أحدث المقالات

من الأمور التي لا شك فيها أن الدين، بوصفه معرفةً، يتصدر قائمة الأفكار المعيارية التي يعرضها بحك طبيعتها، الاختلاف بين البشر، في تحديد مواقفهم من مقولاته بين الرفض والقبول، ووجود مستويات متعددة من الرفض والقبول، ولعل في قوله تعالى: )وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ( [النمل 45]، إشارة واضحة إلى هذه الطبيعة التي تحتملها المعرفة الدينية، ولأجل هذا الأمر، احتاج الناس إلى رسل وأنبياء يذكرونهم بمقتضيات الحقائق الدينية، رغم كونها حقائق فطرية تنتهي إلى بديهيات أولية، لكن الناس كثيراً ما تختلف في الحقائق الدينية لأنها تبعدها عن الاستناد إلى ما هو محسوم في مجال المعرفة مما يقتضيه العقل أو الحس، وبذلك تنطمس الحقائق الدينية، ما يستدعي إعادة التذكير بها، والعمل على إزاحة الغبار عنها، وهذا بالضبط ما قصده الإمام علي × حينما بيّن الحاجة إلى تكرار بعث الرسل والأنبياء بالقول: "فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم آيات المقدرة"(1).

ولأن الثقافة العربية الإسلامية بنيت بشكل أساسي على مقولات الدين الإسلامي، فقد اتسمت بسمة الفكر المعياري في الجانب الأكبر منها، وهذا ما حوَّلها إلى ثقافة معيارية لا تحسم الخلافات فيها ولا تنتهي، وهذه هي طبيعة الفكر الديني في كل زمان ومكان، ولكن هذا لا يعني أن الإسلام بوصفه ديناً، لم يعتمد منهجاً معرفياً يحسم الخلافات بين أتباعه والمؤمنين به، فهذا فرض لا يمكن قبوله، لأن الدين جاء أساساً بوصفة رؤية توحيدية في المستويين العقيدي والاجتماعي، كما ألمح سبحانه وتعالى إلى ذلك بقوله: )إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ * وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ( [الأنبياء 92-93].

ومن الواضح أن هذا النص القرآني يتحدث عن الدين بوصفه أطروحة إلهية يراد لها أن تكون سبباً في تحقيق التوحيد العقيدي والتوحَّد الاجتماعي، كما يتحدَّث، وبصورة مباشرة، عن اختلاف أهل الديانة في ما بينهم، وهذا الاختلاف الذي يعلم ربّ الدين أن لا مناص من حدوثه ووقوعه، لا يعقل أن لا يهتم الله تعالى بوضع ما يحسمه وينهيه وتحديد ذلك، وقد بيّن ما ينهيه في زمن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) عبر الحديث عن مرجعية الرسول الشخصية بوصفها الإطار المحدد لحسم الخلافات داخل المجتمع المسلم، وقد جعل الرجوع إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مناطاً للإيمان بالرسالة والتعبُّد بها، فقال عز شأنه: )فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً( [النساء 65].

واللافت للنظر أن هذا البيان القرآني يأتي مباشرة بعد تقرير أولي يؤكد من خلاله، عزّ وجلّ، أن لا معنى لبعث الرسل والأنبياء ^ في ظل افتقادهم الحق في الطاعة والمتابعة من قبل الآخرين، فيقول سبحانه: )وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ …([النساء 64].

وفي ظل ذلك، يتضح لنا أن ليس معنى كون الدين أو الثقافة الدينية فكراً معيارياً افتقادهما المرجع الذي يحسم الخلاف فيهما، وفي تحديد ما هو دخيل فيهما عمّا هو خارج عنهما، فالله تعالى الذي فطر الإنسان على الإيمان بحقائق الدين وهداه إليه بالعقل والوحي، هداه أيضاً إلى الميزان والمعيار الذي يستخدمه في تقرير الحقيقة الدينية وفصلها عمّا سواها، وهذا ما ألمح إليه الجليل تعالى في قوله: )اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ …( [الشورى 17]، وفي قوله: )لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ( [الحديد 25].

فالكتاب والآيات البينات وما يمثل جوهر الحقيقة الدينية المنزلة من الله تعالى، أنزل معها، وفي اللحظة نفسها، ما يهدي إليها ويحددها ويميزها من غيرها، وهو كما ألمح إليه الباري عزّ اسمه "الميزان" الذي من خلال اتباع مقتضياته تتضح الحقيقة الدينية ويزاح عنها اللبس والغموض.

ولأجل أن نقدم مزيداً من التوضيح، نقول:

طبيعة بناء المعرفة الإنسانية:

تتراوح طبيعة الفكرة أو المعلومة التي يكوِّنها الإنسان تجاه أي مجهول يبتغي اكتشافه والتعرف إليه والإحاطة به بين ثلاثة أنواع من المعلومات:

الفكرة الحسية

الفكرة الحسية هي الفكرة القابلة للتحقق من صدقها أو كذبها (مطابقتها للواقع أو عدمه) من خلال الحس، وهي ما يمثل الحد الأدنى المشترك بين جميع البشر، ومجالها العلوم التجريبية والتقنية والطبيعية. والمعارف الحسية يمكن النظر إليها بوصفها قاعدة مشتركة بين كافة البشر ممن يمتلكون حساً سليماً، لأن شرط الإدراك الحسي هو سلامة وسائل المعرفة الحسية عند الإنسان، ولأن هذه الوسائل عادة ما تتوفر عند البشر، فهم يقدرون على تكوين رؤى ومعطيات مشتركة تجاه ما يستنتجونه من معلومات ومعارف بوساطة آلات الحس.

الفكرة العقلية

الفكرة العقلية هي الفكرة القابلة للتحقق من صدقها أو كذبها (مطابقتها للواقع أو عدمه) عبر البرهان العقلي القائم على أوليات لا تقبل الجدل والإنكار، وهي الحد الأعلى المشترك، ومجالها العلوم الفلسفية والمنطق، ويمكننا دّ الأفكار العقلية التي تستند إلى أوليات وبديهيات العقل أساساً مشتركاً أيضاً بين جميع البشر، ولكنه يمثل حداً مشتركاً أعلى، لأن المعارف العقلية، رغم انتهائها إلى بديهيات العقل كثيراً ما يتم الاختلاف بشأنها، لعدم وضوح هذه البديهيات عند الكثير من الناس، ممن يفقدون القدرة على تحقيق متطلبات التجرّد العقلي التام، بحيث يدركون مقتضيات المنطق العقلي، بالمستوى الذي يدركون به مقتضيات المنطق الحسي، وربما لأجل ذلك نرى أن الدين بشكل عام يأتي لتنبيه البشر وتذكيرهم بالحقائق العقلية الأولية، ولكنه لا ينبههم ولا يذكرهم بالحقائق الأولية الحسية، لأن الحقائق الحسية لا يغفل البشر عن مراعاتها، وليس من مصلحته _ كما يعتقد _ تناسيها وإهمالها، وهذا خلاف ما يتم مع الحقائق العقلية الأولية، كحقيقة وجود الباري عزّ اسمه ووحدانيته، فإن الإنسان كثيراً ما ينكر هذه الحقيقة ويتنكر لها، رغم بداهتها وضرورتها، وليس ذلك إلا لأن هذه الحقيقة قد تصطدم بعض الأحيان بهواه ومصالحه الشخصية وموقعه الاجتماعي.

الفكرة المعيارية

الفكرة المعيارية هي الفكرة القابلة للتحقق من صدقها أو كذبها (مطابقتها للواقع أو عدمه) من خلال انتهائها إلى يقينيات الحس، أو بديهيات العقل التي لا تقبل الإنكار والاختلاف، ومجالها العلوم الأدبية والإنسانية والنظريات، والأفكار المعيارية طبيعتها أن تكون جدلية الطرفين، بمعنى أن طرفاً ما يستطيع أن يقيم حجة وبرهاناً -ولو من حيث الشكل والصورة _ على صحتها وثبوتها، ثم يأتي طرف آخر ينقض حجته وبرهانه، ويقيم ما يضاده وينفي ما أثبته الطرف الأول، لذلك تختلف المعايير الإنسانية تجاه القضية أو الفكرة مادامت معيارية، ولا يمكن أن تخرج الفكرة من إطار المعيارية إلا بانتهائها إلى بديهيات العقل، أو ضرورات الحس.

وانطلاقاً من ذلك، كل فكرة لم يحسم الرأي فيها بإرجاعها إلى البديهيات العقلية أو الضرورات الحسية تبقى تتردد بينهما، ما يجعلها قابلة لتحكّم المعايير المختلفة في توجهاتها، ويمكن أن تكون فكرة ما في وقت من الأوقات معيارية غير محسوم الرأي فيها، ولكنها تتحول بعد مدّة، ولسبب من الأسباب، إلى فكرة محسومة بانتهائها إلى العقل أو الحس، وذلك كما في كثير من الحقائق الطبيعية المسلَّم بها اليوم، والتي لا يختلف فيها اثنان، في الوقت الذي كانت هذه الحقائق نفسها قبل قرنين أو ثلاثة أو أكثر مجرد نظريات مختلف بشأنها، كما في مسألة دوران الأرض حول الشمس، ومركزية الشمس للمجموعة الشمسية، وغيرها من علوم ومعارف.

وفي ضوء ذلك، تكون العلوم المعيارية (Normative Sciences) هي العلوم التي تنحو إلى وضع القواعد والنماذج الضرورية لتحديد القيم، كالمنطق والأخلاق والاستطيقا، وتقابل العلوم التفسيرية (ExplicativeSciences) التي تتجه إلى ملاحظة الأشياء وتفسيرها، كالفيزياء، فهي علوم تخبر عن الأشياء، بعكس العلوم المعيارية التي يمكن وصفها بأنها إنشائية"(2).

وهذا ما يستدعي منا أن نبحث عن قضية في غاية الأهمية، وهي:

إشكالية التأصيل المعياري للمعرفة الإنسانية

يندرج الكثير من المعارف البشرية تحت دائرة "الأفكار المعيارية"، ولكن هذا لا يعني _ وكما اتضح لنا _ أنها لا يمكن أن تخرج من إطار هذه الدائرة، بل ما يجب على الإنسان فعله هو تحريك الفكرة المعيارية باتجاه الحس أو العقل، وإخراجها من حيز التردد والإبهام والغموض، كي تتحول إلى فكرة محسومة يعتقد الإنسان بها من خلال ما توافر له من يقين واعتقاد جازم بصحتها، وإلا سيبقى الإنسان يتردد ويتخبط من دون أن يحسم خياراته، ولا يحدد اتجاهاته، ويبقى في الجو الذي تفرضه الفتنة على الإنسان ما يضيع كل محاولاته للحسم والثبات وتحصيل العلم واليقين، وهو ما لا يرضى الله تعالى بسواه في ما يبنيه الإنسان لنفسه من عقائد وأفكار، وهو ما يعجز عن تحقيقه من يتعبدون بالظنون والأهواء، ويقيمون بناءهم المعرفي على شفا جرف هار، فينهار بهم في نار جهنم، فيكون )مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ([البقرة 17].

وهذا ما تفعله الفتنة مع من لا يحسن التعامل معها، ولا يعرف كيفية التخلص منها، ولذلك يقول أمير المؤمنين ×: "المتعبد على غير فقه كحمار الطاحونة يدور ولا يبرح، وركعتان من عالم خير من سبعين ركعة من جاهل، لأن العالم تأتيه الفتنة فيخرج منها بعلمه، وتأتي الجاهل فتنسفه نسفا، وقليل العمل مع كثير العلم خير من كثير العمل مع قليل العلم والشك والشبهة"(3).

وهو، ما تفرزه الشبهة في حياة الإنسان حينما لا يتبين المخرج منها، لذا يقول × في نهج البلاغة: "وإنما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق. فأما أولياء الله فضياؤهم فيها اليقين. ودليلهم سمت الهدى. وأما أعداء الله فدعاؤهم فيها الضلال ودليلهم العمى".

ومن ينتهي به المنتهى إلى هذا الحد هم أهل النار، الذين عجزوا عن بناء معتقداتهم ومعارفهم انطلاقاً من يقينيات علمية، حسية أو عقلية، فكان مآلهم أن حكى الله تعالى حالهم بالقول: )وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ([الملك 10].

والآية المباركة تفصح عن أن أهل النار يسندون السبب في استحقاقهم لعذاب النار إلى أمرين، وأنه لو كان لهم أحد الأمرين لما كانوا من أصحابها ومستحقيها، وهذان الأمران هما:

الأول _ السمع: وهو تعبير عن قدرة الإنسان على نقل المعرفة أو الفكرة من إطارها المعياري إلى إطارها الحسي، لأن السمع هو أهم آلية يتلقى الإنسان من خلالها المعارف والأفكار، ورغم أن الإنسان يتلقى الأفكار أول ما يتلقاها معيارية الطابع، إلا أنه دائما يحاول أن يتجه بها _ من أجل أن يستوعبها ويقبلها _ إلى أحد اتجاهين، إما الاتجاه الحسي بمعنى التأكد من أنها واقعية أو لا عبر مطابقتها للمحسوسات على ما هي عليه أو عدم مطابقتها، أو أنه يحاول أن يعقلن الفكرة، وهو الاتجاه الثاني.

الثاني _ التعقل: بمعنى البحث عن الأسس العقلية التي تقوم عليها الفكرة المعيارية، والتي تبقى معيارية مادامت غير محسوسة أو غير معقولة. وهذا الأمر يعطينا انطباعاً بأن الدين يريد أن يحرك الإنسان باتجاه البحث عن أسس محسومة لا تقبل الجدل والاختلاف، وترفع الشك والتردد عن النفس في ما تتبناه من أفكار ورؤى، بغض النظر عن كون هذه الأسس معقولة أو محسوسة.

المعيارية من المعرفة إلى الاجتماع

لا تتحدَّد المعيارية بوصفها مجرّد إشكالية معرفية فحسب، بل هي تنال حتى طبيعة التناول الاجتماعي للأمور والأشياء من قبل الإنسان، فالمجتمع ذو الطبيعة المعيارية _ وهو المجتمع الذي تتسع فيه مساحة الأفكار المعيارية وفاعليتها _ يكون مجالاً خصباً لتضارب الرؤى وتناقض الممارسات، لأنه لم يستقر على توافقات حسية أو عقلية مشتركة، وحينما نعاين تجربة المعرفة والاجتماع الأوروبيين أو الغربيين نجدها تتباين مع تجربة المعرفة والاجتماع في العالم العربي والإسلامي، من حيث انتهاء الأولى إلى إطار حسي يمثل جامعاً مشتركاً في طبيعة التناول المعرفي والاجتماعي، بينما لم تفلح التجربة العربية الإسلامية في المقابل في تحقيق هذا الإجماع المشترك، وبالرغم من كون التجربة الغربية أوغلت في إضفاء الطابع الحسي حتى على المفاهيم والقيم المجردة، إلا أن ذلك كان يمثل إطاراً يخرج الفكرة من طابعها المعياري الذي ظلت التجربة العربية الإسلامية تتردد فيه اجتماعيا ومعرفياً من دون أن تحسم الرأي والموقف تجاه جميع القضايا الأولية والثانوية المثارة في أجوائها، ومن قبل مختلف الفرقاء في الساحتين المعرفية والاجتماعية.

وحتى على مستوى دراسة إشكالية التفكير المعياري، فإن المفكرين والباحثين في ثقافتنا العربية الإسلامية لم يعالجوا هذه الإشكالية، وقلّما أثاروها، بينما الدراسات التي عُنيت بمعالجة هذه الإشكالية جاءت جميعها تقريباً من توجهات فكرية غربية، حتى أننا نجد هذا التنبه الواضح لهذه الإشكالية يمثل مدخلاً أولياً لكتاب مهم في الغاية لكاتب غربي هو "جورج غورفيتش"؛ وذلك حينما يتحدث في بداية كتابه: "الأطر الاجتماعية للمعرفة" بالقول: "للوهلة الأولى تبدو المعرفة، من بين الأعمال الحضارية جميها، هي الأكثر انقطاعاً عن الواقع الاجتماعي. ألا يبدو أنها تدّعي الصلاح الشامل والارتكاز على أحكام صحيحة تعدّ، عادة، وقفاً على الوعي الفردي؟ مما لا شك فيه، بالواقع، إن الدين والحياة الأخلاقية والتربية، وحتى الفن، ولاسيما الحقوق، تقيم مع الأطر الاجتماعية علاقات أظهر، ملحوظة على نحو مباشر، هي أخيراً علاقات أكثر كثافة وأهم من حيث المبدأ على الأقل"(4).

ولأنه _ وكما أشرنا _ تندرج جميع العلوم الإنسانية والاجتماعية تحت صفة المعيارية، كان من الطبيعي أن يتمّ التشكيك في موضوعية كل النتاج المعرفي في هذه العلوم، حتى دعا هذا الأمر أحد الباحثين، وهو الدكتور صلاح قنصوه، لتصدير أحد فصول كتابه بهذا العنوان: "الموضوعية مشكلة العلوم الإنسانية"، وهو ما دعا الباحث المعني أيضاً لنقل هذا القول عن "جورج لندبرغ" في كتابه: "هل ينقذنا العلم؟"، والذي تتبين من خلاله طبيعة الإشكالية المعرفية التي تواجه مختلف العلوم الإنسانية مادامت معيارية، إذ ينقل عنه قوله: "لقد تهيأ للعلوم الفيزيائية من ثنايا تقدمها الطويل أن تنشئ صورة فيزيائية للعالم يتفق حولها العلماء. ورغم هذا الاتفاق فإنهم مثل غيرهم من البشر مختلفون أشد الاختلاف حول أهم قضايا الإنسان والمجتمع"(5).

ويشير الدكتور صلاح قنصوه، في كتابه المذكور أيضاً، إلى الإنجاز الوحيد الذي حققه المسلمون، وهو محاولة إضفاء الطابع العلمي على العلوم الإنسانية ذات السمة المعيارية بالقول: "أما الإسهام العلمي الأصيل للمسلمين في العلوم الإنسانية فهو مقدمة ابن خلدون. وهي رغم أصالتها وجدة ما قدمته من منهج ومن تأسيس للعلم الاجتماعي، إلا أنها جاءت من بعض الوجود امتداداً وتطبيقاً لمناهج مفكري الإسلام التي نجد قواعدها صريحة محددة في ما يسمى بمنطق الأصوليين. وهو منطق يخالف منطق أرسطو، وكانت أبرز سماته خلوه من مباحث الميتافيريقا التي جعلت المنطق الأرسطي علماً للفكر الصوري، بحيث أصبح عند هؤلاء الأصوليين، منطقاُ عملياً يجمع بين الخبرة الحسية والاستدلال العقلي، وهما معاً يؤلفان في نهاية الأمر جوهر المنهج العلمي. وليس القياس الأصولي، وهو أهم ما في هذا المنطق، الذي يسميه المتكلمون بقياس الغائب على الشاهد هو التمثيل الأرسطي بدعوى أن كليهما إنتقال من جزئي إلى جزئي. فقياس الأصوليين يختلف عن التمثيل في أنه يقيني، بينما هو عند أرسطو لا يفيد إلا الظن …"(6).

وعلى هذا الأساس، يمكننا النظر إلى مختلف الإشكاليات المثارة من جانب العلوم المعيارية قبل أن تحسم بانتهائها إلى أحد طرفي العقل أو الحس، بأنها إشكاليات غير حقيقة، بمعنى أنها لا تنطلق من مشكلة واقعية إلا في ذهن من يعالجها، ويبتغي التوصل لفهمها وإدراكها على ما هي عليه، وهذا ما جعل بعض الباحثين يعبّر عن أيّة مشكلة تواجهها العلوم المعيارية بأنها "مشكلة زائفة"(Scheinproblem) ، وهذا "اصطلاح رودلف كارنابّ بأن ما لا يستند إلى الواقع وله أساس من الإدراك الحسي، هو ليس بمشكلة حقيقية، ولكنه قول مرسل ومشكلة متوهمة. ومن ذلك المشاكل الفلسفية فهي مشاكل متوهمة، وأوهام تخطر بالعقول نتيجة التباسات في اللغة، والمهمة التي ينبغي أن تناط بالفلسفة هي تخلِّص اللغة من الالتباسات، وتنقية الفلسفة من المشاكل المتوهمة"(7).

ولأن العلوم المعيارية، ومنها علم الاجتماع، تخضع بشكل واضح للمعايير والقيم، وبتعبير آخر لتأثير الأيديولوجيا فقد كانت مورد بحوث مستمرة وإشكالات متواصلة من قبل الكثير من الدارسين والباحثين، ومن أهم تلك الدراسات التي أنتجت في هذا الشأن ما كتبه "الدكتور سمير أيوب" في "تأثيرات الأيديولوجيا في علم الاجتماع"، وقد تحدث مستعيداً هذه الإشكالية بالقول: (مشكلة الموضوعية والتحرر من الايديولوجيا، مشكلة التفرقة بين ما هو كائن (What is) وما ينبغي أن يكون (What Ought to be) في علم الاجتماع، مشكلة قديمة – معاصرة ترجع إلى أيام الرواد الأوائل أمثال كونت ودوركايم. ومما هو جدير بالذكر أن مذهب علم الاجتماع متحرر من القيمة Value Free كما يذكر غولدنر، هو امتداد حديث لصراع العصور الوسطى بين (العقيدة) و (العقل). وما زالت مسألة مفتوحة في النظرية السوسيولوجية من دون أن يتمّ اتفاق حولها"(8).

ويشير سمير أيوب نفسه إلى أنه نجم عن عدم التوافق هذا مشكلتان أساسيتان في مجال البحث العلمي في علم الاجتماع، وهما:

أولاً: تحديد مجال العلم نفسه.

ثانياً: تحديد مناهج البحث التي ينبغي إتباعها في البحث العلمي في ميدان علم الاجتماع، (أي مشكلة الموضوعية في البحث الاجتماعي).

وفي السؤال عن المقصود بهذه الموضوعية التي لا بد من أن يلتزمها الباحث الاجتماعي يقول سمير أيوب: "المقصود هو أن يعتبر العالم الظواهر الإنسانية التي يدرسها كما لو كانت (أشياء)، وكأنها صورة أخرى للظواهر الطبيعية والكيميائية والبيولوجية التي يدرسها العلماء الطبيعيون والبيولوجيون. وينبغي كذلك أن يتجنب العالم الذي يدرس الظواهر الاجتماعية الوقوع في أيّة ميول أو مصالح أو أهواء شخصية تؤثر في اختياره أو تفسيره للبيانات. بغض النظر عن الاستخدامات التي سوف توظف فيها هذه النتائج خيراً أو شراً. فالتمييز بين الخير والشر لا يدخل في إطار العلم …"(9).

إشكاليات الفكر المعياري

أخيراً، نشير مجرّد إشارة عابرة إلى أهم الإشكاليات المترتبة على تأصل دور الفكر المعياري في إنتاج المعرفة، وهذه الإشكاليات هي في الواقع بمثابة معوِّقات تمنع التفكير من أن يتصف بالعلمية والموضوعية والحسم، وتتمثل هذه الإشكاليات التي يفرزها الفكر المعياري في:

1- افتقاد قدرة الحسم، وصعوبة التوصل إلى توافقات إجرائية في مقام العمل.

2- التراكم المعرفي المضطرب الذي يسهم في تشتت التفكير وصعوبة تحديد الخيارات.

3-  كثرة الاحتمالات غير العلمية.

4-الإمعان في البناء النظري الذي يفتقد إمكانيات التطبيق والممارسة.

5-تأصيل دور العقل النقضي التفكيكي وغياب دور العقل التحليلي التركيبي.

6-التوظيف الأيديولوجي للمعرفة بما يخدم المسبقات المعيارية لصاحب الأيديولوجيا.

وفي ظل هذه الإشكاليات التي يفرزها الفكر المعياري الذي تأصل دوره في إنتاج ثقافتنا العربية الإسلامية، لا محيص من العمل الجاد من قبل مختلف التوجهات العربية والإسلامية الفاعلة في مجال إنتاج الثقافة والفكر والمعرفة، على إعادة بناء هذه الثقافة في جميع امتداداتها ومظاهرها وفق ذاك المنهج العلمي، والقرآني في الوقت نفسه، والذي استهدف تحريك الإنسان باتجاه الخروج من دائرة التردد التي يفرض البقاء فيها إصرار الإنسان نفسه على إعادة اجترار نمط التفكير المعياري، والذي لا يمكن أن ينتهي إلى نتيجة حاسمة أبداً، حتى لو استمر النقاش والحوار والجدال، بل وحتى القتال ملايين السنوات بين المختلفين في أيّة قضية من قضاياه.

وفي النهاية، هذا هو المشروع المعرفي والثقافي الأكبر والأهم الذي يتوجب علينا إنجازه والعمل من أجل تحقيقه وتفعيله، إذا ما أردنا أن نتخلص من ركام سنوات، بل قرون طويلة من الحيرة والتردد والتشتت في ما بنيناه من وعي معرفي أو ديني أو سياسي أو اجتماعي، وإلا فسنبقي )مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً( [النساء 143].

 

*    *     *

 

الهوامش

 

(*)باحث إسلامي في الحوزة العلمية، من البحرين.

(1)المجلسي، بحار الأنوار، 11/60.

(2)د. عبد المنعم الحفني: المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة، ص. 822.

(3) البحار، المجلسي ج. 1، ص. 208.

(4) جورج غورفيتش: الأطر الاجتماعية للمعرفة، ص. 9.

(5) د. صلاح قنصوه: الموضوعية في العلوم الإنسانية، ص. 20.

(6) المصدر نفسه، ص. 33 و34.

(7) المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة، ص. 803.

(8) د. سمير أيوب: تأثيرات الأيديولوجيا في علم الاجتماع، ص. 123_ 124.

(9) المصدر نفسه: 125.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً