أحدث المقالات

الشيخ محسن الأراكي(*)

ترجمة: نظيرة غلاب

 

تمهيد ـــــ

عندما أدركت الصحوة الإسلامية ضرورة تولي القيادة الفكرية للأمة، وبادرت إلى تحمل هذه المسؤولية، حاولت عرض الطرق السليمة لحل مشكلات الأمة في مختلف الميادين والساحات، والمساهمة الفعلية في إيجاد مشروع نظري يواكب متطلبات العصر، وفي موازاة ذلك يحفظ للأمة هويتها وأصالتها. وقد كان حاضراً في هذه الفعاليات والتنظيمات العديد من مفكِّري الأمة المخلصين، لكن التاريخ سجل للشهيد الصدر حضوراً مختلفاً، هو الأرقى والأكبر بامتياز، سواء بلحاظ التخطيط أو بلحاظ المحتوى النظري. واليوم، وبعد أن مضى زهاء نصف قرن على نظرياته وطروحاته، لم يسجِّل التاريخ حضوراً لشخصية أو مدرسة فكرية في نفس ذلك المستوى أو قريبة منه. فقد قدم أفكاراً استوعبت كل الساحات: الفلسفية، والاقتصادية، والاجتماعية. واستطاع الشهيد بنظرياته وأفكاره أن يشغل جانباً كبيراً من الفراغ الفكري الذي قيَّد من حركة وتقدم الصحوة الإسلامية. ولن نغالي إذا قلنا: إن الشهيد السيد محمد باقر الصدر هو المنظِّر الرائد بلا منازع للصحوة، بل سيعتبر عملنا هذا خطوة عادلة ومنصفة في حق هذا العالم الفذّ الذي شحّ التاريخ بأن ينجب مثله.

ربما لا نستطيع مواكبة كل آثار الشهيد الصدر، من مؤلفات وكتابات ونظريات، لكن مَنْ واكب الحالة الفكرية في المجتمع المسلم، وخصوصاً في أواخر القرن العشرين، لابد وأن تسترعي لبّه نظريات وأطروحات الشهيد الصدر؛ نظراً لمكانته العلمية أولاً، ولإسهاماته الفكرية ثانياً، وخصوصاً في مجالات الفلسفة، والاقتصاد، والفقه، وعلم الأصول، هذه الإسهامات، التي تعتبر أرفع ما طرح في الميدان، وأكثرها استيعاباً وشمولية لمعطيات الأمور ومعطيات التحولات الحالية والاستراتيجية للمجتمع الإنساني عموماً، والمجتمع المسلم خصوصاً.

ضمن هذه السطور سنحاول تقديم عرض مجمل لشخصية الشهيد الصدر، مع الإشارة إلى بعض فعالياته الفكرية وإنجازاته، التي أراد بها بناء الشخصية الفكرية للأمة والمجتمع الإسلامي.

 

السيرة الذاتية للشهيد الصدر ــــــ

ولد السيد محمد باقر الصدر في مدينة الكاظمية في العراق في 25 ذي القعدة من سنة 1353هـ([1]). وبعد أن أنهى مرحلة الابتدائية سافر إلى النجف، حيث استطاع السيد الشهيد أن يحرق مراحل المقدمات والسطوح ـ وفق النظام الدراسي المعمول به في الحوزة العلمية ـ، معتمداً في ذلك على قدراته الشخصية. ففي سنين عمره الأولى استطاع طي مراحل من الدرس، سواء أثناء تلقّيه للدروس الأولى في الكاظمية أو في النجف. وقد حضر في البحث الخارج أول قدومه إلى النجف وهو لا زال في سنيّ عمره الأولى([2])، حيث لم يبلغ الثانية عشرة من عمره بعد. وإن القدر المتيقن منه أنه لم يقلِّد أحداً من المراجع العظام منذ أوائل بلوغه، حيث كان مجتهداً أو قريباً من الاجتهاد وهو لا زال فتى يافعاً([3]). وقد صرح أحد علماء النجف الكبار آنذاك بحصول السيد الشهيد على الاجتهاد وهو ابن السابعة عشرة من عمره([4]). وهذه تعتبر سابقة في تاريخ الحوزة العلمية، ودليلاً ساطعاً على نبوغه وقوة فكره.

لقد تلقّى السيد الشهيد دروس الحوزة على يدي علماء كبار في حوزة النجف الأشرف، وكان كل واحد منهم يعترف بنبوغ السيد وفطنته وسرعة بداهته. وقد بدأ السيد الشهيد التدريس والتأليف في سن مبكرة. وكان كتابه (غاية الفكر في علم أصول الفقه) أول مؤلفاته، التي حوت بعض آرائه في علم الأصول. وكتب إلى جانبه كتابه (فدك في التاريخ)، حيث بحث فيه بشكل تحليلي بعض الحوادث والوقائع التاريخية التي تلت وفاة النبي الأكرم|. وبعد ذلك توالت كتاباته لمجموعة من المؤلفات، طرح فيها آراء الدين في الجوانب السياسية بشكل يغطي احتياجات المرحلة وبشكل علمي، وقد عرَّف من خلالها بنظريات الإسلام في السياسة، والمنطق، والإدارة، التي أظهرت تفوق النظرية السماوية التي تعتمد على الوحي، وفشل النظريات التي تحاول قطع علاقة البشرية بالوحي، كما هو الحال في الطرح المادي، أو تحاول تقزيمه، كما هو الشأن في الطرح الإمبريالي. لقد بينت أن الطرح القرآني والديني قادر على استيعاب احتياجات المراحل، بل قادر على حمل الإنسان إلى الكمال، من دون أن يضيع الجانب الروحي على حساب المادي، أو المادي على حساب الروحي، بل بيَّن أن النظرية الإسلامية تحفظ للإنسان توازنه، وتحفظ لديه العلاقة بين الأرض والسماء.

 

حياته وأعماله العلمية ـــــــ

وكانت أول خطوة له ضمن هذه المجموعة كتابه (فلسفتنا)، الذي يعد واحداً من النتاجات الفكرية في الساحة الإسلامية، وقد تفرَّد في طروحاته وفي سبكه بشكل قل له النظير والمثل، وبيَّن فيه نتاجات الفكر الإسلامي في الفلسفة، كما عمل فيه على نقد المدارس الفلسفية الأخرى، وبيَّن مكامن الخطأ والضعف فيها، في مقابل قوة الفلسفة الإسلامية، وقوة المنطق الإسلامي واستحكامه. كما بيَّن فيه فشل النظريات الفلسفية المادية وغيرها، وعدم قدرتها على إيصال الإنسان إلى الكمال، وفي المقابل تفوُّق الفلسفة الإسلامية، معتمداً في كل هذا على الدليل والبرهان.

وبعد (فلسفتنا) جاء (اقتصادنا)، ليدخل الساحة الفكرية كرقم صعب في محاولة جادة وعظيمة تكشف عن آراء الإسلام في الاقتصاد ونظرياته الثابتة فيه، وقدرتها على مواكبة كلّ ما تعرفه البشرية من تحولات وتطورات. وقد عرض فيه نواحي التفكير المادي، وما أتى به التمدُّن المادي المعاصر، وبيَّن ما يطرحه الاقتصاد الإسلامي من آراء تحمل جانباً ثابتاً وآخر متغيراً. لقد بيَّن الكتاب الحلول الاقتصادية التي يطرحها القرآن والدين عموماً لحل الأزمات الاقتصادية وتحديات السوق، كما أجرى فيه مقارنة بين الاقتصاد الإسلامي في المدرسة الإسلامية والاقتصاد في المدرسة المادية (الليبرالية والاشتراكية). والكتاب بشكل عام جاء وسط ركام هائل من التيارات الفكرية المستوردة، التي تنافست في السيطرة على مراكز القرار الفكري والثقافي في مجتمعاتنا الإسلامية، واستمرت في محاولاتها هادفةً إلى السيطرة على عقول وقلوب مفكِّري الأمة ونخبتها المثقفة. لقد نازع الكتاب عمالقة الفكر المادي، وبيَّن ضعف نظرياتهم وفشلها في بناء حضارة متكاملة، وكما ترفع احتياجات السوق فإنها تحفظ للإنسان كرامته، ولا تجعله مجرد أداة للربح، وآلة في سوق المال. وبيَّن في مقابل ذلك فاعلية الفكر الإسلامي في الاقتصاد، وقدرته على حل المشاكل والتحديات التي تواجه الإنسانية، وبالتالي قدرته وجدّيته في حفظ إنسانية الإنسان وكرامته، وأن السوق وما يلازمه إنما هو مسخَّر في خدمة البشرية، وليس العكس، ومصدراً لتعميم الرخاء والخير، وليس مصدراً يخلق التناقض والصراع بين طبقات المجتمع، كما هو الحال في النظريات المادية.

ورغم أهمية كتاب (اقتصادنا)، بلحاظ ما طرحه من مفاهيم وآراء في الاقتصاد تستطيع بالفعل أن تكون ركناً أساسياً في بناء الاقتصاد الإسلامي، فقد وجدنا السيد الشهيد يقلل من قيمة هذا الإنجاز، ويعتبره مجرد خطوة متواضعة، وأنه مجرد خطوات ابتدائية في هذا الميدان، وكتب يقول ضمن مقدمة الطبعة الأولى من (اقتصادنا): «كنا قد وعدناكم قراءنا الأعزاء أن فلسفتنا هي القسم الأول من مجموعة سلسلة من الأبحاث الإسلامية، والتي نحاول من خلالها رفع احتياجات المجتمع المسلم، وإنها بمثابة قاعدة لأبحاث أخرى تأتي بعدها، والتي سوف تكون مكملة لحاجات المجتمع، وعلى نفس خط فلسفتنا، والتي ستعمل في الأخير على إعطاء صورة كاملة عن الإسلام، وتعالج الصرح الإسلامي الشامخ، الصرح العقائدي للتوحيد، وتتلوها بعد ذلك الدراسات التي تتعلق بالبنيات الفوقية في ذلك الصرح الإسلامي، لتكتمل لنا في نهاية المطاف صورة ذهنية كاملة عن الإسلام، بوصفه عقيدة حية في الأعماق، ونظاماً كاملاً للحياة، ومنهجاً خاصّاً في التربية والتفكير. قلنا هذا في مقدمة (فلسفتنا)، وكنا نقدّر أن يكون (مجتمعنا) هو الدراسة الثانية في بحوثنا، نتناول فيها أفكار الإسلام عن الإنسان وحياته الاجتماعية، وطريقته في تحليل المركب الاجتماعي وتفسيره، لننتهي من ذلك إلى المرحلة الثالثة، إلى النظم الإسلامية للحياة التي تتصل بأفكار الإسلام الاجتماعية، وترتكز على صرحه العقائدي الثابت. ولكن شاءت رغبة القراء الملحة أن نؤجل (مجتمعنا)، ونبدأ بإصدار (اقتصادنا)؛ عجلةً منهم في الاطلاع على دراسة مفصلة للاقتصاد الإسلامي في فلسفته وأسسه وخطوطه وتعاليمه. وهكذا كان، فتوفرنا على إنجاز (اقتصادنا)، محاولين أن نقدم فيه الصورة الكاملة نسبياً عن الاقتصاد الإسلامي، كما نفهمه اليوم من مصادره وينابيعه»([5]).

ورغم توقف هذه السلسلة عند هذا الحد إلا أن هذا لا يعني توقف كتابات السيد الصدر وانحصارها في ما كتب سابقاً، فقد استمرت تأليفاته في مواضيع مختلفة، فبعد (اقتصادنا)، وإلى زمن شهادته على يد النظام البعثي الغاشم، ألَّف (البنك اللاربوي في الإسلام)، (دروس في علم أصول الفقه)، (الفتاوى الواضحة)، و(الأسس المنطقية للاستقراء). ويعتبر كتابه (الأسس المنطقية للاستقراء) من أكبر نتاجات الفكر البشري خلال القرن العشرين، وأهمها بلحاظ التفكر الفلسفي والمنطقي. ابتدأ من المنطق ليصل إلى نظرية «المنطق الذاتي»، وهي النظرية التي تنطلق من القواعد والضوابط لكي تصل نحو اليقين الاستقرائي، يعني أنه يأخذ القواعد والضوابط لكي يصل إلى اليقين الاستقرائي من جهة، ومن جهة ثانية يبيِّن الفرق بين اليقين الذي يحصل من خلال استقراء الظواهر والمصاديق و… واليقين البرهاني والاستدلالي، ومن جهة ثالثة بيَّن أن الأصول الفلسفية تتناسب واليقين الاستقرائي، إلى جانب الاستقراء البرهاني أو الاستدلالي.

وقد كان هذا الكتاب خطوة وضعت حداً علمياً لهيمنة المنطق الأرسطي وحاكميته على التفكير الفلسفي الإسلامي، وبالتالي عُدَّ فاتحاً لمرحلة جديدة من حياة الفلسفة الإسلامية، وخطوة تزيد من انتسابها إلى الفكر الإسلامي الخالص، فأرسطو لم يظهر في هذا الكتاب إلا في حالات قليلة جداً.

وبعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران شرع الشهيد الصدر في تأليف مجموعة من الكتابات التي تنظِّر لمرحلة جديدة في تاريخ الأمة الإسلامية، وذلك وفق الثوابت القرآنية والدينية، وتساهم في رفع الإشكالات المطروحة في مثل هذه المرحلة. وضمن هذه المجموعة الجديدة كان كتابه الذي يعد مشروع دستور الجمهورية الإسلامية في إيران. وقد استفاد من هذا الكتاب فقهاء مجلس الخبراء الأول في إيران، والذي تم انتخاب أعضائه من طرف الشعب الإيراني، وذلك ضمن جلساته التي عقدها بهدف إيجاد دستور مبتنٍ على الشريعة الإسلامية باعتبارها مصدر التشريع، وبالتالي يستمد منه الدستور، وتشرع على ضوئه القوانين.

 

مشروع التجديد في نظام التعليم الحوزوي ــــــ

ومن أهم ابتكاراته المتصلة بنظام التعليم في الحوزة العلمية تجديده لمناهج التعليم في الحوزة، وخصوصاً ما يخص الفقه وأصول الفقه. وقد كان تجديده ابتكاراً عظيماً، سواء بلحاظ البرامج التي طرحها أم بلحاظ المحتوى. فقد عمل الشهيد الصدر على التأسيس لمرحلة جديدة وفريدة من نوعها في علمي الفقه والأصول، باعتبارهما المادتين الرئيسيتين في درس الخارج، ومن خلالهما يحصل طالب العلوم الدينية على مرتبة الاجتهاد. لقد أراد السيد محمد باقر الصدر أن يتحول المنهج في تلقي هذه العلوم، بحيث لا يبقى مقتصراً على النقل لما قاله القدماء، بل أن يتم تعميق دور التفكر ودور النقد، بحيث لا يبقى التعليم فيهما، سواء من حيث البرنامج أم ما يطرح من مضامين، في مستوى التعليم البنكي، أي التلقي فقط، بل أراد من خلال تركيزه على العقل والنقد أن نخرج إلى عالم القرن العشرين وما بعده بفقه وأصول مختلفة عمّا ورثناه عن القدماء، إلى مواكبة العصر وسدّ احتياجاته، من دون الخروج عن الثوابت.

كانت أفكار السيد الشهيد المجددة في العلوم الجديدة أو الكلاسيكية ممهدة لنهضة ثقافية وعلمية واسعة، ابتدأت من العراق وإيران لتمتد شعلتها إلى باقي مناطق العالم الإسلامي. هذه الأفكار التجديدية كانت وسيلة قوية في تقوية التفكير والثقافة الإسلامية أمام الهجوم الثقافي للإمبريالية الغربية والمعسكر الاشتراكي آنذاك، وكانت قاعدة لتفعيل السياسات المنظمة نحو إيجاد مجتمع ونظام إسلامي موافق للمفاهيم القرآنية.

إن النهضة الثقافية في المجتمع الإسلامي مدينةٌ بالكثير للسيد محمد باقر الصدر، الذي استطاع أن يخرجها من حالة الانفعال إلى حالة الفعل، وأن توجه سهام الدفاع نحو الخارج، نحو ثقافة التغريب التي يقودها ويدعو إليها الإمبريالية والمادية في الشرق والغرب، كما استطاع أن يخرجها من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم، بطرح أفكارها وانتقاد الثقافات الغريبة، بدل أن تبقى في حالة الدفاع عن نفسها. وقد كان السيد الشهيد قيادياً فعالاً، عمل على تنوير فكر طبقة واسعة من المجتمع الإسلامي، وعمل على تربية شباب حركيٍّ وفعّال ومؤثِّر في الأوساط الاجتماعية والعلمية والثقافية. لقد كان يفكِّر في إيجاد تنظيم يضم نخبة من العلماء الفاعلين سياسياً، فساهم في تأسيس «حزب الدعوة الإسلامية» كمصداق خارجي على مفاهيمه وأفكاره التنظيرية، كما ساهم بشكل كبير في تجديد نظام الحوزة العلمية في النجف، لتنتقل من مجرد حوزة للعلوم فقط إلى حوزة علمية وسياسية.

وكانت كل المراكز التي تنتسب إلى السيد محمد باقر الصدر، سواء في النجف أم في كل العراق، عبارة عن مراكز للإشعاع الثقافي والفكري، ومراكز للتنمية السياسية، لذلك نجد التنوع في الفعاليات لهذه المراكز بين التعليمي والتثقيفي والسياسي. وكان من بين هذه المراكز: (جماعة العلماء)، (الرابطة الأدبية)، (مدرسة العلوم الإسلامية)، (منتدى النشر)، (مدرسة الإمام الجواد×). وإن مكتب المرجع الراحل السيد محسن الحكيم والمؤسسات الثقافية والاجتماعية والسياسية كلها كانت تسير  وفق إرشادات السيد الشهيد، ووفق مقترحاته.

 

الصدر والمرجعية ـــــ

وبعد وفاة المرجع السيد محسن الحكيم انتقلت المرجعية إلى السيد الصدر، ولذلك بادر إلى تأسيس مكتبه الخاص، وقبل أن تصبح له المرجعية في العراق كان السيد محمد باقر الصدر قد أعطى تصوراً لتطور المرجعية الدينية، وكانت خطواته تنتقل دائماً من النظري إلى العملي، ففي ما يخصّ نظرته إلى تطور المرجعية بادر إلى تأسيس الركن الأول في شورى المرجعية في إطار مرجعيته الخاصة([6]).

 

الصدر والعمل السياسي ــــــ

صادف تولي السيد الشهيد لمهمة المرجعية انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وكان السيد الشهيد أول شخصية بادرت إلى مناصرة الثورة والدفاع عنها بكل قوة، وكان حاميها الفعلي في العراق، والداعي إلى مؤازرتها. ورغم مكانته العلمية ومرجعيته في الدين وفي السياسة فقد رأى أن إطاعته للإمام الخميني& واجبٌ شرعي. وقد ناصره بكل ما كان يملك من وسائل، وأمر أتباعه ومقلِّديه بمناصرة الإمام الخميني، ومناصرة الثورة الإسلامية في إيران. وكانت الرسالة التي وجهها إلى مقلِّديه وأتباعه في إيران واضحة في التعبير عن موقفه من قيادة الإمام الخميني، ومن الثورة في إيران، حيث كتب يقول: «إن الواجب على كل واحد منكم، وعلى كل فرد قدّر له حظّه السعيد أن يعيش في كنف هذه التجربة الإسلامية الرائدة، أن يبذل كل طاقاته، وكل ما لديه من إمكانات وخدمات، ويضع ذلك كلّه في خدمة التجربة، فلا يتوقّف في البذل والبناء يشاد لأجل الإسلام، ولا حدّ للبذل والقضية ترتفع رايتها بقوة الإسلام، وعملية البناء الجديد بحاجة إلى طاقات كل فرد مهما كانت ضئيلة، ويجب أن يكون واضحاً أيضاً أنّ مرجعية السيد الخميني ـ التي جسّدت آمال الإسلام في إيران اليوم ـ لابدّ من الالتفاف حولها، والإخلاص لها، وحماية مصالحها، والذوبان في وجودها العظيم بقدر ذوبانها في هدفها العظيم، وليست المرجعية الصالحة شخصاً، وإنّما هي هدف وطريق، وكل مرجعية حقّقت ذلك الهدف والطريق فهي المرجعية الصالحة، التي يجب العمل لها بكل إخلاص، والميدان المرجعي أو الساحة المرجعية في إيران يجب الابتعاد بها عن أي شيء من شأنه أن يضعّف أو لا يساهم في الحفاظ على المرجعية الرشيدة القائدة»([7]). فبعد قيام الثورة الإسلامية في إيران ونجاحها التاريخي زاد الشهيد الصدر من فعالياته السياسية؛ وذلك لأجل إحداث ثورة في العراق تأخذ بيد أختها في إيران، فكان أن كثَّف جلساته التي كان يعقدها لتوعية الناس، وكانت هذه الجلسات تنقل بواسطة الكاسيت، ليتم إلقاؤها في المناطق الأخرى من مناطق العراق، وخارج العراق، وكان يرسل رسائله إلى ممثليه والقائمين بأعمال مكتبه في باقي محافظات العراق، وفي خارج العراق، يشجعهم فيها على النهوض ضد نظام البعث الغاشم، وأن الواجب الشرعي يفرض عليهم نفض البعث وأزلامه عن الناس وعن أنفسهم، وأن يسارعوا إلى تطبيق شرع الله في كل البلاد الإسلامية، وأن ينصروا المستضعفين، ويؤيدوا نضالاتهم، ويدعموا شعاراتهم الداعية إلى الحرية والعدالة. وقد كانت نداءاته الثلاثة التي خاطب فيها الشعب العراقي مثالاً قوياً لجهاد الشهيد وثورته ضد نظام البعث، وضد كل نظام غاشم. ونرى الضرورة تلح علينا بعرض مفصَّل لما جاء في هذه النداءات:

النداء الأول في 20 رجب 1399هـ: أيها الشعب العراقي المسلم، إني أخاطبك أيها الشعب الحرّ الأبي الكريم، وأنا أشدّ الناس إيماناً بك، وبروحك الكبيرة، وبتاريخك المجيد، وأكثرهم اعتزازاً بما طفحت به قلوب أبنائك البررة من مشاعر الحب والولاء والبنوة للمرجعية؛ إذ تدفقوا إلى أبيهم يؤكِّدون ولاءهم للإسلام، بنفوس ملؤها الغيرة والحمية والتقوى، يطلبون منّي أن أظل أواسيهم وأعيش آلامهم عن قرب؛ لأنها آلامي. وإني أودّ أن أؤكد لك يا شعب آبائي وأجدادي أني معك وفي أعماقك، ولن أتخلى عنك في محنتك، وسأبذل آخر قطرة من دمي في سبيل الله من أجلك. وأودّ أن أؤكد للمسؤولين أن هذا الحكم الذي فرض بقوة الحديد والنار على الشعب العراقي، وحرمه من أبسط حقوقه، وحرياته، من ممارسة شعائره الدينية، لا يمكن أن يستمر، ولا يمكن أن يعالج دائماً بالقوة والقمع، وأن القوة ما كانت علاجاً حاسماً دائماً إلاّ للفراعنة والجبابرة. أسقطوا الأذان الشريف من الإذاعة فصبرنا، أسقطوا صلاة الجمعة من الإذاعة فصبرنا، وطوقوا شعائر الإمام الحسين× ومنعوا القسم الأعظم منها فصبرنا، وحاصروا المساجد وملؤوها أمناً وعيوناً فصبرنا، وقاموا بحملات الإكراه على الانتماء إلى حزبهم فصبرنا، وقالوا: إنها فترة انتقال يجب تجنيد الشعب فيها فصبرنا، ولكن إلى متى؟ إلى متى تستمر فترة الانتقال؟ إذا كانت فترة عشر سنين من الحكم لا تكفي لإيجاد الجو المناسب لكي يختار الشعب طريقه فأية فترة تنتظرون؟! وإذا كانت فترة عشر سنين من الحكم المطلق لم تتح لكم أيها المسؤولون إقناع الناس بالانتماء إلى حزبكم إلاّ عن طريق الإكراه فماذا تأملون؟! وإذا كانت السلطة تريد أن تعرف الوجه الحقيقي للشعب العراقي فلتجمد أجهزتها القمعية أسبوعاً واحداً فقط، ولتسمح للناس بأن يعبروا خلال أسبوع واحد كما يريدون. إنني أطالب باسمكم جميعاً، أطالب بإطلاق حرية الشعائر الدينية وشعائر الإمام أبي عبد الله الحسين×. كما وأطالب بإعادة الأذان وصلاة الجمعة والشعائر الإسلامية إلى الإذاعة، وأطالب باسمكم جميعاً بإيقاف حملات الإكراه على الانتساب إلى حزب البعث على كل المستويات، وأطالب باسم كرامة الإنسان بالإفراج عن المعتقلين بصورة تعسفية، وإيقاف الاعتقال الكيفي، الذي يجري بصورة منفصلة عن القضاء. وأخيراً أطالب باسمكم جميعاً، وباسم القوى التي تمثلونها، بفسح المجال للشعب ليمارس بصورة حقيقية حقّه في تدبير شؤون البلاد، وذلك عن طريق إجراء انتخاب حرّ ينبثق عنه مجلس حرّ يمثل الأمّة تمثيلاً صادقاً. وإني أعلم أن هذه الطلبات سوف تكلفني غالياً، وقد تكلّفني حياتي، ولكن هذه الطلبات هي مشاعر أمة، وطلبات أمة، وإرادة أمة، ولا يمكن أن تموت أمة تعيش في أعماقها روح محمد وعلي والصفوة من آل محمد وأصحابه»([8]).

النداء الثاني: يا شعبي العراقي العزيز، يا جماهير العراق المسلمة، التي غضبت لدينها، ولكرامتها، ولحريتها، وعزّتها، ولكلّ ما آمنت به من قيم ومثل.

أيّها الشعب العظيم، إنّك تتعرض اليوم لمحنة هائلة على يد السفّاكين والجزّارين، الذين هالهم غضب الشعب، وتململ الجماهير، بعد أن قيَّدوها بسلاسل من الحديد ومن الرعب، وخُيِّل للسفّاكين أنهم بذلك انتزعوا من الجماهير شعورها بالعزة والكرامة، وجرَّدوها من صلتها بعقيدتها وبدينها وبمحمدها العظيم؛ لكي يحوّلوا هذه الملايين الشجاعة المؤمنة من أبناء العراق الأبيّ إلى دمى وآلات يحركونها كيف يشاؤون، ويزقّونها ولاء عفلق وأمثاله من عملاء التبشير والاستعمار، بدلاً من ولاء محمد وعلي صلوات الله عليهما. ولكن الجماهير دائماً هي أقوى من الطغاة، مهما تفرعن الطغاة، وقد تصبر، ولكنها لا تستسلم. وهكذا فوجىء الطغاة بأن الشعب لا يزال ينبض بالحياة، وما تزال لديه القدرة على أن يقول كلمته. وهذا هو الذي جعلهم يبادرون إلى القيام بهذه الحملات الهائلة على عشرات الآلاف من المؤمنين، والشرفاء من أبناء هذا البلد الكريم، حملات السجن، والاعتقال، والتعذيب، والإعدام، وفي طليعتهم العلماء المجاهدون، الذين يبلغني أنّهم يستشهدون الواحد بعد الآخر تحت سياط التعذيب. وإنّي في الوقت الذي أدرك عمق هذه المحنة التي تمرّ بك يا شعبي وشعب آبائي وأجدادي أؤمن بأن استشهاد هؤلاء العلماء واستشهاد خيرة شبابك الطاهرين وأبنائك الغيارى تحت سياط العفالقة لن يزيدك إلاّ صموداً وتصميماً على المضي في هذا الطريق حتى الشهادة أو النصر.

وأنا أعلن لكم يا أبنائي بأني صمَّمت على الشهادة، ولعل هذا هو آخر ما تسمعونه منّي. وإن أبواب الجنّة قد فتحت لتستقبل قوافل الشهداء حتى يكتب الله لكم النصر. وما ألذّ الشهادة التي قال عنها رسول الله|: إنها حسنة لا تضر معها سيئة، والشهيد بشهادته يغسل كل ذنوبه مهما بلغت. فعلى كل مسلم في العراق، وعلى كل عراقي في خارج العراق، أن يعمل كل ما في وسعه، ولو كلّفه ذلك حياته، من أجل إدامة الجهاد والنضال لإزالة هذا الكابوس عن صدر العراق الحبيب، وتحريره من العصابة اللاإنسانية، وتوفير حكم صالح فذّ شريف طيّب يقوم على أساس الإسلام. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته»([9]).

النداء الثالث: وتوجَّه الشهيد الصدر بنداء ثالث لا يعرف تاريخه بشكل دقيق، وقد قال& فيه: يا شعبي العراقي العزيز..، أيها الشعب العظيم..، إني أخاطبك في هذه اللحظة العصيبة من محنتك وحياتك الجهادية، بكل فئاتك وطوائفك، بعربك وأكرادك، بسنتك وشيعتك؛ لأن المحنة لا تخصّ مذهباً دون آخر، ولا قومية دون أخرى. وكما أن المحنة هي محنة كل الشعب العراقي فيجب أن يكون الموقف الجهادي، والرد البطولي، والتلاحم النضالي، هو واقع كل الشعب العراقي. وإني منذ عرفت وجودي ومسؤوليتي في هذه الأمة بذلت هذا الوجود من أجل الشيعي والسنّي على السواء، ومن أجل العربي والكردي على السواء، حيث دافعت عن الرسالة التي توحّدهم جميعاً، وعن العقيدة التي تهمّهم جميعاً، ولم أعش بفكري وكياني إلاّ للإسلام، طريق الخلاص وهدف الجميع. فأنا معك يا أخي وولدي السنّي بقدر ما أنا معك يا أخي وولدي الشيعي، أنا معكما بقدر ما أنتما مع الإسلام، وبقدر ما تحملون هذا المشعل العظيم لإنقاذ العراق من كابوس التسلط والاضطهاد.

إن الطاغوت وأولياءه يحاولون أن يوحوا إلى أبنائنا البررة من السنّة أن المسألة مسألة شيعة وسنّة؛ ليفصلوا السنّة عن معركتهم الحقيقية ضد العدو المشترك.

وأريد أن أقولها لكم، يا أبناء علي والحسين، وأبناء أبي بكر وعمر: إن المعركة ليست بين الشيعة والحكم السنّي. إن الحكم السنّي الذي مثّله الخلفاء الراشدون، والذي كان يقوم على أساس الإسلام والعدل، حمل عليٌّ السيف للدفاع عنه؛ إذ حارب جندياً في حروب الردة تحت لواء الخليفة الأول أبي بكر. وكلنا نحارب تحت راية الإسلام مهما كان لونها المذهبي. إن الحكم السنّي الذي كان يحمل راية الإسلام قد أفتى علماء الشيعة قبل نصف قرن بوجوب الجهاد من أجله، وخرج الآلاف من الشيعة، وبذلوا دمهم رخيصاً؛ من أجل الحفاظ على راية الإسلام، ومن أجل حماية الحكم السنّي الذي كان يقوم على أساس الإسلام. إن الحكم الواقع ليس حكماً سنّياً، وإنْ كانت الفئة المتسلطة تنتسب تاريخياً إلى التسنُّن، فإن الحكم السنّي لا يعني حكم شخص ولد من أبوين سنّيين، بل يعني حكم أبي بكر وعمر، الذي تحدّاه طواغيت الحكم في العراق اليوم في كل تصرفاتهم، وهم ينتهكون حرمتهم للإسلام، وحرمة علي وعمر معاً، في كل يوم، وفي كل خطوة من خطواتهم الإجرامية.

ألا ترون يا أولادي وإخواني أنهم أسقطوا الشعائر الدينية التي دافع عنها عليّ وعمر معاً؟ ألا ترون أنهم ملؤوا البلاد بالخمور وحقول الخنازير وكل وسائل المجون والفساد التي حاربها عليّ وعمر معاً؟ ألا ترون أنهم يمارسون أشد ألوان الظلم والطغيان تجاه كل فئات الشعب، ويزدادون يوماً بعد يوم حقداً على الشعب، وتفنناً في امتهان كرامته، والانفصال عنه، والاعتصام ضده في قصورهم المحاطة بقوى الأمن والمخابرات، بينما كان علي وعمر يعيشان مع الناس، وللناس، وفي وسط الناس، ومع آلامهم وآمالهم؟ ألا ترون احتكار هؤلاء السلطة احتكاراً عشائرياً، يضفون عليه طابع الحزب زوراً وبهتاناً، وسدّهم أبواب التقدم أمام كل جماهير الشعب، سوى أولئك الذين رضوا لأنفسهم الذل والخضوع، وباعوا كرامتهم، وتحولوا إلى عبيد أذلاء؟ إن هؤلاء المتسلطين قد امتهنوا حتى كرامة حزب البعث العربي الاشتراكي، حيث عملوا من أجل تحويله من حزب عقائدي إلى عصابة يُفرض الانضمام إليها والانتساب إليها بالقوة والإكراه. وإلاّ فأيّ حزب حقيقي يحترم نفسه في العالم يطلب الانتساب إليه بالقوة؟ إنّهم أحسوا بالخوف حتى من الحزب نفسه الذي يدَّعون تمثيله. إنهم أحسوا بالخوف منه إذا بقي حزباً حقيقياً له قواعده التي تبنيه، ولهذا أرادوا أن يدهموا قواعده، بتحويله إلى تجمُّع يقوم على أساس الإكراه والتعذيب؛ ليفقد أي مضمون حقيقي له…

يا إخواني وأبنائي، من أبناء الموصل والبصرة، من أبناء بغداد وكربلاء والنجف، من أبناء سامراء والكاظمية، من أبناء العمارة والكوت والسليمانية، من أبناء العراق في كل مكان، إنّي أعاهدكم بأني لكم جميعاً، ومن أجلكم جميعاً، وإنّكم جميعاً هدفي في الحاضر والمستقبل، فلتتوحد كلمتكم، ولتتلاحم صفوفكم، تحت راية الإسلام، ومن أجل إنقاذ العراق من كابوس هذه الفئة المتسلطة، وبناء عراق حرّ كريم، تحكمه عدالة الإسلام، وتسوده كرامة الإنسان، ويشعر فيه المواطنون جميعاً على اختلاف قومياتهم ومذاهبهم بأنهم إخوة، يساهمون جميعاً في قيادة بلدهم، وبناء وطنهم، وتحقيق مثلهم الإسلامية العليا، المستمدة من رسالتنا الإسلامية، وفجر تاريخنا العظيم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته»([10]).

 

جولة مع الأحداث الأخيرة ـــــــ

وبعد أن أشيع أن الشهيد الصدر ينوي مغادرة أرض العراق لم يتحمل الناس فراقه، فسارعوا في تظاهرات لم يعهدها العراق من قبل، مواكباً مواكباً. الكل متّجه نحو النجف الأشرف، محل إقامة الشهيد الصدر، يطلبون منه البقاء، وأنهم يفدونه بأرواحهم، وقد كانت هذه المواكب تحمل في ذاتها معنيين كبيريين؛ فمن جهة كانت تبين لنظام البعث حجمهم وقوتهم، وأن هذه الجموع الحاشدة ترفضهم، ولا تنصاع لتخويفاتهم، ولا لقهرهم، وأنها إنما تنتظر الإشارة لتعلن خروجها عليه، وثورتها ضده؛ ومن جهة ثانية تكشف عن حجم وموقعية مقام الشهيد الصدر داخل العراق، وفي قلوب تلك الجموع وتلك الألوف.

لكن الشهيد الصدر؛ وانطلاقاً مما وهبه الله من الفطنة والحكمة، لم يرَ صلاحاً في خروج هذه الجماهير، ووجدها خطوة تحمل مساوئ أكثر مما حملته من خير، فأمرهم بالعودة إلى ديارهم، فساعة الصفر لم تبدأ بعد، والثمار لا زالت تحتاج إلى وقت وحرارة حتى يحين موعد قطافها.

في السابع عشر من رجب 1399هـ صدرت الأوامر لأزلام النظام البعثي المستبد باعتقال السيد محمد باقر الصدر. وقد كان اعتقال الشهيد الصدر سبباً في اندلاع تظاهرات عظيمة في النجف الأشرف، بزعامة أخته الطاهرة بنت الهدى(رضوان الله عليها)، وكان أن اصطدم المتظاهرون بقوات الأمن الظالمة، التي لم تتورع عن استعمال الذخيرة الحية في قمع احتجاجاتهم المشروعة. ولم تتوقف التظاهرات في النجف، بل اندلعت في كل مناطق العراق، في البصرة، وديالى، والكاظمية، ووقعت اصطدامات قوية، جعلت النظام البعثي يقرِّر الإفراج عن الشهيد الصدر مؤقتاً؛ لتبريد الأجواء.

بعد هذه التظاهرات العظيمة أدرك النظام البعثي حجم مساندة الشعب العراقي للشهيد الصدر، واستعداده للدفاع عنه، ولو أدى الأمر إلى الموت، فوسوس إليه شيطانه باستعمال حيلة شيطانية أخرى، فأمر قواته بمحاصرة بيت الشهيد الصدر، وفرض عليه الإقامة الجبرية، وقطع عنه أي اتصال بالناس، مهما كانت مكانتهم. ولم ينتظر النظام البعثي طويلاً، فأراد أن يقطع نهائياً أي اتصال للشهيد الصدر بأتباعه ومحبّيه، والذين كانوا يمثلون طائفة وشريحة كبيرة من أبناء العراق، فسارع إلى اعتقاله خارج بيته، وما هي إلا مدة يسيرة حتى جاؤوا مطالبين بأخته بنت الهدى. وكانت الفاجعة، فقد أقدم النظام البعثي، بزعامة صدام المقبور، على اغتيال السيد الصدر وأخته السيدة بنت الهدى، بعد أن أخضعوهما للتعذيب والتنكيل، حيث سجلت آثاره على بدنيهما الشريفين، وأقسما أن يلقيا الله ووجهاهما مخضبة بدمائهما؛ فداءً للحق، ودفاعاً عن المستضعفين والمحرومين. استشهد السيد محمد باقر الصدر وأخته ورفيقة دربه السيدة آمنة بنت الهدى، وبذلك لم يتخلفا عن الركب العلوي، وانضما إليه بكلّ عزة وشرف، فرضي الله عنهما وأرضاهما.

الإصلاحات الجذرية في فكر الشهيد الصدر ــــــ

تزامن صعود فكر الشهيد الصدر في العلوم الإسلامية مع انتشار الفكر الإلحادي، وسيطرته شبه الكاملة على العقل العراقي. فلم تنجُ منه أية فئة من فئات المجتمع، حتى صار الشاب المسلم يجد نفسه غريباً بين أهله. فقد نفذت أفكار الإلحاد داخل المجتمع، العراقي واستطاعت أن تجلب إليها عقول التنويريين والأكاديميين والجامعيين، بل استطاعت أن تضم العديد من النخب في وسط الشباب؛ لتجعلها في صفوفها، وأن تصبح عضواً فعّالاً في أحزابها. لذلك عمل الشهيد الصدر على عملية إصلاح جذرية، تشمل كل أبعاد المجتمع: الفكرية، والسياسية، والاجتماعية، وسعى بكل إخلاص وجدية لإحداث تغييرات في كل تلك الساحات، بحيث تكون مغيرة لتلك الأفكار، وقالعةً لها من الأساس، وأن لا تنحصر عند ظواهر الأمور.

 

1ـ الإصلاحات الفكرية ــــــ

لقد أدرك الشهيد الصدر أن الفكر الإسلامي، وبالتحديد الإسلام، يتعرض لهجمة شرسة لم يسبق لها مثيل من قِبَل التيارات الإلحادية والمادية، وأن الأمر يستدعي تغييرات كبيرة وجذرية؛ لتستطيع المقاومة الفعلية لهذه الهجمة المكثفة. لذلك عمل على إيجاد طرق وأساليب جديدة؛ حتى تكون المواجهة في الأبعاد الاعتقادية والاجتماعية في صالح جبهة الإسلام، وحتى تخرج الإسلام والمسلمين من حالة الانفعال والدفاع، التي لازمت العقل والفكر الإسلامي طيلة قرون، ليتحول إلى حالة الهجوم، وأن يغزو العقول، وأن يطرح أفكاره ومبادئه في حالة القوة، وليس في حالة من الضعف. انطلاقاً من هذا الإدراك قرر الشهيد الصدر أن ينحو بالفكر الإسلامي منحىً جديداً يتيح له استعادة عافيته، بل أن يرجع سيد الساحات كما كان بادئ أمره، وأن يصبح ملاذ العقول والقلوب وقلعتها المتينة. لهذا عمل على إيجاد تغييرات في البنية التحتية للتفكير، وكانت مؤسَّسة على الأمور التالية:

1ـ تجديد الفكر الإسلامي، مع الحفاظ على أصالته، التي تأخذ مرجعيتها من القرآن والسنة المطهَّرة، مع أخذ احتياجات الساحة بعين الاعتبار، بحيث تستطيع الإجابة عن كل إشكالاتها، ورفع كل استفهاماتها.

2ـ إيجاد تغييرات بنّاءة في برامج وأساليب التعليم والتربية في كلٍّ من الحوزات العلمية ومراكز التحقيق الإسلامية، مع التوجه بكل اعتناء إلى رفع مستوى البحث العلمي في المراكز العلمية والدينية، بحيث يرتبط باحتياجات الفرد والمجتمع المعاصر، وأن لا يقتصر على التفكير الكلاسيكي الذي يعمل على تكرار مقولة السلف من غير تجديد أو إعمال النظر.

3ـ أن يطرح الإسلام بشكله الصحيح، الذي يمثِّل رؤية للكون والحياة، ونظاماً للفرد والمجتمع، ومنهجاً في المعرفة والتغيير، كاملةً في جميع أبعادها، ومنسجمة، بحيث تكون بلحاظ فلسفي مستحكمة ومنفتحة على كل العالم، عمادها البرهان والدليل الفلسفي والمنطقي، وبعيدة عن كل ما من شأنه أن يمس باستقلال الفكر الإسلامي، وأن لا تحاول إلباس الإسلام لباس الفكر الغربي، فتحاول إرضاء الغرب بجعل الفكر الإسلامي وفق مقاييس ورغبات الغرب.

4ـ مواجهة الأفكار المضادة للإسلام، عن طريق فتح باب المناظرة والحوار العلمي والمنطقي، وباستحضار الأدلة العقلية والصحيحة؛ لإثبات أن هذه الأفكار وهذه المدارس التي تقف اليوم في وجه الإسلام فشلت في تقديم حلول جذرية للأزمات الإنسانية، وأنها غير قادرة على رفع مستوى الإنسان دون أن يكون ذلك على حساب إنسانيته. هذا الى جانب ما تعاني منه داخلياً من التناقض بين أفكارها، والتضادّ في وجهات نظرها.

5ـ تربية أجيال فعّالة، وحركية، ومتفكِّرة، وتربية جيل من العلماء، في الحوزات العلمية والجامعات والأكاديميات، يملكون روح التجديد في الأفكار، ومتضلعين في العلوم والثقافة الدينية، بحيث إذا طلعوا إلى ميدان المناظرة والمواجهة مع الأفكار الإلحادية والمادية كانوا فرسانها، لا يعوزهم عوز، ولا تخفى عليهم الحجة والبرهان.

 

2ـ الإصلاحات الاجتماعية ـــــــ

يرى الشهيد الصدر أن إصلاح المجتمع والوضع الاجتماعي للأمة بما هي عليه في الوقت الراهن لا يمكن أن يتأتى إلا بوجود قيادة حكيمة ومخلصة، تأخذ بزمام الأمور، وتلتف حولها الأمة؛ بلحاظ ثقتها بها. كما أن من الشروط الموضوعية لهذه القيادة أن يكون خطابها للجماهير مورد الطاعة والقبول بالفعل؛ لأنه في غير هذه الصورة لن يكون لهذه القيادة أي أثر، ولن تستطيع إصلاح المجتمع. ويرى الشهيد الصدر أن القيادة الوحيدة التي تستطيع أخذ هذا الدور هي المرجعية الدينية الشيعية، التي تشكل القلب النابض للأمة، ومحور الفعاليات والتحركات الدينية ـ الاجتماعية الإسلامية، رغم أن المرجعية تحتاج في ذاتها إلى إصلاحات وتقويمات داخلية حتى تستطيع الخروج من وضعها الراهن إلى ما تنتظره الأمة والدين منها، وحتى تضطلع بدورها السياسي والاجتماعي على أكمل وجه. وقد ابتدأ الشهيد الصدر من نفسه، حيث عمل على تطبيق ما نادى به من إصلاحات في مكتب مرجعيته، لينتقل من القول إلى الفعل، وحتى لا تبقى آراؤه الإصلاحية منحصرة في الجانب النظري فحسب. وقد قال يصف المرجعية الصالحة: «إن أهم ما يميز المرجعية الصالحة تبنّيها للأهداف الحقيقية التي يجب أن تسير المرجعية في سبيل تحقيقها؛ لخدمة الإسلام، وامتلاكها صورة واضحة محدَّدة لهذه الأهداف. فهي مرجعية هادفة بوضوح ووعي، تتصرف دائماً على أساس تلك، بدلاً من أن تمارس تصرفات عشوائية، وبروح تجزيئية، وبدافع من ضغط الحالات الجزئية المتجدِّدة. وعلى هذا الأساس كان المرجع الصالح قادراً على عطاء جديد في خدمة الإسلام، وإيجاد تغيير أفضل لصالح الإسلام، في كل الأوضاع التي يمتد إليها تأثيره ونفوذه»([11]). وهكذا انطلقت المرجعية الصالحة لتبني مجتمعاً متكاملاً، ولتخرج بالأمة من موضع الضعف والانغلاق على الموروث إلى بناء حضارة إسلامية جديدة، تحفظ للفرد المسلم قيمه وعزته. فالمرجع الواعي والصالح قادر من موقعه، الذي جعله امتداداً للنبوة والإمامة، وبما يملكه من قدرات في الاجتهاد؛ بلحاظ كونه الممثل الأعلى للأيديولوجية الإسلامية، على الإجابة عن كل المتغيرات التي تحصل في الزمان والمكان، بمعنى أن مرجعيته لا تجعله يحدِّد الطابع الإسلامي للعناصر الثابتة فحسب، بل كذلك للعناصر المتحركة في الزمان والمكان أيضاً. ووفق نظر السيد الشهيد الصدر فالمرجع الصالح لابد وأن تتوفر فيه الخصوصيات التالية: أولاً: أن يكون له تصور كامل عن الأهداف الحقيقة. ثانياً: أن يتعهد ويلتزم بالعمل من أجل هذه الأهداف. ثالثاً: أن يعمل وفق برنامج واضح يضمن فعلياً تحقيق تلك الأهداف.

 

المرجعية الصالحة الرشيدة ــــــ

وقد صاغ الشهيد الصدر ورقةً بيَّن فيها الأهداف الحقيقية للمرجعية الصالحة:

1ـ نشر أحكام الإسلام على أوسع مدى ممكن بين المسلمين، والعمل على تربية كلّ فرد منهم تربية دينية تضمن التزامه بتلك الأحكام في سلوكه الشخصي.

2ـ إيجاد تيار فكري واسع في الأمة يشتمل على المفاهيم الإسلامية الواعية، من قبيل: المفهوم السياسي، الذي يؤكد أن الإسلام نظام كامل شامل لشتى جوانب الحياة، واتخاذ ما يمكن من أساليب لتركيز تلك المفاهيم.

3ـ إشباع الحاجات الفكرية الإسلامية للعمل الإسلامي، وذلك عن طريق إيجاد البحوث الإسلامية الكافية في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية، والمقارنات الفكرية بين الإسلام وبقية المذاهب الاجتماعية، وتوسيع نطاق الفقه الإسلامي على نحو يجعله قادراً على مدّ كل جوانب الحياة بالتشريع، وتصعيد الحوزة ككلّ إلى مستوى هذه المهام الكبيرة.

4ـ القيمومة على العمل الإسلامي، والإشراف على ما يعطيه العاملون في سبيل الإسلام في مختلف أنحاء العالم الاسلامي من مفاهيم، وتأييد ما هو حق منها ومساندته، وتصحيح ما هو خطأ.

5ـ إعطاء المراكز العالمية، من المراجع إلى أدنى مراتب العلماء، الصفة القيادية للأمة، بتبني مصالحها والاهتمام بقضايا الناس ورعايتها، واحتضان العاملين في سبيل الإسلام.

ويضيف الشهيد الصدر: إن وضوح هذه الأهداف للمرجعية وتبنّيها هو الذي يحدِّد صلاح المرجعية، ويحدث تغييراً كبيراً على سياستها ونظراتها إلى الأمور، وطبيعة تعاملها مع الأمة، لكنّه لا يكفي لضمان الحصول على أكبر قدر ممكن من مكاسب المرجعية الصالحة؛ لأن الحصول على ذلك يتوقف ـ إضافة إلى صلاح المرجع ووعيه ـ على خطوتين موضوعيتين:

الأولى: عمل مسبق على قيام المرجعية الصالحة. ويفصل أكثر حيث يقول: «العمل المسبق على قبول المرجعية هو إيجاد قاعدة جماهيرية تكون قد آمنت بنفس هذه الأهداف، وإعدادها فكرياً وروحياً؛ لكي تكون على كامل الاستعداد لخدمة الإسلام وبناء المرجعية الصالحة. وإن عدم إيجاد هذه القاعدة لن يجعل المرجعية الصالحة قادرة على إحداث أي تحرك أو إيقاع أي تغيير على صعيد المجتمع، بل ستجد نفسها منعزلة عن المجتمع، وبعيدة كل البعد عن جماهيرها. وهذا بالضبط ما وقع، فبعض المرجعيات ـ رغم صلاحها ـ وقفت عاجزة عن إحداث أي تغيير من أي نوع في بنية المجتمع؛ لأنها لم تعتمد هذا الشرط المسبق، ولم تنهض قبل تصديها للمرجعية بتسطير مشروع تغييري يوضع في شكل أهداف، ولم تعمل على بناء قاعدة تنهض بمشروعها وأهدافها»([12]).

الثانية: وتكمن في تطوير أسلوب عمل المرجعية، بحيث لا تبقى منحصرة في شخص المرجع، بل تكون في إطار مؤسسة متكاملة. وفي هذا يقول الشهيد الصدر: إيجاد جهاز عمليّ تخطيطي وتنفيذي يقوم على أساس الكفاءة، والتخصّص، وتقسيم العمل، واستيعاب كلّ مجالات العمل المرجعي الرشيد في ضوء الأهداف المحدّدة. ويقوم هذا الجهاز بالعمل بدلاً من الحاشية، التي تعبّر عن جهاز عفوي مرتجل يتكوّن من أشخاص جمعتهم الصدف والظروف الطبيعيّة لتغطية الحاجات الآنيّة بذهنيّة تجزيئيّة، وبدون أهداف محدّدة واضحة. ويشتمل هذا الجهاز على لجان متعدّدة، تتكامل وتنمو بالتدريج.

الجهاز العمليّ للمرجعيّة الصالحة في تطوّره وتكامله ــــــ

1ــ لجنة أو لجان لتسيير الوضع الدراسي في الحوزة العلميّة، وهي تمارس تنظيم دراسة ما قبل (البحث الخارج)، والإشراف على دراسات البحث الخارج، وتحدّد المواد الدراسية، وتضع الكتب الدراسية، وتجعل بالتدريج الدراسة الحوزوية بالمستوى الذي يتيح للحوزة المساهمة في تحقيق أهداف المرجعيّة الصالحة، وتحصِّل معلومات عن الانتسابات الجغرافيّة للطلبة، وتسعى في تكميل الفراغات وتنمية العدد.

2ــ لجنة للإنتاج العلميّ، ووظائفها إيجاد دوائر علميّة لممارسة البحوث، ومتابعة سيرها، وتشجيعه، ومتابعة الفكر العالمي بما يتّصل بالإسلام، والتوافر على إصدار شيء، كمجلة، أو غيرها، والتفكير في جلب العناصر الكفوءة إلى الحوزة، أو التعاون معها إذا كانت في الخارج.

3ــ لجنة أو لجان مسؤولة عن شؤون علماء المناطق المرتبطة، وضبط أسمائهم وأماكنهم ووكالاتهم، وتتبُّع سيرهم وسلوكهم واتصالاتهم، والاطّلاع على النقائص والحاجات والفراغات، وكتابة تقرير إجمالي في وقت محدّد، أو عند طلب المرجع.

4ــ لجنة الاتصالات، وهي تسعى لإيجاد صلات مع المرجعيّة في المناطق التي لم تتّصل مع المركز، ويدخل في مسؤوليتها إحصاء المناطق، ودراسة إمكانات الاتصال بها، وإيجاد سفرة تفقّديّة؛ إمّا على مستوى تمثيل المرجع؛ أو على مستوى آخر، وترشيح المناطق التي أصبحت مستعدّة لتقبّل العالم، وتولّي متابعة السير بعد ذلك، ويدخل في صلاحيتها الاتّصال في الحدود الصحيحة مع المفكّرين والعلماء في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وتزويدهم بالكتب، والاستفادة من المناسبات، كفرصة الحجّ.

5ـ لجنة رعاية العمل الإسلامي، والتعرّف على مصاديقه في العالم الإسلامي، وتكوين فكرة عن كلّ مصداق، وبذل النصح والمعونة عند الحاجة.

6ـ اللجنة الماليّة، التي تعنى بتسجيل المال، وضبط موارده، وإيجاد وكلاء ماليّين، والسعي في تنمية الموارد الطبيعيّة لبيت المال، وتسديد المصارف اللازمة للجهاز، مع التسجيل والضبط.

ولا شكّ في أنّ بلوغ الجهاز إلى هذا المستوى من الاتّساع والتخصّص يتوقّف أولاً: على تطوّر طويل الأمد. ومن الطبيعي أن يبدأ الجهاز محدوداً، وبدون تخصّصات جدّية؛ تبعاً لضيق نطاق المرجعيّة، وعدم وجود التدريب الكافي. والممارسة والتطبيق هو الذي يبلور القابليات من خلال العمل، ويساعد على التوسيع والتخصّص.

ثانياً: إيجاد امتداد أفقي حقيقي للمرجعيّة يجعل منها محوراً قويّاً، تنصبّ فيه قوى كل ممثِّلي المرجعيّة والمنتسبين إليها في العالم؛ لأن المرجعيّة حين تتبنى أهدافاً كبيرة، وتمارس عملاً تغييراً واعياً في الأمة، لابدّ أن تستقطب أكبر قدر ممكن من النفوذ؛ لتستعين به في ذلك، وتفرض بالتدريج، وبشكل وآخر، السير في طريق تلك الأهداف على كل ممثّليها في العالم. وبالرغم من انتساب كل علماء الشيعة تقريباً إلى المرجع في الواقع المعاش يلاحظ بوضوح أنّه في أكثر الأحيان انتساب نظري وشكلي، لا يخلق المحور المطلوب، كما هو واضح.

وعلاج ذلك يكون عن طريق تطوير شكل الممارسة للعمل المرجعي، فالمرجع تاريخياً يمارس عمله المرجعي كلّه ممارسة فرديّة، ولهذا لا تشعر كل القوى المنتسبة إليه بالمشاركة الحقيقيّة معه في المسؤولية، والتضامن الجادّ معه في الموقف، وأمّا إذا مارس المرجع عمله من خلال مجلس يضمّ علماء الشيعة، والقوى الممثّلة له دينيّاً، وربط المرجع نفسه بهذا المجلس، فسوف يكون العمل المرجعي موضوعيّاً، وإن كانت المرجعيّة نفسها؛ بوصفها نيابة عن الإمام، قائمة بشخص المرجع، غير أن هذه النيابة القائمة بشخصه لم تحدّد له أسلوب الممارسة، وإنّما يتحدَّد هذا الأسلوب في ضوء الأهداف، والمصالح العامّة»([13]).

 

3ـ الإصلاحات السياسية ــــــ

يقوم تصوُّر الشهيد الصدر في هذا النوع من الإصلاحات على أن إحداث الإصلاح في الأمة لايمكن أن يتم إلا من خلال تطبيق الشريعة الإسلامية السمحة، بحيث تصير سلوكاً عفوياً لدى جماهير الأمة في حياتهم اليومية. وتطبيق الشريعة الإسلامية والاحتكام بأحكامها شأن من شؤون الدولة الإسلامية، وفي انتظار تكوين هذه الدولة لابد من إعداد قاعدة شعبية وتهيئتها سياسياً وفكرياً، وذلك يكون ميسَّراً إذا بث فيها الوعي بهذه الحقائق. وحول بثّ الوعي بضرورة الدولة الإسلامية، وتوقف ممارسة الدين بشكل كامل على وجودها، يقول الشهيد الصدر، ضمن كتابه (فلسفتنا): «قد حمل الإسلام المشعل المتفجِّر بالنور، بعد أن بلغ البشر درجة خاصة من الوعي، فبشّر بالقاعدة المعنوية والخلقية على أوسع نطاق وأبعد مدى، ورفع على أساسها راية إنسانية، وأقام دولة فكرية أخذت بزمام العالم ربع قرن، واستهدفت توحيد البشر كلّه، وجمعه على قاعدة فكرية واحدة ترسم أسلوب الحياة ونظامها. فالدولة الإسلامية لها وظيفتان: إحداهما: تربية الإنسان على القاعدة الفكرية والعقائدية، وطبع اتجاهه وأحاسيسه بطابعها؛ والأخرى: مراقبته من الخارج، وإرجاعه إلى القاعدة إذا انحرف عنها عملياً. ولذلك فليس الوعي السياسي للإسلام وعياً للناحية الشكلية من الحياة الاجتماعية فحسب، بل هو وعي سياسي عميق، مردّه إلى نظرة كلية كاملة نحو الحياة، والكون، والاجتماع، والسياسة، والاقتصاد، والأخلاق. فهذه النظرة الشاملة هي الوعي الإسلامي الكامل. وكلُّ وعي سياسي آخر إما أن يكون وعياً سياسياً سطحياً لا ينظر إلى العالم من زاوية معينة، ولا يقيم مفاهيمه على نقطة ارتكاز خاصة؛ أو يكون وعياً سياسياً يدرس العالم من زاوية المادة البحتة، التي تموّن البشرية بالصراع والشقاء في مختلف أشكاله وأنواعه»([14]).

ومن أهم ما تقوم عليه نهضة الأمة وصحوتها الوعي السياسي، الذي يبتني على الإيمان الراسخ بأن بناء الدولة الإسلامية ضرورة شرعية، وضرورة وجودية؛ لأنها تحفظ الهوية الإسلامية، فلا يمكن الحديث عن تطبيق الشريعة إلا في ظل وجود الدولة، وأيّ حديث خارج هذا الوجود يعد أجوفاً وفضفاضاً. وفي هذا يقول&: «إنّ الدولة الإسلامية تارة تدرس بما هي ضرورة شرعية؛ لأنها إقامة لحكم الله على الأرض، وتجسيد لدور الإنسان في خلافة الله؛ وأخرى تدرس على ضوء هذه الحقيقة، ولكن من ناحية معطياتها الحضارية العظيمة، وقدراتها الهائلة التي تتميز بها عن أية تجربة اجتماعية أخرى»، إلى أن يقول: «إنّ الدولة الإسلامية ليست ضرورة شرعية فحسب، بل هي ـ إضافةً إلى ذلك ـ ضرورة حضارية؛ لأنها المنهج الوحيد الذي يمكنه تفجير طاقات الإنسان في العالم الإسلامي، والارتفاع به إلى مركزه الطبيعي على صعيد الحضارة الإنسانية، وإنقاذه ممّا يعانيه من ألوان التشتُّت والتبعية والضياع». إن إعداد هذه الفئة القاعدة عملياً، وتفعيل قواها، يتم من خلال طرق أربعة:

الأول: إعادة إصلاح مؤسسة المرجعية الدينية ـ والتي تكون في نفس الوقت القيادة السياسية ـ، بحيث تصبح قادرة فعلياً على قيادة الأمة فكرياً وسياسياً([15]).

الثاني: تربية قاعدة مؤمنة إيماناً يقوم على الفهم الواعي للإسلام ومفاهيمه، بحيث تصبح قادرة على إدراك شموليته وأنه يستوعب ويشمل كل أبعاد حياتهم الدنيوية والأخروية، بحيث يضمن لهم السعادتين من دون أدنى شك أو ترديد([16])، تربية تغرس في أعماقهم وكل كيانهم حب هذه القيادة. وفي سبيل تحقيق تلك الأهداف يتسارعون إلى الصلاة في محراب الشهادة، وتقديم أرواحهم لها فداءً.

الثالث: العمل على إيجاد نخبة من أبناء الأمة تقوم بمهمة تربية الأمة وتوجيهها نحو ضرورة العمل من أجل الأهداف التي سطّرتها المرجعية الصالحة، وضرورة حمايتها([17]).

الرابع: إيجاد هيئة تنظيمية إسلامية تعمل تحت إشراف المرجعية الدينية والسياسية، وتشكل في حقيقتها الابن الشرعي لأهدافها، تحمل على عاتقها مهمة تغيير الأوضاع السياسية الراهنة، والتي تتسم بالفساد.

وكإجراء عملي لهذا التصور عمل الشهيد الصدر في شهر ربيع الأول 1377هـ على تأسيس (حزب الدعوة الإسلامية)، وكانت خطة عمله تتكون من ثلاث نقاط:

1ـ مرحلة تأسيس الحزب، والتغيير الفكري للأمة.

2ـ مرحلة التفعيل السياسي، والتي تقوم على نشر الوعي في الأوساط الشعبية، وتوجيهها نحو الأهداف السياسية للحزب، والتي تشكل في حقيقة الأمر أهداف المرجعية الدينية، بحيث تؤمن بأهدافه وتتبنّاها بشكل إيجابي وعملي.

3ـ مرحلة انتقال السلطة السياسية من النظام اللاشرعي إلى النظام الشرعي، وتضمُّنياً إلى المرجعية الصالحة.

وقد أضاف الشهيد الصدر نقطة رابعة، وهي تأتي بعد انتقال السلطة، بحيث تتجلى في مراعاة مصالح الإسلام والأمة.

ويرى الشهيد الصدر أن الاستبداد السياسي للأنظمة الحاكمة في بعض الدول الإسلامية ــ وبالخصوص في العراق ــ تفرض دمج النقطة الأولى والثانية، بحيث يجري العمل بهما في آن واحد([18]).

 

أهم إنجازات الشهيد الصدر العلمية ـــــــ

إن من السمات الغالبة على العباقرة والمبدعين هو هروبهم من كل ما من شأنه التشويش على تركيزهم الفكري والروحي، وإنشادهم الهدوء والسكينة. لذا تجدهم يعتزلون الحياة السياسية بالأخصّ؛ لأن طبيعة الساحتين تحمل نوعاً من التناقض والتضاد فيما بينهما، فساحة الفكر والإبداع الفكري تحتاج إلى الهدوء لكي تنتج، بينما ساحة العمل السياسي والعمل الثوري الميداني يحتاج إلى النزول الفعلي إلى الميدان، وإخراج الأفكار من النظرية إلى الفعل. لكن الشهيد الصدر& قد امتاز عن أقرانه بأنه جمع بين الساحتين، واستطاع أن يكون عنصراً فاعلاً ومنتجاً على الساحتين. ولذلك يمكن القول: إنه قد حصلت له ملكة حلّ هذا التناقض ورفع هذا التضاد، فوضعه كمفكِّر، وكمنتج للأفكار ونظريات انفرد بها على المستوى الإنساني، لم يمنعه من ممارسة العمل الاجتماعي والسياسي. وهذا ما جعل منه بحق عنصراً قيادياً في الصحوة الإسلامية بشكل قلَّ له النظير. ولئن قُدِّر لقيادته السياسية أن تلتزم بالحدود الجغرافية، وتنحصر بأرض العراق، فإن قيادته الفكرية والروحية تخطت كل الحدود، لتنطلق إلى المجتمع الإسلامي، بل امتدت لتشرق على كل العالم، حتى غير الإسلامي منه. وفي ما يلي خلاصة لأهم إنجازات الشهيد الصدر& على الصعيد الفكري، وبعد ذلك على الصعيد العملي والتطبيقي.

أما إنجازاته& على الصعيد الفكري فنلخصها في النقاط التالية:

 

أـ طرحه لأساليب ومناهج جديدة في الدراسات الإسلامية ــــــ

لقد كانت السمة الغالبة على فكر الشهيد الصدر التزامه المنطق في فكره وفي تحليلاته. لذا جاءت المناهج التي طرحها في إطار الدراسات الدينية منطقية، حتى أنها بلغت مستوى من التنظيم والدقة العلمية بحيث لا يمكن العثور على ندٍّ لها أو نظير. وكان هذا هو سلوك الشهيد الصدر في تعامله مع الأفكار والطروحات النظرية، فقد كان يصوغها لتصبح منطقية. بل كان هذا ديدنه حتى مع تلك الأفكار والنظريات التي تعرَّض لها بالنقد، فقد كان يعيد صياغتها لتصبح منطقية، وأفضل مما كانت عليه لدى أصحابها، ومن ثم يقيم عليها البرهان والدليل؛ لنقدها ومناقشتها. وفي الجملة تتلخص إبداعات الشهيد الصدر في المنهج في الأمور التالية:

1ـ نظرته إلى الوحي بأنه نظامٌ متكاملٌ، وبالتالي فالإسلام هو نظامٌ متكاملٌ في ذاته، وذلك في بعديه العقائدي والتشريعي.

2ـ كشفه لنظرية المنطق الذاتي الاستقرائي. وقد فصل الكلام فيه ضمن كتابه (الأسس المنطقية للاستقراء)، وقد جعله إلى جانب المنطق الصوري الذي يعتمد القياس البرهاني ضمن البحوث الدينية.

3ـ التزامه الوضوح والدقة في كل ما طرحه من آراء ونظريات، مع صياغتها بأسلوب يجمع بين الإبداع في انتقاء العبارة التي لا تخلو من الجانب الأدبي والبلاغي.

4ـ التزامه الدقة في تحليل الأفكار، وملاحظة الرابط المنطقي بين جزئياتها.

5ـ التفكيك بين المواضيع المندمجة مع بعضها، وإعطاء كل موضوع حقّه من التحليل المنطقي.

6ـ استقراؤه لجميع الاحتمالات، واستحضاره لكل الافتراضات الممكنة في المجال، وعدم إهمال شيء منها في البحث والاستدلال.

7ـ ترتيب مطالب البحث وتبويبها وفق بعدها المنطقي.

 

ب­­­ ـ  دراسته لأفكار ونظريات الطرف المقابل، والتزامه البحث العلمي والنقد المنطقي ـــــ

رغم انفتاح الحوزات الدينية والمدارس بكل أشكالها على أفكار الآخر، وذلك منذ فجر القرن الأول الهجري، ولم يشذّ أحد من العلماء منذ ذلك الحين وإلى يومنا هذا عن هذا السلوك، واستمرارهم في الإقبال على أفكار الطرف المقابل بالمناقشة العلمية والرد الموضوعي، إلا أن ما قام به الشهيد الصدر من خلال دراساته للنتاج الفكري للآخر، سواء كان في الشرق أم في الغرب، شكَّل حالة متفردة في نوعها وشموليتها، وسابقة علمية في المدارس والحوزات الإسلامية لا مثيل لها، وخصوصاً ما طرحه ضمن كتابيه: (اقتصادنا)؛ و(فلسفتنا). وإجمالاً يمكن تلخيص ما تميَّزت به المدرسة الفكرية للشهيد الصدر في التالي:

1ـ العمق في تأمل آراء الآخر، والتزامه الدقة اللامتناهية في دراستها وبحثها.

2ـ توسيع دائرة البحث بحيث تشمل كل أدلة المدرسة الفكرية لدى الآخر، من دون إغفال جميع حيثياتها، وذلك في مجال دراستها ومناقشتها علمياً.

3ـ التزام العلمية والمنطقية في الردّ على أفكار الآخر وما طرحه من أفكار وآراء، بعيداً عن كلّ ما من شأنه أن يمس بخصوصيات البحث العلمي الجادّ الذي يتوقف وجوداً على التزام الموضوعية، وقطع الطريق أمام جبهة النفس والهوى أن تؤثر في البحث، والتي غالباً ما تعمل على إضفاء الضبابية، وخلق أجواء مشحونة بأساليب الاستهزاء والسخرية، ليتحول البحث من إطاره العلمي إلى مجرد عملية تهريج وجدال عقيم.

4ـ تحكيم أسس البحث العلمي، والاعتماد على المصادر التي اتكأ عليها أصحاب الفكر الآخر بالدرجة الأولى.

5ـ تفوُّق أبحاث واستدلالات الشهيد الصدر المنطقية، التي تعبر عن مدى قدراته العلمية والمنطقية العالية، بشكل يفحم الآخر، ويجعله لا يجد مخرجاً سوى الإقرار والاستسلام.

 

ج ـ مساعيه الخالدة في رفع إشكالات الإنسانية ومديات المعاصرة ــــــــ

من أهم مميزات إبداعات ونتاجات الشهيد الصدر الفكرية كونها بنت الواقع. فقد ركز كثيراً على معالجة المشاكل الواقعية التي يعاني منها المجتمع الإسلامي والإنساني على السواء، بشكل جدّي، مع سعيه إلى عرض طرق الحلول التي تنبع في ثوابتها من أصول الدين ومرتكزاته الشرعية. يظهر هذا جليّاً من خلال الكتب التي ألَّفها، فهي جميعاً تدور حول قضايا المجتمع: (اقتصادنا)، (فلسفتنا)، (البنك اللاربوي)، (الإسلام يقود الحياة)، (الفتاوى الواضحة)، (دروس في علم الأصول)، (والأسس المنطقية للاستقراء)، حيث يلاحظ تناول كل واحد منها لجانب من جنبات المجتمع، أراد بها رفع مشكلات؛ أو التنظير لتطوير المجتمع وجعله مواكباً لخصوصيات المرحلة.

 

د ـ إبداعات الشهيد الصدر في الدراسات الإسلامية، وإحياؤه للحوزة العلمية ــــــــ

لقد مارس الشهيد الصدر& مهمة تدريس السطوح العالية والتحقيق في حوزة النجف الأشرف لما يقرب من ربع قرن من الزمن. اشتغل بالتحقيق في مجال الفلسفة والفقه والأصول. امتاز في هذا الميدان بالدقة، والإحاطة، وعمق التأمل. استوعب موروث أسلافه من العلماء، وانفتح بقلب واعٍ على نتاجات غيره من المعاصرين. انتقد حين وجد الحاجة تدعو إلى النقد، وأصلح حين وجد المقام يستدعي الإصلاح والتنقيح. منح للحوزة وللمجتمع نظرياته الشاملة، ولم يبغِ من وراء ذلك إلا صلاحها واستكمالها. واستطاع بآرائه وأفكاره أن يؤسِّس توجُّهاً جديداً ومدرسة فكرية كاملة، تميز عن غيرها بأسلوبها ومنهجها في جميح نواحي المعرفة، وبالذات في الفلسفة، والفقه، وأصول الفقه.

إن عمق أفكار الشهيد الصدر وحداثتها من جهة، ووقوفها في مقابل الفكر والمنهج الكلاسيكي في الحوزة العلمية من جهة أخرى، جعلها تهيمن على عقول طلاب العلوم الدينية، وخصوصاً في صفوف السطوح العالية، رغم أن المنهج الكلاسيكي السائد ضمن مناهج التدريس في الحوزة العلمية كان سبباً مباشراً في بطء حركتها، لتنتقل بالتدريج، وبلحاظ كيفها، إلى أوسع من ذلك، لتعم أرجاء الحوزة العلمية بمختلف سطوحها. بل إن قوة أفكاره واستقامتها ستكون الملاذ في المستقبل القريب أمام ذوي التفكير العقلي، والمناهج العلمية في جميع الحوزات العلمية، ومراكز البحث والتحقيق، ومعاهد التعليم العالي.

ونظراً للطبيعة النوعية لهذا الموضوع، حيث تضيق علينا فرصة تقصي جميع خصوصيات ومميزات مدرسة الشهيد الصدر في مختلف ساحات المعرفة الإسلامية، نلفت نظر القارئ إلى أننا قد قمنا سابقاً بعرض صورة مقتضبة من معالم مدرسة الشهيد الصدر الأصولية الجديدة في الرسالة التي كتبناها تحت عنوان (معالم الفكر الأصولي الجديد)، وهي رسالة مختصرة عن معالم أفكار الشهيد الصدر في الأصول، مع مقارنتها بمدرسة الشيخ الأنصاري الأصولية، وكلنا أمل أن ينهض أصحاب البحث والتحقيق بدراسة فكر الشهيد محمد باقر الصدر في شتى حقول المعرفة الإسلامية، وأن يجروا مقارنتها بنظيراتها من المدارس الإسلامية الأخرى، حتى يُكشَف الستار عن مدى ما تزخر به مدرسة الشهيد الصدر من امتيازات علمية وفكرية عظيمة، وعن مدى تأثيرها في بناء وتشييد صرح الفكر الإسلامي الحديث.

 

إنجازاته العملية ـــــــ

يُمكن إجمالاً حصرها في التالي:

1ـ تربية مجموعة من الكوادر ـ علمياً وأخلاقياً ـ داخل الحوزة العلمية وخارجها، تتولى مهمة التربية الروحية للحركات الإسلامية وعموم الناس، وتوجيه جميع التوجهات والتيارات الفكرية العاملة في الساحة.

2ـ تحصين المثقفين في الساحة الإسلامية أمام الهجمة الشرسة للفكر الإلحادي والمادي، والتي سخرت في خدمة أغراضها وجذب هذه الشريحة من المجتمع المسلم كل طاقاتها وأساليبها، التي تسهر عليها مؤسساتها الإعلامية العملاقة، التي تروج لآرائها ومخططاتها، فسيطرت على مراكز القرار في العالم الإسلامي، وأضلت الرأي العام في الشارعين العربي والإسلامي. كما أن استفادتها من التكنولوجية الحديثة وهبها فرصة التفوق الاقتصادي، وبالتالي السيطرة السياسية المباشرة حيناً وغير المباشرة أحياناً كثيرة، كما جعلت المال والمقام خادمها المطاع للوصول إلى أهدافها.

3ـ تأسيس التنظيم الحركي الاسلامي، الذي عُدَّ طفرة نوعيةً في تاريخ النهضة الإسلامية الشيعية خصوصاً.

4ـ تأسيس نظام (المرجعية ـ المؤسَّسة) وفق طروحاته في المرجعية الصالحة. ونظراً إلى أن ممارسة الشهيد الصدر لمهمة المرجعية لم تكن طويلة، بل إن مرجعيته لم تستقّر في الساحة الشيعية إلا في السنوات الخمس الأخيرة من عمره الشريف، وهي فترة قصيرة، فقد وقفت في وجه تحقيق أهدافه الكبرى في جهاز المرجعية موانع كبيرة، تمثلت في وجود جهاز مرجعية محافظة متجذّرة في الوسط الشيعي، وفي الحوزة العلمية، ترى في الفكر والمنهج الكلاسيكي ـ حسب مبانيها العلمية ـ ضرورةً تحفظ الحوزة، وتضمن استمراريتها. وكذا النظام البعثي الذي كان يحكم العراق بالحديد والنار، والذي ما فتئ يعمل من أجل تضعيف مرجعيته، والحؤول دون انتشارها في مختلف الأوساط الشيعية، وقد توسل بكل السبل من أجل هذا الهدف المقيت، فلم يتورع في أكثر من مرة من سجنه شخصياً، أو سجن وكلائه في مختلف مناطق العراق، والتضييق على كلّ مَنْ يسعى لتثبيت مرجعية الشهيد الصدر& أو مساندتها، إلى غير ذلك من الطرق.

5ـ إشعال الثورة الإسلامية في العراق وقيادتها، وتقديم الإمدادات اللوجستيّة لاستمرار الثورة وتناميها، ومساندتها حتى إحدى الحسنيين: النصر؛ أو الشهادة.

 

تقييم إجمالي لأعمال الشهيد الصدر ـــــــ

يمكن تلخيص النظرة التقييمية لإنجازات وإبداعات الشهيد الصدر في النقاط التالية:

الأولى: من دون شك إن ما قدمه الشهيد الصدر للإنسانية من إنجازات علمية وفكرية؛ بلحاظ عمقها وجديتها، وما ترتَّب عليها من آثار إيجابية ظهرت ملامحها في النهضة الفكرية الإسلامية خاصة، وفي الدراسات الكلاسيكية الحوزوية، يُعدّ عاملاً في حفظ وصيانة العقل المفكر في الوسط الثقافي الإسلامي من حملة الاستلاب الثقافي والتغريب، التي كان يرفع لواءها المعسكرين الشرقي والغربي. وكان فكر السيد الشهيد بمثابة المدد الذي يمدّ المفكِّر والمثقَّف المسلم بالقوة اللازمة لكي يصل إلى بر الأمان، ويقف صامداً أمام الأمواج الهائلة من الأفكار الإلحادية والمادية التي تهبّ عليه من كل حدب وصوب. بيد أننا لا نعلم بشكل كامل الظروف التي أحاطت بالشهيد الصدر بعد انتهائه من تأليف كتابيه المعلمين: (اقتصادنا) و(فلسفتنا)، والتي حالت بينه وبين أن ينكبّ على كتابة بقية السلسلة التي وعد بها، ونعني بها (مجتمعنا)، الذي كان المجتمع الإسلامي في أمس الحاجة إليه. ومهما يكن السبب فإن حرمان الإمة والإنسانية من فيوضات هذه الشخصية التي أبدعت على كل صعيد لا يمكن أن تغفر أو أن ينتهي التأسف عليها إلى أن يرث الله الأرض ومَنْ عليها.

ويغلب على الظن أن الموانع كانت ترتكز في سيطرة بعض العقليات على الحوزة، والتي لم يكن التفكير في أمر السياسة والمجتمع من شأنيتها. وتعدّ الظروف السياسية الحالكة التي كانت تخيم على العراق من أكبر العوامل المانعة من إتمام هذا المشروع العلمي والفكري العظيم؛ لأن البحث في أمور المجتمع كان يعني بالضرورة نظرية الحكم الإسلامي ووجوب قيامها تحت ظل ولاية الفقيه العادل، وهي مواضيع كانت تثير غضب وجنون الفئة الحاكمة، التي كانت تعتبر ذلك بمثابة تحريض ضدها، وتأليب الناس لمواجهتها. كما كانت هناك فئة ممَّنْ ينتمون إلى الحوزة العلمية ترى أن دخول الحوزة المعترك السياسي في ظل تلك الظروف، من تسلط النظام البعثي، وما يتمتع به من تغطية داخلية ودولية، ونظراً لظروف المجتمع الذي كان يتسم بالاستضعاف المادي والمعنوي، قد يجرّ إلى نتائج سلبية وخيمة على الحوزة، وعلى أتباع مدرسة أهل البيت^، لذلك اختاروا أن ينأوا بالحوزة إلى عدم التدخل والبقاء في جانبها التعليمي، وهي وجهة نظر لها ما لها وعليها ما عليها.

الثانية: خطوة الشهيد الصدر في تأسيس (العمل الإسلامي)، والتي تعد في ذاتها نقلة نوعية عظيمة في تاريخ الإسلام، وسابقة تاريخية في الأوساط الشيعية، وكان تأثيرها في تقوية الحركة الإسلامية ذا مفعول قوي. لكن هناك بعض الإشارات، والتي تكون بمثابة شروط لإنجاح أي تنظيم، نرى من الضروري درجها هاهنا:

1ـ إن العمل في إطار التنظيم الإسلامي ـ بمعناه السياسي ـ يعني بالدرجة الأولى الطاعة الكاملة لقيادتها التنظيمية، والالتزام بأوامرها على أكمل وجه، كما يعني إطاعة الكوادر االقيادية فيه، والتي تنوب أو تتولى العمل في غرفة القيادة، ولاسيما عندما تكون الأوضاع السياسية قاتمة، وفي ظل جهاز حاكم بوليسي شرير، والذي عاش طويلاً في معظم الدول الإسلامية والعربية، وخصوصاً في العراق. وإذا لم تلتزم القواعد في التنظيم الإسلامي الطاعة الكاملة لقيادتها وجهازها القيادي فإن التنظيم سيواجه انهزاماً كبيراً، خصوصاً في لحظات المواجهة مع النظام الديكتاتوري والبوليسي.

2ـ لن تتوج فعاليات وتحركات التنظيم الإسلامي في ظل سيطرة جهاز حاكم قمعي وبوليسي إلا بالطاعة الكاملة لأوامر جهاز القيادة فيه، ومتابعة ومراقبة جهاز القيادة فيه لكل تشكيلات وهيئات التنظيم، من دون إغفال شيء منها مهما كان صغيراً، مع التزام المراقبة المستمرة لكل عضو في التنظيم، سواء على مستوى كوادره أم على مستوى القاعدة، حتى لا يخترق التنظيم بواسطة الاستخبارات الداخلية أو العالمية. وربما استدعى الشعور باختراق التنظيم إجراء عملية تطهير سريعة ودقيقة من هذه العناصر المشبوهة، كما أن تهاون بعض العناصر داخل التنظيم يستدعي إجراءات جزائية، وإخضاعهم للعقوبات وفق مقررات التنظيم، إلى غيرها من الإجراءات الوقائية، وخطوات بناء التنظيم والحفاظ عليه.

3ـ من الواجب على العناصر القيادية في التنظيم الإسلامي في أوضاع المواجهة مع أنظمة ديكتاتورية مستبدة ـ والتي لا تتورع عن استخدام كل الطرق لضمان بقائها في سدّة الحكم ـ أن تؤمن لنفسها وأفراد التنظيم ظروفاً أمنية تمكنها من أداء مهامها كما ينبغي، وأن تجري توجيهاتها وأوامرها من دون حصول أي انقطاع بينها وبين قواعدها وكوادرها في مختلف هئيات التنظيم، وفي مختلف الأوقات والأماكن، فكلما كان التواصل سهلاً وميسراً كلما وصلت التوجيهات والإرشادات من القيادة إلى القاعدة، وتمكنت القيادة من معالجة مكامن الضعف والخلل في التنظيم.

4ـ على الجهاز القيادي في التنظيم الإسلامي أن يأخذ الوقت الكافي في إدارة وتسيير مقررات التنظيم، وأن لا يكون عمله محكوماً بالعفوية، بل تكون المقررات والخطوات مدروسة ومحيطة بمعطيات الأمور، وهذا يحتاج إلى الوقت والدقة والتفرغ الكامل لهذه الأهداف.

إن العمل في التنظيم، سواء كان إسلامياً أم غير إسلامي، يوجب العمل بهذه الأمور الأربعة، وكل تهاون فيها أو تأخر في أدائها هو إيذانٌ في القطيعة بين القاعدة والقيادة، وفتح المجال أمام العبثية في العمل. كما تعني في ذاتها فتح الباب أمام الاختراقات الاستخباراتية الوطنية أو العالمية لتلعب أوراقها في تخريب التنظيم، وإلقاء القبض على عناصره القيادية والفاعلة، ومن ثم تصفيتهم جسدياً أو معنوياً تحت مسميات، كمكافحة الشغب أو الإرهاب أو الخارجين عن القانون، واللائحة تطول، وبالتالي القضاء على كل مظاهر العمل الإسلامي الذي يهدف إلى الحرية والعدالة الاجتماعية.

وحسب الدراسات الميدانية للتنظيم الذي أسسه الشهيد الصدر& فإن التنظيم لم يكن يمتلك أيّاً من العناصر الأربعة تلك. ولعل الشهيد الصدر قام بتأسيس التنظيم عملاً بقاعدة «ما لا يدرك كله لا يترك جله»، ونزولاً عند متطلبات الساحة العراقية التي كانت تستدعي إيجاد تنظيم إسلامي يتحمل مسؤولية قيادة المجتمع، وإيجاد إطار للعمل المنظم من جهة، وتربية عناصر تتولى مهمة توجيه وإرشاد القاعدة الجماهيرية وتهيئتها نحو الثورة ضد الأوضاع السائدة، وفي المقابل إيجاد حماية كافية لجهاز المرجعية من طرف الفئات الشعبية للمجتمع، ومن طرف الهيئات الجامعية والأكاديمية.

الثالثة: في الوقت الذي فجر فيه الشهيد السيد محمد باقر الصدر& الثورة في العراق لم تكن مرجعيته بالشمولية الكافية، والتي تستتبع التزام الناس بأوامره وإطاعته الكاملة؛ كما أن قاعدته الشعبية لم تنتشر بالقدر الذي يكفي هذا العمل السياسي. وكان الشهيد الصدر يدرك بالفعل كل هذا بشكل كامل، لكن إقدامه على الثورة لم يكن منه مناص، ولم يكن هناك من أسلوب لمواجهة وحشية النظام البعثي في العراق سوى الخروج بالثورة. كما أن جوّ الخوف والرعب الذي خيم على كل طبقات المجتمع العراقي كانت تستدعي مثل هذا العمل؛ لكسر هذا الحاجز. وبالتالي كان هذا العمل من أجل تعبيد الطريق أمام انطلاقات أخرى صحيحة لثوار ومقاومين جدد من أبناء الشعب، حتى يتمّ الوصول إلى النجاح وتحقيق ثورة ناجحة. ولولا وقفة الشهيد الصدر الرسالية وصموده البطولي لتمكن النظام البعثي من الإجهاز على الحركة الإسلامية في مهدها، ولقلع كل جذور الثورة، ومحا كل رغبة في التحرر من الأفهام، ولتمادى في ديكتاتوريته ليمحو كل معالم الانتماء للهوية الإسلامية، ولرزح الشعب العراقي في قرون أخرى طويلة من الظلم والقهر.

لكن هناك مسألة أخرى في غاية الأهمية، ولا يسعنا ونحن نتحدث عن ثورة الشهيد الصدر السكوت عنها، وهي ضعف المرجعية العليا سياسياً، وعدم مساندتها للثورة. وإن بُعْد المرجعية أو التزامها السكوت كان سبباً في انقسام الوضع الديني في أحلك الظروف السياسية التي تواجهها البلاد، والذي تسبَّب في عدم المناصرة الشعبية للثورة. بل إن ما جرى على الأوساط في داخل الشارع العراقي والحوزة الدينية شمل فئات أخرى داخل القوات المسلحة والجيش، الذي كان يضمّ العديد من العناصر الشيعية. لكن عدم وعي بعض المرجعيات بحقيقة الوضع في العراق، وعدم إحاطتها بما سيؤول له الوضع إذا فشلت الثورة، دفع بتلك الفئات إلى عدم التعاطف مع الثورة والدفاع عنها. وبطبيعة الحال ضعفها لا يطعن بأي وجه في نواياها، لكن الوضع كان يستدعي الوعي والإحاطة بحقيقة الأمور، الشيء الذي كانت له آثار سلبية ليس فقط على الساحة في العراق، بل على كل المنطقة الإسلامية. ولعل تمادي الأنظمة القمعية في أكثر من منطقة، والتخلف الذي لا زالت تقبع فيه العديد من البلدان الاسلامية، مردُّه إلى هذه الحالة في الوسط العلمائي في العراق، الذي يمثِّل قلب الأمة الإسلامية ومهد الثورة ضد الظلم ومَنْ يمثِّلونه. وهذا ما يجعل تأسّفنا وآهات حزننا تطول وتستمر إلى أن يبزع فجر جديد.

الهوامش:

(*) أحد تلامذة السيد الشهيد محمد باقر الصدر&، ومن أساتذة الدراسات العليا في الحوزة العلمية، له مؤلّفات عدّة.

([1]) الشهيد الصدر، سنوات المحنة وأيام الحصار: 42.

([2]) البحث الخارج هو المرحلة العليا من الدراسات الإسلامية في حوزات العلم الشيعية، يؤهَّل فيها الطالب لمرحلة الاجتهاد.

([3]) حياة الشهيد الصدر، مقدمة الحلقة الأولى من دروس في علم الأصول: 47، مجمع الفكر الإسلامي.

([4]) مقدمة مباحث الأصول، الجزء الأول من القسم الثاني: 52، 1407هـ.

([5]) المصدر السابق: 34.

([6]) اقتصادنا، مقدمة الطبعة الأولى: 35.

([7]) المصدر السابق: 146.

([8]) المصدر السابق: 92.

([9]) المصدر السابق: 150.

([10]) المصدر السابق: 153.

([11]) المصدر السابق: 92.

([12]) المصدر السابق: 93 ـ 94.

([13]) المصدر السابق: 96.

([14]) فلسفتنا (المقدمة): 51 ـ 52، الطبعة الثانية.

([15]) مقدمة مباحث الأصول: 93.

([16]) المصدر السابق: 92.

([17]) المصدر السابق: 93.

([18]) المصدر السابق: 90 ـ 91.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً