين مَنْ يشترط عدم الظنّ بالخلاف في حجّية الظهور وبين مَنْ لا يشترط ذلك([32]).
وفي ثنايا الحديث عن هذا الفرع قرَّر المحقِّق الإصفهاني الوجه التعليلي في حجّية الظهور، فقال: «إن المقتضي لحجية الظهور إثباتاً بناء العقلاء عملاً. ويمكن أن يكون بناء العقلاء على العمل بالظاهر الذي لا ظنّ على خلافه، فيكون البناء العملي على اتّباع الظهور مقيّداً بعدم الظنّ بالخلاف، وإنْ كان المقتضي لبنائهم كون اللفظ كاشفاً نوعيّاً عن المراد، من دون اعتبار شيءٍ آخر في ما يدعوهم إلى العمل بالظاهر؛ فإن الجهة الجامعة بين جميع موارد اتّباع الظهور في الكشف النوعيّ»([33]).
بعد بيانه للوجه التعليليّ في الأخذ بالظهور عند العقلاء انتقل إلى البحث في المسألة الثانية من حجّية الظهور، وهي تفصيل المحقِّق القمّي المتقدِّم بيانه بين المقصود بالإفهام وبين عدم المقصود بالإفهام. بداية قرَّر الإصفهاني وجهاً قارب فيه تلك الإشكالية، ثمّ أجاب عنه.
أما الوجه الذي قرَّب فيه تفصيل المحقِّق القمّي فجاء فيه: إن المتكلِّم إنْ اعتمد في إرادة خلاف ظاهر خطابه على قرينةٍ حالية بينه وبين المتلقّي والمخاطب الذي قصد إفهامه ففي مثل هذه الصورة لا يكون مخلاًّ بمراده ومقاصده. وأما إنْ لم تكن هناك قرينةٌ على إرادة خلاف الظاهر من خطابه ففي مثل هذه الصورة يكون ناقضاً لغرضه، الذي يتمثَّل في الإفهام بالنسبة إلى المقصود بذلك.
وأما في غير المقصود بالإفهام فلا تكون إرادة غير الظاهر من الخطاب نقضاً للغرض مع عدم القرينة. ومرجع ذلك إلى أن الفرض قائمٌ على عدم تعلُّق الغرض بإفهامه حتّى يلزم منه نقض الغرض مع عدم القرينة المعهودة. فتكون النتيجة أن حجّية الظهور مختصّة بمَنْ قُصد إفهامه دون غيره.
غير أن المحقِّق الإصفهاني لم يقبل بهذه المقاربة التي تفصِّل في حجّية ظهور الخطاب بين المقصود بالإفهام وغيره، وسجَّل قائلاً: «والجواب يبتني على مقدّمةٍ، هي أن الإرادة استعماليّةٌ وتفهيميّةٌ وجدّيةٌ، فمجرد إيجاد المعنى باللفظ بنحو الوجود العرضي متقوّم بالإرادة الاستعمالية، سواء قصد بهذا الإيجاد إحضار المعنى في ذهن أحدٍ أم لا. فإذا قصد بهذا المعنى كانت الإرادة تفهيميةً. وهذا المعنى الموجود المقصود به الإحضار رُبَما يكون مراداً جدّياً؛ ورُبَما يكون لانتقال المخاطب ـ مثلاً ـ إلى لازمه المراد جدّاً، أو ملزومه، كما في باب الكناية. والملاك في كلّ واحدة غير الملاك في الأخرى، والكاشف عن كلّ واحدةٍ غير الكاشف عن الأخرى. فالجَرْي على قانون الوضع يقتضي إيجاد المعنى بلفظه، وهو وجه بناء العُرْف عملاً على حمل اللفظ على الاستعمال في معناه. ولزوم نقض الغرض لو لم يكن الكلام الصادر وافياً بالمرام يقتضي عدم قصد الإفهام إلاّ بما يكون وافياً بالمرام. وكون جدّ الشيء كأنه لا يزيد على نفس الشيء يقتضي حمل كلّية الأقوال والافعال على الجدّ، حتّى يظهر خلافه. وعليه نقول: بناء العقلاء عملاً على حمل الكلام على ما يوافق قانون الوضع بعد كشفه النوعيّ عن المعنى هو معنى حجّية الظهور. وحكم العقل بقبح نقض الغرض، الذي هو غير مربوطٍ ببناء أهل المحاورة، هو الدليل على أن المعنى المختصّ باللفظ هو الذي قصد إفهامه. وبناء العقلاء العامّ لجميع الأقوال والأفعال هو الدليل على حمل كلّية الأفعال والأقوال على الجدّ.
فالفرق المعلوم بين الظاهر الملقى إلى مَنْ قُصد إفهامه ومَنْ لم يُقصد إفهامه لوجهٍ مخصوص لا يقتضي الفرق في المقام الأول. وحجّية الظاهر بحمله على مقتضاه من كشفه النوعي من معناه الوضعي والخلط بين المقامين أوهم الفرق بين مَنْ قُصد إفهامه ومَنْ لم يُقصد إفهامه. هذا كلّه مع أن قصر الخطاب على شخصٍ لا يقتضي قصد إفهامه، بل رُبَما يُقْصَد إفهام غيره، كما في (إيّاك أعني واسمعي يا جارة)، فضلاً عن اقتضاء قصر قصد الإفهام على المخاطَب.
مضافاً إلى أن الكلام إذا كان متضمّناً لتكليفٍ عموميّ فمقام عموم التكليف بهذا الكلام يقتضي وصول التكليف العمومي نفساً ومتعلّقاً وموضوعاً بشخص هذا الكلام، فلا يمكن التعويل على ما يختصّ بالمخاطب من القرينة الحالية. وعلى فرض كون المخاطب واسطةً في التبليغ فاللازم عليه في إيصال التكليف العمومي بحدّه التنبيه على ما يقتضي توسعته وتضييقه. فعدم التنبيه منه دليلٌ على عدمه. بل الكلام المقصور على المخاطَب إذا كان متكفِّلاً لتكليفٍ خصوصيّ، وكان عمومه لغيره بقاعدة الاشتراك، أيضاً كذلك؛ إذ الطريق إليه نقله روايةً أو كتابة، ومقتضى عدم الخيانة في نقله بأحد الطريقين هو التنبيه على القرينة الحالية الموسّعة لدائرة التكليف والمضيِّقة لها، ومع عدم نصب الدالّ عليها يحكم بعدمها، فتدبَّرْ جيّداً»([34]).
عقب ذلك انتقل المحقِّق الإصفهاني إلى الحديث عن حجّية ظواهر القرآن، مسجِّلاً في أوّل كلامه الاعتراض على جواب الأصوليّين عن استدلال الأخباريين بآية (المحكم والمتشابِه) لنفي حجّية ظهور الخطاب القرآني، بدعوى شمول المتشابِه المنهيّ عن العمل به للظاهر. وقد كان جواب الأصوليّين المنع عن كون الظاهر من المتشابِه. قرَّر الإصفهاني أن امتناع كون الظاهر من المتشابِه لا يمكن إثباتها بالتمسُّك بالقول: إن لفظ المتشابِه ظاهرٌ في الأعمّ من المجمل والظاهر، أو هو محتملٌ لذلك، اللهمّ إلاّ من باب الجَدَل!
وأما من غير باب الجَدَل فيلزم من إثباته نفيه؛ وذلك لأن «لفظ المتشابِه من جملة الظواهر القرآنية، فتدخل تحت المتشابِه، فلا يجوز التمسُّك به. وأما مع مجرّد احتمال شمول المتشابِه للظاهر فلا يجوز المنع من باب الجَدَل، بل لا بُدَّ من الأخذ بالمتيقَّن منه، وهو المجمل»([35]).
ويضيف المحقِّق الإصفهاني إلى هذا النَّمَط من النقاش قائلاً: «فإنْ قلتَ: إنما لا يصحّ الاستدلال بدليل المنع عن العمل بالمتشابِه بناءً على ظهوره في ما يعمّ الظاهر إلاّ جدَاً إذا اعتقد المستَدِلّ عدم حجّية ظواهر الكتاب حتّى هذا الظاهر؛ وأما إذا قال بعدم حجّية سائر الظواهر بهذا الدليل الذي لا يعقل شموله لنفسه فلا يكون الاستدلال حينئذٍ من باب الجَدَل، ولا يلزم من نفي حجّية الظواهر بخصوص هذا الظاهر ثبوتها، ليكون محالاً.
قلتُ: أما الخصم [الأخباريون] فلا فرق عنده بين ظواهر الكتاب. وإنما لا يمكنه القول بعدم حجّية هذا الظاهر لمكان الاستدلال به. فالقول بعدم حجّية هذا الظاهر بنفسه يلزم من عدمه وجوده، فلا محالة يستدلّ به جَدَلاً وإلزاماً علينا بما نعتقد حجّيته ببناء العقلاء. بل التحقيق أنه لا يصحّ الاستدلال به حتّى من باب الجَدَل؛ إذ الغرض إنْ كان نفي حجّية جميع الظواهر، حتّى نفس هذا الظاهر، فيلزم من وجوده عدمه؛ فإنه مقتضى شموله لنفسه؛ وإنْ كان الغرض نفي حجّية سائر الظواهر بهذا الظاهر الذي بنى العقلاء على حجّيته فهو وإنْ كان لم يلزم منه المحال من حيث شموله لنفسه بمدلوله اللفظيّ، إلاّ أنه لما كان نفي حجّية سائر الظواهر بملاك التشابه الشامل للظاهر فيلزم من نفي حجّية الغير بهذا الملاك نفي حجّية نفسه، وحيث لا يعقل نفي حجّية الغير إلاّ بنفي حجّية نفسه؛ لاتّحاد الملاك، فيسقط مدلوله. وبغير هذا الملاك لا دلالة له أيضاً، فيبقى سائر الظواهر بلا مانعٍ. ولا بُدَّ من التصرُّف في هذا الظاهر؛ لأنه وإنْ كان لا يعمّ نفسه بمدلوله، لكنه يعمّه بملاكه المأخوذ في مدلوله، فيلزم من حجِّيته في مدلوله عدم حجِّيته في مدلوله، فلا مناص إلاّ عن دعوى كونه مُحْكَماً في مدلوله، كما أشَرْنا إليه»([36]).
يُلاحَظ هنا أن المحقِّق الإصفهاني ورد ميدان بحث هذه الإشكالية بكلّ ثقله الفلسفي، وهو علمٌ عتيدٌ في الحكمة والفلسفة المتمثِّلة بمدرسة صدر الدين الشيرازي، فأدخل مدركات التنافي والاستحالة العقلية في المقام. وهو أمرٌ لافت وغيرُ معهودٍ في كلمات السابقين في بحث حجّية الظهور. وسوف نرى هذا النمط من المقاربات في كلمات الشهيد السيد محمد باقر الصدر&.
وهنا نلاحظ كذلك أن بحث الظهور والفهم لم يَبْقَ في سياق البحث في اللغة وقوانينها وأحكامها وعلاقتها بالدلالة، وإنما زُحزح عن مكانه، لتشمله قوانين العقل والاستحالة والتنافي الواقعي.
ثمّ إن المحقِّق الإصفهاني استرسل في نقاش سائر وجوه الأخباريين في المقام، وتثبيت وجهات نظره في ما يخص هذه الإشكالية وأطراف البحث فيها.
بعد ذلك انتقل للحديث عن القرائن المتّصلة والمنفصلة، والمحرزة والمحتملة، وعلاقتها بالظهور، من حيث إسقاط الحجّية من عدمه. وفيه سجَّل وجهات نظره ممّا لا يتعلَّق غرض البحث بنقلها والتوقُّف عندها.
السيّد الخوئي وحجّية الظهور في مسائلها الثلاثة
في مفتتح حديثه قرَّر السيد أبو القاسم الخوئي (1317 ـ 1413هـ) أن حجّية الظواهر ممّا تسالم عليه العقلاء في محاوراتهم، واستقرّ بناؤهم على العمل بها في جميع أمورهم، و«حيث إن الشارع لم يخترع في محاوراته طريقاً خاصاً، بل كان يتكلّم بلسان قومه، فهي ممضاةٌ عنده أيضاً. وهذا واضحٌ، ولم نعثر على مخالفٍ فيه. ولذا ذكرنا في فهرس مسائل علم الأصول أن بحث حجّية الظواهر ليس من مسائل علم الأصول؛ لأنها من المسائل المسلَّمة بلا حاجةٍ إلى البحث فيها..»([37]).
إن موقف السيد الخوئي& هذا سليمٌ جدّاً وفق الاتجاه الذي تتابعه دراستنا، أما سائر علماء أصول الفقه فقد رأينا فيما تقدّم من متابعة تذبذب مواقفهم بين مَنْ استدلّ على حجّية الظهور بالإجماع، أو بسيرة المتشرّعة، أو بالأحاديث. كما لم نعثر في حدود متابعتنا على نصٍّ لغير السيد الخوئي يؤكِّد فيه على خروج حجّية الظهور من علم أصول الفقه.
بعد أن قرّر السيد الخوئي خروج البحث في حجّية الظهور عن مسائل علم أصول الفقه، تناول مسائل الظهور التي وقعت محلاًّ للبحث وفق الطريقة المعهودة، حيث ذكرنا في أكثر من موضعٍ أنهم بحثوا حجّية الظهور في ثلاثة أضلاع أو مسائل:
1ـ في أن حجّية الظهور هل هي مشروطةٌ بالظنّ بالوفاق أو بعدم الظنّ بالخلاف أو غير مشروطة بشيءٍ منهما؟
2ـ في أن حجّية الظهور هل هي مختصّةٌ بمَنْ قُصد إفهامه أو تعمّ غيره أيضاً؟
3ـ في أن ظواهر القرآن الكريم حجّةٌ أو غير حجّةٍ؟
وفي المسائل الثلاثة تبنّى السيد الخوئي& الموقف السائد بين المدرسة الأصولية؛ فحجّية الظهور مطلقةٌ من جهة عدم اشتراط الظنّ بالوفاق ولا اشتراط عدم الظنّ بالخلاف؛ كما أنها مطلقةٌ لمَنْ قُصد إفهامه ومَنْ لم يُقْصَد إفهامه؛ ومطلقةٌ للظهور القرآني وغيره.
لم يخرج السيد الخوئي في نَمَط استدلالاته وملاحظاته في هذه المسائل عن المتعارف من إطارٍ، ولا سيَّما ملاحظات أستاذه المحقِّق النائيني، فقد كان وفيّاً له وجرى على منواله، واعتمد كثيراً من مقارباته وملاحظاته، وبالخصوص في مناقشة تفصيل المحقِّق القمّي بين مَنْ قُصد إفهامه ومَنْ لم يُقْصَد إفهامه([38])، وكذلك في مناقشة إشكالية ظهور الخطاب القرآني التي أثارها زعيم المدرسة الأخبارية الحديثة الإسترآبادي، فلاحِظْ([39]).
بعد ذلك عقد تذييلاً تحدّث فيه عن الدلالات الثلاثة: الوضعية؛ والاستعمالية؛ والجدّية، وعلاقتها بمسألة الظهور من جهة الشكّ في مراد المتكلِّم وعدم إحراز مقصوده، ومن جهة احتمال قرينيّة الموجود واحتمال وجود القرينة أو احتمال المانع عن الظهور بعد وجود المقتضي للظهور([40]).
حجّية الظهور عند السيّد الصدر، تشعُّبٌ وانتظام
تناول السيد محمد باقر الصدر (1353 ـ 1400هـ) حجّية الظهور بشكلٍ تفصيلي ومستوعب في تقرير بحثه، وفي الحلقة الثالثة من كتاب (دروس في علم الأصول). وسوف نعتمد في متابعتنا لهذه المسألة بشكلٍ أساس على تقرير بحثه، المعنون (بحوث في علم الأصول)، بقلم تلميذه السيد محمود الهاشمي&.
الشيء الملفت للنظر أن السيد الصدر جعل البحث في حجّية الظهور منظّماً في سبع جهات:
1ـ أصل حجّية الظهور.
2ـ تحديد موضوع أصالة الظهور.
3ـ أصالة الظهور والأصول اللفظية الأخرى. والحديث في هذه النقطة عن النسبة بين أصالة الظهور وسائر الأصول اللفظية الأخرى، كأصالة الحقيقة والعموم والإطلاق وغيرها.
4ـ التفصيل في حجّية الظهور، وفيها يتعرّض للأركان الثلاثة التي جَرَتْ العادة على بحثها، وهي: التفصيل بين المقصود بالإفهام وغير المقصود بالإفهام، واشتراط الظنّ بالوفاق أو عدم الظنّ بالخلاف أو عدم اشتراطهما، وحجّية الظهور القرآني.
وهنا نلاحظ أن ما كان يمثِّل أركاناً رئيسة في بحث حجّية الظهور عند سائر علماء الأصول منذ زمان الوحيد البهبهاني صار يمثِّل جهةً من مجموع جهاتٍ في البحث عند السيد الصدر.
5ـ الظهور الذاتي والموضوعي.
6ـ حجّية قول اللغوي.
7ـ إثبات الظهور بالاستدلال والبرهان.
وهكذا نلاحظ أن البحث في حجّية الظهور قد تشعَّب واتّخذ صورةً أخرى عند السيد الصدر، أكثر شمولاً واستيعاباً للمسائل والإشكاليات المرتبطة به. وبعبارةٍ أخرى: إن البحث في حجّية الظهور قد اتّخذ مع السيد الصدر صورةً مختلفة عما كان سائداً، كمّاً وكَيْفاً، شكلاً ومضموناً.
وممّا يلاحظ هنا أن السيد الصدر، وخلافاً لموقف أستاذه السيد الخوئي، قد حاول الاستدلال على أصل حجّية الظهور! وقد تمسَّك في ذلك تارةً بالسيرة العقلائية؛ وأخرى بالسيرة المتشرّعية. على أن الاستدلال بالسيرتين لا يخلو من إشكال الدَّوْر والمفارقة!
وفي ما يرتبط بتحديد موضوع أصالة الظهور فقد قرَّر السيد الصدر أن موضوع حجّية الظهور هو الظهور التصديقي، لا التصوّري، زائداً عدم العلم بالقرينة المنفصلة، فينتج لنا ذلك أن الإنسان إذا احتمل القرينة المتّصلة كان بحاجةٍ إلى إحراز موضوع أصالة الظهور في المرتبة السابقة بأصلٍ أو غيره، أما لو احتمل القرينة المنفصلة رجع إلى أصالة الظهور ابتداءً بلا حاجةٍ إلى أصلٍ طوليّ؛ لتوفُّر موضوع حجّية الظهور([41]).
وفي مقابل ذلك هناك اتجاهان في موضوع حجّية الظهور:
الاتجاه الأوّل: للمحقِّق النائيني، تَبَعاً للشيخ الأنصاري، حيث قرّر أن موضوع حجّية الظهور مركَّب من جزءَيْن، هما: الظهور التصديقي؛ وعدم القرينة المنفصلة، أي عدم واقع القرينة المنفصلة، فلا بُدَّ من إحراز العدم، ولا يكفي عدم العلم.
والاتجاه الثاني: للمحقِّق الإصفهاني، حيث قرّر أن موضوع حجّية الظهور هو الظهور التصوّري زائداً عدم العلم بالقرينة.
وبعد إيضاح الاتجاه المتبنّى توقّف لنقد الاتجاهين الآخرين.
بعد ذلك انتقل للبحث في الجهة الثالثة من بحث الظهور، وتكفّل الحديث فيها عن النسبة بين أصالة الظهور وسائر الأصول اللفظية الأخرى.
وفي جهة التفصيل في الحجّية تعرَّض لبحث المسائل الثلاثة المتداولة. وفي ما يرتبط بمسألة التفصيل بين المقصود بالإفهام وغير المقصود بالإفهام قرَّر السيد الصدر عدم تمامية الجواب المطروح في معالجة الإشكالية، ورأى أن الأحسن في مقام معالجة الإشكالية أن نفرز الاحتمالات في إرادة خلاف الظاهر من الكلام، والتفتيش عن نكتة كاشفيّةٍ نوعية في نفي كلٍّ منها، ثمّ ملاحظة أن تلك النكتة من حيث حدودها هل تجري في حقّ غير المقصودين بالإفهام أو لا؟
وفي هذا المجال، أي إبراز نكتة احتمال إرادة غير الظاهر، طرح السيد الصدر مناشئ خمسة. وبعد عرضها وبيان القصور فيها قرَّر قائلاً: «وهكذا اتّضح عدم الفرق بين المقصود بالإفهام وغيره؛ لتمامية نكتة حجّية الظهور في حقِّهما، كبرى وصغرى»([42]).
وأما التفصيل بين الظهور الذي يظنّ بخلافه وما لا يظنّ بخلافه فقد قرَّر قائلاً: «إلاّ أن الصحيح أن الموارد المذكورة لو فرض وجودها فإنما تكون في مجال الأغراض الشخصية التكوينية لا مجال الأغراض التشريعية والإدانة العقلائية، أعني باب الحجّية والتنجيز والتعذير بين الموالي وعبيدهم؛ فإنه في هذا المجال لا يفرّق العقلاء بين ما يظنّ بخلافه أو لا. ومن هنا أفاد المحقِّق النائيني& في مقام مناقشة هذا القول بأنه إنما يتّجه في سيرة العقلاء بلحاظ مصالحهم الشخصية، لا المولوية. وهذا الالتفات منه متينٌ، إلاّ أنه بحاجةٍ إلى تكميلٍ وتمحيص؛ ذلك أنه ربما يعترض عليه بهذا المقدار بأن حجّية الظهور في باب الأغراض المولوية التشريعية أيضاً إنما تكون بملاك الطريقية والكاشفية، لا الموضوعية والتعبُّد البَحْت، ومعه كيف ينسجم إطلاق الحجّية في هذا المجال مع عدمه في مجال الأغراض الشخصية، والذي يكون الظهور طريقاً إليها، وهل هذا إلاّ الالتزام بموضوعية الظهور للحجّية؟
والجواب: إن فذلكة الفرق المذكور راجعةٌ إلى الفَرْق في نكتة الكاشفية والطريقية، لا أصلها؛ فإن ملاك الكاشفية في مجال الأغراض الشخصية إنما يكون هو الكشف الشخصي؛ لأن الغرض فيه غرضٌ شخصي، وليس له طرفٌ آخر، ولا علاقة له به. ومن هنا كان الظهور متأثِّراً بالظنّ الشخصي على خلافه، سلباً أو إيجاباً. وهذا بخلاف باب الأغراض المولوية؛ فإنه غرض بين طرفين: المولى؛ والعبد، وبلحاظ الإدانة والتسجيل، وفي هذا المجال لا يناسب أن تكون الكاشفية الشخصية عند العبد مثلاً ميزاناً، بل الميزان الكاشفية النوعية المحفوظة في الظهور نفسه؛ باعتباره غالب المطابقة والحفظ للواقع ولأغراض المولى، فإن هذا هو الميزان الموضوعي المناسب والمحدّد من جهةٍ، وهو الأوفق لأغراض المولى من جهةٍ ثانية؛ فإن المولى الذي إليه يرجع أمر هذه الحجّية جعلاً وواقعاً إنما يجعلها بلحاظ التزاحم الحفظي الواقع بين ملاكات أحكامه، ولا معنى لأن يلحظ الظنّ الشخصي للعبد في مقام تحديد ما يكون أحفظ لها»([43]).
وهذا المعنى وإدخال مبنى التزاحم الحفظي، يناسب جدّاً محاولة السيد الصدر الاستدلال على حجّية الظهور بالسيرتين، لتكون حجّيتها حكماً ظاهرياً مجعولاً بملاك التزاحم الحفظي.
وبشأن إشكالية الظهور القرآني فقد قرَّر السيد الصدر أن هناك اتجاهين في شأن هذه الإشكالية: أحدهما: دعوى الخروج التخصيصي عن الحجّية بعد الاعتراف بتحقُّق أصل الظهور في الآيات القرآنية؛ والثاني: دعوى الخروج التخصُّصي من جهة إنكار انعقاد ظهور في تلك الآيات لنكاتٍ خاصّة. ثمّ توقّف عند الاتجاه الأوّل، مستعرضاً مستنداته، وناقداً لها نقداً مستحكماً([44]).
وبهذا يكون السيد الصدر قد قرّر الحجّية المطلقة للظهور من حيث الإشكاليات الثلاثة، كما قرَّرها عامّة علماء أصول الفقه الشيعي منذ أيام الوحيد البهبهاني وحتّى يوم الناس هذا.
الظهور الذاتيّ والموضوعيّ
تحت هذا العنوان تحدَّث السيد الصدر عن الجهة الخامسة في بحث الظهور. وقد قرّر أن هذا البحث لم يطرحه المحقِّقون، وإنما طرحوا مسألةً أخرى لم تكن جديرةً بالبحث المستقلّ، وهي أن أصالة الحقيقية هل تكون معتبرةً من باب التعبّد أو من باب أصالة الظهور؟([45]).
قد يكون عدم طرق الأصوليّين هذا البحث بسبب وضوح أن الظهور الحجّة هو النوعي الموضوعي، دون الذاتي. ولكنْ في ذات الوقت فإن هذا البحث يمثِّل شاهداً على ما قلناه سابقاً من أن البحث في حجّية الظهور قد اتّخذ صورةً مختلفة شكلاً ومضموناً مع السيد الصدر؛ إذ التمييز بين الظهورين بواسطة بيان عوامل تشكُّل كلِّ واحدٍ منهما مهمٌّ جداً في تأصيل أدوات البحث الدلالي، الذي يُراد له ضبط عملية الاستنباط الفقهي بصورةٍ خاصّة، فضلاً عن فهم المعرفة الدينية بشكلٍ عامّ.
أما المراد من الظهورين الذاتي والموضوعي فقد قرَّر قائلاً: «والمراد بالظهور الذاتي الظهور الشخصي الذي ينسبق إلى ذهن كلّ شخصٍ شخص، وبالظهور الموضوعي الظهور النوعي الذي يشترك في فهمه أبناء العُرْف والمحاورة، الذين تمّت عُرْفيتهم. وهما قد يختلفان؛ لأن الشخص قد يتأثَّر بظروفه وملابساته وسنخ ثقافته أو مهنته أو غير ذلك، فيحصل في ذهنه أُنْسٌ مخصوص بمعنىً مخصوص، لا يفهمه العُرْف العام عن اللفظ»([46]).
قد يكون التعبير بـ (الظهور الشخصي والنوعي) أكثر دقّةً في إيصال المراد من التعبير بـ (الذاتي والموضوعي)؛ لوضوح أن الظهور الذاتي ألصق بالنزعة النفسية، بينما قد يكون الظهور الشخصي موضوعياً، ولكنه ليس نوعياً. والأمر يجري في الموضوعي كذلك، فقد يكون شخصياً ناشئاً من قرائن موضوعية غير ذاتية، ولكنها ليست نوعيةً عامة.
أما خصائص الظهورين: «ومن هنا يعلم أن الظهور الذاتي الشخصي نسبيٌّ، مقام ثبوته عين مقام إثباته، ولهذا قد يختلف من شخصٍ لآخر. وأما المقصود بالموضوعيّ فهو حقيقة مطلقة ثابتة، مقام ثبوته غير مقام إثباته؛ لأنه عبارةٌ عن ظهور اللفظ المشترك عند أهل العُرْف وأبناء اللغة بموجب القوانين الثابتة عندهم للمحاورة، وهي قوانين ثابتة متعيِّنة، وإنْ شئتَ عبَّرْتَ بأنه الظهور عند النوع من أبناء اللغة. ومن هُنا يُعْرَف أنه يعقل الشكّ فيه؛ لكونه حقيقةً موضوعية ثابتة، قد لا يحرزها الإنسان، وقد يشكّ فيها.
والظهوران قد يتطابقان، كما عند الإنسان العُرْفي غير المتأثِّر بظروفه الخاصة؛ وقد يختلفان، فيخطئ الظهور الذاتي الشخصي الظهور الموضوعي؛ وذلك إما لعدم استيعاب ذلك الشخص لتمام نكات اللغة وقوانين المحاورة؛ أو لتأثُّره بشؤونه الشخصية في مقام الانسباق من اللفظ إلى المعنى. وموضوع أصالة الظهور لا ينبغي الإشكال في أنه الظهور الموضوعي، لا الذاتي؛ لأن حجّية الظهور بملاك الطريقية وكاشفية ظهور حال المتكلِّم في متابعة قوانين لغته وعُرْفه، ومن الواضح أن ظاهر حاله متابعة العُرْف المشترك العامّ، لا العرف الخاصّ للسامع، القائم على أساس أُنْسٍ شخصيّ وذاتي يختص به، ولا يعلم به المتكلِّم عادةً. وهذا واضحٌ»([47]). وهذه الخصائص لكلّ واحدٍ من الظهورين تناسب ما قلناه سابقاً من أرجحية التعبير بـ (الظهور الشخصي والنوعي)، كما لا يخفى.
وبعد أن تعرَّض إلى كيفية إحراز الظهور الموضوعي بواسطة طريقين، تعرَّض إلى إشكاليةٍ مهمّة ترتبط بقراءة النصوص والتأويل ومعرفة مقاصد الخطاب، فقرَّر أن الحجّية موضوعها الظهور الموضوعي في زمان صدور الكلام والنصّ، لا وصوله؛ والنكتة في ذلك: «أن أصالة الظهور ليست تعبُّدية، بل أصلٌ عقلاني مبني على تحكيم ظاهر حال المتكلّم في الكشف عن مرامه، ومن الواضح أن ظاهر حاله الجَرْي وفق أساليب العُرْف واللغة المعاصرة لزمانه، لا التي سوف تنشأ في المستقبل»([48]).
ومن هنا تُطرح إشكالية كيفيّة إحراز الظهور في زمان الصدور.
وهنا يختلف السيد الصدر عن سائر المحقِّقين من علماء الأصول الذين عالجوا هذه الإشكالية بأصلٍ عبَّروا عنه بأصالة عدم النقل، وقد يُسمُّونه بالاستصحاب القهقرائي. بينما يرى السيد الصدر أن هذا الأصل ليس مستفاداً من دليل الاستصحاب الذي يمثِّل أصلاً عملياً شرعيّاً لتحديد الموقف العملي في حالة الشكّ المسبوق بالعلم، وإنما هو مفاد السيرة العقلائية، ويطلق عليه تسمية أصالة الثبات في الظهورات، وهو شاملٌ للأوضاع اللغوية والظهورات السياقية التركيبية غير الوضعية أيضاً. وقد أبرز النكتة في هذا الأصل فقرَّر قائلاً: «ونكتة هذه السيرة وملاكها بحَسَب الحقيقة نُدْرة وقوع النقل والتغيير وبطئه، بحيث إن كلّ إنسانٍ عُرْفي بحَسَب خبرته غالباً لا يرى تغييراً محسوساً في اللغة؛ لأن عمر اللغة أطول من عمر كلّ فردٍ، فأدّى ذلك إلى أن كلّ فردٍ يرى أن التغيير حادثةٌ على خلاف الطبع والعادة، وحينئذٍ إما أن يفترض أن الأصحاب قد التفتوا إلى احتمال النقل والتغيير في الظهورات السابقة على زمانهم صدوراً ومع ذلك أجرَوْا أصالة الظهور؛ أو أنهم غفلوا عن هذا الاحتمال بالمرّة وعملوا بما يفهمونه من الظهورات. فعلى الأوّل يكون بنفسه دليلاً على حجّية أصالة الثبات شرعاً؛ وعلى الثاني فنفس الغفلة في مثل هذا الموضوع تعرِّضهم لتفويت أغراض الشارع لو لم تكن أصالة الثبات حجّةً، فسكوتُ المعصوم× وعدم تصدّيه لإلفاتهم دليلٌ على إمضاء هذه الطريقة، وكفاية الظهور الذي يفهمه الإنسان في زمانه في تشخيص الظهور الموضوعي المعاصر لصدور الكلام»([49]).
لا يَسَعنا القبول بما ذكره السيد الصدر& من نُدْرة وقوع التغيير في اللغة وبطئه، بل التغيير أمرٌ مُلاحَظ محسوس، فضلاً عن توفُّر نصوص وكلمات لأعلام اللغة وغيرهم تؤكِّد وقوع التغيير في غالبٍ أو كثيرٍ من موارد اللغة، وحينئذٍ هل يبقى لأصالة الثبات موضوعٌ لتجري؟
ولأن اللغوي قد يسهم في تحقيق وتعيين صغرى الظهور تعرَّض السيد الصدر لتحقيق الحال في حجّية قول اللغوي، وبعد ذلك تناول إثبات الظهور بالاستدلال والبرهان.
وهو في هذا العنوان تعرَّض لإشكالية إدخال البحوث الاستدلالية البرهانية في بحث الظهور، برغم كونه مسألةً عُرْفية راجعةً إلى العُرْف والوجدان العُرْفي، لا الصناعة والبرهان. ويُعتبر السيد الصدر بحَسَب متابعتنا المحدودة أوّل مَنْ تعرَّض لهذه الإشكالية في أبحاث الظهور. وقد دافع فيه عن استخدام الصناعة البرهانية في بحوث اللغة، سواء في إثبات أصل الظهور، أو في إثبات صغراه، أو إثبات خصوصية فيه، أو في التنسيق بين الظواهر؛ لكي يقتنص الظهور النهائي الذي عليه مدار الحجّية. وقد حاول السيد الصدر في ذلك أن يجعل من بحث الظهور بحثاً منضبطاً لا يخضع للمزاج الشخصي والدعاوى غير المبرهنة.
ملاحظاتٌ ختاميّة
سافرنا في متابعةٍ تاريخية للبحث في حجّية الظهور والفهم في أروقة علم أصول الفقه الشيعي، بدءاً من أقدم مصنَّفٍ وصلنا في هذا المضمار وحتّى أبرز أعلام مدرسة النجف الحديثة. وقد اتّضحت لنا في ضوء هذه المتابعة الخطوط العامّة والأساسية للبحث في حجّية الظهور، وخطّها البياني صعوداً ونزولاً. ويمكننا في خاتمة مطاف متابعتنا التاريخية أن نضع تلك الخطوط والملامح وما توفَّر من ملاحظاتٍ في مجموعة نقاط:
1ـ بحث الأصوليون حجّية الظهور، سواء بعنوانها الواضح أو بغير عنوانٍ؛ لهدف يتمثَّل في الركون إلى قاعدةٍ أساسية في فهم مداليل الخطابات الشرعية في عملية الاستنباط الفقهي خاصّة، وفي سائر الاستنباطات في أرجاء المعرفة الدينية. فالحديث عن حجّية الظهور حديثٌ عن حجّية فهم النصوص المنضبط بقواعد اللغة والدلالة والعقلاء.
2ـ كان البحث في حجّية الظهور ووجوب التعويل عليه عند متقدِّمي أصوليّي الشيعة، من زمان الشيخ المفيد وحتّى بزوغ مدرسة الحلّة، بحثاً ابتدائياً نيئاً؛ إنْ على مستوى الكمّ؛ وإنْ على مستوى الكَيْف. ويمكننا أن نتحدّث بلغة الأرقام والنِّسَب لنقرِّر أن ما تمّ بحثه في تلك الحقبة لا يشكِّل 10% من أبحاث حجّية الظهور في مدرسة الوحيد البهبهاني ومدرسة النجف الحديثة. وهو تطوُّرٌ لافت ومهمّ.
3ـ لم يتداول في تلك الحقبة المشار إليها في النقطة السابقة مصطلح حجّية الظهور، ولا في الفترة اللاحقة لها متمثِّلة بمدرسة الحلّة. وإنما الراجح أن هذا المصطلح وبهذا التركيب من تركة النزاع الأخباري الأصولي في ظلّ مدرسة الوحيد البهبهاني. وبحَسَب ما وجدناه في نصوص أعلام أصول الفقه فإن أوّل فترةٍ ظهر فيها هذا المصطلح كان عند صاحب هداية المسترشدين والمحقّق القمّي.
4ـ بحلول مدرسة الحلّة بفقهائها وأصوليّيها لم يطرأ تطوُّرٌ ملحوظ على مسألة حجّية الظهور، وإنما استمرّ النَّسَق السابق على حاله، أعني بقيَتْ مسألة حجية الظهور على بساطتها المعهودة. فكأنّ الباحثين والأعلام في تلك المرحلة اعتبروا مرجعيّة الظهور في فهم مراد المتكلِّم أمراً مسلّماً، ثمّ بعد ذلك لم يتعمَّقوا في بحثها وتناول سائر أطرافها؛ ولعلّ من أسباب ذلك نُدْرة وقوع المسألة محلاًّ للإشكال والإثارة.
5ـ بمجيء مؤسِّس الأخبارية الحديثة محمد أمين الإسترآبادي، وما طرحه من إشكالياتٍ وإثاراتٍ، اتّخذ البحث في حجّية الظهور صورةً أكثر حيويّةً من الفترة السابقة عليها. فقد أسهمت إشكالية حجّية الظهور القرآني، التي طرحها الإسترآبادي، بفتح باب الحيوية والتطوير لبحث حجّية الظهور، حيث اتّخذت موقعاً ثابتاً كرُكْنٍ مهمّ في المسألة، يفرض على الباحثين في علم أصول الفقه التعرُّض له واتّخاذ موقفٍ منه.
6ـ في هذه الحقبة بالتحديد، أو بما هو قريبٌ منها، طُرحت لأوّل مرّةٍ إشكالياتٌ ترتبط ببعض جوانب حجّية الظهور وتفاصيلها، دون أن تمسّ أصل الحجّية. وقد كان من جملة تلك الإشكاليات ما طرحه المحقّق القمّي من تفصيل بين المقصود بالإفهام وغير المقصود بالإفهام، فقال بحجّية ظهور الخطاب في حقّ المقصود بالإفهام دون غير المقصود به، فلا يكون ظهور الخطاب بالنسبة إليه مرجعيةً صالحة لمعرفة مراد المتكلِّم، مستنداً في طرحه لهذه الإشكالية إلى مجموعة مبرِّرات، تقدَّمَتْ الإشارة إليها.
وقد فرضت هذه الإشكالية نفسها على البحث الأصولي بقوّةٍ؛ بسبب طرحها من قِبَل محقِّق فذٍّ كالمحقّق القمّي من جهةٍ؛ ولأنها تمسّ دلالات الخطاب الشرعي من كتابٍ وسُنّةٍ بالنسبة إلى غير المعاصرين لزمان الصدور، فاتّخذت محلاًّ ثابتاً في رواق حجّية الظهور كرُكْنٍ مهمّ، تعامل معه أعلام الأصول بجدّيةٍ ونقدٍ. على أن بذور هذه الإشكالية ترجع بالتحديد إلى الشيخ حسن زين الدين العاملي وكتابه المعالم، عندما تحدَّث عن عدم شمول الخطاب لغير المشافهين والمعدومين، وإنْ اتّخذت صورةً أعمق مع المحقّق القمّي.
7ـ كان البحث في الظهور وحجّيته في مدرسة الحلّة وفي الحقبة الزمنية السابقة عليها خالياً من أبحاث الظهور الذاتي والموضوعي (الشخصي والنوعي)، ومن سائر الأبحاث الأخرى، كالتفصيل بين المشافهين وغير المشافهين، واشتراط الظنّ بالوفاق وعدمه، وبعدم الظنّ بالخلاف وعدم اشتراطه، وإشكالية الظهور القرآني. وهذه النقطة بالتحديد تؤكِّد لنا خلوّ إشكالية الإسترآبادي من السند التاريخي في العصر القريب من عصر الأئمّة^ وأصحابهم، وأنها على خلاف السيرة المتّصلة بزمان الأئمّة^.
8ـ لقد شهدت أبحاث حجّية الظهور بشكلٍ خاصّ، فضلاً عن أبحاث علم الأصول ككلّ، تطوُّراً لافتاً مع مدرسة الوحيد البهبهاني وتلاميذه؛ إذ تعمّقت أبحاث حجّية الظهور بشكلٍ لافت، وتوفَّرت على مقاربة الإشكاليات المتعدّدة بروحٍ نقديّة عالية، اختلط فيها الجَدَل بالبرهنة، والعقلي بالنقلي. واستمرّ الحال حتّى مدرسة النجف الحديثة، متمثِّلةً بالأعلام الثلاثة من تلامذة المحقِّق الخراساني (النائيني، العراقي، الإصفهاني)، والعَلَمين من بعدهم: السيدين الخوئي والصدر، رحمهم الله جميعاً.
9ـ في ما يخصّ بيان الوجه التعليلي والحيثية التعليلية للأخذ بالظهور وحجّيته فقد شهدنا أوّل محاولةٍ مع السيد المرتضى علم الهدى؛ إذ يمثِّل كلامه في كتاب الذريعة أوّل نصٍّ بين أيدينا يتوفَّر على بيان الحيثية التعليلية لاتّخاذ الظهور مرجعيةً في تفسير الخطاب وفهمه وبيان مراد المتكلِّم. وقد كانت تلك المحاولة تستند إلى نكتةٍ عقلائيّة في الوضع، واتّخاذ الألفاظ واسطةً في تبليغ وإيصال المعاني والمحتوى الداخلي للإنسان.
ثمّ شهدنا تذبذباً في الاستدلال على حجّية الظهور؛ فبين مَنْ استدل بسيرة العقلاء، إلى مَنْ استدل بالإجماع، والروايات، وإلى مَنْ ركَّب الاستدلال من السيرتين العقلائية والمتشرِّعية، وإلى مَنْ أخرج البحث في حجّية الظهور والعمل به من مسائل علم أصول الفقه التي يبحث فيها عن الدليلية، واعتبرها من أصول قيام الاجتماع الإنساني.
10ـ إن الطابع العامّ في بحث حجّية الظهور من زمان انبثاق مدرسة الوحيد البهبهاني يتمثَّل في تناول بحث الظهور في أركان ثلاثة، هي: هل الحجّية مختصّة بالمقصود بالإفهام أو شاملة لغير المقصود بالإفهام؟ وهل الحجّية مشروطة بالظنّ بالوفاق وبعدم الظنّ بالخلاف أو لا؟ وهل الحجّية شاملةٌ للظهور القرآني أو لا؟ والاتجاه العامّ للباحثين في علم أصول الفقه، منذ زمان الوحيد البهبهاني وحتّى يوم الناس هذا، يؤكِّد الحجّية المطلقة للظهور بالنسبة إلى الأركان الثلاثة بلا فرقٍ. ثمّ جاء السيد الشهيد الصدر وجعل الأركان الثلاثة في بحث الظهور جهةً من مجموع جهاتٍ في بحث الظهور، كما تقدَّم.
11ـ إن ما يقرِّره اتجاه بحثنا، وفقاً للمعطيات المتوفِّرة بحكم المتابعة التاريخية، ورغم ما يعترف به من القفزات والتطوّر الكبير والنضج الذي توفَّر عليه البحث في حجّية الظهور، ولا سيَّما في مدرسة النجف الحديثة، إلاّ أن ثمّة نواقص تحتاج إلى الاستكمال. ولعلّ من أهمّها: عدم التوفُّر على دراسة مستويات الخطاب والفرز بينها، فالخطاب الشفاهي المباشر يختلف عن الخطاب التحريري، ولا يمكن التعامل معهما بميزانٍ وملاك واحد، ولا سيَّما في ما يرتبط بأبحاث القرائن المتّصلة والمنفصلة، واحتمال وجود القرينة، واحتمال قرينية الموجود.
ومن جملة النواقص كذلك افتقاد البحث الأصولي في الدلالة والظهور والفهم لروح البحث المقارن والتلاقي مع الدراسات الحديثة الناضجة في التأويل والهرمنيوطيقا وفلسفة اللغة والألسنيات، ومقاربة مرتكزاتها المعرفية والفلسفية، ودراسة نظرياتها المختلفة في اتجاهاتها الأساسية؛ للخروج بصورةٍ متكاملة متماسكة، مثمرة، تمزج بين الأصالة والمعاصرة، وتنطلق من عمق التاريخ لتعانق روح الحداثة.
الهوامش
(*) باحثٌ وأستاذٌ في الحوزة العلميّة في النجف. من العراق.
([1]) مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول 1: 137، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم، ط1، 1419هـ.
([2]) مصباح الأصول (تقريراً لأبحاث السيد الخوئي، بقلم: محمد سرور البهسودي) 1: 137 فما بعدها، الأصول العملية، ضمن موسوعة السيد الخوئي، الجزء 47.
([4]) المصدر السابق 1: 139 ـ 154.
([5]) المصدر السابق 1: 163 ـ 164.
([6]) مطارح الأنظار 2: 184 ـ 185، تقريرات درس الشيخ الأنصاري، بقلم: أبو القاسم الكلانتري الطهراني، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم، ط3، 1432هـ.
([8]) علي النهاوندي النجفي، تشريح الأصول: 51، منشورات مهر، 1396هـ.
([13]) محمد كاظم الخراساني كفاية الأصول: 281، مؤسّسة آل البيت^ لإحياء التراث ـ قم، ط4، 1427هـ.
([20]) المصدر السابق: 281 ـ 285.
([21]) أجود التقريرات (تقرير بحث الشيخ النائيني، بقلم: السيد أبو القاسم الخوئي) 3: 155 ـ 156، من دون معلومات نشر.
([22]) فوائد الأصول (تقرير بحث الشيخ النائيني، بقلم: الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني) 3: 135، تعليق: الشيخ ضياء الدين العراقي، مؤسّسة النشر الإسلامي ـ قم، 1404هـ.
([24]) المصدر السابق 3: 159 ـ 160.
([26]) المصدر السابق 3: 160 ـ 161.
([27]) الشيخ ضياء الدين العراقي، مقالات الأصول 2: 59 ـ 60، تحقيق: محسن العراقي ومنذر الحكيم، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم، ط1، 1414هـ.
([31]) المصدر السابق 2: 61 ـ 63.
([32]) محمد حسين الغروي الأصفهاني، نهاية الدراية في شرح الكفاية 2: 164، تحقيق: مهدي أحدي مير كلائي، انتشارات سيد الشهداء× ـ قم، ط1، 1374هـ.ش.
([34]) المصدر السابق 2: 166 ـ 168.
([36]) المصدر السابق 2: 168 ـ 169.
([37]) مصباح الأصول 2: 137، تقريراً لأبحاث السيد أبو القاسم الخوئي، بقلم: السيد محمد سرور البهسودي، مؤسّسة الخوئي الإسلامية، ط4، 1430هـ.
([38]) المصدر السابق 2: 138 ـ 142.
([39]) المصدر السابق 2: 142 ـ 146.
([40]) المصدر السابق 2: 146 ـ 152.
([41]) بحوث في علم الأصول 4: 267، تقريراً لأبحاث السيد محمد باقر الصدر، بقلم: السيد محمود الهاشمي، مركز الغدير للدراسات الإسلامية ـ قم، ط2، 1417هـ.
([43]) المصدر السابق 4: 275 ـ 276.
([44]) المصدر السابق 4: 276 ـ 290.