أ. علي محمديان(*)
د. محمد رضا علمي سولا(**)
د. محمد تقي فخلعي(***)
الخلاصة
يسعى بعض الأفراد لتشويه صورة السيد الخميني&، وتضعيف التعاليم النقية للمدرسة الشيعية بالتَّبَع؛ وذلك عن طريق إبراز جزءٍ من عبارات السيد الخميني من بعض كتبه الفقهية في جواز غيبة المخالفين، واختصاص حرمة الغيبة بالمؤمنين بالمعنى الأخصّ.
يستنتج الباحث هاهنا، بعد مطالعة مجمل آرائه، أنّه وإنْ كان في آرائه الأولى قبل عصر انتصار الثورة الإسلامية قد اعتبر قيد «الإيمان» في حرمة الغيبة، إلاّ أنّه لا يمكن اعتبار هذا النظر رؤيةً عامة للإماميّة، ونظراً نهائيّاً له في المسألة؛ فإنّ تحليل آرائه بعد انتصار الثورة، وفي مرحلة قيادته للمجتمع الإسلاميّ، يشير إلى أنّه قائلٌ بحرمة الغيبة لجميع المسلمين.
وبناءً على هذا إذا كان الكلام الأخير لأيّ شخص هو الرأي النهائيّ له فيجب حينئذٍ اعتبار الرأي النهائيّ للسيد الخميني& في مسألة الغيبة هو حرمتُها بنحوٍ عامّ لجميع الأفراد.
مقدّمةٌ
يأمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين، في الآية 12 من سورة الحجرات، بالاجتناب عن غيبة إخوتهم في الدين([1]). وقد اعتبر مشهور فقهاء الإمامية؛ بناءً على تفسيرٍ خاصّ لهذه الآية، واستناداً إلى عدّة رواياتٍ، أنّ المناط في حرمة الغيبة هو «الإيمان»، وأنّ المنصرف من كلمة «المؤمن» هم الشيعة المعتقدون بالأئمة الاثني عشر، وعليه يخرج غير الشيعة عن عموم أدلّة الحرمة، فيجوز اغتيابهم([2]).
وكذلك ذهب السيد الخميني في آرائه الفقهية الأولى إلى شرطية قيد «الإيمان» في تحقُّق حرمة الغيبة، ورأى جواز غيبة المخالفين([3]).
ولكنّنا نرى أنّه& بعد عنايته العميقة واهتمامه بمكانة الأحكام الاجتماعية في الإسلام، ودخوله إلى الساحة العملية والإجرائية، والتفكير والبحث في المناهج العملية لإجراء الأحكام في المجتمع، قد أحسّ بلزوم التغيير بعض آرائه الفقهية([4])، ومن تلك الآراء مسألةُ جواز أو حرمة غيبة المخالفين.
لقد قسَّمت هذا البحث إلى قسمين؛ ففي القسم الأوّل عُرض الرأي الأوّل للسيد الخميني، ووُضعت أدلة هذا الرأي على طاولة التحليل، فنُقدَتْ وأُثبت عدم تماميّتها، ليخلص بعد ذلك إلى أنّ عمومات أدلة حرمة الغيبة جاريةٌ بالنسبة إلى المخالفين (أهل السنّة)، وأنّ الأدلة قاصرةٌ عن إثبات قيد «الإيمان» فيها.
وفي القسم الثاني تمّ تشخيص وتحليل الرأي النهائي له&، الذي وصل إليه في مرحلة ما بعد انتصار الثورة الإسلامية.
1ـ رؤية السيد الخميني قبل الثورة الإسلامية، تحليلٌ ونقد
إنّه قد بيَّن عمدة نظره في مسألة الغيبة في كتاب «المكاسب المحرّمة»، قبل الثورة.
إنّ «المكاسب المحرمة» كتابٌ اجتهاديّ في الفقه الاستدلالي، كتبه السيد الخميني& باللغة العربية، بين 1377 إلى 1380هـ.ق (1337 ـ 1340هـ.ش)، في أنواع المكاسب المحرَّمة ومسائلها.
قد اشتغل السيد الخميني في هذا الكتاب بشكلٍ واسع ببيان أحكام الغيبة وما يتعلّق بها؛ فيكتب عند ابتداء كلامه عن الغيبة: «الغيبة حرامٌ؛ بالأدلة الأربعة. والظاهر أنّها من الكبائر»([5]). ثمّ يقوم ببيان أدلة حرمة الغيبة بشكلٍ تفصيليّ، حتّى يصل إلى مسألة أخذ قيد الإيمان في حرمة الغيبة، فيكتب: «إنّ الظاهر اختصاص الحرمة بغيبة المؤمن، فيجوز اغتياب المخالف»([6]).
وفي سياق أخذ هذا القيد أوضح أنّ هذا القيد ليس مستنداً إلى إصرار المحدِّث البحراني على كفر المخالفين، الذي اعتبره الأخير كأحد المبرِّرات لجواز اغتيابهم([7])؛ فإنّه رفض هذا الرأي([8])، وإنّما ذلك مستندٌ إلى قصور الأدلّة عن إثبات حرمة الغيبة بالنسبة إليهم.
ولإثبات كلامه يستند السيد الخميني إلى بعض الأدلة.
ونحن سنذكرها، ثمّ نحلّلها وننقدها في ما يلي:
أـ اختصاص حرمة الغيبة في القرآن بالمؤمنين
أحد الأدلة التي استند إليها السيد الخميني في جواز غيبة المخالفين هو الاستدلال بالآية 12 من سورة الحجرات، والآية 19 من سورة النور([9])؛ حيث رأى& أنّ الحرمة الموجودة في هذه الآيات مختصّةٌ بالمؤمن بالمعنى الخاصّ، ولذلك فلا تحرم غيبة المخالفين([10]).
وأما ما قاله الفاضل الإيرواني من أنّ الاختلاف بين مفهومي الإسلام والإيمان إنّما وجد في عصر الأئمّة^، ولم يكن موجوداً في زمان نزول هذه الآيات([11])، فهو كلامٌ فاسد، بحَسَب تعبيره&. يقول عن هذا الرأي: «وتوهُّم أنّ اختلاف الإيمان والإسلام اصطلاحٌ حادث في عصر الأئمّة^، دون زمان نزول الآية الكريمة، فاسدٌ جدّاً.
أمّا أوّلاً: فلأنّ الأئمّة لا يقولون بما لا يقول به الله تعالى ورسوله|…
وأمّا ثانياً: فلأنّ الإيمان كان قبل نصب رسول الله| عليّاً× للولاية عبارةً عن التصديق بالله ورسوله…؛ وأمّا بعد نصبه، أو بعد وفاته|، فقد صارت الولاية والإمامة من أركانه. فقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ هو جعل الأخوّة بين المؤمنين الواقعيين، غاية الأمر أنّه في زمان رسول الله| كان غير المنافق مؤمناً واقعاً؛ لإيمانه بالله ورسوله|، وبعد ذلك كان المؤمن الواقعيّ مَنْ قَبِل الولاية وصدّقها أيضاً، فيكون خطاب «يا أيّها المؤمنون» متوجِّهاً إلى المؤمنين الواقعيين، وإنْ اختلفت أركانه بحَسَب الأزمان»([12]).
نقدٌ وبيان
ويجب أن يُقال: إنّ الاستدلال المتقدِّم قابلٌ للمناقشة من عدّة جهاتٍ:
يكتب الشيخ السبحاني في نقد هذا الاستدلال: «لا يبعد أن يكون هناك مصطلحان بملاكين:
أحدهما: ما يكون ملاكاً للطهارة وحلّية الذبيحة وصحّة التناكح والتناسل والمواريث، وبعبارةٍ أخرى: ملاك الوحدة وإمكان التعايش الاجتماعي.
وثانيهما: ملاك قبول الأعمال والسعادة الأخروية.
ولا بُعْد فيه؛ فإنّا نرى أنّ لنفس المسلم في نفس القرآن مصطلحين؛ فتارةً يستعمله في التصديق اللساني قائلاً: ﴿وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾([13])؛ وأُخرى يطبِّقها على التصديق اللساني والقلبي، كما في قوله سبحانه: ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ﴾([14])»([15]).
ويضيف السبحاني: إنّ إيمان المخالف بمجموعة تعاليم الرسول الأكرم| على نحو الإجمال كافٍ في تحقُّق عنوان الإيمان؛ لأجل الاحتراز عن غيبته، حتّى وإن لم يكن واقفاً على الولاية تفصيلاً. فهذا المقدار من الإيمان كافٍ في صدق عنوان المؤمن، وإنْ لم يكن كافياً للسعادة الأخروية، بحَسَب تقديره([16]).
الإشكال الآخر الذي يأتي على التمسّك بالآيات المذكورة هو أنّ المفهوم الذي يمكن استنتاجه منها فقط هو مفهوم اللقب، والذي اعتبره الأصوليّون أضعف المفاهيم([17]).
إنّ الكثير جدّاً من الخطابات القرآنية جاءت بعبارة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾. فمن باب المثال في القرآن يقول سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 183)، فالسؤال هنا في هذه الآية: هل يمكن أن يُقال: إنّ الصيام واجبٌ فقط على المؤمنين (الشيعة)، ولا يُكلَّف به المخالفون؟!
يقول العلاّمة الطباطبائي حول هذا الأمر: «تموضع خطاب: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ في ابتداء بعض الآيات هو من قبيل: تصدير أشخاصٍ ما على أساس التشريف والاحترام، كمثل: لفظ ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾؛ ولفظ: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ﴾، ولا يوجد مع هذا منافاة مع عمومية التكليف وسعة المعنى والمراد»([18]).
كما أنّنا نرى أنّ كثيراً من الآيات التي تتضمّن عنوان «آمنوا»، مثل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾ (المائدة: 1)، تفيد نوعاً من ضمان الأداء والامتثال. ولهذا فمع كون الخطاب عامّاً إلاّ أنّ الله سبحانه وتعالى بخطابه بلفظ المؤمن يريد أن يرغِّب بشكلٍ آكد في تنفيذ العمل، وليس مراده تخصيص الخطاب بفئةٍ خاصة([19]).
ب ـ دلالة الروايات على الاختصاص
يعتقد السيد الخميني& في مجال الروايات بما هذا نصُّه: «وأمّا الأخبار فما اشتملت على (المؤمن) فكذلك [أي دالّةٌ على المطلوب، فلا تشمل المخالفين]؛ وما اشتملت على (الأخ) لا تشملهم أيضاً…؛ وما اشتملت على المسلم فالغالبُ منها مشتملٌ على ما يوجبه ظاهراً في المؤمن»([20]).
ولإثبات كلامه يشير& إلى بعض الروايات، ومنها:
1ـ رواية سليمان بن خالد، عن أبي جعفر× قال: «قال رسول الله|: المؤمن مَنْ ائتمنه المؤمنون على أنفسهم وأموالهم، والمسلم مَنْ سلم المسلمون من يده ولسانه، والمهاجر مَنْ هجر السيّئات وترك ما حرّم الله، والمؤمن حرامٌ على المؤمن أن يظلمه أو يخذله أو يغتابه أو يدفعه دفعةً»([21]).
2ـ رواية الحارث بن المغيرة قال: قال أبو عبد الله×: «المسلم أخو المسلم، هو عينه ومرآته ودليله، لا يخونه ولا يخدعه ولا يظلمه ولا يكذبه ولا يغتابه»([22]).
3ـ رواية أبي ذرّ، عن النبيّ|، في وصيّته له، وفيها قال: «يا أبا ذرّ، سباب المسلم فسوقٌ، وقتاله كُفْرٌ، وأكل لحمه من معاصي الله، وحرمة ماله كحرمة دمه»، قلتُ: يا رسول الله، وما الغيبة؟ قال: «ذكرك أخاك بما يكره»([23]).
4ـ رواية عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله×: «الغيبة أن تقول في أخيك ما قد ستره الله عليه»([24]).
ردٌّ وتنبيه
إنّ الاستدلال المتقدِّم غيرُ تامٍّ من جهاتٍ مختلفة:
أوّلاً: إنّ أحاديث الباب ليست منحصرةً فقط في لفظ «المؤمن» أو «المسلم»؛ فقد ورد في كثيرٍ من الروايات لفظ «الناس»، بحيث يشير هذا إلى عدم جواز غيبة أيّ إنسانٍ، فينقل نوف البكّالي عن الإمام عليّ× أنّه قال: «يا نوف، كذب مَنْ زعم أنّه ولد من حلالٍ وهو يأكل لحوم الناس بالغيبة»([25]).
وعن الحسين بن خالد، عن الرضا×، عن أبيه×، عن الصادق× قال: «إنّ الله يبغض البيت اللحم واللحم السمين»، قال: فقيل له: إنّا لنحب اللحم، وما تخلو بيوتنا منه، فقال: «ليس حيث تذهب، إنّما البيت اللحم البيت الذي تؤكل فيه لحوم الناس بالغيبة، وأما اللحم السمين فهو المتبختر المتكبِّر المختال في مَشْيه»([26]).
وفي روايةٍ أخرى عن رسول الإسلام أنّه قال: «مرَرْتُ ليلة أُسري بي على قومٍ يخمشون وجوههم بأظافيرهم، فقلتُ: يا جبرئيل، مَنْ هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يغتابون الناس»([27]).
يلزم الانتباه هنا إلى أنّه لا يوجد تعارضٌ بين روايات الباب التي جاءت بألفاظ مختلفة كـ «المؤمن، المسلم، الناس»، فتحمل واحدةٌ منها على الأخريات؛ فقد ثبت في علم الأصول أنّه لا تعارض بين المثبتات حتّى تحمل واحدةٌ على الأخرى، وما دام يمكن العمل بجميعها فلن يكون هناك وجهٌ لحمل واحدةٍ على الأخرى.
وإلى هذا الأمر يلتفت أحد الفقهاء المعاصرين فيقول: «ومن الواضح عدم المنافاة بين هذه العناوين الثلاث (المؤمن، المسلم، الناس)؛ لأنّ إثبات شيء لا ينفي ما عداه»([28]).
ج ـ عدم احترام المخالفين
دليلٌ آخر من أدلّة جواز غيبة المخالفين هو عدمُ احترامهم: «مضافاً إلى أنّه لو سُلِّم إطلاق بعضها، وغضّ النظر عن تحكيم الروايات التي في مقام التحديد عليها، فلا شبهة في عدم احترامهم، بل هو من ضروريّ المذهب، كما قال المحقّقون»([29]).
وفي سبيل إثبات كلامه يأتي برواية أبي حمزة، عن الإمام الباقر×، أنّ الراوي يقول: قلتُ له: إنّ بعض أصحابنا يفترون ويقذفون مَنْ خالفهم، فقال: «الكفّ عنهم أجمل»، ثمّ قال: «يا أبا حمزة، إنّ الناس كلّهم أولاد بغايا، ما خلا شيعتنا»([30]).
نقدٌ وإشكال
لكنْ يجب أن يُقال: إنّ هذا الدليل غيرُ تامٍّ كذلك.
يكتب الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في نقد هذا الدليل: «ما المراد بالمخالف؟ هل هو الناصب أو المعاند للأئمّة المعصومين أو مَنْ ينكر فضلهم أو مطلق مَنْ لا يعرف هذا الأمر، وإنْ كان موالياً له، كما يتراءى من كثيرٍ منهم، حتّى صنَّفوا كتباً في فضل أهل البيت والأئمّة^، ويودّونهم مودّةً كثيرة، وإنْ لم يعرفوا إمامتهم، ولا سيَّما إذا كانوا قاصرين، لا مقصِّرين؟
أمّا الأوّل فلا كلام فيه؛ لما ذُكِر ولغيره.
وأمّا إن كان المدّعى العموم، بحيث يشمل الأخير أيضاً، فهو قابلٌ للكلام، وشمول الأدلّة المذكورة لها غيرُ واضح»([31]).
كذلك لم يؤيِّد الشيخ جعفر السبحاني هذه الرؤية، فيعتقد «أنّ ما استظهره [الشيخ الأنصاري] من الروايات من اختصاص الحرمة بأهل الولاية لم يتحقَّق لنا، بل الظاهر أنّ الغيبة داخلةٌ في القسم الثاني، ممّا يتوقَّف نظم معاش المؤمنين عليه. والظاهر أنّه& خلط بين الإسلام الذي يترتَّب عليه جميع الأحكام وبين الإيمان الذي يترتَّب عليه الثواب وكون الإنسان من أهل السعادة…؛ فالأوّل مناطُ ترتُّب الأحكام، والثاني ملاك ترتُّب الثواب»([32]).
وتوجد أيضاً رواياتٌ كثيرة في هذا المجال تؤيِّد هذا القول:
يروي الصيرفي عن الإمام الصادق× أنّه قال: «الإسلام يحقن به الدم، وتؤدّى به الأمانة، وتستحلّ به الفروج. والثواب على الإيمان»([33]).
ويروي سفيان بن السمط عن الإمام الصادق×، أنّه سأله عن الإسلام والإيمان ما الفرق بينهما؟ فقال×: «الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس، شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأنّ محمداً عبده ورسوله؛ وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة…؛ وقال: الإيمان معرفة هذا الأمر مع هذا، فإنْ أقرّ بها ولم يعرف هذا الأمر كان مسلماً، وكان ضالاًّ»([34]).
ويورد الفاضل الإيرواني على الاستدلال المتقدِّم إشكالاً من جهةٍ أخرى، فيعترض عليه ـ بعد نقل كلام الشيخ ـ أنّه لم يثبت أنّ تمام العلّة والمناط في حرمة الغيبة هو الاحترام، حتّى يستنتج أنّ المخالفين مستثنون من هذا الحكم؛ بسبب عدم الدليل على احترامهم؛ فرُبَما نفس حفظ اللسان عن التعرُّض لأعراض الناس داخلٌ في مناط الحكم([35]).
نقد الاستدلال برواية أبي حمزة
قد أوضَحْنا سابقاً أنّ السيد الخميني& وبعض الفقهاء الآخرين قد أثبتوا عدم حرمة غيبة المخالف بالاستناد إلى رواية أبي حمزة. ولكنّ هذه الرواية تواجه في الاستدلال عليها إشكالاتٍ عديدة، من كلتا الجهتين: السندية؛ والدلالية.
ففي سند هذه الرواية الحسن بن عبد الرحمن، وهو مجهولٌ، ولذلك اعتبر المجلسي في «مرآة العقول» هذا الحديث ضعيفاً([36]).
والمشكلة الأخرى هي وجود عليّ بن العباس في سند الرواية، فقد ذمَّه الرجاليون بشدّةٍ؛ فاعتبره النجاشي في الرجال والخوئي في معجم رجال الحديث شخصاً ضعيفاً جدّاً؛ حيث ردّت رواياته؛ بسبب غلوّه([37]). وكذلك العلاّمة الحلّي في كتبه الرجالية: خلاصة الأقوال؛ وإيضاح الاشتباه، وابن الغضائري في كتاب الضعفاء، يقولون عنه: «له تصنيف في الممدوحين والمذمومين يدلّ على خبثه، وتهالك مذهبه، لا يُلتَفَت إليه، ولا يُعْبَأ بما رواه»([38]).
وأما من الناحية الدلالية فهي قابلةٌ للمناقشة أيضاً؛ فإنّ الرواية المذكورة قد اعتبرت عامّة الناس أولاد بغاء، في حال أنّ هذا الأمر خلاف الضرورة وسيرة أهل البيت^ والعقل، وصدوره عن المعصوم في غاية البُعْد.
كما أنّ هناك رواياتٍ في الكتب المعتبرة الشيعية تتعارض بشكلٍ صريح مع هذا الحديث. فالنموذج البارز لها الرواية المشهورة التي ذمّ فيها الإمام الصادق× أحد أصحابه؛ بسبب قذفه لأمّ غلامٍ له بالزنا، وحينما أراد ذاك الرجل أن يوجِّه للإمام قذفه للغلام بأنّ أمّه مشركةٌ قال×: «أما علمْتَ أنّ لكلّ أمّةٍ نكاحاً؟»([39]).
د ـ قيام السيرة على جواز غيبة المخالفين
آخر الأدلة التي استند إليها الإمام الخميني& في تأييد جواز غيبة المخالفين هو قيام السيرة على غيبة وهَجْو المخالفين، فقال: «إنّ السيرة أيضاً قائمةٌ على غيبتهم»([40]).
ولتوضيح المطلب يجب أن يُقال: إنّ بعض الفقهاء، مثل: صاحب الجواهر والمحقِّق الخوئي، ادّعوا جريان سيرة الشيعة الإمامية ـ أعمّ من عامّتهم وخواصّهم ـ على غيبة وهَجْو ولعن المخالفين، بل واعتبروا ذلك من ضروريات المذهب([41]).
تفسيرٌ وتحقيق
ويجب أن يُقال: إنّه مضافاً إلى أنّ ادّعاء وجود هكذا سيرة بين المتشرِّعة هو أوّل الكلام، فإنّه في حال قبول هذه الدعوى ليس من البعيد أنّ هذه السيرة المدّعاة حالها كحال الموارد التي أشار إليها الشيخ الأنصاري؛ أي إنّها سيرةٌ حاصلة على أساس المسامحة وقلّة المبالاة، ولا علاقة ولا خبر بها عن المعصوم×([42]). لذا مع وجود الشكّ في حجّية هذه السيرة فإنّها سوف تكون ساقطةً عن درجة الاعتبار؛ إذ لا حجّة إلاّ بالقطع واليقين. ومن هذا المنطلق لا نقطع بهذه السيرة، بل إنّنا نتردَّد جدِّياً في وقوعها. ولذا فالسيرة المذكورة ساقطةٌ عن درجة الاعتبار([43]).
كما أنّ الروايات التي استند إليها بوصفها مؤيّدةً لوجود السيرة المذكورة لا دلالة لها على المطلوب؛ فمن بين هذه الأخبار: رواية منسوبة إلى الرسول الأكرم|، التي يقول فيها: «إذا رأيتم أهل الرَّيْب والبِدَع من بعدي فأظهروا البراءة منهم، وأكثروا من سبِّهم، والقول فيهم، والوقيعة…»([44]). وكما هو معلوم إنّ مورد الحديث متعلِّقٌ بأهل البِدْعة، وليس من اللازم شموله لجميع المخالفين.
حقّاً بأيّ منطقٍ يمكن أن يعمّم هذا الحكم حتّى إلى مورد العامّي الجاهل القاصر الذي أخذ دينه من آبائه؟! ولهذا يعبِّر الشهيد مطهَّري عن الأفراد الذين يمتلكون عنصر التسليم، ولكنْ لأسبابٍ ما بقيَتْ حقيقة الإسلام عليهم مستترةً، بـمصطلح «المسلم الفطري». إنّه على اعتقاد بأنّ الله سبحانه لا يعذِّب هذا النوع من الناس، وهم من الناجين من النار([45]).
يجب القول: إنّ الرواية المتقدِّمة مخالفةٌ حتّى لظاهر آيات الكتاب؛ فالله تعالى يقول: ﴿وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (الأنعام: 108)، ومن الواضح جدّاً في نظر العقل والمنطق أنّ سباب الشخص، ولو لم يكن ذا دينٍ، لن يعيده إلى جادّة الصواب، بل سيرى منطق المسلمين ضعيفاً، فيتمسّك بعقيدته الباطلة.
2ـ نظريّات السيد الخميني بعد استقرار نظام الجمهورية الإسلامية
من باب المقدّمة يلزم القول: بالالتفات إلى المشاغل العديدة التي دخلت على السيد الخميني في مرحلة ما بعد الثورة الإسلامية، والتزامه بالتكليف الإلهيّ بإدارة المجتمع الإسلامي، فإنه لم يتمكّن من صبّ جهوده في تأليف كتبٍ فقهيّة استدلالية وتنقيح آرائه السابقة، ولهذا فالنظريات التي بيَّنها السيد الخميني& في هذا الموضوع، فيما بعد الثورة الإسلامية وبعد دخوله في القضايا الحكوميّة بعُمْقٍ، قد صرَّح بها في كتاب صحيفته في الأغلب، وفي بعض الموارد أحياناً في رسالة الاستفتاءات أو توضيح المسائل.
يجب الإذعان بأنّ السيد الخميني& كان يتكلَّم عن أخوّة المسلمين من أعماق وجوده، وبمطلق حماسته وأحاسيسه الإسلامية، ويؤكِّد، على أساس فقه الإسلام، على الأخوّة بين المسلمين، واحترام الفِرَق المختلفة. وهذا ما يقطع الطريق على أيّ شكلٍ من أشكال طعن الطاعنين والتفاسير المغرضة من كلامه، حيث يقولون: إنّ السيد الخميني تحدَّث بهذا الكلام فقط لأجل مراعاة المصلحة العامة، ولكن الحكم الأوّلي للمسألة عنده هو ما قاله في كتبه السابقة، بجواز الاغتياب وعدم حرمة المخالفين([46]).
إنّ التأمُّل في التصريحات الأخيرة له ترشدنا بشكلٍ واضح إلى أنّه قد وقع التبدُّل في رؤيته، ومن المستَبْعَد جدّاً أنّه ساق كلامه على أساس متغيِّراتٍ ما، مثل: المصلحة.
وفي الواقع إنّ كلماته صريحةٌ في المطلوب، كما أنّها متكرّرةٌ بشكلٍ لا يمكن أنّ يُقال: إنّها إنّما صدرَتْ تحت غطاء العناوين الثانوية.
والنكتة اللازم رعايتُها، والتي تقوّي من أمر وقوع التبدُّل في رأي السيد الخميني، هي أنّ تغيُّر رأيه لم يكن مقتصراً فقط على هذا الحكم في بحثنا؛ فإنّه قد غيّر آراءه في مجالاتٍ مختلفة أيضاً، من قبيل: الشطرنج؛ الموسيقى؛ و…([47]). ولذا لا يمكن أن يُقال: إنّه ساق كلامه في هذه الموارد على أساس المصلحة، وبالتالي يوجَّه رأيه على أساس ملاحظة المتغيِّرات الثانوية.
إنّ البيانات التي سوف تأتي الإشارة إليها في ما يلي صريحةٌ في المطلوب للشخص المتأمِّل والمنصف، وتقطع الطريق على أيّ شكلٍ من أشكال التفاسير غير الوجيهة لكلام الإمام&. ولذلك سوف نقوم ببيان نماذج من آرائه اللامعة والمتميِّزة في هذا المجال؛ لإثبات هذا المدّعى، وسنتعرَّف على الآراء الجديدة له في هذا الموضوع.
أـ تفسيرٌ متكامل وراقٍ لآية الأخوّة
كما بُيِّن سابقاً اعتبر السيد الخميني& في رأيه القديم أنّ المرادَ من «الأخ» في آية الأخوّة: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ الشيعيُّ الإماميّ الاثني عشري؛ بقرينة وجود لفظ «المؤمن» في الآية، فخرج أهل السنّة عن شمول الآية المذكورة. وعلى هذا الأساس اعتبر غيبة أهل السنّة جائزةً؛ وذلك بلحاظ أنّ آية الغيبة نهَتْ عن أكل لحم الأخ مَيْتاً، ولا أخوّة بيننا وبين أهل السنّة.
ومن الواضح جدّاً أنّه مع إثبات أنّه& قد عرض تفسيراً حديثاً للآية في رأيه المتأخِّر، وأنّ لفظتي «المؤمن» و«الأخ» الموجودتين في الآية استعملتا في جميع المسلمين؛ الأعمّ من الشيعة والسنّة، وأنّ موارد ومصاديق الآية في نظره شاملةٌ لجميع المسلمين، فبالضرورة يتبدَّل الحكم.
إنّ المعنى المستفاد من آية الغيبة؛ بملاحظة المبنى الأخير له، سوف يكون سبباً في انعطافةٍ أساسية، فتصبح حرمة الغيبة شاملةً لجميع المسلمين. ويبدو في نظرنا أنّ الفتوى أيضاً معرَّضةٌ بالتَّبَع لتغييرٍ أساسي من خلال الشواهد التي تأتي لاحقاً.
في إحدى خطاباته تحت عنوان: «مكائد أعداء الإسلام في إيجاد الاختلاف بين الأمة الإسلامية»، والذي عرض فيه تفسيراً حديثاً لآية الأخوّة: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، يقول: «لقد جاء الإسلام ليوحِّد جميع الأمم في هذا العالم: العرب، الأتراك، الفرس…؛ ليشكّلوا باجتماعهم وتوحُّدهم أمّةً قويّة عظمى باسم الأمّة الإسلامية…؛ فإنّ خطة القوى الكبرى وعملائها في البلدان الإسلامية هي زرع الفرقة والشقاق بين جميع المسلمين، الذين آخى بينهم الإسلام، وخاطبهم الله في كتابه العزيز بالإخوة: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، فإنّ هؤلاء يريدون، ومن خلال تقسيم المسلمين إلى أممٍ متعدّدة: الأمة العربية، الأمة الكردية، الأمة الفارسية، الأمة التركية…، أن يمزِّقوا الأمة الإسلامية، ويزرعوا العداوة بين المسلمين، وهذا تماماً على عكس المسير الإسلامي والقرآني الذي يدعو إلى الأخوّة والمساواة ولمّ الشَّمْل وتوحيد الصفوف تحت لواء الإسلام وتحت لواء التوحيد»([48]).
وكما لاحظنا اعتبر السيد الخميني في هذا النصّ لفظ المؤمن شاملاً لجميع المسلمين؛ الأعمّ من الشيعة والسنّة، وصرّح كذلك فيه أنّ الله سبحانه وتعالى قد أقام عقد الأخوّة بين المسلمين، الأعمّ من الشيعة والسنّة، فأصبحوا إخوةً فيما بينهم.
ويقول كذلك في مكانٍ آخر: «فالمسلم لا يمكنه الإضرار بالمسلم؛ لأن المسلم أخو المسلم، والقرآن الكريم عقَدَ عَقْد الأخوّة بين جميع المسلمين بقوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، والأخ لا يضرّ أخاه»([49]).
إنّ بيانات السيد الخميني في هذا المجال، وفي مناسباتٍ مختلفة، مسجّلةٌ ومحفوظة، وفي ما يلي نشير إلى عباراتٍ قليلة من بياناتٍ متعدّدة مؤيِّدة لكلامه المتقدِّم:
ـ «إخوتنا الشيعة، إخوتنا السنّة، عليكم اليقظة…، أنتم جميعاً إخوةٌ مع بعضكم البعض، والقرآن الكريم عقد الأخوّة بين المسلمين: [﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾]»([50]).
ـ «يجب على المسلمين أن يكونوا متيقّظين… لو وقع نزاع بين الشعب الإيراني والشعوب الأخرى، لو وُجد نزاعٌ بين إخوتنا من أهل السنّة وإخوتنا من الشيعة، لكان ذلك في ضررنا جميعاً، في ضرر جميع المسلمين. وأولئك الذين يريدون إيجاد التفرّد أولئك ليسوا من أهل السنّة، وليسوا من الشيعة. أولئك الأشخاص هم عملاء الدول الكبرى ومَنْ في خدمتهم»([51]).
ـ يقول الإمام الخميني في مكانٍ آخر: «القرآن يقول: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، ولا شيء غير الأخوّة بين المؤمنين، فليس المؤمنون إلاّ إخوةٌ، فإذا لم نلاحظ إلاّ جهة الأخوّة فيما بيننا فهذا يكفي لانسجامنا. القرآن يريد المؤمنين إخوةً، ولا شيء غير الأخوّة، فلا يصيبهم بعد ذلك ضَرَرٌ. إنّ عدد المسلمين مليار نسمة، وما يؤسف له أنّهم تحت سيطرة غيره، مليار نسمة تحت سيطرة مئتين وخمسين مليون نسمة، فلو أطاع المليار نسمة في هذا الحكم ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، وعرفوا حقّ هذه الأخوّة في كلّ مكانٍ، هذه الأخوّة بين جميع فئات الشعب، لما عِشْنا اليوم هذه المصائب»([52]).
ـ «وخاصّة أنّه [أي الإسلام] أوصى بالأخوّة بين المؤمنين، وبين المسلمين، بل إنّه أصدر التشريعات في ذلك. إنّ علينا أن نتآخى، نتآخى مع الجميع، جميع المسلمين، وأن نقف في وجه الكفر، لا أن نقف في وجه المسلمين»([53]).
ب ـ احترام أهل السُّنّة
في إجابةٍ للسيد الخميني& عن استفتاءٍ في كيفية سلوك الحكومة الإسلامية مع الأقلِّيات المذهبية، مثل: أهل السنّة، داخل الحكومة الإسلامية، يصرِّح قائلاً:
أوّلاً: إنّ الإخوة أهل السنّة ليسوا من الأقلِّيات المذهبيّة أبداً.
ثانياً: يعتبر إسلامهم محترماً. إنّنا نمنحهم جميع حقوقهم([54]).
في هذه الفتوى يؤكِّد السيد الخميني بصراحةٍ على احترام أهل السنّة في ميزان الإسلام المحمدي الأصيل.
كذلك في ضمن خطابٍ له في السنوات الأولى بعد الثورة اعتبر القول بـ «عدم احترام أهل السنّة» استغفالاً ودعاية سوءٍ، وكلاماً غير ظاهرٍ وغير صحيح: «إنّنا مسؤولون جميعاً. وإنّ علماء الدين يقفون في الطليعة، وعليهم أن ينتشروا في البلاد وفي الأماكن النائية. عليهم أن يذهبوا إلى القرى والقصبات وأن ينقلوا هذه الأمور التي نطرحها؛ فمن الممكن أن يستغفل الناس في المناطق النائية، وأن تنتشر السموم هناك. فهؤلاء لا يتمكَّنون من بثّ الأكاذيب في طهران أو سائر المراكز الهامّة في البلاد، لكنهم يبثّون في القرى والقصبات البعيدة بعض الشائعات الكاذبة بشكلٍ خفيّ، كأنْ يقولوا مثلاً بأنّه يجب القضاء على الأقلِّيات الدينية تحت ظلّ الحكومة الإسلامية! وهذا مخالفٌ للإسلام؛ فالإسلام يحترم الأقلِّيات الدينية، إنّ الاسلام يعتبر الأقلِّيات الدينية الموجودة في بلادنا فئاتٍ محترمةً»([55]).
كذلك يؤكِّد في مناسباتٍ مختلفة على هذا الأمر بقوله: «لقد أعلنتُ تكراراً بأنّه لا يوجد في الإسلام أعراق، ولغات، وقوميات، وجماعات، ومناطق، المسلمون جميعاً، سواء كانوا سنّةً أم شيعةً، متساوون، ويتمتّعون بكامل الحقوق الإسلامية»([56]).
ج ـ حرمة غيبة جميع المسلمين
يمكن في رسالة توضيح المسائل، وكذلك في بعض استفتاءاته، مشاهدة ما يؤيِّد نظره الأخير في حرمة الغيبة بالنسبة إلى جميع المسلمين، ووجوب احترام جميع الطوائف الإسلامية.
ففي إجابة له عن سؤالٍ شخصي حول حكم غيبة أهل السنّة يقول: «يجب اجتناب الغيبة»([57]). وهذا واضحٌ في أنّ السيد الخميني لا يعتبر غيبة أهل السنّة جائزةً.
وكذلك في رسالة الاستفتاءات، في إجابةٍ عن سؤالٍ عن حرمة الغيبة، يفتي بنحوٍ كلّي: «لا يجوز البحث عن عيوب المسلمين وتنقيصهم»([58]).
النتيجة
إنّ الأصل الأوّلي في باب الغيبة هو حرمتها؛ ولكنّ بعض الفقهاء الإمامية اعتبروا الملاك والمناط في حرمة الغيبة هو «الإيمان»، والمنصرف عندهم من كلمة المؤمن هو الشيعي الاثنا عشري، وذلك بتفسيرٍ خاصّ للآيات القرآنية؛ وبالاستناد إلى بعض الروايات، ولهذا اعتبرت غيبة غير الشيعة خارجةً عن عموم أدلة الحرمة، فصارت جائزةً.
وكان الإمام الخميني& في آرائه الفقهية الأولى قائلاً بشرطية «الإيمان» في حرمة الغيبة، ولذلك اعتبر غيبة المخالفين جائزةً.
ولكنْ بيَّنَّا في هذه المقالة بشكلٍ مبسوط أنّ الأدلة التي عرضها هو وبعض الفقهاء لم تكن تامّةً. ولا يمكن اعتبار هذا الرأي وجهة نظرٍ لعموم المذهب الشيعي الإمامي، ومطابقاً لسيرة أهل البيت^، كما لا يصحّ اعتبار هذا الرأي هو الرأي النهائيّ للسيد الخميني&؛ إذ أوّلاً: تمّ إيضاح بطلان الأدلّة المدّعاة للقائلين بجواز غيبة أهل السنّة؛ وثانياً: إن التأمُّل والتدقيق في آراء السيد الخميني بعد الثورة، وفي مرحلة زعامته وقيادته للمجتمع الإسلاميّ، يشير إلى أنّ الرأي المختار عنده هو حرمة غيبة جميع المسلمين. وبناءً على هذا، وباعتبار أنّ الكلام الأخير لأيّ شخص هو الذي يجب أن يُحْمَل على أنّه الرأي النهائي له، يجب أن يعتبر رأي السيد الخميني& في باب الغيبة هو الحرمة العامّة لجميع الأفراد.
الهوامش
(*) طالب دكتوراه في الفقه ومباني الحقوق الإسلاميّة في جامعة فردوسي في مشهد.
(**) أستاذٌ مساعِدٌ في قسم الفقه ومباني الحقوق الإسلاميّة في جامعة فردوسي في مشهد.
(***) أستاذ الفقه ومباني الحقوق الإسلاميّة في جامعة فردوسي في مشهد.
([1]) ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾.
([2]) المفيد، المقنعة: 589، قم، المؤتمر العالمي لألفيّة الشيخ المفيد، 1413هـ؛ السيد محسن الحكيم، منهاج الصالحين (مع حاشية السيد أبو القاسم الخوئي) 2: 14، بيروت، دار التعارف، 1410هـ.
([3]) السيد روح الله الخميني، المكاسب المحرّمة 1: 370، قم، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، 1415هـ.
([4]) أبو القاسم گرجي، تاريخ فقه وفقهاء: 302، طهران، مؤسّسة سمت، 1421هـ.
([5]) الخميني، المكاسب المحرّمة 1: 370.
([7]) البحراني، الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة 18: 148، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1415هـ.
([8]) حول صدق عنوان «المسلم» بالنسبة إلى المخالفين يعتقد السيد الخميني بأنّه يلزم توفُّر ثلاثة شروط لتحقُّق هذا العنوان: «1ـ الاعتقاد بالله؛ 2ـ الاعتقاد بوحدانية الله؛ 3ـ الاعتقاد برسالة الرسول|»، واحتمل أن يكون الاعتقاد بالمعاد على نحو الإجمال عند المتشرِّعة من بين شروط تحقُّق عنوان المسلم، ولكنْ مع ذلك فصدق هذا العنوان لا يتوقَّف على اشتراط الولاية. ودليل ذلك استمرار السيرة من صدر الإسلام إلى الزمان الحاضر على معاشرتهم؛ حيث يدلّ ذلك على إسلامهم (الخميني، كتاب الطهارة: 427، طهران، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، 1421هـ).
([9]) ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾.
([10]) الخميني، المكاسب المحرّمة 1: 377.
([11]) علي الإيرواني، حاشية المكاسب 1: 32، طهران، وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، 1406هـ.
([12]) المصدر السابق 1: 377 ـ 378.
([13]) ونصّ الآية ما يلي: ﴿قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (الحجرات: 14).
([14]) ونصّ الآية ما يلي: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * …هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا…﴾ (الحجّ: 77 ـ 78).
([15]) جعفر السبحاني، المواهب في تحرير أحكام المكاسب: 569 ـ 570، قم، مؤسّسة الإمام الصادق×، 1424هـ.
([17]) محمد رضا المظفَّر، أصول الفقه 1: 107، قم، دار التفسير، 1388هـ؛ الآخوند الخراساني، كفاية الأصول 2: 132، قم، مؤسسة آل البيت^ لإحياء التراث، 1409هـ.
لا أعلم ماذا يريد بهذا الإشكال، فهل يريد أنّ المستدل يثبت جواز الغيبة بمفهوم اللقب؟ إن كان كذلك فهذا غير مرادٍ لهم جزماً؛ فإنّ المستدلّ إنما يكفي عنده أصالة عدم الحرمة عند عدم شمول الدليل لغير المؤمن بمقتضى قاعدة احترازية القيود، ولم يستعملوا مفهوم اللقب في استدلالهم (المترجم).
([18]) محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 1: 24، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1417هـ. ولم نجِدْ هذا الاقتباس في هذا المرجع الذي أثبته كاتب المقالة، ولذا اضطررنا لترجمة الاقتباس المكتوب بالفارسية في المقالة (المترجم).
([19]) النراقي، عوائد الأيام في بيان قواعد الأحكام:291، قم، مؤسسة التبليغ الإسلامي، 1417هـ؛ السيد عبد الأعلى السبزواري، مهذَّب الأحكام 3: 129، قم، مؤسّسة المنار، 1413هـ؛ محمد الفاضل اللنكراني، القواعد الفقهية: 312، قم، مطبعة مهر، 1416هـ؛ الميرزا محمد تقي الآملي، مصباح الهدى في شرح العروة الوثقى 9: 313، طهران، 1380هـ.ش.
([20]) الخميني، المكاسب المحرّمة 1: 378.
([21]) الكليني، الكافي 2: 235، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1407هـ.
([23]) الحُرّ العاملي، تفصيل وسائل الشيعة 12: 281، قم، مؤسّسة آل البيت^ لإحياء التراث، 1409هـ.
([27]) المجلسي، مرآة العقول 10: 408، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1404هـ؛ النوري، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل 9: 119، بيروت، مؤسّسة آل البيت^ لإحياء التراث، 1408هـ.
([28]) ناصر مكارم الشيرازي، أنوار الفقاهة ـ كتاب التجارة: 280، قم، منشورات مدرسة الإمام عليّ×، 1426هـ.
([29]) الخميني، المكاسب المحرّمة 1: 379.
([30]) الحُرّ العاملي، تفصيل وسائل الشيعة 16: 37؛ الكليني، الكافي 8: 285.
([31]) مكارم الشيرازي، أنوار الفقاهة ـ كتاب التجارة: 279.
([32]) السبحاني، المواهب في تحرير أحكام المكاسب: 571 ـ 572.
([33]) الحُرّ العاملي، تفصيل وسائل الشيعة 20: 556؛ الكليني، الكافي 2: 24.
([34]) الكليني، الكافي 2: 24؛ الحُرّ العاملي، تفصيل وسائل الشيعة 20: 556.
([35]) الإيرواني، حاشية المكاسب 1: 32.
([36]) المجلسي، مرآة العقول 26: 306.
([37]) النجاشي، الرجال: 255، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1407هـ.
([38]) العلاّمة الحلّي، خلاصة الأقوال: 234؛ إيضاح الاشتباه: 219؛ ابن الغضائري، الرجال: 79.
([39]) الكليني، الكافي 2: 324؛ الحُرّ العاملي، تفصيل وسائل الشيعة 16: 36.
([40]) الخميني، المكاسب المحرّمة: 380.
([41]) النجفي، جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 22: 62، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1404هـ.
([42]) الأنصاري، كتاب المكاسب 2: 126، قم، المؤتمر العالمي للشيخ الأعظم، 1415هـ.
([43]) المظفّر، أصول الفقه 2: 211.
([44]) الكليني، الكافي 2: 375.
([45]) مرتضى مطهَّري، العدل الإلهي: 270، طهران، انتشارات صدرا، 1388هـ.ش.
([46]) إنّ الدعايات التي يثيرها ويوجِّهها المستكبرون في العالم، والتي تشاهد اليوم بشكلٍ واسع في وسائل التواصل الاجتماعي (في الفضاء الإلكتروني) من قِبَل السلفيّين والوهابيّين ضدّ المدرسة الشيعية وشخص السيد الخميني هي نموذجٌ صغير من التحرُّكات المسمومة التي تتّهم السيد الخميني بنوعٍ من المنهج الازدواجي بالنسبة إلى أهل السنّة. ولذا بالاستشهاد بمقاطع من عبارات السيد الخميني في آثاره المتقدّمة يظهرون الكلام الأخير للسيد القائد على أنّه مجرّد مجاملات لا مستند واقعيّاً لها، وأنّها صادرةٌ من باب التقية. إنّهم يفسِّرون العبارات الأخيرة للسيد الخميني التي تتحدَّث عن الأخوّة والاحترام بين المسلمين على أنّها فاقدةٌ للاعتبار، وعلى خلاف العقيدة الباطنية له.
([47]) يعتقد محمد سروش محلاّتي بأنّ فقه السيد الخميني يمكن تقسيمه إلى ثلاث مراحل، يقول: «يمكن تقسيم فقه السيد الإمام إلى ثلاث مراحل: المرحلة الأولى: قبل تحرير الوسيلة؛ المرحلة الثانية: بعد تأليف تحرير الوسيلة؛ المرحلة الثالثة: بعد انتصار الثورة الإسلامية. وتكمن أهمية المرحلة الثالثة في أنّ فقيهاً كبيراً وصاحب فتوى قد تصدّى للحكم، وقد حصلت فيها فرصة لتقييم الفتاوى في مقام العمل؛ ليعلم هل هذه الفتاوى قابلةٌ للتنفيذ أم يحتمل أن تقع بعض المشاكل عند التنفيذ؟ تشير رسالة السيد الخميني إلى السيد قديري أنّه في المرحلة الثالثة قد عبرت المسألة حدود مجرّد اختلاف الرأي والنظر الفقهي، والذي هو أمرٌ اعتيادي بين الفقهاء، وأصبحت نظرة الطرفين إلى الفقه مختلفة». (سروش محلاتي، فقه إمام خميني پس أز انقلاب إسلامي، جريدة جمهوري إسلامي، بتاريخ: 19/3/1393هـ.ش).
([48]) روح الله الموسوي الخميني، صحيفة الإمام (المترجمة إلى العربية) 13: 348.
([51]) روح الله الموسوي الخميني، صحيفة الإمام 13: 133، طهران، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، 1386هـ.ش. لقد اضطررنا إلى ترجمة هذا الاقتباس بأنفسنا، ولم نكتفِ بالترجمة الرسمية باللغة العربية؛ لوجود اختلافات بين النصّ الفارسي والنصّ المترجم، وهذا الاختلاف الموجود في الترجمة الرسمية قد لا يفي بما يتوخّاه الكاتب من النصّ المقتبس (المترجم).
([57]) روح الله الموسوي الخميني، استفتاءات 1: 811، قم، مؤسسة النشر الإسلامي.