تدفعنا المطالعة القرآنية لنصوص العلاقات الإسلامية ـ الإسلامية للوصول إلى النتيجة التالية، وهي أنّ سلوك كثير من المسلمين اليوم ـ وقبل اليوم أيضاً ـ كان متناقضاً مع المبادئ القرآنية في العلاقات الإسلامية ـ الإسلامية، وأن هذه المبادئ تمّ هدرها اعتماداً تارةً على مبررات تاريخية، وأخرى على نصوص من السنّة المنقولة ـ بصرف النظر عن صدقية تلك النصوص تاريخياً ودلالياً ـ وثالثة على تأسيس مبدأ التكفير الذي خلّص دعاة التمذهب في العالم الإسلامي من الحمولات التي ألقتها النصوص القرآنية في هذا المضمار.
1 ـ وربما لا يكون المجال متاحاً للخوض في القراءة التفسيرية والتأويلية للنصوص القرآنية، وقد كنّا مارسنا هذا الأمر في دراسة أخرى (مجلّة ميقات الحج، العدد: 28)، لكنني سوف أطلّ من خلال العمليات البحثية التي مارسها العلماء المسلمون على موضوعٍ إشكالي في مسألة التقريب بين المذاهب، فهناك الآلاف من الدراسات التي ساهم فيها التقريبيون مشكورين عبر عقود في بناء قاعدة علمية لمشروعهم، كانت هناك دراسات قرآنية وحديثية وتاريخية ونقدية وأخلاقية وغير ذلك مما كان يهدف منه بلورة بناء تحتي متين لمشروع التقريب والوحدة، وعندما نقول: دراسات، نشعر بالانتماء إلى مراكز الأبحاث وصالات المؤتمرات وقاعات البحث والمراجعة.. معنى ذلك أنّنا نقترب من النخبة أكثر من اقترابنا من القاعدة الجماهيرية، فهي ـ من حيث شئنا أم أبينا ـ قراءة نخب تظلّ في غاية الضرورة وغاية الأهمية، لكنّها لا تشكّل بالنسبة للجماهير سوى لحظات في وسائل الإعلام، في برنامج ثقافي هنا أو هناك.
إن الحركة التقريبية صار بإمكانها أن تمثل مركز دراسات بكل ما للكلمة من معنى والحمد لله، رغم وجود بعض المعوقات والنواقص وعناصر الضعف على هذا الصعيد أيضاً، لكنّها لم تأخذ بأسباب القوّة التي تمثلها السلطة الرابعة في المجتمع، أي الإعلام، إنّ الإعلام التقريبي هو إعلام نخب أو أقلّ بقليل، هو كتب ومجلات ونشريات وندوات و.. ربما لأن التقريبيَّ شعر خلال مدة طويلة أنّه يعاني من أزمة شرعية واعتراف به فركّز على الجانب البحثي لتقديم نفسه امتداداً للتراث أو جزءاً من حركة الفكر الإسلامي الأصيل، وربما لأنّ مشكلته كانت مع داخله، أي الداخل المذهبي عند كل فريق منّا، وهنا أليس من الضروري أن نفتح الخط المباشر على القاعدة الجماهيرية بدل أن يظلّ مخاطبنا هو النخب أو المؤسسة الدينية؟ ألم يغدُ ضرورياً اليوم أن تكون للتقريبيين فضائيات تنشر ثقافة التقريب، بدل بعض الفضائيات هنا وهناك التي تنشر ثقافة التمزق في الأمة؟
لو نظرنا قليلاً إلى الفضائيات العربية والإسلامية اليوم التي تعنى بالقضايا الدينية، لوجدنا سعياً حثيثاً عند العديد منها لبث ثقافة الفرقة بين المسلمين، أو استفزاز الطرف الآخر، أو تكفير هذا الفريق لذاك الفريق؛ أو ممارسة شحن طائفي بأشكال مختلفة ومتعددة، حتى غدت بعض الفضائيات ـ مع الأسف الشديد ـ وسيلةً لبعضهم لشنّ حملات على هذا المذهب أو ذاك، وهذا الفريق أو ذاك، وهذه الشخصية أو تلك، فيما الفريق التقريبي يجلس ـ وبيده الكثير الكثير من الإمكانات ـ إمّا صامتاً عن هذه الموضوعات، أو ينطق بكلمات وبرامج خجولة، أو تجري برامج تمزيقية على قنواته من حيث لا يشعر، وهذا ما يدعو إلى يقظة وتنبّه لتقوية الإعلام التقريبي في هذا المضمار، عند الفرقاء المسلمين كافّة، مع حقّ كل فريق في الأمّة أن يكون له إعلامه ووجهة نظره.
2 ـ ولا نقصد بالإعلام التقريبي ذلك الإعلام السلبي فقط، أي الإعلام الذي لا يفتح الملفّات المثيرة في الأمة ولا تجده يسمح بتداول ما يقويّ النـزوع الطائفي السلبي، لا ليس هذا هو المقصود؛ فمثل هذا الإعلام موجودٌ ـ في الجملة ـ والحمد لله، إنما نقصد الإعلام الإيجابي الذي يحيي ثقافة التقريب؛ فليس المهم عندما تريد أن تصلح بين جماعتين مسلمتين أن توصلهما إلى اتفاق هدنة يكفّان فيه عن التراشق بالحجارة أو غيرها، وإنما المهم أن يتقدّم كلّ واحد منهما خطوات نحو الآخر ـ بعد وقف التراشق ـ كي يتصافحا ويتعانقا، فعنصر المبادرة الإيجابية مهم جداً، وليس فقط السكوت وعدم التعليق، فالظواهر السلبية في المجتمع لا تحلّ دائماً بتجاهلها والسكوت عنها، وإنّما بمبادرات عملانية تستطيع اختراقها وتفتيتها، وربما ـ للتشبيه فقط ـ يمكن الاستناد إلى الحديث النبوي القائل: mإذا ظهرت البدع في أمتي فليُظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة اللهn (الكليني، الكافي 1: 54؛ وجاء بمضمون قريب عند السيوطي في الجامع الصغير 1: 115).
3 ـ وعندما نتحدّث عن الإعلام التقريبي، فلا نقصد فقط أن نقصف عقول الناس بالمحاضرات والدروس التي تستخدم الخطاب المباشر، إنمّا الأهم من ذلك هو الخطاب غير المباشر، الذي يحرّك العقل الباطن ويوغل في الذاكرة المطمورة أكثر مما يحاكي السمع والبصر والعقل الظاهر، عنيت برامج تلفزيونية وأفلام تقدّم العلاقة بين الشيعي والسنّي ـ مثلاً ـ لتحفر في العقل الباطن صورةً جديدة لهذه العلاقة تحرّك العواطف وتثير الحسّ الرحيم.
إنّ كل هذه البرامج التلفزيونية والسينمائية والمسرحية والفنية و.. لم تقدّم يوماً ـ فيما نعلم ـ إلا ما شذّ وندر، مشهداً عن علاقة اختلاف بين شخصين ينتميان إلى مذهبين مسلمين لكن يمكنهما التعايش بمحبّة وسلام! ولا ندري لماذا لا يقدم المهتمّون على هذا الأمر؟! لكن الشيء الذي نعرفه أنّ الرقابة في العديد من بلداننا العربية والإسلامية ـ مع الأسف الشديد ـ لا تشجّع على ذلك! بل نحن نعرف بعض المنتجين السينمائيين الذين واجهوا مشاكل في هذا المضمار عندما فكّروا في هذا الموضوع، لكنّ المشاكل ليست ظاهرة غير عادية أمام الرساليين، فعلى المخلصين أن يشدّوا همم بعضهم للتعاون في هذا المضمار، وأن تصرف الأموال في مثل هذا المحلّ الطاهر الذي يقوّي المسلمين ويجعلهم قوّةً في مقابل الأخطار التي تهدّدهم، كيف نروّج لتعايش مذهبي ونحن لا نقبل برامج فنية لعلاقات بين شخصين من مذهبين، سواء كانت علاقات عمل أم صداقة أم حبّ عذري أم زواج أم غير ذلك؟! فليس المهم في التقريب هو الشعارات، وإنّما المطلوب التنفيذ على أرض الواقع، فالوحدة الإسلامية إذا ظلّت شعاراً دون أن تطبّق كانت رياءً ونفاقاً، كما يُنقل عن الإمام الخميني.
4 ـ وفي إطار الحركة الإعلامية ـ وهذا أمر يحتاج إلى جهود كبيرة مع المنظمات الدولية الإسلامية ووزارات التربية والتعليم في الدول الإسلامية ـ نسأل: ماذا تفعل مناهج التعليم في المدارس والجامعات ـ سواء الجامعات ذات الاختصاصات الدينية أم الإنسانية أم الطبيعية أم غيرها ـ على امتداد العالم الإسلامي من طنجة إلى جاكرتا لخدمة التقريب؟ هل المهم أن لا أتهجّم في المنهاج الدراسي على طائفة أخرى ـ وهو عمل مشكور في حدّ نفسه ـ أم المهم أن أقدّم للناشئة شخصية الطرف الآخر وتاريخه بصورة معتدلة؟ لا نزوّر التاريخ والعياذ بالله، ولكن لنقدّمه من زواياه لطلبة المدارس والجامعات، إن موادّ التاريخ والجغرافيا والتربية والدين والفلسفة والأدب وغيرها كلّها قادرة على أن تخدم في هذا المضمار؛ لينشأ طلبتنا على وجود مذهب اسمه المذهب الشيعي في هذا العالم الإسلامي، وعلى وجود المذهب السنّي كذلك، وعلى وجود المذهب الإباضي وغير ذلك من المذاهب الكريمة، لا أن يبدأ يسمع بها بعد تخرّجه من الجامعة، والله أعلم كيف ستكون القناة المعرفية التي توصّل من خلالها للعلم بهذا المذهب أو ذاك. إن إقصاء المذاهب الأخرى ونظرياتها وتاريخها ونقاطها المشرقة في مناهجنا التعليمية الدينية وغير الدينية لهو من أعظم أسباب القطيعة بأشكالها المتعدّدة.
5 ـ وعلى الخطّ عينه، يظهر دور الفنّ والشعر والقصّة والرواية التي تخاطب الأطفال وغيرهم لتحضر في الوعي الجمعي عندهم من ظلّ مغيباً قروناً وقروناً أو ظلّ مشوّهاً كذلك، فيتعرّف فريقٌ هنا على بعض الصحابة الذين لا يعرفهم ظنّاً أن تغييبهم أمرٌ حسن، فيما يتعرّف فريقٌ هناك على أئمة أهل البيت الذين غابوا عن الذاكرة قروناً طويلة، أو حضروا بلون باهت؛ ففي عالم القصّة والرواية والفنّ بألوانه نستطيع تشكيل الوعي الجديد لدى بعض طبقات المجتمع على الأقل.
إنّنا نقترح أن تشكّل مجموعة من الأدباء والشعراء والروائيين والمؤرّخين كي يكتبوا أكثر من سلسلة للقارئ السنّي تعرّفه بأئمة أهل البيت وأصحابهم الكبار وبسائر العلويين كلّهم وتجربتهم التاريخية، مستثنين له من يراهم أعداءً لأهل السنّة والجماعة، وأكثر من سلسلة أيضاً للقارئ الشيعي تعرّفه بالكثير من الصحابة والتابعين الذين لا يراهم الشيعي أعداءً لأهل البيت، فبين الصحابة العشرات وربما المئات من الذين كانوا مع علي× في صفين والنهروان والجمل، فيُحيا ذكرهم وتجربتهم في المجتمع الشيعي، وليُحيا الحديث عن أئمة أهل البيت عند الطوائف الشيعية مع زيد بن علي والصادق والباقر وزين العابدين ^ وغيرهم في الوسط السنّي، وفي كلمات الفرقاء ما يساعد على مشاريع من هذا النوع؛ فجعفر الصادق لا يُسأل عن مثله، كما ينقل ابن أبي حاتم الرازي عن أبيه (الجرح والتعديل 2: 487), والصادقُ أحدُ السادة الأعلام، كما يقول الذهبي (تذكرة الحفاظ 1: 166)، والصحبة نحو مدح؛ فكلّ صحابي ممدوح إلا ما قام الدليل على ذمّه أو شهدت القرائن بقدحه، كما يقول الحرّ العاملي في رسالته المعروفة (رسالة في معرفة أحوال الصحابة: 1). مع حقّ كلّ فريق أن يبدي رأيه في الرجال والتراث ـ نقداً وتمحيصاً ـ مادام يعمل وفق القواعد العلميّة والأخلاقية النزيهة.
وأخيراً، كلّ اتصال بين طرفين يتخاطبان يحتوي على أربعة عناصر أساسية:
1 ـ المرسِل الذي يخاطِب، والذي يشكّل العنصر المبادِر في الخطاب. 2 ـ المتلقّي الذي تصله الرسالة، ويمثل العنصر المنفعل في الحالة العادية. 3 ـ الرسالة التي هي خطاب المرسل للمتلقّي. 4 ـ خطّ الاتصال، وهو الحامل الطبيعي للرسالة من المرسل إلى المتلقّي. وأعتقد أنّ المرسل هنا ـ وهو رجال التقريب والنهضة والريادة في الأمّة على تياراتهم وانتماءاتهم منذ الأفغاني وعبده والأمين إلى الخميني وشلتوت وشمس الدين و.. ـ أرسلوا الكثير من الأفكار والخطابات للأمة، وجزاهم الله عن هذه الأمة وعن الإسلام خير جزاء المحسنين، كما لا أظنّ أن المتلقّي ـ وهو هذه الأمّة ـ منعت وصول الرسالة إليها، فلم يكن المسلمون كقوم نوحٍ ليضعوا أصابعهم في آذانهم ويستغشوا ثيابهم، بل هي أمّة تحبّ الخير وتعشق خدمة هذا الدين، ولم تكن الرسائل بالقليلة بل كانت كثيرة، وكثير منها غنيّ بالمضامين والأفكار والحمد لله، إنّما المشكلة ـ في أحد أبعادها الأساسية ـ تكمن في خطّ الإرسال الذي قطع تارةً من طرف بعض السلطويين السياسيين وغير السياسيين في الأمّة، ومن أنّنا خاطبنا الأمة على خطّ اتصال لا يربطنا بها بتمام شرائحها، وهو خطّ الاتصال النخبوي، وغبنا عن سائر خطوط الاتصال الأساسية التي يمكنها أن توصل أصواتنا إلى جمهور المسلمين.
>وَقُلْ لِعِبَادِيْ يَقُوْلُوا الّتي هِيَ أحْسَنُ إنَّ الْشَّيْطَاْنَ يَنْزَغُ بَيْنَهُم إنَّ الْشَّيْطَاْنَ كَانَ لِلإنْسَانِ عَدُوَّاً مُبِيْنَاً< (الإسراء: 53).
(*) نص الكلمة التي ألقيت في المؤتمر الحادي والعشرين للوحدة الإسلامية في طهران ربيع عام 2008م، ثم نشرت في العدد 50 من مجلة المنهاج في بيروت، صيف 2008م.