د. أبو القاسم فنائي(*)
«تَخَلَّقوا بأخلاق الله»([1]).
1ـ مدخلٌ
إن صفة «الشاهد المثالي»([2]) من أهمّ صفات الله. إن بعضاً من صفات الله تحظى بأهمّيتها على المستوى النظري (الكلامي والفلسفي)، إلاّ أن صفة الشاهد المثالي تحظى بأهمّية قصوى على المستوى العملي والأخلاقي أيضاً، إذا لم نقُلْ: إن أهمّية هذه الصفة العملية أكبر بكثيرٍ من أهمّيتها النظرية. إن النزعة اللاهوتية والنزعة الإنسانية، وتَبَعاً لهذين المفهومين الأخلاق الدينية والأخلاق العلمانية، تلتقيان في نقطةٍ واحدة، وهي نقطة الاعتراف بالشاهد المثالي بوصفه «حكم الأخلاق». وإن اختلاف مقتضيات هاتين القناتين والمنظومتين الأخلاقيتين إنما يمكن حلُّه بشكلٍ مناسب من خلال الرجوع إلى الشاهد المثالي، والإذعان لحكمه.
إن الإيمان والاعتقاد بالله بوصفه شاهداً مثالياً يحظى بالنسبة لنا كمسلمين بأهمّيةٍ مضاعفة؛ لأن الإسلام يعني التسليم والإذعان أمام الله سبحانه بشكلٍ مطلق([3])، وإن التسليم المطلق لله سبحانه إنما يمكن تبريره من الناحية الأخلاقية والعقلانية إذا آمنّا به بوصفه شاهداً مثالياً. ولذلك فإن صفة الشاهد المثالي تمثِّل في الحقيقة جزءاً من تعريف الإسلام، أو افتراض معقوليته من الناحية الأخلاقية. طبقاً لهذا التحليل فإن الإسلام يعني الإذعان والاستسلام لحكم الشاهد المثالي، والمسلم يعني الشخص الذي لا يستسلم في أحكامه وقراراته وفي أقواله وأفعاله إلاّ لحكم الشاهد المثالي. وإن الكافر أو المشرك يعني الشخص الذي يذعن في هذه الموارد لأحكام الآخرين، ويحلّهم محلّ الله، أو يجعلهم شركاء له([4]).
كما أن نظرية الشاهد المثالي تضع بين أيدينا تفسيراً صحيحاً لطبيعة وماهية الأحكام الأخلاقية، والعلاقة القائمة بين الدين والأخلاق، أو العلاقة بين الله والأخلاق، وتحلّ مفارقة الأخلاق الدينية بالشكل المطلوب، كما ترشدنا على المستوى العملي إلى الجهة التي يجب التوجُّه إليها في مقام الهداية الأخلاقية. كما تلعب هذه النظرية دَوْراً هامّاً في شرح وتفسير بعض أهمّ التعاليم الدينية([5]).
نرى أن من بين التغييرات الجوهرية التي يجب أن تحدث في علم الفقه وأصول الفقه هو استبدال نموذج العبد والمولى بنموذج الشاهد المثالي. إن نموذج العبد والمولى هو النموذج الذي يعمل على توجيه الفقهاء ويلهمهم في تنظيم علاقة الإنسان بالخالق، وتعيين تكليف الإنسان ومسؤوليته تجاه الخالق، واكتشاف حكمه وإرادته التشريعية. وهذا هو الأسلوب المهيمن والسائد في الأبحاث الفقهية.
وبطبيعة الحال إن هذا الاستبدال إنما يعني مجرَّد تقديم حكم «إله الأخلاق» على حكم «إله الفقه»، أو حكم الله بوصفه شاهداً مثالياً على حكم الله بوصفه شارعاً، وأن العقلانية الأخلاقية متقدِّمة على العقلانية المصلحية. إن هذا الاستبدال لا يعني الإلغاء الكامل للعقلانية المصلحية، أو إنكار الإله الشارع، أو إنكار وجوب اتّباع الأحكام الشرعية الصادرة عن إرادة الإله الشارع. إن هذا الاستبدال إنما يعني مجرّد الاعتراف بالإطار الأخلاقي للشريعة.
2ـ الله بوصفه شاهداً مثاليّاً
يتمّ وصف الله في النصوص الدينية بصفاتٍ من قبيل: «خير الحاكمين»، و«أحكم الحاكمين»، أو الموجود الأوحد الذي يمتلك صلاحية إصدار الأحكام([6])، وتأمر المؤمنين بأن يجعلوا الله رقيباً وشاهداً على أقوالهم وأفعالهم، وأن يحذروا حكمه وحسابه، وأن يجتنبوا مخالفة أوامره. كما تعمل هذه النصوص على توجيه المؤمنين إلى الرجوع في موارد الاختلاف إلى الله ورسوله([7]). نعتقد أن جميع هذه التعبيرات تدلّ على أن الله شاهدٌ مثاليّ، ولكنْ حيث هناك افتقارٌ إلى نظرية واضحة وجامعة ومنسجمة في مجال توصيف الله بوصف الشاهد المثالي لا يتمّ تفسير هذه النصوص بشكلٍ صحيح، ويتمّ حمل حضور الله وإشرافه على أن نتيجة هذا الحضور والإشراف في هذه الدنيا سوف تتجلّى في عالمٍ آخر على شكل مكافآت وعقوبات، وكأنّ حضور الله في هذه الدنيا إنما يهدف إلى جمع المعلومات عن سلوكيّات الناس، تمهيداً لاستخدامها وتوظيفها كوثائق ومستندات لإصدار الأحكام العادلة من قِبَله في يوم القيامة. في حين أن حضور الله وإشرافه إنما يعني أوّلاً وبالذات إصدار الأحكام الأخلاقية الفعلية والراهنة، ولذلك كانت التعاليم الدينية تدعو الإنسان إلى جعل الله نصب عينيه دائماً وأبداً؛ ليتعرّف من خلال ذلك على حكمه الأخلاقي في جميع حركاته وسَكَناته. عندما نقول: إن الله شاهدٌ مثاليّ فإن الثمرة الأولى والأهمّ التي تترتَّب على وصف الله بهذا الوصف هو القول بأنه الذي يمتلك صلاحية الحكم والتوجيه في ما يتعلَّق بالموضوعات الأخلاقية، وأنه هو الذي يتعيَّن علينا الرجوع إليه لتحديد الحقوق والتكاليف المترتِّبة علينا وعلى الآخرين. يمكن لموضوع الحكم الأخلاقي أن يكون هو السلوك الفردي والجماعي، أو الخصائص النفسية والشخصية، أو أسلوب وطريقة الحياة، أو الأهداف والغايات، أو المؤسّسات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية وما إلى ذلك، أو القوانين الناظمة للعلاقات الاجتماعية، وكذلك البحث والتفكير أيضاً.
وعلى هذا الأساس فإن الثمرة الأولى والأهمّ لوصف الله بهذا الوصف تظهر قبل العمل، وفي مقام معرفة وتبرير الحكم الأخلاقي، وفي مقام اتّخاذ القرار. وإن الذين تتمّ تبرئتهم يوم القيامة هم الذين أذعنوا لأحكام الشاهد المثاليّ في الدنيا (أي في وقت العمل)، وقاموا بتنظيم قراراتهم وأفعالهم على أساس أحكامه. وفي الحقيقة إن وصف الله بهذه الصفة يعني الاعتراف به بوصفه مصدراً للمعرفة الأخلاقية، والتبرير المعرفي للمعتقدات الأخلاقية. كما أن النجاة والفلاح في الآخرة ـ بطبيعة الحال ـ رهنٌ بهذه المعرفة والتبرير أيضاً. يجب أن لا نأخذ الله ـ في ما يتعلَّق بأعمال الناس وسلوكياتهم ـ بوصفه قاضياً في محكمةٍ، يؤدّي دَوْره بعد وقوع الجريمة؛ ليحكم على طبق الأدلة وشهادات الشهود. وبطبيعة الحال فإن الله يؤدّي مثل هذا الدَّوْر، بَيْدَ أن أهمّية صفة الشاهد المثاليّ تأتي من أن حكمه إنما يكون قبل وقوع الفعل، وفي مقام اتخاذ القرار، وتعيين الحكم الأخلاقي للعمل، ويكون منشأً للأثر في هذا المقام.
إن التأكيد الشديد في النصوص الدينية على «التقوى»، واعتبار التقوى الإلهية أمّ الفضائل والقِيَم، إنما ينشأ من هذه الحقيقة؛ إذ إن دَوْر التقوى ليس مجرّد دَوْر «تحفيزي»، بل إن الدَّوْر الأهمّ هو الدَّوْر الذي تلعبه التقوى في «معرفة» القِيَم الأخلاقية. وإن أهمّ ثمرةٍ تترتَّب على التقوى هي «البصيرة الأخلاقية»([8]). إن التقوى تعمل على تنمية الشعور والوجدان الأخلاقي لدى الفرد، وتثري تجربته الأخلاقية، وتجعله يرى ويسمع أشياء يعجز الآخرون عن رؤيتها وسماعها. وإن الثمرة الأولى للتقوى في دائرة الأخلاق تظهر في مجال «المعرفة»، لا في مجال «علم النفس»، بمعنى أن الثمرة النفسية للتقوى تترتَّب على ثمرتها المعرفية.
وإن تأكيد النصوص الدينية على الخشية من الله، وأن هذه الخشية مصدرٌ للحكمة، لا يمكن له أن يعني شيئاً آخر غير القول بأن إدراك القِيَم والحقوق والتكاليف الأخلاقية إنما يأتي في ظل التقرُّب من الله، الذي هو الشاهد المثاليّ([9]).
مضافاً إلى ذلك، بعد القول باتّصاف الله بصفة الشاهد المثاليّ يكتسب الذنب ـ الذي يمثِّل مفهوماً دينياً هامّاً ـ معنىً ومساحة جديدة، ولا يُختَزَل بمخالفة أوامر الإله الشارع، وإنما يشمل مخالفة أوامر الشاهد المثاليّ (أي إله الأخلاق) أيضاً.
إن الله «مالكٌ» لجميع الوجود، وإن الإنسان «مملوكٌ» له. ولكنْ كما رأينا وسنرى فإن نموذج المَوْلى والعبد ليس هو النموذج المناسب لتنظيم العلاقة والارتباط بين الله والإنسان؛ وذلك لأن مجرّد مالكية الله ومجرّد مملوكية الإنسان ـ التي هي من الواقعيات العينية غير المعيارية ـ لا يمكن له أن يشكِّل قاعدةً لتبرير آمرية وحاكمية الله ووجوب إطاعة أوامره بشكلٍ مطلق([10]). وإن الدليل الجوهري والحاسم على وجوب إطاعتنا لأوامر الله لا يكمن في كون الله مَوْلى ومالكاً لنا، أو لأننا مملوكين وعبيداً له؛ إذ ليس هناك من دليلٍ أخلاقي يدلّ على وجوب إطاعة كلّ عبدٍ لأوامر كلّ مَوْلى ومالك بشكلٍ مطلق.
إن النموذج المناسب الذي يمكن على أساسه تنظيم العلاقة بين الإنسان والخالق هو النموذج الذي يكون فيه الله شاهداً مثالياً، والإنسان خليفة له، وليس نموذج المالك والمملوك، أو نموذج المولى والعبد. إن الله إنما تجب إطاعته لأنه يمتلك صلاحية وأهليّة وكفاءة إصدار الأحكام، بمعنى أنه يمتلك خصائص ومؤهِّلات هي التي تجعله مخوَّلاً من الناحية الأخلاقية في إصدار الأوامر والنواهي، ونحن لأجل هذه الخصائص والمؤهِّلات مكلَّفون من الناحية الأخلاقية باتّباع أوامره ونواهيه([11]). وإن هذا التكليف هو تكليفٌ أخلاقي.
لا شَكَّ في أن الإنسان عبدٌ لله أيضاً، بَيْدَ أن عبودية الله إنما تعني إطاعة أوامر الشاهد المثالي، ولا تعني العبودية للخالق أو المالك المفتقر إلى الفضائل الأخلاقية، والفاقد للصلاحيات اللازمة لإصدار الأحكام. إن إطاعة الله المشرِّع إنما تكون مقبولةً ومشروعة ومسموحاً بها إذا كانت أوامره ونواهيه منسجمةً ومتناغمة مع أوامر ونواهي الشاهد المثاليّ، بمعنى أن حكم الله بوصفه شاهداً مثاليّاً (إله الأخلاق) مقدَّمٌ على حكم الله الشارع (إله الفقه). وبعبارةٍ أخرى: إن الولاية التشريعية للإله الشارع على الإنسان إنما يمكن تبريرها في طول حكم الشاهد المثاليّ فقط، وليس من خلال إرجاع ذلك إلى كون الله من الناحية التكوينية خالقاً ومالكاً للإنسان. إن الولاية التشريعية لله لا علاقة لها بولايته التكوينية، ولا تنبثق عنها، ولا تُستَنْتَج منها، بمعنى أن مجرَّد الخالقية أو المالكية لله ـ ما دامت غير منضمّةٍ إلى حكم الشاهد المثالي ـ لا تكون مصحِّحةً لولاية الله المشرِّع على الإنسان، وإن الذين يتمسَّكون بخالقية الله ومالكيّته؛ لإثبات وجوب الطاعة له على الإنسان، لا يكون استدلالهم تامّاً؛ لأن وجوب إطاعة الخالق ليست ضروريةً، ولا بديهية. وإن حقّ المالكية وإنْ كان حقّاً أخلاقياً، إلاّ أن هذا الحقّ ليس مطلقاً، بمعنى أن الخالق ـ من الناحية الأخلاقية ـ لا يحقّ له أن يتصرَّف في مخلوقه بشكلٍ تعسُّفي ومزاجي، ولا يحقّ أن يطالبه بأيّ تكليفٍ، ولا المالك يحقّ له ذلك. من هنا فإن الولاية التشريعية للإله الشارع مقيَّدةٌ بالقِيَم الأخلاقية.
إن التوحيد في العبادة يعني إطاعة أوامر الشاهد المثالي. وإن الناحية السلبية من التوحيد تعني نفي عبادة غير الله، ونفي إطاعة أوامر الشاهد غير المثاليّ. وإن الهداية الأخلاقية لله تنبثق عن هذه الحقيقة، وهي أنه شاهدٌ مثاليّ. وإن طلب الهداية الأخلاقية من الله ليس له من معنى غير الرجوع إلى الشاهد المثاليّ في مقام تشخيص الحكم الأخلاقي. إن اختصاص الله وتفرُّده في صلاحية الحكم إنما يأتي لأنه المصداق الأكمل والأتمّ للشاهد المثاليّ، وليس لأنه الخالق والمالك لعالم الوجود من الناحية التكوينية.
كما أن وجوب إطاعة أوامر الأنبياء والأئمّة يأتي من أنهم قريبون من الله بوصفه شاهداً مثاليّاً. وإن قرب الإنسان من الله يظهر جليّاً في معرفته وتشخيصه الأخلاقي، وفي أقواله وسلوكياته أيضاً، فكلُّ مَنْ كان أقرب من إله الأخلاق (الشاهد المثاليّ) كان في حكمه الأخلاقي أكثر إصابةً، وأكثر نجاحاً في تمسُّكه بالقِيَم الأخلاقية. إن المعيار في قُرْب الإنسان وبُعْده من الله يكمن في معرفته والتزامه وتعهُّده([12]) الأخلاقي. وعليه ليس للتقوى والوَرَع من معنىً غير رعاية أحكام الشاهد المثاليّ، واتّباعه في مقام العمل. وحيث إن الله شاهدٌ مثاليّ فإن حلاله وحرامه الشرعي لن ينقض القِيَم الأخلاقية، ولذلك لا يمكن لنا أن ننسب أيَّ حكمٍ غير أخلاقيّ إلى الله.
وبطبيعة الحال إن لله ـ بوصفه خالقاً ومالكاً ومُنْعِماً ـ حقوقاً وصلاحيات من الناحية الأخلاقية. إن لكلٍّ من الخالق والمالك الحقّ في إصدار الأوامر والنواهي إلى مخلوقه ومملوكه، ونحن من جهتنا مكلَّفون بإطاعة أوامر ونواهي الله بوصفه خالقاً ومالكاً ومنعماً علينا، إلاّ أن كلاًّ من أصل أمر الله ونهيه بوصفه خالقاً ومالكاً ومنعماً، وكذلك الأسلوب والمضمون والمحتوى لذلك، في معرض تقييم الحكم الأخلاقي، كما أنه محكومٌ للقِيَم والواجبات والمحظورات الأخلاقية. إن خالقية ومالكية وإنعام الله لا تثبت له الحقّ في أن ينقض أو يتجاهل القِيَم والضرورات والمحظورات الأخلاقية، كما أن الله؛ لاتصافه بالصفات الأخلاقية، يحترم هذه القِيَم والضرورات والمحظورات.
تنقسم أوامر الله وتعاليمه إلى نوعين، وهما: «الأوامر الأخلاقية»؛ و«الأوامر الشرعية». وإن الأوامر الأخلاقية تصدر عن إله الأخلاق أو الإله الحكيم أو الله بوصفه شاهداً مثاليّاً، في حين أن الأوامر الشرعية تصدر عن إله الفقه أو الله بوصفه مشرِّعاً أو مالكاً. وعلى هذا الأساس، من خلال القول بالرؤية الدينية، يمكن القول بتقدُّم الأخلاق على الدين، بمعنى أن أوامر وتعاليم «إله الأخلاق» متقدِّمة على أوامر وتعاليم «إله الفقه». وحيث إن الله شاهدٌ مثاليّ فإن أحكامه الشرعية لا تنقض أحكامه الأخلاقية، دون العكس. إن للشريعة إطاراً أخلاقياً، وإن الله لا ينقض الأحكام الأخلاقية استناداً إلى خالقيّته أو مالكيّته أو منعميّته أو ولايته وشارعيّته، ومن طريق أَوْلى لا يجيز لغيره أن ينقض هذه الأحكام الأخلاقية.
إن للأحكام الشرعية مبادئ متنوِّعة، فبعضها:
1ـ وضع لغاية الحفاظ على القِيَم والإلزامات الأخلاقية. وإنما يمكن القول في خصوص هذا المورد: إن هناك ملازمةً بين حكم العقل وحكم الشرع. بَيْدَ أنّ
2ـ بعض الأحكام الشرعية تنبثق عن المصالح والمفاسد النوعية؛
3ـ وبعضها ينبثق عن المصالح والمفاسد الفردية؛
4ـ وبعضها ينبثق عن المصالح والمفاسد الغيبية والأخروية؛
5ـ وبعضها ينبثق عن المصالح والمفاسد الدنيوية.
6ـ وأحياناً تكون المصلحة في ذات الحكم، وليست في متعلَّقه.
7ـ إن الكثير من الأحكام هي مجرَّد إمضاء للأعراف السائدة في عصر بعَيْنه.
8ـ هناك من الأحكام ما يُفْرَض على الدين من خارجه.
وعلى كلّ حالٍ فإن الشريعة في اللوح المحفوظ خاليةٌ من الأحكام المخالفة للأخلاق.
3ـ الشاهد المثالي والأخلاق الدينية والأخلاق العلمانية
بعد القول والالتزام بنظرية الشاهد المثاليّ يحدث نَسَقٌ جديد في الاختلاف بين الأخلاق الدينية والأخلاق العلمانية أيضاً، كما يتمّ حلّها بالشكل المطلوب، بمعنى أنه يمكن القول بأن هذا الاختلاف يعود في حقيقته إلى كون الشاهد المثاليّ في مجال الأخلاق هو «الله» أو «الإنسان»، وأن الحكم الأخلاقي أو الحكم الأخلاقي المبرَّر هل يصدر عن الله أم عن الإنسان من حيث كونه عاقلاً؟
إن لهذا الاختلاف طرفان: «أنطولوجي»؛ و«معرفي».
وإن السؤال من الناحية الأنطولوجية هو:
1ـ ما هي علاقة ونسبة «إرادة وحكم الشاهد المثاليّ» (إله الأخلاق) إلى إرادة وحكم الإله المشرِّع (إله الفقه)؟
2ـ «عند التعارض بين إرادة وحكم هذين الإلهين أيهما يكون هو المقدَّم؟ فهل التقدُّم يكون لحكم وإرادة إله الأخلاق أو لحكم وإرادة إله الفقه؟».
أما السؤال من الزاوية المعرفية فهو:
3ـ «ما هي علاقة ونسبة معرفة وتبرير الأحكام المعبِّرة عن إرادة وحكم إله الأخلاق إلى معرفة وتبرير الأحكام الناظرة إلى إرادة وحكم إله الفقه؟».
4ـ و«عند التعارض بين هذه الأحكام أيُّها يكون هو المقدَّم على غيره؟».
إن السؤالين الأول والثاني يتعلَّقان بالميتافيزيقا أو أنطولوجيا الأخلاق والفقه، والسؤالين الثالث والرابع يرتبطان بمعرفة الأخلاق والفقه. وبعبارةٍ أخرى: إن السؤالين الأوّلين ينظران إلى مقام الثبوت؛ وأما السؤالان الأخيران فينظران إلى مقام الإثبات.
وسوف نتناول هذه الأسئلة من خلال العناوين التالية:
أـ دَوْر الشاهد المثاليّ في «ميتافيزيقا» الأخلاق والفقه
إن نظرية الشاهد المثاليّ ـ كما هو واضحٌ ـ هي أوّلاً وبالذات نظريّةٌ معرفية. إن هذه النظرية لا تفترض رؤيةً خاصة في مجال ميتافيزيقا الأخلاق أو أنطولوجيا القِيَم والمعايير والضرورات والمحظورات الأخلاقية، بمعنى أنها تنسجم مع «النزعة المعرفية»([13])، ومع «النزعة اللامعرفية»([14])، وحتّى مع بعض أنواع النزعة التشكيكية في مجال الأخلاق أيضاً. يمكن القول: إن الجُمَل الأخلاقية جُمَلٌ معرفية([15])، وناظرةٌ إلى الواقع([16])، وقابلةٌ للصدق والكذب، إلاّ أن إدراك هذه الجُمَل ومعرفتها إنما يكون من خلال الرجوع إلى الشاهد المثاليّ. طبقاً لهذه الرؤية تكون الأحكام الأخلاقية التي يُصدرها الشاهد المثاليّ كاشفةً عن القِيَم والضرورات والمحظورات الواقعية والذاتية.
ومن ناحيةٍ أخرى يمكن القول: إن الجُمَل الأخلاقية جُمَلٌ إنشائية واعتبارية، إلاّ أن الإنشاء والاعتبار الأخلاقي يختلف عن الإنشاء والاعتبار غير الأخلاقي، أو أن الإنشاء والاعتبار الأخلاقي المبرَّر والمعتبر هو غير الإنشاء والاعتبار الأخلاقي غير المبرَّر وغير المعتبر. وإن مضمون ومفاد هذه الجُمَل إنما يُعَدّ أخلاقياً أو مبرَّراً ومعتبراً إذا كانت صادرةً عن الشاهد المثالي. وعلى هذا الأساس يمكن أن نرصد دَوْراً للشاهد المثاليّ في وجود وتحقُّق «الواجب» و«المحظور» والأمر والنهي والإلزام الأخلاقي، بمعنى أنه لو قال شخص بأن وجود القانون الأخلاقي يفترض وجود مشرِّعٍ خاصّ يمكن له بل لا مناص له من القول بأن هذا المشرِّع والمقنِّن هو الشاهد المثاليّ.
إن حكم الشاهد المثاليّ في الأخلاق حكمٌ «إرشادي»، وليس حكماً «تشريعياً» و«مولوياً». وإن الشاهد المثالي يمكنه؛ لبيان أو إبراز حكمه، أن يستعمل مختلف التعابير والقوالب اللغوية المتنوِّعة؛ لأن لغة الأخلاق هي في الأساس لغةٌ متعدّدة، ولها آليات ووظائف متنوِّعة، ويمكن من خلال هذه اللغة القيام بمختلف الأفعال القولية.
تنقسم الأحكام الأخلاقية بلحاظ «المضمون» و«الآلية» إلى قسمين:
1ـ أحكام أخلاقية خبرية.
2ـ أحكام أخلاقية إنشائية.
إن الأحكام الأخلاقية الخبرية ناظرةٌ إلى الواقع، وتكشف وتتحدّث عن واقعية عينية أو ذهنية، إلاّ أن رؤية أو إدراك هذه الحقائق رهنٌ بحصول العديد من الشرائط، ومن أهمها:
1ـ النظر إلى الموضوع مورد البحث من زاوية المشهد الأخلاقي.
2ـ الاتّصاف بالفضائل المعرفية والأخلاقية.
3ـ امتلاك المعلومات الكافية بشأن الحقائق ذات الصلة.
4ـ التمتّع بالحكمة والبصيرة الأخلاقية.
5ـ الإنصاف والحياد.
وإن هذه الخصائص هي ذات خصائص الشاهد المثالي.
إن الأوصاف والخصائص والعلاقات الأخلاقية الواقعية، برغم واقعيتها وعينيتها، لا وجود لها. إن هذه الرؤية تفترض أن «عالم الواقع» أوسع من «عالم الوجود»([17])، وتقول: إن كلّ ما له «واقعية» ليس من الضروري أن يكون له «وجود»، وإن كان كلّ ما له «وجود» له «واقعية» حَتْماً. إن القضايا السلبية والصادقة الناظرة إلى الواقع تخبر عن عالم الخارج، ويكون لمضمونها واقعية، ولكنْ لا وجود لها، كما هو الحال بالنسبة إلى الأعداد والمعادلات الرياضية، وكذلك المعايير المنطقية، حيث لها واقعية، بينما لا وجود لها في عالم الخارج([18]).
إن الجُمَل والأحكام الأخلاقية الخبرية ناظرةٌ إلى الواقعيات الأخلاقية الكامنة وراءها، وإن ربطَ هذه الجُمَل والأحكام بتلك الواقعيات دليلُ تبرير القول بها. وإن دَوْر الشاهد المثالي في ما يتعلَّق بهذه الأحكام هو دَوْر «الكاشف» و«المُخْبِر»، وليس دَوْر «الواضع» و«المعتبر».
إلاّ أن الأحكام الأخلاقية الإنشائية تبيِّن أو تبرِّر عواطف ومشاعر وميول وإرادات الشاهد المثالي، وإن اختلاف الشاهد المثالي عن غيره من هذه الناحية يكمن في أن عواطفه ومشاعره وميوله وإراداته أخلاقية وعقلانية، وليست اعتباطية وغير منضبطة ولا تخضع للمعايير ومنفصلة عن الواقعيات ذات الصلة، بل هي تابعةٌ لتلك الواقعيات، ومنبثقة عنها.
يلعب الشاهد المثاليّ في هذا النوع من الأحكام الأخلاقية دَوْر الواضع والمعتبر، وبهذا المعنى فإن الضرورات والمحظورات والإلزامات والتكاليف الأخلاقية تنبثق عن أمر ونهي الشاهد المثاليّ، رغم أن أمر ونهي وإنشاء الشاهد المثاليّ «إرشادي»، وليس «مولوياً». وإن الواقعيات التي تبرّر عواطف الشاهد المثالي ومشاعره وإراداته وأوامره ونواهيه تختلف عن الواقعيات التي تشكِّل أرضيةً ومستنداً لإرادة الإله المشرِّع في جعله الأحكام الفقهية. ولذلك فإن الحكم الأخلاقي لا يقبل التحوُّل أو النزول إلى مستوى الحكم الشرعي والفقهي.
يمكن تقسيم الجُمَل الأخلاقية من ناحية نوع «النشاط القولي»([19]) الذي يمارسه المتكلِّم من خلال استعماله لتلك الجُمَل إلى مختلف الأقسام، إلاّ أن هذا التقسيم قبل أن يكون تابعاً لمضمون الألفاظ والعبارات الأخلاقية تابعٌ لقصد المتكلِّم([20]) من استعماله لهذه المفردات والكلمات. يبدو أن الجُمَل المشتملة على الأمر والنهي إنما يمكن استعمالها لـ «الإنشاء» و«الأمر»، وإن دلالة هذا النوع من الجُمَل على الواقعيات دلالةٌ التزامية. وأما الجُمَل المشتملة على الحُسْن والقُبْح والصواب والخطأ والوجوب والحظر فيمكن استعمالها في «الإخبار» و«الإنشاء» و«الاعتبار»، وإن خبرية أو إنشائية أو اعتبارية هذا النوع من الجُمَل تابعةٌ لقصد المتكلِّم، وليست تابعةً للمدلول المطابقي لها.
لنأخذ جملة «الصدقُ حَسَنٌ» على سبيل المثال. إن هذه الجملة يمكن استعمالها بقصد القيام بالأنشطة القولية التالية:
1ـ بيان واقعية خارجية (آفاقية)، ونسبة الحُسْن ـ بوصفه صفةً عينية وواقعية ـ إلى الصدق.
2ـ بيان واقعية داخلية (أنفسية)، والإعلان عن حُسْن الصدق.
3ـ تحسين الصدق، والإعراب عن المَيْل والنزعة العاطفية والمشاعر الأخلاقية الإيجابية تجاه الصدق.
4ـ اعتبار الحُسْن للصدق، وتعليق الميول والعواطف والمشاعر الداخلية على العالم الخارجي.
5ـ خلق الدافع لدى المخاطب وتحفيزه نحو الصدق.
إلاّ أن المهم هنا هو أن القضية القائلة: «الصدقُ حَسَنٌ» إنما يمكن تبريرها واعتبارها بوصفها حكماً أخلاقياً أو حكماً أخلاقياً مبرَّراً إذا كان هذا الحكم:
1ـ صادراً عن المشهد الأخلاقي.
2ـ مبيِّناً أو مبرِزاً لحكم الشاهد المثاليّ([21]).
بمعنى:
1ـ إذا كانت جملة «الصدق حَسَنٌ» مستعملةً بقصد الإخبار عن الحُسْن الأخلاقي بوصفه صفةً واقعية وموضوعية([22]) ففي هذه الحالة يكون الحُسْن الأخلاقي صفةً غير قابلةٍ للكشف إلاّ من خلال «المشهد الأخلاقي»، وإن «الشاهد المثالي» هو وحده ـ أو مَنْ يقف موقفه ـ القادر على إدراكه وتصديقه.
2ـ وإذا كانت جملة «الصدق حَسَنٌ» قد استعملت بقصد بيان وصفٍ واقعي، ولكنه غير موضوعي([23])، من قبيل: «الحُسْن»، فإن هذه الجملة إنما ستكون مبيِّنة للحكم الأخلاقي أو الحكم الأخلاقي المبرَّر إذا كانت مبيّنةً للحُسْن الأخلاقي، وإن الحُسْن الأخلاقي هو حُسْن «الشاهد المثاليّ» الذي ينظر إلى الموضوع من زاوية «المشهد الأخلاقي»، وليس حُسْن كلّ شخصٍ ينظر إلى الموضوع من كلّ زاويةٍ أو مشهدٍ شاء.
3ـ وإذا كانت جملة «الصدق حَسَنٌ» قد استعملت بقصد تحسين الصدق وبيان العواطف والمشاعر الإيجابية ففي هذه الحالة ستكون هذه الجملة مبيِّنةً لحكم أخلاقيّ أو حكم أخلاقيّ مبرَّر إذا كان تحسين العواطف والمشاعر مورد البحث أخلاقياً، وإن تحسين العواطف والمشاعر الأخلاقية هو تحسين عواطف ومشاعر «الشاهد المثاليّ» الذي ينظر إلى الموضوع من زاوية «المشهد المثالي»، وليس تحسين ومشاعر وعواطف كلّ شخصٍ، أيّاً كانت الزاوية التي ينظر من خلالها إلى الموضوع.
4ـ وإذا كانت جملة «الصدق حَسَنٌ» قد استعملت بقصد اعتبار الحُسْن للصدق ونشر العواطف والمشاعر الداخلية في عالم الخارج فإن هذه الجملة إنما ستكون أخلاقيةً بشرط أن يكون الاعتبار والنشر المذكور أخلاقياً، بمعنى أن هناك فرقاً بين الاعتبار والنشر الأخلاقي وبين الاعتبار والنشر غير الأخلاقي، وإن الاعتبار والنشر الأخلاقي هو اعتبار ونشر «الشاهد المثاليّ» الذي ينظر إلى الموضوع من زاوية «المشهد الأخلاقي»، وبالتالي:
5ـ إذا كانت جملة «الصدق حَسَنٌ» قد استُعملت بقصد إيجاد الدافع والحافز لدى المخاطب ودفعه إلى قول الصدق فإن هذه الجملة إنما تكون أخلاقيةً إذا كان إيجاد الحافز لدى المخاطب وتحفيزه نحو قول الصدق في ذلك المورد أخلاقياً، وإن إيجاد الدافع لدى المخاطب وتحفيزه إلى القيام بعملٍ أو تركه إنما يكون أخلاقياً إذا صدر عن «الشاهد المثاليّ» الذي ينطلق في تحفيز المخاطب من دواعٍ منطلقة من «المشهد الأخلاقي».
وبهذا يتّضح أن نظرية الشاهد المثالي يمكن أن تجتمع مع كافّة الآراء المختلفة في باب ميتافيزيقا الأخلاق ولغة الأخلاق القائلة بنوعٍ من «العقلانية» في الأخلاق، هذا أوّلاً. وثانياً: إن اختلاف الرأي في ما يتعلَّق بميتافيزيقا ولغة الأخلاق لا تأثير له في حدّ ذاته على الحكم الأخلاقي للعمل، ومعرفة وتبرير ذلك الحكم. والمهمّ هو «هل نحن في دائرة الأخلاق قائلون وملتزمون بالعقلانية بنحوٍ من الأنحاء؟». ولكنّ القِيَم والضرورات والمحظورات الأخلاقية يمكن لها أن تكون معقولةً، وفي الوقت نفسه لا يكون لها وجودٌ في الخارج، بمعنى «أن العقلانية لا تدور مدار الوجود العيني للأمر المعقول». لو اعتقد شخصٌ بالعقلانية في دائرة الأخلاق فلن يكون هناك فرقٌ بين أن يكون قائلاً بالوجود العيني أو الذهني أو ما بين الأذهان للقِيَم الأخلاقية أم لا، أو أن يعتبر الجُمَل الأخلاقية إخبارية (معرفية) أو إنشائية (غير معرفية)، أو أن يرى الصفات الأخلاقية حقيقية أو اعتبارية. إن العقلانية في دائرة الأخلاق تقوم على ركنين، وهما: «الشاهد المثالي»؛ و«المشهد الأخلاقي»([24]). إن خصائص الشاهد المثالي وخصائص المشهد الأخلاقي تشكِّل معايير للنقد الأخلاقي، وإنما يمكن لنا في ظلّ هذه الخصائص أن ننتقد أحكامنا ومتبنّياتنا الأخلاقية، وأن نصل من «الأخلاق التوصيفية» إلى «الأخلاق المعيارية».
وفي ما يلي ندخل في بحث العلاقة بين نظرية الشاهد المثالي وموضوع دراستنا الراهنة. والسؤال هنا: ما هو التأثير الذي يتركه القول بهذه النظرية على تصنيف السؤال عن العلاقة القائمة بين الدين والأخلاق؟ وكيف يمكن طبقاً لهذه النظرية حلّ الاختلاف بين الأخلاق الدينية والأخلاق العلمانية؟
تقول نظرية الشاهد المثالي: إن الشاهد المثالي هو الشخص الوحيد الذي يمتلك صلاحية معرفة أو إصدار الحكم الأخلاقي، إلاّ أن هذه النظرية لا تحدِّد المصداق، ولا تقول بأن هذا الشاهد المثالي هو «الله» أو «الإنسان». وعليه يمكن القول بأن النزاع بين أنصار علمانية الأخلاق وأنصار دينية الأخلاق نزاعٌ صغروي، بمعنى أن هاتين المجموعتين تختلفان في تحديد مصداق الشاهد المثالي، وتقدِّمان في حقيقة الأمر إجابةً مختلفة عن السؤال القائل: «مَنْ هو الشاهد المثالي؟». وعليه فإن اختلاف الأخلاق الدينية والأخلاق العلمانية يكمن في السؤال القائل: «هل الشاهد المثالي هو إله الأديان أم هو الإنسان؟». وحيث يمكن لكلٍّ من الإله والإنسان أن يتّصفا بصفات وخصائص الشاهد المثالي فإن النزاع بين هاتين الجماعتين لن تترتَّب عليه ثمرةٌ عملية، بمعنى أن القِيَم والضرورات والمحظورات الأخلاقية التي تصل إليها كلتا الجماعتين، من خلال قولهما بنظرية الشاهد المثاليّ، يمكنها على الأصول والقواعد أن تكون متطابقةً مع بعضها.
والسؤال الهامّ هنا هو: ما هي النسبة والعلاقة بين إرادة وحكم الشاهد المثالي (الأخلاق) وإرادة وحكم الله بوصفه خالقاً أو مالكاً أو منعماً (الشريعة)؟ وعند التعارض بين إرادة وحكم الشاهد المثالي وإرادة وحكم الله بوصفه خالقاً أو مالكاً أو منعماً فأيُّهما يكون هو المقدَّم على الآخر؟ وبعبارةٍ أخرى: «ما هي علاقة ونسبة إله الأخلاق إلى إله الفقه؟».
للإجابة عن هذا السؤال هناك رؤيتان: الرؤية الأولى: هي الرؤية التي يذهب إليها أصحاب الاتجاه الأشعري، فهؤلاء يستبدلون الأخلاق بالشريعة، ويذهبون إلى الاعتقاد بأن حكم الله بوصفه خالقاً أو منعماً أو مالكاً ليس تابعاً لأيّ معيارٍ مُسْبَق، ولذلك تكون إرادته وحكمه مصدراً للقِيَم الأخلاقية([25]). طبقاً لهذه الرؤية سيكون إله الأخلاق هو إله الفقه. والرؤية الثانية: هي رؤية المعتزلة، إذ يذهب المعتزلة ومَنْ على شاكلتهم إلى الاعتقاد بأن الأخلاق متقدِّمةٌ على الشريعة، وإن إرادة وحكم الله بوصفه خالقاً أو مالكاً أو منعماً تابع للقِيَم الأخلاقية. وهذا ما يذهب إليه أكثر علماء الشيعة، ويتّفقون فيه مع المعتزلة على المستوى النظري.
إن تعارض قِيَم الأخلاق العلمانية مع الأحكام الفقهية ـ طبقاً لهذه الرؤية ـ سيكون على شكل تعارض حكم إله الأخلاق (الشاهد المثالي) مع حكم إله الفقه (الإله المشرِّع). تقول نظرية الشاهد المثالي: إن الأخلاق متقدِّمةٌ على الشريعة، وأما في إطار الرؤية الدينية فيمكن القول: إن تقدُّم الأخلاق على الشريعة بمعنى أن إرادة وحكم الله بوصفه شاهداً مثالياً متقدِّمٌ على إرادته وحكمه بوصفه خالقاً أو مالكاً أو منعماً. إن هذا التقدُّم بحَسَب المصطلح العرفاني يعني تقدُّم اسمٍ من أسماء الله على سائر أسمائه الأخرى، ولذلك فإنه لن يتنافى مع التوحيد وإطلاق قدرة الله([26]).
من هنا يمكن القول: إن دَوْر الشاهد المثالي في ميتافيزيقا الفقه دَوْرٌ هامّ لا يقبل الإنكار. لو آمن شخصٌ بالله بوصفه شاهداً مثالياً لا مناص له من الإيمان بما يترتَّب على هذا الاعتقاد، ومن بين أهمّ ما يترتَّب على هذا الاعتقاد هو أن للأحكام الشرعية أو تعاليم الإله المشرِّع إطاراً أخلاقياً، فهي لا تنقض القِيَم الأخلاقية.
ب ـ دَوْر الشاهد المثالي في «معرفة» الأخلاق والفقه
إن نظرية الشاهد المثالي منسجمةٌ وقابلةٌ للجمع مع الكثير من النظريات المطروحة في معرفة الأخلاق. ويمكن اعتبار هذه النظريات بوصفها تقارير وقراءات مختلفة لنظرية الشاهد المثالي. وفي هذا الفصل سوف تكون لنا إطلالةٌ عابرة على أكثر هذه النظريات شيوعاً، وسيكون محور أبحاث هذا الفصل هو دراسة علاقة الشاهد المثالي بالأسئلة التالية:
1ـ هل علم الأخلاق متقدِّمٌ على علم الفقه أم العكس هو الصحيح؟
2ـ هل تبرير المتبنّيات الفقهية متوقّفٌ على انسجامها مع المتبنّيات الأخلاقية أم العكس هو الصحيح؟
3ـ عند التعارض بين المتبنّيات الأخلاقية والمتبنّيات الفقهية فأيُّهما يكون هو المقدَّم؟
إن هذه الأسئلة هي أسئلةٌ «معرفية»، ويجب عدم الخلط بينها وبين الأسئلة «الأنطولوجية» التي تعرَّضنا إلى بحثها في الفقرة السابقة. إن السؤال عن تقدُّم وتأخُّر الأخلاق والشريعة سؤالٌ ناظر إلى عالم الثبوت. إن هذا السؤال يختلف عن السؤال عن تقدُّم وتأخُّر علم الأخلاق وعلم الفقه، أو السؤال عن تقدُّم وتأخُّر المتبنّيات الأخلاقية والمتبنّيات الفقهية؛ لأن هذه الأسئلة ناظرةٌ إلى عالم الإثبات. يُضاف إلى ذلك أن السؤال عن علاقة «علم الأخلاق» و«علم الفقه» بوصفهما فرعين أو مجالين علميّين يختلف عن السؤال عن علاقة «المتبنّيات الأخلاقية» و«المتبنّيات الفقهية»؛ لأن السؤال الأوّل يرتبط بـ «فلسفة العلم»([27])، والسؤال الثاني يرتبط بـ «نظرية المعرفة»([28]).
إن الإجابات التي تقدَّم عن هذه الأسئلة تندرج ضمن عنوانين، وهما: العنوان «التقليدي»؛ والعنوان «الحديث». وإن وجه اشتراك الإجابات التقليدية يكمن في أن هذه الإجابات تؤدّي في نهاية المطاف إلى تقدُّم علم الفقه على علم الأخلاق، أو بعبارةٍ أدقّ: تؤدّي إلى استبدال علم الأخلاق بعلم الفقه. وإن جميع علماء الإسلام ـ الأعمّ من الشيعة والسنّة ـ، رغم اختلاف آرائهم في مجال أنطولوجيا الأخلاق، يتّفقون على رأيٍ واحد أو متشابهٍ إلى حدٍّ ما بشأن معرفة الأخلاق والمنزلة المعرفية للمتبنّيات الأخلاقية والمتبنّيات الفقهية.
وكما رأينا من قبلُ فإن للمفكِّرين المسلمين آراء ونظريات مختلفة بشأن «أنطولوجيا» الأخلاق والعلاقة بين الأخلاق والشريعة في عالم الثبوت. وفي هذا الشأن يمكن الفصل بين منهجين أو مذهبين مختلفين، وهما:
1ـ منهج الأشاعرة القائلين بأن الأخلاق مقولةٌ دينية، وإن الشريعة متقدِّمةٌ على الأخلاق.
2ـ منهج المعتزلة وأكثرية الشيعة القائلين بأن الأخلاق في ذاتها علمانيةٌ، ومتقدِّمةٌ على الشريعة.
إلاّ أن لهاتين الجماعتين في ما يتعلَّق بـ «معرفة» الأخلاق، وعلاقة «علم الأخلاق» و«علم الفقه»، وكذلك علاقة «المتبنّيات الأخلاقية» و«المتبنّيات الفقهية»، آراء متشابهة إلى حدٍّ ما([29]). ويمكن بيان مدَّعى تلك النظرية باختصارٍ على النحو التالي: «حلول علم الفقه محلّ علم الأخلاق».
كما تنقسم الإجابات الحديثة عن السؤال بشأن معرفة الفقه والأخلاق إلى قسمين أيضاً، وهما:
1ـ الإجابات القائمة على «فلسفة العلم».
2ـ الإجابات القائمة على «نظرية المعرفة»([30]).
إن الإجابات التي يمكن تقديمها عن هذه الأسئلة من زاوية فلسفة العلم تستند إلى وصف أو بيان علاقة علم الأخلاق وعلم الفقه بوصفهما «فرعين» أو «مجالين» علميين. وإن أحد أهمّ هذه الإجابات «نظرية القبض والبسط النظري للشريعة». إن هذه النظرية تثبت، أو يمكن على أساسها إثبات، أن العلاقة بين علم الفقه وعلم الأخلاق هي علاقة «المستهلك» و«المنتج»، بمعنى أن علم الفقه يتغذّى على الفرضيات الأخلاقية، وإنه إثر تحوُّل علم الأخلاق والنظريات الأخلاقية يتعرَّض لنوعٍ من القبض والبسط. إن التوصية «المنهجية» المنبثقة عن صلب هذا البيان هي أن قيمة واعتبار علم الفقه رهنٌ بتنقيح مبانيه الأخلاقية، وأن علم الأخلاق وفلسفة الأخلاق يجب أن تكون من العلوم الأصلية في الاجتهاد الفقهي([31]).
أما المجموعة الثانية من الإجابات الحديثة الناظرة إلى السؤال عن العلاقة القائمة بين الأخلاق والفقه فهي إجاباتٌ معرفية بالمعنى الدقيق للكلمة. إن هذه الإجابات تقدِّم وصفاً وبياناً عن علاقة «المتبنّيات» أو «القضايا» الأخلاقية و«المتبنّيات» أو «القضايا» الفقهية، ولا تقدِّم وصفاً وبياناً عن علاقة «علم الأخلاق» و«علم الفقه» بوصفهما «فرعين» أو «مجالين» علميين. وبعبارةٍ أخرى: إن هذه الإجابات ليست ناظرةً إلى «هندسة» و«جغرافيا» المعرفة، وإنما هي ناظرةٌ إلى آحاد القضايا والمتبنّيات الأخلاقية والفقهية التي تحظى بهويةٍ شخصية، لا هوية عامّة وجماعية. إن العلم في نظرية المعرفة بمعنى «الاعتقاد الصادق والمبرَّر»، وليس بمعنى «المجال» العلمي الذي يشكِّل موضوع دراسة فلسفة العلم([32]). إن بحث علاقة القضايا والمتبنّيات يُعتَبَر من موضوعات علم المعرفة، في حين أن دراسة علاقة الفروع العلمية تعتبر من موضوعات فلسفة العلم. وعلى كلّ حالٍ فإن الإجابة التي يتمّ تقديمها عن هذا السؤال من الزاوية المعرفية تقوم على النظرية التي يتبنّاها الفرد في علم المعرفة العامّ بشأن بنية المعرفة وتبرير وعلاقة المتبنّيات فيما بينها.
في ما يتعلَّق بمعرفة الأخلاق يمكن التمييز بين ثلاثة مسالك مختلفة. وهذه المسالك الثلاثة يمكن تسميتها على التوالي بـ: المسلك «الشهودي»([33])؛ والمسلك «النظري»([34])؛ والمسلك «الترابطي»([35]).
يذهب أنصار النزعة الشهودية إلى الاعتقاد بأن بعض المشاهدات الأخلاقية تتمتَّع بجزءٍ من الاعتبار المعرفي اللازم، ويمكن توظيفها بوصفها معياراً لإثبات صحّة أو سُقْم النظريات والأصول الأخلاقية.
أما المسلك النظري فينكر القيمة والاعتبار المعرفي للشهود الأخلاقي بالمرّة. من هنا فإن أصحاب هذا المسلك يضطرّون إلى توظيف أصلٍ غير أخلاقي (علمي أو فلسفي أو ديني) لتبرير النظرية الأخلاقية والأحكام الأخلاقية. طبقاً لهذا المسلك لا يمكن تبرير النظرية الأخلاقية من خلال جعلها متناغمةً ومرتبطة بالشهادات الأخلاقية، وإنما يتمّ تبريرها من خلال التمسُّك بالنظريات العلمية والفلسفية والكلامية في باب طبيعة الإنسان والمجتمع الإنساني وما إلى ذلك. طبقاً لهذا المسلك لا بُدَّ أوّلاً من السعي إلى اكتشاف أو إبداع أو تبرير النظرية الأخلاقية المناسبة، من خلال اللجوء إلى العلوم التجريبية والإنسانية أو الفلسفة والكلام، لنرى بعد ذلك ما هي الاقتضاءات والتداعيات التي تشتمل عليها تلك النظرية في ما يتعلَّق بالمسائل الأخلاقية الخاصّة.
إن هذين المسلكين في ذاتهما مسلكان «أصوليان»([36])؛ إذ في المسلك الأوّل تتقدَّم المشاهدات الأخلاقية على النظريات الأخلاقية تقدُّماً معرفياً، وتعتبر مبرَّرة بغضّ النظر عن النظرية الأخلاقية، وعند حصول التعارض مع النظرية الأخلاقية لا تخضع لإعادة النظر. وفي المسلك الثاني تتقدَّم النظرية الأخلاقية على المشاهدات الأخلاقية تقدُّماً معرفياً، وتعتبر مبرَّرة بغضّ النظر عن المشاهدات الأخلاقية، وعند حصول التعارض مع الشهادات الأخلاقية لا تخضع لإعادة النظر.
أما المسلك الترابطي فهو ينكر كلاًّ من: التقدُّم المعرفي للمشاهدات الأخلاقية، والتقدُّم المعرفي للنظرية الأخلاقية. طبقاً لهذه الرؤية فإن المشاهدات الأخلاقية والنظرية الأخلاقية إنما تكونان مبرَّرتين إذا شكّلتا جزءاً من منظومة مترابطة([37]) ومنسجمة، وإن غاية التفكير والبحث الأخلاقي في الحقيقة هو الربط والمناغمة بين هذين المسلكين؛ للوصول إلى منظومة منسجمة من المتبنّيات أو القضايا([38]).
وعلى هذا الأساس فإن نظرية دينية الأخلاق من الزاوية المعرفية تعتبر نوعاً من الأصولية التقليدية، والتي على أساسها تكون تلك المتبنّيات والأحكام الأخلاقية مدينةً في تبريرها للمتبنّيات الدينية أو الأحكام الشرعية. إن لهذه النظرية تقريرات مختلفة ومتنوّعة، سوف نبحثها في كتابنا (أخلاق المعرفة الدينية).
والآن حان الوقت كي نرى ما هو الجواب الذي يمكن لنا أن نقدِّمه عن هذا السؤال، طبقاً لنظرية الشاهد المثالي. قلنا: إن المعايير الأخلاقية تنبثق عن إرادة وحكم «الشاهد المثاليّ»، وإن المعايير الشرعية (الفقهية) تنبثق عن إرادة وحكم الله سبحانه بوصفه «مشرِّعاً»، وفي هذه الحالة سوف تتقدَّم إرادة وحكم الشاهد المثالي ثبوتاً على إرادة وحكم المشرِّع، وهذا يعني التقدُّم «الأنطولوجي» للأخلاق على الدين والشريعة. وحيث إن التقدُّم الأنطولوجي لموضوعٍ على موضوعٍ آخر يستلزم تقدُّم فرع علميّ مرتبط بالموضوع الأول على فرعٍ علميّ مرتبط بالموضوع الثاني يمكن القول على هذا الأساس: إن «علم الأخلاق» متقدِّمٌ على «علم الفقه»، بمعنى أن العلم الأوّل هو علمٌ مُنْتِجٌ، والعلم الثاني علمٌ مستهلِكٌ.
وبطبيعة الحال إن هذا الارتباط بين علم الأخلاق وعلم الفقه ليس بمعنى الارتباط المنطقي والإنتاجي بين هذين الفرعين العلميين. كما أن للإنتاج والاستهلاك مراتب مختلفة. وكما رأينا فإن تَبَعيّة الفقه إلى الأخلاق هي تَبَعيّة في الحدّ الأدنى، بمعنى أن الفرضيات الأخلاقية عندما تستهلك في الفقه تلعب مجرّد دَوْر الإبطال، ولا يمكن من خلال التركيب البَحْت للمقدّمات الأخلاقية إثبات حكم شرعي؛ إذ لا وجود لمثل هذه الملازمة بين حكم الأخلاق وحكم الشرع.
وعلى كلّ حال فإن مجرّد التقدُّم الأنطولوجي للأخلاق على الدين والشريعة، ومجرّد تقدُّم علم الأخلاق على علم الفقه، لا يستلزم التقدُّم «المعرفي» لآحاد «المتبنّيات» الأخلاقية على آحاد «المتبنّيات» الفقهية؛ لأن التقدُّم المعرفي لمعتقدٍ أو مجموعة من المتبنّيات على معتقدٍ أو مجموعة أخرى من المتبنّيات يقوم على قوّة وضعف الأدلة المقامة على ذينك المعتقدين أو تلكما المجموعتين من المتبنّيات، والتي تعمل على تبريرها. وعليه إنما يمكن لنا القول بأن المتبنّيات الأخلاقية مقدّمة على المتبنّيات الفقهية عند التعارض بينهما إذا أمكن لنا أن نثبت أن الأدلة التي تبرِّر المتبنّيات الأخلاقية أقوى وأورث للاطمئنان من الأدلة المتوفّرة لصالح المتبنّيات الفقهية.
وعلى الرغم من صدق هذا الادّعاء في الغالب، إلاّ أن صدقه الدائم والسابق مشكوكٌ فيه؛ إذ على الرغم من أن أغلب المتبنّيات الفقهية يتمّ تبريرها بخبر الواحد أو ظهور الآيات والروايات، وإن الظنّ الحاصل من هذا الطريق هو في الغالب أضعف من ظنّنا ببعض المتبنّيات الأخلاقية، إلاّ أنه لا يمكن لنا أن نستنتج من هذه المقدّمة قاعدةً كلّية ومطلقة، والقول بشكلٍ مسبق بأن المتبنّيات الأخلاقية هي المقدَّمة دائماً عند تعارضها مع المتبنّيات الفقهية، رغم صحّة ذلك في الغالب. كما أن القول بتقدُّم المتبنّيات الأخلاقية الناظرة إلى حقوق الإنسان عند تعارضها مع المتبنّيات الفقهية الراهنة لا يخلو من وجهٍ.
إذا كان الحكم الأخلاقي هو حكم الشاهد المثاليّ فإن إدراك وتشخيص هذا الحكم يتوقَّف على التشبُّه والتقرُّب الوجودي منه، والاتّصاف بأوصافه. وبعبارةٍ أخرى: إن اسم أو صفة الشاهد المثاليّ ـ كما هو الحال بالنسبة إلى سائر الأسماء والصفات الإلهية ـ له ظهوراتٌ وتجلِّيات. وإن الأنبياء والأئمّة وسائر الأولياء الربّانيين هم المظهر التامّ والكامل لهذا الاسم وهذه الصفة، وهذا هو معنى إعطاء الحكمة لهم. إن أسلوب كشف القِيَم والضرورات والمحظورات الأخلاقية هو الأسلوب الذي نتقرَّب من خلاله إلى الشاهد المثاليّ، ونكون في وضعٍ مشابه لوضعيّته، وإثر التواجد في تلك الوضعية يمكن لنا إدراك الحكم الأخلاقي أو إدراك منشئه ومبناه.
إن العقلانية تطلب منا أن نسعى بـ «جدٍّ» و«صدق» إلى إدراك حكم الشاهد المثاليّ. ولذلك نضطر إلى جمع كافّة الأمور التي تلعب بنحوٍ من الأنحاء دَوْراً في تبرير المعتقد الأخلاقي، ضمن هامش نظريةٍ، والعمل على المواءمة والمناغمة والربط بينها. ويمكن لهذه النظرية أن تكون هي نظرية «الارتباط» أو «الأصولية المعتدلة»([39]). إن الأمور التي تلعب دَوْراً في تبرير الحكم أو المتبنّى الأخلاقي تنقسم إلى قسمين: القسم الأوّل: يعود إلى خصائص «الفاعل المعرّف»؛ والقسم الثاني: يعود إلى الموضوع مورد البحث، بمعنى أن العقلانية تريد منّا في مقام تبرير المتبنّيات الأخلاقية أن نعمل من جهةٍ على تطهير أذهاننا وضمائرنا من الرذائل المعرفية، ونعمل على تنمية الفضائل المعرفية في وجودنا، وأن نحصل من ناحيةٍ أخرى على المعلومات الكافية بشأن الواقعيات ذات الصلة، وأن ننظر إلى الموضوع من زاوية المشهد المثاليّ، وأن نعمل على تناغم ومواءمة مشاهداتنا الأخلاقية ـ التي هي ثمرة تجاربنا الأخلاقية ـ مع متبنّياتنا العلمية والتاريخية والفلسفية والدينية([40]).
إن هذه الأمور تترك بتأثيرها على الإدراك والتشخيص الأخلاقي، كما تؤثِّر في تبرير المتبنّيات الأخلاقية، ولذلك لا بُدَّ من أخذها بنظر الاعتبار في مقام تبرير القضايا الأخلاقية. لا يمكن تجاهل المشاهدات الأخلاقية وما فوق الأخلاقية وحكم العقل السليم والوجدان الأخلاقي في ما يتعلَّق بالتبرير المعرفي للمتبنّيات الأخلاقية. كما لا يمكن تجاهل السنن الأخلاقية وتاريخها. وإن التعاليم الدينية في مجال الأخلاق (الأعمّ من التعاليم الكلامية والأخلاقية) تعتبر في الحقيقة جزءاً من السنن الأخلاقية التي لا يمكن بحكم العقل والعقلانية تجاهلها وتجاوزها بشكلٍ كامل.
إن الخصيصة الهامّة لهذا النهج والأسلوب أنه ـ وبسبب وفائه وإخلاصه للعقل والعقلانية في الأخلاق ـ يهتمّ بالسنن الأخلاقية التي تمثِّل خلاصة العقل الجمعي للأسلاف والدين، وتمثِّل حصيلة العقل الإلهي والنبوي، وفي الوقت نفسه يعتبر الالتزام الاعتباطي بالسنن الأخلاقية والدينية مخالفاً للعقلانية. وبطبيعة الحال إن مثل هذا الفهم للمصادر الأخلاقية والدينية لا يتوقّف على القول بالفرضيات الكلامية. إن هذا الأسلوب يُعَدّ نوعاً من النزعة العقلية الانتقادية، التي لا تتناغم مع النزعة العقلية الجَزْمية والنزعة النقلية الجَزْمية؛ إذ يقوم هذا الأسلوب والمنهج على مقارنة وقياس مضمون الوحي إلى مضمون العقل والتجربة. يتمّ في هذا الأسلوب تقييم معطيات الوحي ومقارنتها إلى المشاهدات والأدلة العقلانية والتجريبية، دون أن تكون النتيجة النهائية لهذا التقييم معلومةً أو محدَّدة سلفاً، ودون أن يكون أحد هذين الأمرين ـ من الناحية المنطقية ـ متقدّماً على الآخر دائماً.
«إن المعيار الوحيد للتقدُّم في هذا الأسلوب هو القوّة المعرفيّة للأدلة».
إن المشاهدات العقلانية في مجال الأخلاق وما وراء الأخلاق في هذا الأسلوب، والنظريّات الرئيسة المرتبطة بمجال الهوية الفردية والاجتماعية للإنسان وغيرها، وكذلك النظريّات النفسية والاجتماعية في مجال الدوافع الأخلاقية، والتربية والتعليم، وأصناف التخلُّق، ودَوْر الأخلاق بوصفها مؤسّسةً اجتماعية، وعلاقتها بسائر المؤسّسات الاجتماعية الأخرى، منسجمةٌ ومتناغمة مع التعاليم السماوية في هذه المجالات، وبالتالي تصل في نهاية المطاف إلى التوازن المقبول والمطلوب.
إن من بين الفرضيات الهامّة لهذا الأسلوب هي أن العلم المستند إلى الوحي عندما يصل إلينا يكون ظنّياً، وليس قطعياً، ولا يقينياً. وإن قطعيته ويقينيته بالنسبة إلى النبيّ والإمام المعصوم لا يستوجب تغيير المنزلة المعرفية لمثل هذا العلم بالنسبة إلينا، بحيث تفرض علينا المسؤولية العقلانية والمعرفية تقديم الظنّ المستند إلى الوحي على الظنّ الأقوى منه، والمستند إلى العقل والتجربة البشرية([41]).
إن تقييم التعاليم السماوية من خلال المشاهدات العقلانية والنظريات الرئيسة الآنف ذكرها يضعنا في موقفٍ مثاليّ لإدراك أو إصدار الحكم الأخلاقي. وفي الحقيقة إننا من خلال ذلك نسعى إلى تحصيل خصائص الشاهد المثاليّ، ولو بشكلٍ ناقص، وأن نقترب منه. ولذلك فإن لمثل هذا التقييم والمقارنة ضرورةً حيوية للاعتبار والتبرير العقلاني للأحكام الأخلاقية.
إن هذا الأسلوب هو في الأساس من اقتراح الفيلسوف الأمريكي الشهير (جون راؤولز)؛ لتبرير الأحكام الأخلاقية عقلانياً([42]). وقد أطلق جون راؤولز على هذا الأسلوب مصطلح «التعادل الفكري»([43]). إن الأسلوب المقتَرَح من قِبَل راؤولز يختلف عن الأسلوب المقتَرَح من قِبَلنا في أنه على ما يبدو لا يرى التعاليم الدينية في مجال الأخلاق والأخلاقيات بوصفها جزءاً من هذا الكلّ، وبوصفها طرفاً في المقارنة والتقييم. ويبدو أن كلّ همِّه وغايته تنحصر في مجرّد المناغمة والمواءمة بين المشاهدات الأخلاقية ببعضها وبالأصول والقواعد الأخلاقية العامّة والنظريات المبنائية، رغم أن المشاهدات الأخلاقية المنظورة لراؤولز يمكن أن تكون حصيلة التعليم والتربية الدينية.
قال بعض الناقدين لراؤولز: إنه قد تجاهل دَوْر «الفنّ» و«الأدب» في الأخلاق. يذهب هؤلاء الناقدون إلى الاعتقاد بأن الأفلام والمسرحيات والقصص والأدب بشكلٍ عامّ والموسيقى يمكنها أن تخلق الأرضية المساعدة لتصفية وغربلة التجارب الأخلاقية، وأن تساعد من خلال تصحيح وتعديل المشهد الأخلاقي على بلوغ الوجدان الأخلاقي لدى البشر، من هنا فإن الأسلوب الكامل والجامع لتبرير المتبنّيات الأخلاقية يجب أن تترك مساحة وفسحة لهذه الأمور. ولذلك ذهب هؤلاء إلى اقتراح مصطلح «أسلوب التعادل والغربلة»([44])، بَدَلاً من مصطلح «التعادل الفكري» المقتَرَح من قِبَل راؤولز([45]). إن هذا الأسلوب في الحقيقة مكمِّلٌ للأسلوب السابق؛ إذ في هذا الأسلوب تجتمع المشاهدات الأخلاقية مع القواعد والأصول الأخلاقية العامة والنظريات المبنائية والفنّ والأدب، وتصل إلى مرحلة التعادل، وتبدأ بالتناغم والانسجام مع بعضها.
نتصوّر أن هذا الأسلوب لا يزال بحاجةٍ إلى تكميل؛ وذلك لأنه لا يؤكِّد على دَوْر التعاليم الدينية في مجال الأخلاقيات، وكذلك السنن والتقاليد الأخلاقية وتاريخ الأخلاق بشكلٍ عامّ، ويتجاهل دَوْر هذه التعاليم في البصيرة والتشخيص الأخلاقي. ومن خلال إضافة هذه التعاليم إلى التعاليم العقلية في مجال الأخلاق وإلى الفنّ والأدب، ووضع الجميع ضمن كلٍّ متناغمٍ ومنسجم، سنكون في موضعٍ مناسب لإدراك أو إصدار الحكم الأخلاقي.
وبطبيعة الحال فإن للمواءمة والمناغمة مراتب، وستكون لكلّ مرتبةٍ من مراتبها درجة من التبرير. مرادنا هنا أنه بعد المناغمة بين المتبنّيات الأخلاقية والمتبنّيات الدينية سوف تتمتّع كلتا المجموعتين من المتبنّيات بمرتبةٍ أقوى من التبرير، لا أن تكون المتبنّيات الأخلاقية بغضّ النظر عن المتبنّيات الدينية غير مبرَّرة. إلا أن عكس هذا الادّعاء صادقٌ، بمعنى أن المتبنّيات الدينية بغضّ النظر عن المتبنّيات الأخلاقية غير مبرَّرة. إن المتبنّيات الدينية يمكن أن تنقسم من بعض النواحي إلى: متبنّيات كلامية؛ ومتبنّيات فقهية. إن استقلالية المتبنّيات الأخلاقية عن المتبنّيات الكلامية في مقام التبرير يُعْزَى إلى أن الكثير من المتبنّيات الكلامية مدينةٌ في تبريرها إلى الفرضيات الأخلاقية. وإذا كان مرادنا من الأخلاق هو المعنى العامّ للكلمة ـ الشامل لأخلاق التفكير والتحقيق أيضاً ـ يجب علينا القول: إن هذا هو شأن جميع المتبنّيات الكلامية.
وأما استقلال المتبنّيات الأخلاقية عن المتبنّيات الفقهية في مقام التبرير فيعود سببه إلى أن هذه المتبنّيات تحصل على تبريرها الأوّلي من طريق التجربة والمشاهدة الأخلاقية، وإن تبريرها ليس مشروطاً بانسجامها مع المتبنّيات الفقهية، في حين أن عكس هذا الادّعاء ليس صادقاً؛ إذ كما رأينا فإن أحد شروط تبرير المتبنّيات الفقهية هو انسجام هذه المتبنّيات مع القِيَم الأخلاقية. وبطبيعة الحال فإن المتبنّيات الفقهية تحصل على تبريرها «الإيجابي» و«الأوّلي» من المتبنّيات الأخلاقية، بَيْدَ أنه في حالة عدم الانسجام مع المتبنّيات الأخلاقية فإنها ستفقد تبريرها الإيجابي والأوّلي الذي حصلت عليه من طرقٍ أخرى، في حين أن المتبنّيات الأخلاقية غير المنسجمة مع المتبنّيات الفقهية لا تفقد تبريرها الأوّلي، رغم أن انسجام المتبنّيات الأخلاقية مع المتبنّيات الفقهية يعمل على تعزيز تبرير كلا الأمرين.
والأمر الذي يحتاج هنا إلى مزيدٍ من التأكيد هو اختلاف هذا الأسلوب عن الأسلوب والمنهج المعهود والمقبول في الحوزات العلمية. يمكن القول باختصارٍ: في الأسلوب المعهود والمقبول في الحوزات العلمية يتمّ إحلال «الشريعة» محلّ «الأخلاق الاجتماعية»، ويحلّ «علم الفقه» محلّ «علم الأخلاق». وعند التعارض بين المتبنّيات الفقهية والمتبنّيات الأخلاقية يقوم الأصل على تقديم المتبنّيات الفقهية على المتبنّيات الأخلاقية، إلاّ إذا قام الدليل القطعي واليقيني لصالح المتبنّيات الأخلاقية مورد البحث. وأما في أسلوبنا المقتَرَح فإن علم الفقه لا يحلّ محلّ علم الأخلاق، وإن الفهم الفقهي للأحكام الشرعية لا يحلّ محلّ القِيَم والضرورات والمحظورات الأخلاقية. وفي الوقت نفسه فإن علم الأخلاق لا يحلّ محلّ علم الفقه، وإن الفقه في إطار الأخلاق يحظى بدعامةٍ وركيزة عقلانية([46]).
طبقاً للأسلوب المقتَرَح من قِبَلنا يتمّ رفع تعارض الأحكام أو المتبنّيات الأخلاقية مع الأحكام أو المتبنّيات الفقهية من خلال التقييم والمقارنة، التي لا يكون الغالب الأخير فيها معلوماً بشكلٍ مسبق. يجب تقييم هذين النوعين من الأحكام والمتبنّيات مع بعضها ومع النظريات الرئيسة وسائر الأمور التي توجد وتردف التجربة والبصيرة الأخلاقية، وإيصالها إلى مرحلة التعادل. وفي هذا التقييم والمقارنة ستكون الغلبة للحكم أو المتبنّى الذي يحظى بدعامةٍ معرفية أقوى، وتكون ثقتنا المبرَّرة والمعقولة به أكبر. إن ملاك التقدُّم المعرفي يكمن في درجة الظنّ والاطمئنان المعقول، وبعد القيام بالمقارنة، وليس في درجة الظنّ والاطمئنان اللامعقول، أو قبل المقارنة. إن الظنّ والاطمئنان غير المعقول أو المعلَّل إما أن لا يكون متناسباً مع الشواهد والقرائن، وقائماً على الأوهام والتصوُّرات أو النظريات الواهية والتي لا تقوم على أساسٍ متين؛ أما الظنّ والاطمئنان المعقول فهو مستدلٌّ، ومستندٌ إلى الدليل المناسب.
إن هذا الأسلوب ينسجم مع التقدُّم الأنطولوجي للقِيَم والضرورات والمحظورات الأخلاقية على الأحكام الشرعية؛ إذ كما رأينا فإن مجرّد التقدُّم «الأنطولوجي» للقِيَم والمعايير الأخلاقية على الأحكام الشرعية لا يقتضي التقدُّم «المعرفي» للمتبنّيات الأخلاقية على المتبنّيات الفقهية. وبطبيعة الحال فإن الأدلّة المتوفِّرة لصالح القِيَم الأخلاقية أقوى في الغالب ومن الناحية النوعية من الأدلة المتوفِّرة لصالح المتبنّيات الفقهية، وفي الوقت نفسه فإن مسؤوليتنا المعرفية تقتضي منا عدم الحكم المُسْبَق وبشكلٍ مطلق قبل تقييم المتبنّيات الأخلاقية مع المتبنّيات الفقهية في ما يتعلَّق بتقدُّمها وتأخُّرها المعرفي([47]).
إننا لكي نفهم حكم الإله المشرِّع لا مناص لنا من عَرْض فهمنا للظواهر النقلية على المشاهدات الأخلاقية وسائر العناصر التي تلعب دَوْراً في تعيين وتبرير حكم الشرع. لا يمكن اعتبار حجِّية الظواهر أمراً ثابتاً ومفروغاً عنه، والقول على أساس ذلك بأن «الإسلام لا يؤمن بحقوق الإنسان»، أو القول بأن «حقوق الإنسان الإسلامية تختلف عن حقوق الإنسان الغربية». إن حجِّية الظواهر النقلية رهنٌ بتقييم مضمونها من خلال المشاهدات الأخلاقية المنبثقة عن العقل والوجدان. ومن دون هذا التقييم والمقارنة لا حجِّية لأيّ ظهورٍ، ولا يمكن نسبة مضمونه إلى الله، واعتباره حكماً إسلامياً. إن مثل هذا الأمر يعتبر بِدْعةً في الدين، ولا يتمتَّع بأيّ دعامةٍ منطقية وعقلانية([48]).
4ـ نظرية الشاهد المثالي وحلّ مفارقة الأخلاق الدينية
نجد من المناسب هنا أن نشير إلى أحد الأدوار التي تلعبها نظرية الشاهد المثالي، وهو الدَّوْر المتمثِّل بحلّ مفارقة الأخلاق الدينية. أرى أن نظرية الشاهد المثالي تمثِّل طريقة حلٍّ مقبولة لمفارقة الأخلاق الدينية، كما تعتبر وسيلةً صالحة للتوفيق بين الأخلاق الدينية والأخلاق العلمانية، وحَسْم النزاع بين الأشاعرة والمعتزلة في مجال الحُسْن والقُبْح؛ إذ يمكن حلّ مفارقة الأخلاق الدينية من خلال القول: إن المرجع الأوّل والأخير بالنسبة إلى المؤمنين في ما يتعلَّق بالأخلاق هو الله سبحانه، ولكنْ لا بوصفه «خالقاً» أو «مالكاً» أو «مشرِّعاً»، وإنما بوصفه «شاهداً مثاليّاً»؛ لأن الأمر والنهي الأخلاقي هو الحكم «الإرشادي» للشاهد المثاليّ، ولذلك حتّى الأفعال التكوينية والتشريعية لله تخضع للأمر والنهي الأخلاقي، وإن الأمر والنهي الإرشادي لإله الأخلاق مقدَّمٌ على الأمر والنهي «المولوي» للإله المشرِّع([49]).
إلاّ أن الحُسْن والقُبْح والصواب والخطأ الأخلاقي صفاتٌ عينية وواقعية. وحيث إن هذه الصفات عينية وواقعية تكون مقدّمةً على إرادة الله، إلاّ أن تقدُّمها على إرادة الله من بعض النواحي كتقدُّم الصفات والخصائص الرياضية والمنطقية على إرادته. والفرق القائم هو أن الله قادرٌ على أن يتجاهل هذه الصفات والخصائص، ولا يراعيها، ولكنّه لا يستطيع أن يستبدلها أو يغيِّرها. وعليه فإن مراعاة القِيَم الأخلاقية ليست بالأمر الذي يفرض على الله من الخارج، بمعنى أن هذه الصفات هي ذات الفضائل والكمالات التي يتّصف بها الله تعالى، وهي التي تحول دون صدور الفعل أو الحكم غير الأخلاقي أو المخالف للأخلاق عنه تعالى.
إن الصفات والخصائص الأخلاقية ذات واقعية، ولكنّها غير موجودةٍ، وحيث إنها غير موجودة فهي ليست مخلوقةً من قِبَل أحدٍ، ولا تحتاج إلى خالقٍ، ولذلك فإنها تكون مقدّمةً حتّى على الإرادة التكوينية لله، الذي هو منشأ ومصدر وجود الكائنات أيضاً. ولكنْ حتّى في ما يتعلَّق بالصفات العينية والأخلاقية يُعتبر الله بمعنىً من المعاني مرجعاً، وإنْ كانت مرجعيته في هذا المورد مرجعيةً معرفية، وليست مرجعيةً أنطولوجية؛ إذ كما تقدَّم فإن معرفة هذه الصفات إنما تكون ممكنةً للشاهد المثاليّ، وإن الله بالنسبة إلى المؤمنين يُعتبر المصداق الأتمّ والأكمل للشاهد المثاليّ. وفي هذا المورد يُعتبر الله مرجعاً لمعرفة الحكم الأخلاقي، ومصدراً للمعرفة والتبرير الأخلاقي، وليس مصدراً لوجود هذه الصفات، رغم أن طريق الوصول إلى هذا المصدر ـ كما تقدَّم أن ذكرنا ـ، وخلافاً للتصوُّر السائد، لا ينحصر بالوحي والنقل، وإنما يمكن التعرُّف على حكم إله الأخلاق من طريق العقل والمشاهدة والتجربة البشرية أيضاً.
ويتمّ حلّ النزاع القائم بين أنصار الأخلاق الدينية والأخلاق العلمانية من خلال القول بأن كلاًّ من هاتين الجماعتين يمكنها ـ بل يجب عليها ـ أن تخضع لحكم العقلانية في الأخلاق، والقول بأن الحكم الأخلاقي هو الحكم الصادر عن الشاهد المثاليّ. إلاّ أن عنوان «الشاهد المثالي» عنوانٌ عامّ يمكن أن يُنْتَزَع من كلّ شخصٍ تتوفَّر فيه الخصائص والصفات اللازمة، وتحمل عليه. ولذلك يمكن لله أن يكون شاهداً مثالياً، كما يمكن للعقل والوجدان الأخلاقي للإنسان أن يكون شاهداً مثالياً أيضاً. وهذا هو المعنى الصحيح لقاعدة الملازمة. فإذا كانت هناك من ملازمة فهي بين حكم العقل وحكم إله الأخلاق، وليست بين حكم العقل وحكم إله الشرع؛ لأن إله الأخلاق هو غير إله الفقه. إن حكم العقل مساوٍ لحكم الله بوصفه شاهداً مثالياً، إلاّ أن حكم العقل قد لا يساوي حكم الإله بوصفه شارعاً، وإنما هو متقدِّمٌ عليه؛ لأن حكم إله الأخلاق متقدِّمٌ على حكم إله الشرع.
طبقاً لهذه النظرية لا مناص لنا؛ لإدراك وإصدار الحكم الأخلاقي، من التقرُّب إلى موقف الشاهد المثاليّ، وأن نضع أنفسنا في موقف الشاهد المثاليّ، وأن ننظر إلى الموضوع مورد البحث من زاويته؛ لأن الحكم الأخلاقي مدينٌ في اعتباره وتبريره وأخلاقيته إلى هذه الصفات، وإن إحراز هذه الصفات لا يحتاج إلى الاعتقاد والإيمان بوجود الله.
وعلى هذا الأساس يمكن القول: إن الأخلاق دينيةٌ، بمعنى أن القِيَم الأخلاقية تنبثق عن علم أو إرادة الله بوصفه شاهداً مثاليّاً. ومن ناحيةٍ أخرى يمكن القول: إن الأخلاق علمانيةٌ، بمعنى أن القِيَم الأخلاقية تنبثق عن علم أو إرادة الإنسان بوصفه شاهداً مثاليّاً. وحيث إن حكم الشاهد المثاليّ في كلتا الحالتين واحدٌ فإن حكم الله وحكم العقل والوجدان البشري سوف يكون متطابقاً، ولن يكون هناك فرقٌ بين الأخلاق الدينية والأخلاق العلمانية. فلو اعتبرنا الحكم الأخلاقي هو حكم الشاهد المثالي لن يكون هناك فرقٌ بين أن يكون هذا الشاهد المثالي هو الله أو الإنسان، فكلّ مَنْ توفّرت فيه أوصاف وخصائص الشاهد المثاليّ سيكون حكمه معتبراً ومُلْزِماً، بل يكون من الأساس أخلاقياً. إن حكم الإنسان المتَّصف بهذه الخصائص والصفات سيكون مقبولاً ومرضيّاً عند الله، كما سيكون حكم الله المتَّصف بهذه الخصائص مقبولاً ومرضيّاً عند الإنسان العاقل.
وعلى هذا الأساس يمكن للأخلاق أن تكون دينيةً وعلمانية في وقتٍ واحد؛ فهي دينية لأن الضرورات والمحظورات الأخلاقية تنبثق عن إرادة وأمر الله بوصفه شاهداً مثاليّاً (وهذا هو المعنى المقبول لنظرية الأمر الإلهيّ)([50])، كما أنها علمانيةٌ؛ لأن الضرورات والمحظورات الأخلاقية فيها تنبثق عن إرادة وأمر الإنسان بوصفه شاهداً مثاليّاً. وإن هذين النوعين من الأخلاق متطابقان؛ لأن حكم الشاهد المثالي على كلّ حالٍ واحدٌ. وإن الاختلاف النظري بين المؤمنين والملحدين بشأن وجود الله وعدمه، أو دَوْره في هداية الإنسان أخلاقياً أو عدم وجود دَوْر له في هذا الشأن، لن يكون له تأثيرٌ في قِيَم الأخلاق الاجتماعية.
يخطئ أنصار الأخلاق الدينية إذا تصوَّروا أن الضرورات والمحظورات الأخلاقية تنبثق عن إرادة وأمر إله الفقه، لا عن إرادة وأمر إله الأخلاق. كما يخطئ أنصار الأخلاق العلمانية إذا تصوَّروا أن الضرورات والمحظورات الأخلاقية تنبثق عن إرادة وأمر الإنسان بوصفه كائناً غير مثاليّ، لا عن إرادة وأمر الإنسان المثاليّ أيضاً. إن الأنظمة الأخلاقية القائمة على هاتين الرؤيتين تخالف بعضها، ولا تنسجم فيما بينها، في العديد من الموارد. ونقطة الاشتراك بين هذه المجموعتين من الأنظمة تكمن في أنهما ينفيان العقلانية في دائرة الأخلاق. وأما إذا اعتبرنا أن منشأ الضرورات والمحظورات الأخلاقية يعود إلى إرادة وأمر الشاهد المثاليّ ففي مثل هذه الحالة لن يكون هناك اختلافٌ بين الأخلاق الدينية والأخلاق العلمانية، إنما الاختلاف ينشأ عندما نفسِّر دينية الأخلاق بمعنى تَبَعيّة القِيَم والضرورات والمحظورات الأخلاقية لإرادة الله بوصفه مشرِّعاً، ونعتبر علمانية الدين بمعنى تَبَعيّة هذه القِيَم والضرورات والمحظورات للميول والإرادات أو الاعتبارات الوضعية الراهنة للبشر عندما لا تكون هذه الوضعية مثاليةً.
خلاصة القول: إن القضية القائلة: «إن كلّ ما يأمر به الله حَسَنٌ» يمكن لها أن تكون قضيةً تحليلية([51])، كما يمكن لها أن تكون قضيةً تركيبية([52]). فإذا كان المراد من «الله» في هذه القضية هو «الشاهد المثالي» (إله الأخلاق) كانت هذه القضية تحليليةً؛ وأما إذا كان هذا الإله ـ على فرض المَحَال ـ يأمر بالقتل والنهب والتعذيب والسرقة فسوف تكون هذه الأمور حَسَنةً. بَيْدَ أن هذا الفرض مَحَالٌ؛ لأن الشاهد المثاليّ لا يأمر بمثل هذه الأمور أبداً. وأما إذا كان المراد من «الله» في هذه القضية هو الإله المشرِّع (إله الفقه) ستكون هذه القضية قضيةً تركيبية، وسوف يتوقَّف صدقها على أن تكون تعاليم وأوامر الإله المشرِّع منسجمةً مع القِيَم الأخلاقية، وفي هذه الحالة سيكون حقّ الإله المشرِّع في السيادة والسلطة مقيَّداً، إلاّ أن هذا التقييد يفرض على الله من قِبَله، وليس من خارجه، ولا من قِبَل الكائنات الأخرى، أو من قِبَل عقل الإنسان، بمعنى أن صفات الله الأخلاقية هي التي تقتضي تقييد سائر صفاته الأخرى، ولذلك يكون هذا التقييد منسجماً ومتناغماً مع التوحيد وإطلاق قدرة الله سبحانه بشكلٍ كامل.
وأما نزاع الأشاعرة والمعتزلة فيتمّ حلُّه من خلال القول: إن كلتا هاتين الجماعتين على خطأٍ؛ وذلك لأنهما قد انطلقا في موقفهما على أساس افتراضٍ مشترك وخاطئ، بمعنى أنهما ينطلقان في تصوُّر أن الله هو «إله الفقه»، وتجاهل «إله الأخلاق» أو «الله بوصفه شاهداً مثاليّاً». وطبقاً لهذا التصوُّر عن الله يكون الحقّ مع المعتزلة، بمعنى أن القِيَم والضرورات والمحظورات الأخلاقية ذاتيةٌ وعقلية، وإن معنى أو لازم ذاتيّتها وعقليّتها أنها متقدّمةٌ على أمر إله الفقه ونهيه. وأما إذا أمكن لنا أن نتصوَّر الله بوصفه شاهداً مثاليّاً لا نستطيع القول بأن القِيَم والضرورات والمحظورات الأخلاقية متقدّمةٌ أيضاً على أمر إله الأخلاق ونهيه. وعلى هذا الأساس إذا كان مرادنا من «الله» إله الأخلاق يمكن القول: إن الحقّ مع الأشاعرة، ويكون كلّ ما يقوم به الله هو الحَسَن؛ لأن أفعال هذا الإله بأجمعها متطابقةٌ مع الموازين الأخلاقية مئة بالمئة، وإن إرادته منشأٌ للأمر والنهي الأخلاقي.
وعلى الرغم من ذلك، إثر القول بهذه النظرية لن يكون الحُسْن والقُبْح الأخلاقي شرعيّاً ونقلياً، وإنْ كان متقدِّماً على إرادة إله الأخلاق وأمره ونهيه، بمعنى أنه يمكن القول: إن الحُسْن والقُبْح على نوعين: النوع الأوّل: ذاتيّ وعقليّ؛ والنوع الثاني: شرعيّ ونقليّ. والحُسْن والقُبْح الذاتي هو الذي ينبثق عن علم أو إرادة إله الأخلاق، لا عن إرادة إله الفقه. إن مثل هذا الحُسْن والقُبْح هو عقليّ في الوقت نفسه، ومعنى عقليته أن عقل الإنسان ـ بغضّ النظر عن الشرع ـ يمكنه من خلال الحلول في موضع الشاهد المثاليّ أو الاقتراب منه أن يدرك هذا النوع من الحُسْن والقُبْح.
إن الحُسْن والقُبْح الشرعي هو الذي يُنتَزَع من أمر ونهي إله الفقه والإرادة التشريعية للإله المالك أو المنعم أو المشرِّع، ولذلك فإن التعرُّف عليه يتوقَّف على الوحي والنقل. لا توجد بين الحُسْن والقُبْح الذاتي والعقلي وبين الحُسْن والقُبْح الشرعي والنقلي أيّ صلةٍ منطقية ـ إنتاجية، بمعنى أنه لا يمكن من خلال توظيف الحُسْن والقُبْح الذاتي والعقلي الخالص أن نتوصَّل إلى اكتشاف الحُسْن والقُبْح الشرعي والنقلي، وتبريره أو إثباته، رغم أنه بالإمكان من خلال الحُسْن والقُبْح الذاتي والعقلي إبطال الفهم والاستنباط الخاطئ للحُسْن والقُبْح الشرعي والنقلي.
إن الاعتقاد بوجود الحُسْن والقُبْح لا يستلزم الشِّرْك؛ إذ أوّلاً: إن الحُسْن والقُبْح الذاتي له عينيةٌ وواقعية، ولكنْ لا وجود له؛ وثانياً: إن بإمكان الله أن يتجاهل هذا الحُسْن والقُبْح، وينقضه عملياً، وإنْ كان لا يستطيع أن يغيِّره أو يستبدله. وأما مسألة أن يراعي الله هذا الحُسْن والقُبْح بميله وإرادته واختياره دائماً فيعود سببُه إلى ما يتّصف به من الصفات والخصائص، لا لأنه يُفْرَض عليه من قِبَل شخصٍ آخر؛ فإن اتصاف الله بالعَدْل ـ مثلاً ـ هو الذي يمنعه من ظلم العباد. وفي مثل هذه الحالة لا يقوم غيرُ الله بفرض شيءٍ على الله، ولا يعمل شيءٌ أو شخصٌ بتقييد إرادة الله وقدرته من خارج دائرة وجوده. وأما إذا كانت عدالة الله أو رحمته أو حكمته هي التي تقيِّد قدرته وإرادته فإن هذا لن يضرّ بتوحيده. هناك فرقٌ بين أن تكون صفات الله، مثل: العلم والحكمة والعدالة والرحمة، هي التي تقيِّد إرادته وقدرته وبين أن يكون الذي يقيِّد إرادته وقدرته كائنٌ أو موجودٌ آخر؛ فالحالة الأولى منسجمةٌ مع توحيد الله بشكلٍ كامل. وهذه مسألةٌ هامّة لم يدركها الأشاعرة.
إن الله سبحانه هو الذي يراعي القِيَم الأخلاقية بإرادته واختياره، ولا يضطرّه أحدٌ إلى ذلك. إن أخلاقية الله وانطباق أفعاله على الأسس والضوابط الأخلاقية هي من مقتضى فضائله وكمالاته الأخلاقية، وتنشأ من ذاته، فهو الذي يفرض التكليف على ذاته، ويوجب الأمر أو يحرِّمه على نفسه، وليس أيّ موجودٍ آخر. وعليه فإن «عدالة» الله تنسجم مع «وحدانيته»، وإن واقعية معيار العدالة وتقدُّمه على إرادة الإله المشرِّع، وكذلك حُسْنه الذاتي لا يستلزم الشِّرْك. إن هذا التقدُّم يعني تقدُّم حكم «الإله العادل» على حكم «الإله المشرِّع»، أو تقدُّم صفة «عدالة» الله على صفة «شارعية» الله. لو كان «الاستقلال الذاتي»([53]) شرطاً في أخلاقية الموجود لا مناص من ضرورة صدق هذا الشرط في حقّ الله أيضاً.
إن المعايير الأخلاقية بمعنىً من المعاني تابعةٌ لإرادة الله، كما أنها مستقلّةٌ عنها بمعنىً آخر من المعاني أيضاً؛ فإن هذه المعايير تابعةٌ لإرادة إله الأخلاق، ومستقلّةٌ عن إرادة إله الفقه. وعلى هذا الأساس فإن نوع النزاع الكبير بين فلاسفة الأخلاق والمتكلِّمين حول عقلية أو شرعية القِيَم الأخلاقية يقوم على فرضيةٍ خاطئة، وهي القول بأن هذه المعايير إمّا هي تابعةٌ لإرادة الله أو مستقلّةٌ عن إرادته. في حين أننا لو آمنا بوصف الشاهد المثاليّ كواحدٍ من صفات الله، ولو فصلنا حيثية «الشاهد المثاليّ» عن حيثية «المشرِّعية»، يمكن لنا القول بعدم وجود هذا التقابل، وإن المعايير الأخلاقية يمكن لها في ذات الوقت أن تكون تابعةً لإرادة الله ولا تكون تابعةً لها، وأن تكون علمانيةً وتكون في الوقت نفسه دينيةً؛ لأن حكم الله بوصفه شاهداً مثاليّاً هو ذاته حكم العقل الأخلاقي.
إن الحُسْن والقُبْح الأخلاقي ذاتيّ وعقليّ، بمعنى أنه تابعٌ للمعايير العينية أو تابعٌ لإرادة أو رغبة الشاهد المثاليّ، وليس تابعاً للإرادة التشريعية أو رغبة الإله الخالق أو المالك أو الشارع. إلاّ أن عنوان الشاهد المثاليّ يمكن إطلاقه على الله، ويمكن إطلاقه على الإنسان العاقل أيضاً، بمعنى أن المصداق الأتمّ والأكمل لهذا العنوان هو الله، بَيْدَ أن بإمكان الإنسان أن يقترب من موقعيّة الشاهد المثالي أيضاً، وبذلك يتمكَّن من إدراك حكم الله الذي هو حكم العقل أيضاً. إن حكم الشاهد المثاليّ هو وحده المبرَّر، والذي يجب اتّباعه في دائرة الأخلاق. ومن هذه الناحية لا فرق بين أن يكون الحُسْن والقُبْح من
1ـ الصفات العينية؛ أو
2ـ من الصفات الانتزاعية، التي يكون منشأ انتزاعها عينياً؛ أو
3ـ من الأوصاف الاعتبارية، التي يكون اعتبارها تابعاً للملاكات والمعايير العينية؛ أو
4ـ أن لا يكون وصفاً من الأساس، بل وسيلة للتعبير عن المشاعر الأخلاقية للمتكلِّم، أو تحفيز المشاعر الأخلاقية للمخاطب.
طبقاً لجميع هذه الفرضيات لا مناص لنا من الرجوع إلى الشاهد المثاليّ؛ للتعرّف على موارد ومصاديق الحُسْن والقُبْح. وبطبيعة الحال ـ وكما رأينا ـ فإن الرجوع إلى الشاهد المثاليّ لا يتأتّى من خلال الأسلوب المتداول في الفقه؛ لأن الفقه يتكفَّل بمعرفة أحكام الله بوصفه مشرِّعاً، والإله المشرِّع هو غير إله الأخلاق. وإن لمعرفة حكم الشاهد المثاليّ طريقاً وأسلوباً آخر.
إن اختلاف هذه النظرية عن النظريّات الأخرى واضحٌ؛ فإن اختلاف هذه النظرية عن نظرية الأشاعرة في مجال الحُسْن والقُبْح يكمن في أنهم يرَوْن الحُسْن والقُبْح تابعاً لإرادة وكراهة وأمر ونهي الإله الخالق أو المالك أو المشرِّع، ويُحِلُّون إله الفقه محلّ إله الأخلاق، ولا يرَوْن أيّ معيارٍ عينيّ ومستقلّ لإرادة وكراهة وأمر ونهي إله الفقه. طبقاً لهذه الرؤية ينحصر الطريق إلى معرفة الحُسْن والقُبْح بالوحي والنقل، وليس للعقل أيّ دَوْر في هذا الشأن، إذ لو لم تكن إرادة وكراهة وأمر الله ونهيه تابعاً لأيّ ملاكٍ ومعيار فإن الوسيلة الوحيدة التي يمكن من خلالها اكتشاف أمره ونهيه وإرادته وكراهته هو بيانه الذي يبلغ البشر من قناة الوحي([54]). إن الأشاعرة يقومون في الحقيقة بإحلال الإله المشرِّع محلّ الشاهد المثاليّ، ويخفضون مستوى الأخلاق إلى مستوى الفقه. وأما طبقاً لنظرية الشاهد المثاليّ فيمكن اكتشاف حكم الشاهد المثالي من طريق العقل والمشاهدة والتجربة الأخلاقية؛ إذ إن لإرادة وكراهة وأمر ونهي الشاهد المثالي ملاكاً ومعياراً، وإن بالإمكان اكتشاف تلك الملاكات من طريق العقل.
وأما اختلاف نظرية الشاهد المثاليّ عن نظرية المعتزلة في مجال الحُسْن والقُبْح فيكمن في أنه طبقاً لنظرية المعتزلة لا نكون في مقام معرفة الحكم الأخلاقي بحاجةٍ إلى الشاهد المثالي. كان المعتزلة يرَوْن إدراك الحُسْن والقُبْح أمراً بديهياً وسهل المنال، في حين أن المعايير الأخلاقية ليست بديهيةً دائماً، وإن الأحكام الأخلاقية ليست من جنس الحُسْن والقُبْح دائماً، وإن بالإمكان إبراز المسائل الأخلاقية في إطار الواجب والمحظور والأمر والنهي أيضاً. ولو أن شخصاً آمن بالوجود العيني والواقعي للواجب والمحظور لا يمكنه أن يفترض الوجود العيني والواقعي للأمر والنهي دون افتراض وجود الآمر والناهي، وإن هذا الآمر والناهي في دائرة الأخلاق ليس غير الشاهد المثاليّ.
ومضافاً إلى ذلك، فإن المعتزلة كانوا بدَوْرهم يلجأون ـ في مقام الكشف عن المعايير الأخلاقية الفرعية والجزئية، والكشف عن مصاديق الحُسْن والقُبْح ـ إلى الوحي والنقل أيضاً، وكانوا ـ مثل الأشاعرة ـ يحيلون الأخلاق إلى الفقه. بَيْدَ أن اعتبار وحجِّية الفتاوى الفقهية ـ كما رأينا وسنرى ـ رهنٌ بأن تكون هذه الفتاوى منسجمةً مع إرادة الشاهد المثاليّ، وأن لا تعمل على نقض حكمه. ولذلك لا يمكن اكتشاف حكم وإرادة الله بوصفه شاهداً مثاليّاً من طريق المصادر الفقهية، ومن خلال توظيف الأساليب والمناهج التحقيقية السائدة في الفقه.
5ـ كلمةٌ أخيرة
سَعَيْنا للعثور على طريقة حلٍّ مُرْضية ومقنعة للنزاع والخلاف بين الأخلاق الدينية والأخلاق العلمانية. فمن وجهة نظرنا إن هذا النزاع والخلاف إنما يمكن حلُّه في حالةٍ واحدة فقط، وهي أن نعتبر «الشاهد المثاليّ» بوصفه حَكَماً في الأخلاق. لقد رأينا أن نظرية الشاهد المثاليّ هي من مقتضيات العقلانية في دائرة الأخلاق، وإن الذين لا يرَوْن للعقل والعقلانية أيّ دَوْرٍ في دائرة الأخلاق إنما يخفضون الأخلاق، وينزلون بها إلى مستوى العواطف والمشاعر الراهنة والفعلية للناس، أو إلى مستوى الحكم والإرادة الاعتباطية والجزافية أو المصلحية للإله المشرِّع. إن مثل هذه القراءات عن الأخلاق العلمانية والأخلاق الدينية متعارضةٌ، ولا تقبل الجمع، وليس هناك أيّ طريقٍ منطقيّ وعقلانيّ لحلّ النزاع والخلاف بين هذه القراءات.
وأما الذي يرى للعقل والعقلانية حظّاً وشأناً في دائرة الأخلاق، ويقسِّم الأحكام الأخلاقية إلى: صادقة وكاذبة، أو حَسَنة وقبيحة، أو صائبة وخاطئة، أو مبرَّرة وغير مبرَّرة، أو معقولة وغير معقولة، ويعرضها على طاولة النقد والتقييم العقلاني، لا مناص له من فصل «الأخلاق المعيارية» عن «الأخلاق التوصيفية»، و«المشهد الأخلاقي» عن «المشهد الشخصي» و«المشهد الفقهي»، والأحكام الأخلاقية الصادقة أو المعقولة والمبرَّرة عن الأحكام الكاذبة أو غير الأخلاقية والاعتباطية، وأن يؤمن بالشاهد المثاليّ بوصفه هو الموجود والكائن الأوحد الذي يمتلك صلاحيّة إدراك وتشخيص أو إصدار الحكم الأخلاقي. وفي هذه الحالة لن يكون هناك فرقٌ بين أن يكون الشاهد المثاليّ هو الله أو العقل البشري.
وذكرنا أيضاً أن النموذج المناسب والمطلوب لتنظيم علاقة الإنسان بالله هو نموذج الشاهد المثاليّ، وليس نموذج المملوك والمَوْلى. وإن حاجة الإنسان إلى الله في دائرة العمل والسلوك هي حاجته إلى الشاهد المثاليّ، وليس حاجته إلى مولاه. وبطبيعة الحال إن الإنسان هو عبد الله أيضاً، ولكنّ العبودية غير الرقِّية والمملوكية؛ فإن العبودية تنسجم مع الكرامة الإنسانية، في حين أن الرقِّية والمملوكية لا تتناسب مع الكرامة الإنسانية. إن العبودية تعني إطاعة الشاهد المثاليّ، والخضوع لحكمه، وهذا من مقتضيات الكرامة الإنسانية.
إن لنظرية الشاهد المثاليّ انعكاساً هامّاً ومصيريّاً في مجال معرفة الأخلاق والمعرفة الفقهية، وهو أن الفهم الفقهي للأحكام الشرعية إنما يكون معتبراً إذا كان منسجماً مع مقتضيات هذه النظرية؛ لأن حكم وإرادة إله الأخلاق مقدّمةٌ على حكم وإرادة إله الفقه؛ فإن من حقّ إله الفقه بوصفه خالقاً أو مالكاً أو منعماً أن يوجب عملاً أو يُحرِّمه، إلاّ أن هذا الحق ليس مطلقاً، بل هو مقيَّدٌ بقيود أخلاقية؛ لأن ذات هذا الحقّ هو حقٌّ أخلاقي، ولا يمكن تجاهل سائر الحقوق والقِيَم الأخلاقية استناداً إلى حقٍّ أخلاقيّ واحد. وعلى هذا الأساس فإن الشيء الوحيد الذي يمكن لإله الفقه أن يوجبه أو يُحرِّمه هو الشيء الذي يكون في حدّ نفسه مباحاً، وأن لا يكون إيجابُه أو تحريمُه محظوراً من الناحية الأخلاقية. وأما الأمور التي تكون من الناحية الأخلاقية (وبحكم الشاهد المثالي أو إله الأخلاق) واجبةً أو محرَّمة فلا يمكن أن تكون من الناحية الشرعية (وبحكم إله الشرع) مباحةً. وعلى هذا الأساس إن لازم تقدُّم الأخلاق على الشريعة في عالم الثبوت هو تقدُّم علم الأخلاق على علم الفقه في عالم الإثبات.
وقلنا أيضاً: إن المنهج والأسلوب الصحيح لمعرفة حكم الشاهد المثاليّ لا يتلخَّص في الاستناد والتعويل على العقل أو الوحي حَصْراً، وإنما الأسلوب الصحيح هو المواءمة بين مضمون الوحي وانسجامه مع حكم العقل. وإن المواءمة بين هذين الأمرين يجب أن تتمّ عبر التقييم والمقارنة والتعاطي المتبادل بينهما، لا من طريق التسليم بأحدهما والتصرُّف في الآخر، ولا من طريق اشتراط حجِّية حكم العقل بحصول القطع واليقين، الذي يساوق إلغاء العقل وتعطيله.
وقد بحثنا «أخلاق التشريع» أو «مقام التقنين». كان موضوع بحثنا يدور حول العلاقة القائمة بين الدين والأخلاق، وكانت النتيجة التي توصَّلنا إليها تقضي بالقول: إذا كان مراد القائلين بأن الأخلاق دينيةٌ هو أن المعايير الأخلاقية تنبثق عن إرادة إله الفقه (الإله المشرِّع) ففي هذه الحالة سيكون الحقّ مع القائلين بعلمانية الأخلاق، وليس دينية الأخلاق، بمعنى أن إرادة إله الفقه والشريعة تَبَعاً له ـ بمعنى مجموع الأحكام الشرعية ـ تابعةٌ للأخلاق، وليس العكس، وأن القوانين والقرارات الشرعية ليست اعتباطيةً، ولا خاليةً من الملاكات والضوابط والمعايير، هذا أولاً. وثانياً: إنها مقيّدةٌ بالضوابط والقِيَم الأخلاقية، وإن القِيَم الأخلاقية هي التي تحدِّد وترسم إطار وحدود الشريعة في عالم الثبوت واللوح المحفوظ وصُلْب الواقع.
وأما إذا كان مراد القائلين بأن الأخلاق دينيةٌ هو القول بأن المعايير الأخلاقية تنبثق عن إرادة إله الأخلاق (الله بوصفه شاهداً مثاليّاً) ففي مثل هذه الحالة لن يكون هناك من فرقٍ بين الأخلاق الدينية والأخلاق العلمانية، بمعنى أن هذين النوعين من الأخلاق ـ رغم اختلاف متبنّياتهما ـ يلتقيان في مصداق الشاهد المثاليّ، وينتهيان إلى أخلاقٍ معياريّة واحدة.
الهوامش
(*) أستاذٌ في جامعة المفيد، وأحد الباحثين البارزين في مجال الدين وفلسفة الأخلاق، ومن المساهمين في إطلاق عجلة علم الكلام الجديد وفلسفة الدين.
([3]) قال الله سبحانه في القرآن بهذا الشأن: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأنعام: 162).
([4]) وإن هؤلاء الآخرين عبارةٌ عن دائرة واسعة تضمّ الأنا السفلية أو النفس الأمّارة وجميع الذين لا يمتلكون صلاحية إصدار الأحكام الأخلاقية، والذي يصطلح عليه في الأدبيات الدينية بـ «الصنم».
([5]) رُبَما أمكن توظيف نظرية الشاهد المثالي بوصفها برهاناً على وجود الله أيضاً. وفي الحقيقة إن بعض تقريرات «البرهان الأخلاقي على وجود الله» يقوم على القول بهذه النظرية.
([6]) انظر على سبيل المثال قوله تعالى:
ـ ﴿وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾ (يوسف: 80؛ يونس: 109؛ الأعراف: 87).
ـ ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ﴾ (نوح: 45).
ـ ﴿أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ (التين: 8).
ـ ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ (المائدة: 50).
ـ ﴿إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ﴾ (الأنعام: 57؛ يوسف: 40).
ـ ﴿…لَهُ الْحُكْمُ…﴾ (الأنعام: 62؛ القصص: 70، 88).
ـ ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ﴾ (الشورى: 10).
ـ ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ (النساء: 59).
ـ ﴿اتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللهُ﴾ (البقرة: 282).
ـ ﴿إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً﴾ (الأنفال: 29).
ـ ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً﴾ (الطلاق: 2).
([9]) رُوي عن النبيّ الأكرم| أنه قال: «رأس الحكمة مخافة الله».
([10]) إن استنتاج وجوب إطاعة الله بشكلٍ مطلق من خالقيته أو مالكيته أو شارعيته إنما يُعَدّ في الحقيقة مصداقاً لمغالطة «الكينونة» و«الوجوب».
([11]) إن وجوب إطاعة أوامر إله الأخلاق أو الشاهد المثالي من الأمور الجَذْرية التي لا تحتاج إلى دليلٍ. وبعبارةٍ أخرى: إذا تصوّرنا الله بوصفه شاهداً مثالياً فإن السؤال القائل: «لماذا تجب إطاعة الله؟» سيكون مساوقاً للسؤال القائل: «لماذا يجب أن أكون أخلاقياً؟». وإن هذا السؤال ـ الذي هو في الحقيقة سؤالٌ عن عقلانية التعهُّد الأخلاقي ـ إما أن يكون قابلاً للطرح من غير أن يكون بحاجةٍ إلى جوابٍ، أو أن يكون له جوابٌ واضح وبديهي؛ في حين أننا إذا تصوَّرنا الله بوصفه شارعاً سوف يتمّ فصل السؤال القائل: «لماذا تجب إطاعة الله؟» عن السؤال القائل: «لماذا يجب أن أكون أخلاقياً؟». ولذلك فإن وجوب إطاعة أوامر الإله الشارع ليس حكماً جَذْرياً وبديهياً.
([17]) هذا ما يذهب إليه السيد الشهيد محمد باقر الصدر، وهو يختلف عن القول بـ «نفس الأمر» الوارد في كلمات القدماء؛ إذ يرَوْن أن الواقعيات التي ليس لها وجودٌ في عالم الخارج موجودةٌ في نفس الأمر، في حين يذهب السيد الشهيد الصدر إلى القول بأن لبعض الأمور واقعيةً، ولكنْ ليس لها وجود، حتّى في نفس الأمر، لا أنها غير موجودةٍ في عالم الخارج، ولكنها موجودةٌ في نفس الأمر.
([18]) إن القول بهذه الرؤية يمكِّن القائلين بالواقعية الأخلاقية من الدفاع عن رؤيتهم في مواجهة بعض انتقادات الشكّاكين وأصحاب النـزعة اللامعرفية؛ إذ يمكن لهؤلاء القول بأن الذهاب إلى الاعتقاد بالقِيَم والضرورات والمحظورات الأخلاقية بوصفها أموراً واقعية وعينية لا يستلزم إثراء وإغناء الميتافيزيقا ورفع عدد الموجودات؛ فإن هذه القِيَم والضرورات والمحظورات يمكن لها أن تكون واقعيةً، وفي الوقت نفسه لا تكون موجودةً. وإن افتراض واقعية شيءٍ لا يمكن استئصالها بمشرط (أوكام)؛ لأن الواقعيات الأخلاقية من الناحية البيانية ليست زائدةً، ولا عبثية.
([21]) وإلاّ فإن هذه الجملة لن تكون مفيدةً لبيان أو تبرير حكمٍ أو أصلٍ من أصول «الأخلاق المعيارية»، حتّى وإنْ أمكن اعتبارها بوصفها حكماً أو أصلاً من أصول «الأخلاق التوصيفية». ليس هناك مانعٌ من توظيف لغة الأخلاق لتوصيف أو إبراز المتبنّيات أو العواطف والمشاعر الشخصية التي تعتلج في ذاته أو لدى الآخرين أو الجماعات والقوميات والشعوب المختلفة أو أتباع الأديان والمذاهب وأصحاب الثقافات المختلفة، إلاّ أن هذه التوصيفات مرتبطةٌ بالأخلاق التوصيفية، دون الأخلاق المعيارية. إن توظيف لغة الأخلاق من أجل توصيف أو إبراز الأحكام أو أصول الأخلاق المعيارية رهنٌ بإحراز الشرطين المذكورين، أي: أوّلاً: أن يكون الشخص بصدد توصيف أو إبراز الحكم أو الأصل الذي يكون صادراً عن المشهد الأخلاقي ـ الذي هو غير المشهد الشخصي أو الجماعي أو الفئوي أو القومي أو الديني أو الثقافي ـ؛ وثانياً: أن يكون ذلك الحكم أو الأصل مقبولاً من قِبَل الشاهد المثاليّ.
([24]) لم أعثَرْ ـ باستثناء النـزعة الحسِّية الساذجة والقراءات السطحية لنظرية الأمر الإلهي، التي لا ترى أيّ دَوْرٍ للعقل والعقلانية في الأخلاق ـ على أيّ نظريةٍ أخرى تعارض أو لا تنسجم مع نظرية الشاهد المثاليّ أو لا يمكن أن تجتمع معها. إن أنصار النـزعة الحسِّية السطحية، من خلال التأثُّر بالأفكار الوضعية ـ وخاصّة بعد ذهابهم إلى الإثبات التجريبي بوصفه معياراً للمفهومية ـ، كانوا يعتبرون الجُمَل الأخلاقية فاقدةً للمعنى وغير مفيدةٍ للمعرفة. ترى هذه الجماعة أن الجُمَل الأخلاقية تبرز المشاعر والأحاسيس الفعلية لشخص المتكلِّم. إلاّ أن عدم القابلية على الإثبات التجريبي للأحكام الأخلاقية إنما لا تنسجم مع نوعٍ خاصّ من العقلانية، وهي العقلانية العلمية في دائرة الأخلاق فقط، وليس مع جميع أنواع العقلانية؛ في حين أن النـزعة الحسِّية الساذجة لا تنسجم مع كلّ أنواع العقلانية في دائرة الأخلاق؛ لأن هذا النوع من النـزعة الحسِّية ترى أن الجُمَل الأخلاقية تعمل على إبراز العواطف والمشاعر الراهنة والفعلية للأشخاص.
إن التقارير والقراءات الأكثر تعقيداً بشأن النـزعة الحسِّية والنـزعة اللامعرفية في الأخلاق ترى أن الجُمَل الأخلاقية تعمل على إبراز العواطف والمشاعر العقلانية أو المثالية للأشخاص، بمعنى العواطف والمشاعر التي تمور في وجود الشخص إذا كان واجداً لخصائص الشاهد المثاليّ، وكان ناظراً إلى الموضوع من زاوية المشهد الأخلاقي. إن هذا النوع من النـزعة الحسِّية والنـزعة اللامعرفية تعمل على تقسيم العواطف والمشاعر الإنسانية إلى: عواطف ومشاعر «عقلانية» و«غير عقلانية»، أو «أخلاقية» و«غير أخلاقية»، ولذلك من الممكن أن تجتمع مع نوعٍ من العقلانية في دائرة الأخلاق. وإن السؤال عمّا إذا كانت هذه القراءة للعقلانية نظريةً أم عملية؟ رهنٌ بالتعريف والمعيار الذي يحدِّده الفرد للفصل بين العواطف والمشاعر العقلانية والأخلاقية عن العواطف والمشاعر غير العقلانية وغير الأخلاقية. وهناك مزيدٌ من البحث حول هذا الموضوع يمكن للقارئ الكريم أن يجده في كتابنا (أخلاق التفكير الأخلاقي).
ومن ناحيةٍ أخرى إن القراءات الساذجة لنظرية الأمر الإلهي ترى أن الجُمَل الأخلاقية تبرز الإرادة الاعتباطية والجزافية أو الإرادة المصلحية للإله المشرِّع. وفي الحالة الأولى لا ينسجم هذا القول مع أيّ نوعٍ من أنواع العقلانية في دائرة الأخلاق؛ وأما في الحالة الثانية فإنها تنسجم مع العقلانية الاقتصادية أو المصلحية. إن هاتين النظريتين إنما تتّفقان مع بعضهما إذا قلنا بأن إرادة الإله المشرِّع تابعةٌ لحكم الشاهد المثالي.
([25]) يبدو أن رؤية الأشاعرة غير منسجمةٍ مع نظرية الشاهد المثاليّ. ولكنْ سيتّضح قريباً أن الأدلة التي يسوقونها لتبرير ما يذهبون إليه لا يمكن لها إبطال هذه النظرية.
([26]) كما سيأتي فإنه حتى لو اعتبرنا الصفات الأخلاقية عينيةً وواقعية، واعتبرنا الأحكام الأخلاقية معرفيةً وناظرة إلى الواقع، مع ذلك يمكن لنا القول بأن استقلال القِيَم الأخلاقية عن إرادة وحكم الله بوصفه خالقاً أو مالكاً أو منعماً ينسجم مع التوحيد؛ إذ أوّلاً: إن الواقعية لا تساوق الوجود؛ وثانياً: إن صفات الله الأخلاقية هذه هي التي تفرض عليه مراعاة القِيَم الأخلاقية. وعليه ليس هناك شخصٌ أو شيءٌ يفرض على الله شيئاً من الخارج، أو أن يعمل على تقييد إرادته وقدرته. وإن تقييد بعض صفاته من قِبَل بعض صفاته الأخرى قابلٌ للانسجام مع ربوبية الله ووحدانيته تماماً.
وفي ما يتعلَّق باختلاف «نظرية المعرفة» عن «فلسفة العلم» انظر: أخلاق دين شناسي، الفصل الرابع، الفقرة رقم (4 / 3 / 3).
([29]) لقد عمدنا إلى نقد هذه النظرية وبحثها بالتفصيل في الفصل الأوّل من كتابنا (أخلاق المعرفة الدينية).
([30]) إن مرادي من «نظرية المعرفة» هنا هو المعنى الخاصّ للكلمة، وهو المعنى المساوق لـ (epistemic / epistemological)، والذي يقع في مقابل الفلسفة العلمية. ولمزيدٍ من التوضيح بشأن مختلف معاني هذا المصطلح انظر كتابنا أخلاق المعرفة الدينية، الفصل الرابع، الفقرة رقم (4 / 3 / 3).
([31]) ولو أخذنا الأخلاق بمعناها الأعمّ الشامل لأخلاق التفكير والبحث أيضاً ففي هذه الحالة يجب علينا إضافة «نظرية المعرفة» إلى قائمة العلوم الأصلية والعلوم المنتجة أيضاً. وقد تعرَّضنا لنظرية القبض والبسط في الفصل الرابع من كتابنا (أخلاق المعرفة الدينية) بتفصيلٍ أكثر. وبطبيعة الحال إن دائرة هذه النظرية لا تنحصر بعلاقة «علم الفقه» و«علم الأخلاق»، وإنما تشمل كلّ المعرفة الدينية من جهةٍ، وكل المعارف البشرية من جهةٍ أخرى.
([32]) إن «الاعتقاد الصادق المبرَّر» تعريف تقليدي للعلم. يذهب بعض المعرفيين إلى القول بأن العلم عبارة عن «الاعتقاد الصادق»، ويعتبر قيد «المبرَّر» في التعريف التقليدي للعلم أمراً زائداً؛ ومن ناحيةٍ أخرى منذ نشر المقالة المقتضبة والهامّة لـ (غيته) (Gettier, E. (1963) «Is Justified True Belief Knowledge?» Analysis, 23 (6), 121 – 3.) ذهب الكثير من المعرفيّين إلى الإقرار بأن هذا التعريف ليس طارداً للأغيار، وأن العلم بالإضافة إلى كونه اعتقاداً صادقاً ومبرَّراً يشتمل على قيدٍ أو شرط رابع أيضاً. وقد بذل هؤلاء الكثير من الجهود لاكتشاف ذلك القيد والشرط، وتصحيح وإكمال هذا التعريف، رغم أنه لم يحصل حتّى الآن على أيّ إجماعٍ أو اتّفاقٍ عامّ في هذا المجال. وعلى كلّ حال لا تزال هذه المسألة صادقةً، وهي أن موضوع معرفة العلم بمعنى آحاد القضايا والمتبنّيات، وليس العلم بمعنى الفرع أو المجال العلمي. لمزيدٍ من الشرح والتفصيل حول اختلاف هذين المعنيين من العلم انظر كتابنا أخلاق المعرفة الدينية، الفصل الرابع، الفقرة رقم (4 / 3 / 3).
([38]) لقد تعرَّضتُ لمزيدٍ من الشرح والتفصيل بشأن مختلف نظريات التبرير في الأخلاق في كتابنا (أخلاق التفكير الأخلاقي)، فراجِعْ.
([39]) أرى عدم وجود فرقٍ كبير بين الروايات المعتدلة للنـزعة الأصولية والنـزعة الارتباطية في مجال المعرفة. وقد أخضَعْنا هذا الادّعاء للبحث والتحقيق التفصيلي في كتابنا «أخلاق تفكُّر أخلاقي» (أخلاق التفكير الأخلاقي)، فراجِعْ.
([40]) لقد تناولنا هذه النظرية بالشرح والتفصيل في الفصل الثامن من كتابنا «أخلاق تفكُّر أخلاقي» (أخلاق التفكير الأخلاقي)، فراجِعْ.
([41]) في تصوُّري إن من بين أكبر الأخطاء المعرفية التي يرتكبها علماء الدين ـ سواء في ذلك المتقدِّمون منهم والمتأخِّرون ـ أنهم يعتبرون العلم المستند إلى الوحي يقينياً، والعلم المستند إلى العقل والتجربة البشرية ظنّياً؛ في حين أن الوحي إذا كان يقينياً فهو يقينيٌّ بالنسبة إلى النبيّ والإمام المعصوم، ولا يكون كذلك بالنسبة إلى الآخرين، الذين لا طريق لهم إلى الوحي غير طريق النقل. انظر النقد التفصيلي لهذا الرأي في كتابنا «أخلاق دين شناسي» (أخلاق المعرفة الدينية)، الفصلين الأوّل والثالث.
([42]) Rawls, J. (1999) A Theory of Justice (Oxford: Oxford University Press). Revisied edition. First published in 1971.
([43]) the method of reflective equilibrium.
([44]) balance and refinement.
([45]) انظر في هذا الشأن إلى الكتاب القيِّم التالي:
DePaul, M. (1993) Balance and Refinement: Beyond Coherence Method of Moral Inquiry, (London: Routledge).
([46]) لنقد وبحث هذه الرؤية بالتفصيل انظر كتابنا «أخلاق دين شناسي» (أخلاق المعرفة الدينية)، الفصل الأوّل.
([47]) المزيّة الأخرى التي يمكن ذكرها لهذا الأسلوب هي أن الفقه والأفهام الفقهية من الأحكام الشرعية طبقاً لهذا الأسلوب ليست وحدها التي تقبل التقييم والمقارنة على طبق المذهب الشيعي، بل الأفهام الفقهية لسائر الفرق والمذاهب الإسلامية، وكذلك التعاليم الأخلاقية والشرعية لسائر الأديان والتقاليد الدينية وغير الدينية، ستقع مورداً للمقارنة والتقييم أيضاً. وهذه الأمور بأجمعها من مقتضيات العقلانية. إن تجاهل التعاليم الأخلاقية للسنن والتقاليد الدينية وغير الدينية الأخرى، التي هي ثمرة تجاربها الأخلاقية، لا ينسجم مع العقلانية.
([48]) لقد تناولنا هذا الادّعاء في الفصل الأوّل من كتابنا «أخلاق دين شناسي» (أخلاق المعرفة الدينية)، وشرحناه بتفصيلٍ أكبر.
([49]) جاء في القرآن الكريم قوله: ﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ (الأنعام: 12)، وقد ذكر بعض المفسِّرين أن معنى كلمة (كتب) في هذه الآية يعني أنه أوجب ذلك على نفسه.
([50]) إن خصوصية مثل هذه القراءة لنظرية الأمر الإلهي أنها تؤدّي حقّ العقل والعقلانية في الأخلاق بشكلٍ كامل ومناسب.
([54]) يمكن القول: إنه طبقاً لنظرية الأشاعرة لا يمكن التعرُّف على الحُسْن والقُبْح حتّى من طريق الوحي والنقل أيضاً؛ إذ لا يمكن الوثوق والاعتماد على إله الأشاعرة، فليس هناك أيّ ضمانةٍ في أن لا يعتمد هذا الإله الكذب وسيلةً لبيان أحكامه، والسعي للاحتيال على الناس وخداعهم؛ فإن الأشاعرة يصرِّحون بأن الله إذا أرسل المطيعين إلى النار والعاصين إلى الجنّة لن يكون قد ارتكب عملاً قبيحاً أو منافياً للأخلاق. وهذا في الحقيقة يُعَدّ واحداً من لوازم نظريتهم في مجال الحُسْن والقُبْح. لو أن إله الأشاعرة مارس الكذب والخداع على عباده لا يكون قد ارتكب أمراً قبيحاً. وعلى هذا الأساس لا يمكن لنا أن نكتشف الإرادة الحقيقية لله، وتَبَعاً لذلك الحُسْن والقُبْح الأخلاقي، من خلال كلام هذا الإله وأمره ونهيه. من هنا يمكن اعتبار قراءة الأشاعرة لشرعية الحُسْن والقُبْح نوعاً من التشكيك واللاأدرية الأخلاقية. وقد قال بعض المتكلِّمين الشيعة في نقد موقف الأشاعرة في باب الحُسْن والقُبْح: «إن شرعية الحُسْن والقُبْح تستلزم النفي والإلغاء الكامل والتامّ للحُسْن والقُبْح». ومن بين التفسيرات التي يمكن الحصول عليها من هذا النقد هو القول بأن الحُسْن والقُبْح إذا كان شرعياً فإن معرفته من طريق الوحي والنقل لن تكون ممكنةً.