أحدث المقالات

الأمة في الزمن ألما بعد حداثي

جدل المفهوم في تحوّلات العولمة

جاد الكريم الجباعي

مفكر وباحث في الفلسفة –  سوريا.

 

يبدو الحديث عن مفهوم الأمة وكذلك عن المسألة القومية في زمن الاستنقاع الإقليمي وإنهيار مقومات التضامن العربي أشبه بالسباحة بعكس التيار.

وثمة من يقول: إن التوسع الرأسمالي العالمي، وظهور الشركات والمؤسسات العالمية، متعدية القومية، وقيام الكتل الاقتصادية وإمكان تحولها إلى وحدات سياسية كالوحدة الأوروبية أو مشروع الوحدة الأوروبية، وتعمق وحدة العالم في ظل تدويل الاقتصاد وعالمية قانون القيمة، والتقسيم الدولي للعمل، وفي ظل ثورة العلوم والتقنية وثورة الاتصالات والمعلومات… كل ذلك قد جرف في طريقه، المسألة القومية وجعلها شيئاً من الماضي.

كما يبدو الحديث عن الديمقراطية انسياقاً مع "موضة" دارجة، كما كان الحديث عن الاشتراكية في الأمس القريب. ولكن، ما دام ثمة من يشعر بالانتماء إلى الأمة العربية، وما دام هناك من يكتب أو يتحدث عن القومية العربية، وما دام هناك من يرغب في القراءة أو الاستماع، أو ما دام ثمة من يؤمن بالعمل، بصرف النظر عن حظوظ النجاح واحتمال الإخفاق، سنظل نقول: إن مشروع النهوض القومي، والوحدة العربية، أحد ممكنات واقعنا العربي. والتاريخ هو توقيع الممكنات، أي تحويلها إلى واقع. ففي موضوعنا ومسألتنا، كما في كل موضوع ومسألة ثمة دائماً، الواقع والممكن. فالوحدة العربية ممكنة، واستمرار التجزئة ممكن أيضاً، وهنا يأتي دور العمل الإنساني وتمتحن الإدارة البشرية، وليس من حتمي إلا ما يتسق مع منطق الواقع والتاريخ. إن عمل البشر الواعي (وحدة الفكر والعمل)، وفاعلية البشر الهادفة، وفاعلية المجتمع، هي التي تحول الممكن إلى واقع، لذلك كان وعي الذات شرطاً لازماً لفهم الواقع وتغييره.

إن وعي الذات هو الذي أسميه الوعي القومي، وفي ضوئه سأتحدث عن المسألة القومية وبعدها الديمقراطي الإنساني. مدركاً أن ما أقولـه موضع خلاف وأي خلاف. قد لا أنجو من الاتهام بالطوباوية والمثالية والتعصب القومي. لا سيما إذا قلت: إن الوحدة العربية ضرورية وممكنة وواجبة على أمة العرب اليوم، وجوب العقلانية والعلمانية والديمقراطية، بل إن العقلانية والعلمانية والديمقراطية غير ممكنة إلا في نطاق المشروع القومي الديمقراطي الذي تتوافر وتتراكم شروطه الموضوعية والذاتية وإن لم تكن كافية بعد، لأنها لا تزال في حيّز رد الفعل السلبي.

 

توحيد متناقض

لا أحد يماري في حقيقة أن الرأسمالية قد وحدت العالم توحيداً متناقضاً، وأن هذه الوحدة لا تني تتعمق، وأن ثمة بوادر لتخطي القومية في مختلف المجالات، وإلا لكفت القومية عن كونها معطى تاريخياً، وكينونة اجتماعية في التاريخ وفي العلم لا بد من تخطيها جدلياً، ولكانت، كما نظّر لها الفكر القومي التقليدي، جوهراً ميتافيزيقياً متعالياً على التاريخ، لا يخضع لناموس الكون والفساد ومنطق التقدم. ولكننا لا نستطيع أن نتجاهل حقيقة أن صراع الشمال والجنوب، وهو التناقض الرئيس في عالم اليوم، هو في أهم وجوهه وأبرزها صراع قومي بين أمم إمبريالية ظالمة ونهابة وأمم مظلومة، تابعة، ومسلوبة القوة والإرادة، والإمبريالية هي من سلبها ذلك. لأن الإمبريالية التي لطالما قدمها الفكر السياسي بصورة هيمنة اقتصادية ونهب وما إلى ذلك، هي في الأساس نزوع إلى الهيمنة والسيطرة والعدوان في القومية ذاتها. فالقومية ليست وردة صوفية بيضاء، بل هي حقيقة تاريخية تنطوي على التعصب والاستعلاء، وعلى التسامح والمساواة والإنسانية في الوقت ذاته، القومية تكون كما يريدها أهلها أن تكون. وما كان ممكناً أن توجد الإمبريالية في العصر الحديث، بعد انهيار الإمبراطوريات التقليدية بما فيها تلك التي عاشت شيخوخة طويلة كالإمبراطورية العثمانية أو الروسية، لولا ترسمل الدولة القومية في الغرب وتقومن الرأسمالية، وإلا كيف تفسر الحربين العالميتين بين الدول الرأسمالية؟ والرأسمالية ذاتها ما كان ممكناً أن تتحول إلى نظام عالمي إلا على جسر القومية، أي إلا برافعة سياسية، وليس بحكم قوانينها الاقتصادية الداخلية فحسب، لقد فتحت الجيوش الطريق لتحول الرأسمالية إلى نظام عالمي؛ ثم ألم تنشأ الأمم الحديثة والدول القومية في السوق الرأسمالية؟ وما معنى الاستقطاب الملازم، للتطور الرأسمالي على الصعيد العالمي؟ أم هو استقطاب بين أغنياء وفقراء، وأقوياء وضعفاء ومتقدمين ومتأخرين فحسب؟! ألا يخطر في بالنا السؤال من هم أولئك الأغنياء الأقوياء المتقدمون، وكيف صاروا كذلك، ومن هم الآخرون وما أسباب فقرهم وضعفهم وتأخرهم؟! ولذلك كانت المسألة القومية إحدى أهم مسائل عصر الإمبريالية. وما دامت المسألة القومية، سواء في بعدها الإمبريالي، أم في بعدها الديمقراطي – التقدمي، أهم مسائل عصر الإمبريالية، وأهم مسائل التاريخ الحديث الذي دشنته الثورة البورجوازية، فإننا، نحن العرب، لا نستطيع فهم قضيتنا القومية إلا في ضوء معطيات هذا العصر، ومنطق هذا التاريخ الذي هو تاريخنا أيضاً. وتحسن الإشارة هنا إلى بدايات احتواء الوطن العربي أو استيعابه في النظام الرأسمالي، من خلال نظام الامتيازات الذي تطور إلى احتلال مباشر كولونيالي، وفي إطار المسألة الشرقية وبروز القومية التي ساندتها الرأسمالية بادئ الأمر، ثم ما لبثت أن ناصبتها العداء وعملت ولا تزال تعمل على كبحها وإجهاضها لأنها رأت فيها بحق الخطر الرئيس على مصالحها وكيانها أيضاً. ولا يزال هذا الخطر ماثلاً، فالإمبريالية آخر من يستهين بالمسألة القومية ولا سيما في الوطن العربي. ألم تستنفر الدول الرأسمالية قواها وأدواتها لدى إعلان وحدة مصر وسورية عام 1958؟ ثم ألم يكن عدوان حزيران عام 1967 محاولة لتصفية الظاهرة الناصرية في بعدها الوحدوي، ظاهرة "ارفع رأسك يا أخي فقد ولى عهد الاستبداد"؟ كما كان انفصال سورية عن مصر عام 1961 في أعمق معاينة اغتيالاً لجنين الدولة القومية. ولعلنا معنيون اليوم بإعادة إنتاج مفهوم الإمبريالية في ضوء التجربة السياسية المباشرة، وتحولات النظام الرأسمالي العالمي، ونسق العلاقات الدولية. فقد سيطر في الحقبة الماضية المفهوم اللينيني للإمبريالية وهو مفهوم يبرز جانبها الاقتصادي – الاحتكاري على نحو يكاد يحجب طابعها القومي الإمبراطوري، وبعدها السياسي والإيديولوجي. وإذا كان لينين قد تحاشى الخوض في الجانب السياسي، فإن الشيوعيين عامة والعرب منهم خاصة لم يأخذوا من الإمبريالية إلا معناها الاقتصادي، وهو معنى حاكم وأساسي لكن في التحليل الأخير. فما دامت الإمبريالية قائمة ستظل الصراعات العالمية صراعات قومية أولاً وأساساً، مهما تقنعت بأقنعة اقتصادية وسياسية وثقافية، وستظل المسألة القومية في أطراف النظام العالمي وهوامشه التابعة محكومة بالضغوط الإمبريالية وبآليات التبعية والتهميش. ومن دون فهم الإمبريالية بوصفها الشكل الذي اتخذه التطور الرأسمالي، والمسألة القومية في الغرب واتجاهها إلى كبح الحركات القومية غير الأوروبية بوصفها الخطر الرئيس الذي يهدد مصالحها ويحمل إمكانات تدميرها، ومن دون وعي حقيقة أن الواقع العالمي المعاصر يحمل الإمبريالية ونقيضها التاريخي في الوقت ذاته، من دون ذلك سيظل الوعي العربي المحاصر بالضغط الإمبرياليي الاقتصادي والسياسي والعسكري والتقني والثقافي من جهة وبالتأخر التاريخي للشعب العربي من جهة أخرى سيظل يعيد إنتاج استلابه السلفي والاغترابي.

 

معنى المفهوم

ماذا نعني بالمسألة القومية في ضوء هذه التحديات، وهل ثمة بعد ديمقراطي للمسألة القومية بوجه عام وللقومية بوجه خاص؟ أم أننا نعيد التلفيقة التي تريد أن نأخذ بالمجد من أطرافه؟!

قبل الإجابة على هذه الأسئلة، ينبغي توضيح حدود بعض المفاهيم، فربما كان لها مدلول آخر مختلف عما هو شائع بيننا، من ذلك أن مفهوم القومية مختلف عن مفهوم الأمة، وهذان مفهومان مركزيان في المسألة القومية، القومية التي تحيل على مفهوم القوم بكل حمولاته الرمزية والأيديولوجية واللغوية والأتنية لقارة اللاشعور الجمعي، والمخيال الاجتماعي، هي شعور بالانتماء إلى الأمة لدى كل واحد من أفرادها، شعور يمكن أن يرقى إلى مستوى الوعي الذاتي مع تقدم وتفتح إمكاناتها، ووعي أفرادها حقيقة العلاقات القائمة بينهم بوصفها الشيء العام المشترك بينهم والذي هو جوهرهم وماهيتهم، هذا الشعور بالانتماء القومي هو محصلة سيرورة تاريخية هي سيرورة تكون الأمة أو تشكلها، تسنده ولا شك وحدة اللغة والثقافة والتجربة التاريخية، وهو أحد العوامل الجاذبة في السيرورة الوحدوية حسب ياسين الحافظ. أما الأمة، فهي مقولة اجتماعية وسياسية وثقافية وتاريخية تدل على جملة من الروابط والعلاقات الواقعية، المتغيرة بين الأفراد والجماعات والفئات والطبقات والتيارات والأحزاب… التي هي أجزاء الأمة، وتجسيدها العياني، وهي مقولة مرتبطة أوثق ارتباط وأشده بمقوله العمل والإنتاج الاجتماعي – الإنساني، إنتاج الوجود البشري والخيرات المادية والثروة الروحية. القومية بما هي شعور أو وعي بالانتماء تنتمي إلى دائرة الذاتي، في حين تنتمي الأمة (المجتمع المدني والدولة) إلى دائرة الموضوعي. وجدل أوديالكتيك الذات والموضوع هو الذي يضبط العلاقة بينهما.

كما أن الفكر القومي والثقافة، يختلفان عن الإيديولوجية القومية، بل القوموية أي المتخذة من القومية مذهباً، التي يتبناها هذا الحزب السياسي أو ذاك، أو هذه النخبة أو تلك.

لقد درج العامة والخاصة على تصنيف التيارات أو الاتجاهات الفكرية السياسية في الوطن العربي إلى تيار قومي وتيار إسلامي وتيار ليبرالي أو ديمقراطي وتيار اشتراكي. فضلاً عن التصنيف الأيديولوجي – القيمي الأعم، يمين ويسار وتقدمي ورجعي وهو تصنيف انتهى، بكل أسف، إلى تقطيع أوصال الأمة إلى أجزاء وأشلاء، وإقامة الجزء بديلاً من الكل، وأعلى الأسوار الأيديولوجية بين هذه الأجزاء، تحولت معها الحركات السياسية إلى موزاييك سياسي يضاف إلى الموزاييك الاجتماعي، فيعمق التكسر الاجتماعي ونقص الاندماج القومي. والمسألة كما أراها لا تتعلق بالتصنيف، إلا إذا كان من قبيل تقسيم العالم إلى أصناف لا رابطة بينها؛ بل تتعلق قبل كل شيء بوعي هذه التيارات الفكرية والحركات السياسية لذاتها، إذ اختارت طوعاً انتماءات محورت عليها هويتها، وأنتجت خطاباً أيديولوجياً يموه حقيقتها الواقعية فوقعت أسيرة تناقض وعيها الذاتي مع واقعها الموضوعي، وانتهت إلى ما نراه اليوم من ضعف وتشرذم وغربة عن المجتمع. فمفهوم القومية لا يستنفد في التيار الفكري القائم على المذهب القومي – الأصح أن نقول المذهب القوموي – ولا في الأحزاب التي تتبنى أيديولوجية، بل هو أوسع، يشمل جميع التيارات والأحزاب التي تعمل في المجال الفكري – السياسي للأمة، ما لم تكن أيديولوجياً مضادة للقومية صراحة كالنزعة الفينيقية والنزعة الفرعونية، أو التيار الذي يعارض القومية بالأممية، أو التيار الذي يعارض الأمة العربية بالأمة الإسلامية منكراً وجود القومية، أو راغباً في تجاوزها ذاتياً في أحسن الفروض. مع أن ثمة فارقاً كبيراً ونوعياً بين الهدف والواقع. وهذان التياران الأخيران اللذان ينتميان موضوعياً إلى الأمة، وينتميان ذاتياً إلى عالم من صنع أوهامها، يجسدان التناقض بين الوعي والواقع.

إن مفهوم القومية الشامل لمختلف الاتجاهات والتيارات والحركات السياسية، يحيل على مفهوم الأمة بوصفها كينونة اجتماعية تاريخية، فالأمة لا تتجسد واقعياً وعيانياً إلا في المجتمع المدني والدولة القومية أو الأموية، دولة الكل الاجتماعي. وعليه فإن الأمة والقومية تحددان مستويين من مستويات الحياة الاجتماعية يشير الأول إلى المستوى الاجتماعي – الاقتصادي ويشير الثاني إلى المستوى الأيديولوجي – السياسي. وإذا كانت الأمة في واقعها التاريخي وفي مفهومها بالتالي وبالضرورة تقوم على التعدد والاختلاف والتعارض بين الأفراد والجماعات والفئات والطبقات الاجتماعية، فإن القومية هي التعبير الثقافي – السياسي عن الأمة، أو هي المجال أو الفضاء الذي تظهر فيه وتتفاعل التمثيلات الثقافية والسياسية للفئات، أو الطبقات الاجتماعية التي تقوم بينها في الواقع علاقات ضرورية هي قوام الحياة الاجتماعية، وتشكل كل واحدة منها جزءاً من الكل الاجتماعي الذي هو المجتمع، أو الأمة بوصفها الأكثرية التي تطبع المجتمع بطابعها الخاص، وبالتالي فإن اختلاف المجتمعات يرجع قبل أي شيء آخر إلى اختلاف الخصائص القومية النابعة من نمط إنتاج جماعة معينة لوجودها وحياتها الاجتماعية. وما اختلاف اللغة والثقافة إلا مظهر من مظاهر هذا الاختلاف بين الخصائص القومية للأمم، فاللغة شرط الحياة الاجتماعية وكذلك الثقافة المشتركة للإمة. إن الكينونة الاجتماعية التاريخية لا تتحد بنمط إنتاجها المادي فحسب بل بنمط إنتاجها الروحي أيضاً. وخصائص الأمة تظهر بجلاء في كل جزء من أجزائها، وفي كل فئة من فئاتها، أو في كل طبقة من طبقاتها، وفي كل فرد أيضاً.

 

ديالكتيك الائتلاف والاختلاف

لقد ظهر في حياتنا السياسية اتجاهان مثاليان في المسألة القومية، اتجاه ينظر إلى الأمة على أنها كل لا يتجزأ، ووحدة صماء أو كتلة صخرية، وهو بذلك ينكر واقع التعدد والاختلاف، وينكر التعارضات الاجتماعية الملازمة ولا سيما الصراع الطبقي؛ والاتجاه الثاني ينظر إلى الأمة أو إلى المجتمع على أنه أجزاء لا تربط بينها أية رابطة سوى الرابطة التي يريدها هو، وهي إما رابطة تحالف أو رابطة تضاد وعداء.

هذا الاتجاه الذي ينطلق في رؤيته من التحليل الطبقي وضع الطبقة في مواجهة الأمة وبدلاً منها، وجعل من الجزء كلاً فأسس للاستبداد. وهذان الاتجاهان ينطلقان من واقع هو من صنع أوهامهما، وينظران أحدهما إلى الأمة والآخر إلى الطبقة نظرة ذاتية يزعم كل منهما أنها الحقيقة والواقع. والذاتية هنا هي المثالية بالمعنى السيء للكلمة. إن الأمة لا تقوم ولا تكون ولا تصير إلا باختلاف أجزائها وتعارضها، وإن هويتها الحقيقية هي الوحدة والاختلاف والتعارض والتعدد، كما أن الطبقة أو الفئة الاجتماعية لا تقوم ولا توجد ولا تصير إلا في إطار الكل الاجتماعي تحمل خصائصه وتتحدد به، فالحياة الاجتماعية تقوم على جدل الكلي والجزئي والفردي. وتقدم الأمة ونموها هو هذا الجدل أو الديالكتيك ذاته. ولعلكم تلاحظون أن التعدد والاختلاف والتعارض هو السند المنطقي والتاريخي للديمقراطية، إذا نظرنا إلى الديمقراطية على أنها حق الآخر وحريته أولاً. فكل فرد على الإطلاق هو أنا (لنفسه) وآخر (لغيره) في الوقت ذاته. وحق الآخر وحريته،هو ضمانة حقه وحريته. وهذا مطّرد في الأفراد والجماعات والطبقات والأحزاب والأديان والمذاهب… إلخ.

إن وحدة الأنا والآخر هي أساس الحياة الاجتماعية وأساس الديمقراطية بوصفها أحد محمولات الحياة الاجتماعية، وأحد ممكناتها أو مكنوناتها، وإلا لما أمكن أن تتحقق الديمقراطية في الواقع لدى أية أمة من الأمم وفي أي مجتمع من المجتمعات. وللطبقة بوجه خاص مستويان، المستوى الأول هو الطبقة بذاتها أي بوصفها حالة عيانية اجتماعية اقتصادية خالصة من دون وعي طبقي، ومن دون وعي بموقعها في المجتمع ودورها في تقدمه؛ والمستوى الثاني هو الطبقة لذاتها أي الطبقة وقد وعت ذاتها ودورها الاجتماعي – التاريخي. ولكن ما لم يتنبّه إليه الماركسيون في بلادنا، هو أن الطبقة لذاتها هي في الوقت عينه الطبقة لغيرها، وهذا هو الديالكتيك والمعنى الحقيقي للصراع الطبقي، فالطبقة لا تتحدد بذاتها بل بغيرها.

إن مقولة الصراع الطبقي وهي مقولة أموية ومجتمعية، وضعتها ماركسية ساذجة ضد الأمة، وضد المجتمع. ومقولة الصراع الطبقي مرتبطة هي أيضاً بالديمقراطية أوثق ارتباط، لأنها تعني أن الصراع الاجتماعي قد انتقل من حقل العلاقات الاجتماعية – الاقتصادية إلى حقل الثقافة أولاً، ثم إلى الحقل السياسي. وعندما يهبط الصراع إلى المستوى الاجتماعي – الاقتصادي نكون إزاء الحرب الأهلية، وليس إزاء صراع الطبقات، وتكون السياسة قد تحولت إلى حرب فحسب. الصراع الطبقي هو صراع ثقافي سياسي وأيديولوجي سياسي، ولذلك لا ينمو إلا في ظل الديمقراطية، أما في ظل الاستبداد وتقلص المجال السياسي للمجتمع فإن الصراع الطبقي يمكن أن يتحول إلى اقتتال اجتماعي، إلى حرب أهلية تمزق النسيج الاجتماعي وتودي بالمجتمع والدولة.

وإذا كانت الأمة تتجسد في المجتمع المدني والدولة القومية، فإن الدولة، وهي المجال الحقوقي والسياسي الذي ينتجه المجتمع بفعل تعارضاته الملازمة، لا تكون دولة قومية حقاً إلا إذا كانت معبّرة عن الكل الاجتماعي أولاً، ومتطابقة مع هوية المجتمع ثانياً، ومعبرة عن سيادة الشعب ثالثاً؛ والدولة القومية بهذه الصفات هي الدولة الديمقراطية بامتياز.

وإذا كانت الأمة كينونة اجتماعية في التاريخ وفي العالم، والقومية تعبيرها الثقافي والسياسي، فإن الحركة القومية هي حركة جماع الأمة التي تعبر عن نزوعها إلى التحرر والتقدم؛ هذه الحركة تشمل موضوعياً جميع التيارات الفكرية والأحزاب السياسية بصرف النظر عن أيديولوجياتها وبرامجها وأهدافها وتركيبها الاجتماعي وأساليب عملها، بما في ذلك الأحزاب أو التيارات التي يتعارض أو يتناقض وعيها الذاتي مع حقيقتها الواقعية. ولهذه التيارات بلا استثناء حقوق متساوية في العمل والتعبير، وذلك لأنها تمثيلات لقوى اجتماعية لها في مجتمعها حقوق متساوية، ولأن كلاً منها جزء من الحركة السياسية ويعبر عن قوة اجتماعية هي جزء من الأمة، وهذه المساواة التامة هي ضمانة الديمقراطية أولاً، وأساس السياسة بوصفها فاعلية اجتماعية ثانياً، والسبيل الوحيد الضروري لاستئصال شأفة العنف من الحياة السياسية والعلاقات الاجتماعية ثالثاً. وهذه المساواة لا تلغي واقع الاختلاف والتعارض ولا تنفي حقيقة أن الحياة الاجتماعية قوامها الصراع، ولكن هذا الصراع ليس من نوع صراع الكل مع الكل وصراع كل واحد مع الآخر، بل هو بالأحرى صراع سياسي يتم في حقل الدولة، وحقل الثقافة، وفي مؤسسات المجتمع المدني وأجهزته الأيديولوجية كالأحزاب والجمعيات والصحافة… إلخ؛ الصراع السياسي ليس افتراساً من نوع صراع البقاء الذي نشاهده على الشاشة، بل هو صراع الأضداد التي ينتج عن تعارضها حالة نوعية جديدة أرقى وأفضل، إنه منطق التقدم وليس من المبالغة القول: إن الأشكال والصيغ التي يتخذها الصراع السياسي في أمة من الأمم يعبر عن درجة تحضرها أو تقدمها أولاً، ويحدد قوتها وحضورها في عالم الأمم والدول ثانياً، لا سيما أننا في زمن لا تجري فيه الصراعات الاجتماعية بمعزل عن الصراعات الدولية وتناقضات النظام العالمي.

ويمكن القول إن الأمم القوية في عالم اليوم،هي الأمم التي حققت مستوى مناسباً من الديمقراطية – وللصراع الطبقي شؤون وشجون أخرى لسنا في معرض البحث عنها –. ولما كانت القومية كينونة اجتماعية – سياسية تاريخية، فإنها تنفي ذاتها عندما تتحقق، ومعنى النفي هنا هو الإبقاء، والحذف هو التجاوز والتخطي، فعندما تحقق الأمة اندماجها القومي والمجتمعي ووحدتها وتبني دولتها القومية، تبدأ بهدم الحواجز التي وضعها التاريخ بين الأمم والشعوب، وتنفتح على رحاب إنسانية وعالمية، ويتحول الصراع القومي إلى وحدة وتعاضد عالميين وإنسانيين، وتنفتح صراعات مع القوى التي تعيق أنسنة المجتمع وأنسنة العالم، وتهدد سعادة البشر. ولقد كانت القومية في التاريخ وستظل كذلك بحكم منطق التاريخ ذاته، فالعالمية أو الأممية لا تعني تذويب الأمم والقوميات في بنية غير قومية أو فوق قومية، بل تعني نمو العناصر الديمقراطية والإنسانية في كل قومية. وهذه العناصر الديمقراطية والإنسانية ليست شيئاً مقحماً على الأمة من خارجها بل هي نابعة من بنيتها الاجتماعية السياسية ذاتها، ولذلك نحن نتحدث عن البعد الديمقراطي للمسألة القومية منطلقين من تحديدات أولية وبسيطة. للديمقراطية تحديدات تسمح لنا بتلمس العناصر الديمقراطية الإنسانية في وجودنا الاجتماعي الواقعي، فالديمقراطية هي شكل ممارسة الحرية في المجتمع والدولة، فهي إذن مرتبطة بمشكلة الحرية المتجذرة في تاريخنا الفكري والسياسي، وفي تاريخ غيرنا على السواء. والحرية هي وعي الضرورة، والحياة الاجتماعية – السياسية والعلاقات الدولية هي ميدان الضرورة والضرورات التي لا بد أن توعى. والضرورات الاجتماعية تواجه بصورة مباشرة الفرد الواقعي بوصفه كائناً فريداً يحمل خصائص ذهنية ونفسية مساوية تماماً لغيره من الأفراد، والفرد الاجتماعي المندمج في عملية الإنتاج الاجتماعي، إنتاج الوجود، وإنتاج الخيرات المادية والروحية، والفرد المجرد بوصفه كائناً إنسانياً، تتقوم هويته بإنسانيته قبل كل شيء آخر ولذلك فإن التحديد البسيط الآخر للديمقراطية هو حرية الفرد وحقوق الإنسان والمواطن. ألا تحيل هذه العبارة على الفرد الواقعي زيد أو عمر أو عبد الله، وعلى الفرد الاجتماعي المميز بالعمل والمعرفة بوصفها فاعلية اجتماعية هادفة، وعلى الفرد المجرد – الإنسان، من دون أي وصف آخر؟ والأمة هي أولاً أمة الأفراد، والمجتمع هو مجتمع الأفراد، ولا تتحقق حرية الأمة وقوتها ومناعتها إلا بحرية الأفراد. وما دام في المجتمع أفراد مهما قل عددهم لم ينالوا حريتهم فإن حرية الأمة تظل ناقصة ومثلومة، وهذا هو منطق العقل. والأمة التي تضحي بحرية الفرد على مذبح الأهداف الكبرى تخسر حريتها وأهدافها الكبرى معاً. وبعد هذا المستوى الأولي والبسيط لحرية الفرد وحقوق الإنسان والمواطن، يأتي مفهوم الشعب وصراع الطبقات والدولة القومية كمحصلة ضرورية أي منطقية لحرية الفرد وحقوق الإنسان والمواطن، وتصبح الديمقراطية نظاماً سياسياً يعبر عن سيادة الشعب ويتطابق مع هوية المجتمع. والعلاقات موضوعية بين الفرد والمجتمع وبين المجتمع والدولة تجعل الاستبداد مستحيلاً. وعليه فإن الديمقراطية هي سيرورة نمو المجتمع المدني مع فكرة الإنسان ومفهوم التاريخ والتقدم. لذلك لا تبدو الديمقراطية دخيلةً ولا مستوردة ولا غريبة عن تاريخ أي مجتمع على الإطلاق، ولا عن سيرورة نموه وتقدمه، وإن كان لفظها يونانياً. إن حرية الفرد وحقوق الإنسان والمواطن هي التي تنتج حرية الفئات والطبقات الاجتماعية والأحزاب أو الحركات السياسية المعبرة عنها وليس العكس. وهي التي تنتج مفهوم الشعب الذي تتقوم وحدته الحقيقية الواقعية بوحدة الكثرة والاختلاف والتعارض، فالهوية القومية هي هوية الاختلاف والأساس المنطقي والتاريخي للديمقراطية والتقدم، وإلا فلا منطق ولا معقولية. إن الذين كانوا يرون في الحرية والديمقراطية خطراً على الوحدة والتقدم والاشتراكية خسروا الوحدة والتقدم والاشتراكية، لأنهم كانوا قد خسروا الحرية. فكما يكون الأفراد يكون المجتمع وتكون الأمة.

 

سؤال الهوية

ولكن الأمور لا تستقيم على هذا النحو، إذا لم نلتفت إلى تحديدات أخرى للمسألة القومية، أولها وأهمها أن المسألة القومية هي مسألة الهوية ووعي الذات، المسألة التي تحيل على علاقة الوعي بالوجود، أو علاقة الذات بالموضوع. ومسألة الهوية هي مسألة الإجابة عن سؤال من أنا أو من نحن؟ الذي يحيل على الماهية ويضع المسألة في نطاق الفكر والثقافة. وسؤال كيف أنا أو كيف نحن؟ الذي يحيل على الوجود الاجتماعي المباشر ويضع المسألة في إطار الواقع. وهذان السؤالان سؤال واحد أو وجهان متلازمان لسؤال واحد. ومشكلة الوعي القومي التقليدي والفكر القومي التقليدي تكمن في اقتصاره على الوجه الأول: من نحن؟ فانتهى إلى الخلط بين الهوية والأصل وهما شيئان مختلفان نوعياً، لأن الأصل يحيل على العرق وقرابة الدم، في حين تحيل الهوية على وحدة الوعي والوجود. وبهذا التحديد نضع المسألة القومية في مستواها المعرفي أو المنطقي، مستواها الفكري أو العقلي ونطرح مسألة الوعي بوجه عام والوعي القومي بوجه خاص. وأنا أدعي أن الوعي القومي هو الشكل الذي يتخذه الوعي الاجتماعي في مرحلة محددة من مراحل نمو المجتمع وتطوره، أعني المرحلة التي نطلق عليها اليوم اسم المجتمع المدني على اختلاف المدلولات التي يوحي بها هذا المفهوم أو يحيل عليها. وهنا تبدو قضية الديمقراطية هي قضية المجتمع المدني ودولته القومية أو الأموية، أي المتطابقة مع هوية المجتمع والمعبرة عن الكل الاجتماعي وهي بالتالي قضية الأمة. والديمقراطية من هذه الزاوية هي قضية قومية بامتياز.

إن سؤال الهوية لا يجد لـه جواباً منطقياً وتاريخياً إلا في المجتمع المدني والسياسي، ودولة الحق والقانون أساس الدولة الديمقراطية بما هي دولة قومية. فالقومية وكذلك الأمة مفهوم عام لا بد من أن يتخصص، أي لا بد أن يتجسد واقعياً وعيانياً، ولا يمكن أن يتجسد إلا في المجتمع وهذا معنى واقعية المسألة القومية وراهنيتها. والمجتمع المدني الذي تتحقق فيه الهوية القومية هو مجتمع التعدد والاختلاف والتعارض، الذي يصنع التاريخ الداخلي للأمة. فالوجود الفعلي، الواقعي للأمة هو أولاً اختلاف الأفراد والجماعات والفئات والطبقات والشعوب والأقاليم، وهذا الاختلاف هو الذي يفرض التغير والتحول. ولا هوية بلا اختلاف سوى تلك الهوية الجوهرية الميتافيزيقية، باعتبار أن المقولة تفرض ضدها أو نقيضها دائماً؛ وهو ثانياً تغير أحوال الأمة وتغير بناها وعلاقاتها الداخلية والخارجية في مسار نموها وانبساطها في التاريخ وفي العالم. وخلافاً للرؤية التوتاليتارية الشمولية الاستبدادية التي تذوب الفرد في الجماعة، فتلغي فرادته واستقلاله وحريته أي تلغي شخصيته وذاتيته تحت عناوين مختلفة، دينية ووطنية وشعبية وطبقية وثورية.. إلخ، لا بد أن نؤكد أن المجتمع الذي تتجسد فيه الأمة هو مجتمع الأفراد وميدان علاقاتهم المتبادلة، وإلا فلا معنى ولا معقولية. والمجتمع الذي يلغي حرية الأفراد واستقلالهم وذاتيتهم إنما يلغي حريته واستقلاليته وذاتيته، إن إلغاء الفردي والخاص هو إلغاء للعام، فالعام لا يوجد واقعياً وعيانياً إلا في الخاص والفردي، ولا قوام للفردي الخاص إلا في إطار العام والكلي. ومن البديهي أننا بإلغاء الفردي والخاص (الفرد والفئة الاجتماعية أو التكوين السياسي.. إلخ) لا نلغي وجود الأفراد والطبقات بل نلغي العلاقات التي تشكل جوهر الأفراد وماهيتهم وجوهر الطبقات أو الفئات وماهيتها، أي نلغي الأمة والمجتمع وننتج حالة من التناثر الاجتماعي والقومي، أشبه بحالة اجتماع حبات الرمل أو أفراد القطيع. وبديهي أن الاستبداد هو إلغاء المجتمع والأمة، والديمقراطية بالمقابل هي أرقى أشكال الروابط التي تؤلف النسيج الاجتماعي والقومي. وإذا ألغينا الأفراد وأكدنا الهوية مع ذلك، كما يجري في عالمنا اليوم لا يكون لدينا سوى "جوهر" وهمي للأمة. وثاني هذه التحديدات أن المسألة القومية هي مسألة التحرر والاستقلال ببعديهما الاجتماعي والسياسي من جهة، والوحدة القومية النتيجة الضرورية أو المنطقية للتحرر والاستقلال من جهة أخرى. أجل، إن إلغاء الفردي والخاص هو إلغاء للعام والكلي، وإلغاء حرية الأفراد والجماعات والفئات والطبقات والأحزاب والنقابات هو إلغاء للمجتمع والأمة، ونكوص إلى ضرب من سديمية قطيعية قوامها علاقة الراعي بالرعية والسيد بالعبد، سديمية وقطيعية تقيمان الاستبداد الذي ما هو سوى لحمة وهمية لوحدة المجتمع والأمة. إن مجتمع الاستبداد هو بالأحرى مجتمع يعيش وهم الحرية في حرية الوهم، ووهم التقدم في تقدم الوهم. كتب المفكر الراحل الياس مرقص ذات مرة معلقاً على ندوة العقلانية العربية التي عقدت في تونس، يقول: "حين ندرك أن الأمة العربية أكثر من 200 مليون "أنا" تكون قضية الوحدة العربية قد خطت خطوتها الأولى. إن فقدان الـ "أنا أفكر" سبب ضياع الـ "نحن" وتبديده وأضاف: "الأمة وفاق أو توافق أو معية، الأمة موافقة، وهي لا تفرض شيئاً على أفرادها ربما على ملايين منهم، أنتم أحرار في الرأي، أنتم أحرار في حياتكم الشخصية، في إنشاء ما تشاؤون من أحزاب معارضة لكن تحت القانون وتحت الحق وبعد ذلك، فقط توجد أكثرية وأقلية". إن تضخيم مقولة الأكثرية والأقلية عند بعضنا حماقة مناوئة للديمقراطية، ومربوطة غنوزيولوجياً أي معرفياً باللامفهومية، واللامنطق، وبانحطاط الرياضة إلى حساب لذلك فإن مفهوم الأمة بالمعنى الحديث مؤسس على الديمقراطية بكل منطوياتها المعرفية والفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. الديمقراطية بهذا المعنى هي الليبرالية زائد مفهوم الشعب، وتعارض الطبقات أو صراعها، ومفهوم الشعب مؤسس على مفهوم الوطن والوطنية ونفي الحرب خارج المدينة، خارج حدود الوطن ونطاق الأمة.

إن مسألة الأكثرية والأقلية السياسيتين، ومسألة الأقليات القومية والإثنية والدينية والمذهبية وغيرها، مسألة قومية بامتياز، لأن مسألة الاندماج القومي المجتمعي هي المقدمة اللازمة للتقدم، والشرط الضروري لوحدة الأمة. وفي ضوئها تقاس حداثة الأمة ويختبر وعيها لذاتها. فمن دون اندماج قومي ليس ثمة شعب ولا أمة، بل محددات اجتماعية ما قبل قومية متنافرة ومتحاجزة. لقد قفز الفكر السياسي العربي فوق مسألة الأقليات وتجاهلها أو جهلها مرتين، مرة بوصفها مسألة قومية تتعلق بالاندماج القومي، ومرة بوصفها مسألة ديمقراطية تتعلق بالمساواة والحرية وروح المواطنة. وستظل هذه المشكلة قائمة ما لم تجد حلها العلماني – الديمقراطي، في إطار الثورة الديمقراطية العربية التي يضعها التاريخ على جدول أعمال الأمة. ومن جهة أخرى، إن قومية العرب لا تتقوم بأصلهم أو ماضيهم وتراثهم، ولا بلغتهم الواحدة وثقافتهم فقط، بل في حريتهم واستقلالهم وإنتاجهم شروط حياتهم ووجودهم وتطلعهم إلى مستقبل ممكن وواجب أساساً. فالمسار الذي اتخذته الأمة العربية في سيرورة تشكلها أو تكونها طويل ومعقد ولا يزال غير معروف جيداً. الأمة كينونة اجتماعية في التاريخ وفي العالم، وهنا تتجلى الروابط الضرورية، المنطقية والتاريخية، بين المسألة القومية والمسألة الاجتماعية بوصفهما بعدين متلازمين للكينونة الاجتماعية.

لقد وضع التاريخ الحديث أمتنا في مواجهة الإمبريالية الرأسمالية، وكانت التجزئة القومية الحديثة لوطننا وأمتنا هي القانون الموضوعي للهيمنة الإمبريالية، ومحصلة التأخر التاريخي للشعب العربي والأوضاع الإمبريالية التي نشأت عنه، وكانت إسرائيل حارسة التجزئة والتأخر اللذين تأسست عليهما المصالح الإمبريالية، وهذا الوضع أضفى على القومية العربية طابعاً تقدمياً يدفع باستمرار إلى نمو طابعها الديمقراطي الإنساني، ويحفز تطلعها إلى نظام عالمي، ونسق من العلاقات الدولية، يقومان على المساواة وتكافؤ الفرص، ويضعان حداً لسائر أشكال القهر والاستغلال والاستلاب. ولذلك كانت الوحدة العربية شرط التقدم اللازم وغير الكافي، وشرط التحرر والاستقلال الناجزين في الوقت ذاته. وقد ارتبطت سيرورة تكون الأمة وأشكال وحدتها بمراحل النهوض والتقدم، كما ارتبطت التجزئة تاريخياً، بالانحطاط والتراجع، وبالهيمنة العالمية لدول كبرى وقوى أجنبية. والنزوع الوحدوي لم يصبح واضحاً وجدياً، في العصر الحديث، إلا مع نمو الحركة الشعبية المعادية للاستعمار والإمبريالية والصهيونية عداء جذرياً. وكانت محاولة النهضة الثانية التي قادها عبد الناصر تعبيراً عن هذه الحركة، حركة جماع الأمة ونزوعها إلى التحرر والتقدم وتطلعها إلى الاشتراكية. البعد الديمقراطي للقومية العربية لا يتجلى فقط في علاقات الأمة الداخلية التي ينتجها تاريخها الداخلي الخاص، بل في علاقاتها بغيرها من الأمم أيضاً، هذه العلاقات التي ينتجها تاريخ البشر العام. وإذا كان الانتهاك الإمبريالي قد أنتج ضرباً من تعصب قومي عربي مضاد لتعصب الأمم الإمبريالية ونزعتها العدوانية، فإن هذا التعصب على الرغم من مسوغاته الأخلاقية، ليس سوى رد فعل على الانتهاك، ورد الفعل هو أسوأ أشكال اللاعقلانية، على أن القومية، أية قومية، بما في ذلك القومية العربية، ليست بريئة من التعصب، ولا من النزوع إلى الهيمنة والعدوان، بل تحملها في أساس بنيتها إلى جانب العناصر الديمقراطية والإنسانية أو الأنسية، وذلك عندما تكون مجرد شعور بالتمايز والاستعلاء والتفوق الحضاري. وثالث هذه التحديات، هو علاقة القطري أو الإقليمي بالقومي، والمعنى الذي نعطيه للدولة القومية أو الدولة – الأمة. الرؤية القومية الديمقراطية، العقلانية، تستند من جملة ما تستند إليه، إلى حقائق التاريخ والجغرافية، والجغرافية السياسية. الأمة العربية تتألف من شعوب، والوطن العربي يتألف من أقاليم مختلفة، الاختلاف هو الذي يفرض التشابه ويؤسس للوحدة. لا يضير العرب أن يكونوا شعوباً، ولا يضير الوطن العربي أن يكون أوطاناً، والعالم العربي أن يكون عوالم. ولكن أياً من هذه الشعوب المتمكنة في أقاليم الوطن العربي وأقطاره لا يستطيع إلا أن يكون عربياً، ولا يمكن أن يكون أي قطر أو إقليم مكاناً دائماً لغير شعبه العربي. إن مفهوم الوطن، ربما يشمل الأرض والناس معاً في علاقتهما الجدلية الحية، التي بمقتضاها ينتج كل منهما الآخر، ففي منطق الواقع والتاريخ كل موجود هو ناتج أو منتوج. وهذه الحقيقة تضرب جذورها عميقاً في معنى وجود البشر وكونهم أمماً وشعوباً، وتضرب جذورها كذلك في معنى الوطن والمواطنة. والفعل الوحدوي ليس شيئاً آخر سوى توليد العلائق الضرورية القائمة في الواقع بين هذه الشعوب والأقاليم، وعملية التوليد هذه ليست سوى جعل الممكن واقعاً بفعل البشر أنفسهم وبإرادتهم. ولذلك نقول إن الوحدة ممكنة فحسب، ولا تصير حتمية إلا بعد تحقيقها بإرادة الذين يكتشفون مصالحهم الحقيقية في تحققها.

الوحدة العربية فعل تولده حركة الشعب العربية الداخلية، ولا يمكن أن يفرض على أحدها من الخارج، وذلك لأن شعباً لا يستطيع، وليس لـه، أن يفرض الخير والسعادة على شعب آخر. وهذا هو البعد الديمقراطي في المسألة القومية، مسألة تجديد بنيان الأمة وتوحيدها. إن علاقة القطري – بمعنى الإقليمي، وليس بمعنى الدولة القطرية المرسملة والتابعة، والتي هي التعبير الحقوقي والسياسي عن واقع التجزئة والتأخر – بالقومي هي بالأحرى علاقة الجزء بالكل من جهة، وعلاقة الخاص بالعام من جهة أخرى. وليس ثمة من وجود حقيقي للكل، وللعام، إلا في الجزء الخاص، ولا وجوداً واقعياً، للجزء الخاص، إلا من خلال العلاقة التي تربطهما بالكل وبالعام. الوطن العربي كل، والأمة العربية عام، وجودهما العياني في الجزئي والخاص. مشكلة الدولة القطرية تكمن في نزوعها إلى تحويل الجزء إلى كل والخاص إلى عام، فألغت بذلك الجزء والكل معاً، كما ألغت الخاص والعام معاً، إذ تحولت – وكان لا بد لها من أن تتحول – إلى دولة تسلطية يشكلها الخارج ويحدد وظائفها. نزوعها إلى جعل الجزء كلاً جعلها استبدادية أولاً، ومتصالحة مع الإمبريالية ثانياً ومعزولة عن الشعب ثالثاً، وبالضرورة، من هذه الزاوية بالتحديد نقول: إن الدولة الاستبدادية ألغت الشعب، والمجتمع المدني، وألغت الجزء والخاص بإلغائها الكل والعام.

في هذه الحيثية، لا بد من أن نميز الدولة القطرية عن الدولة الوطنية التي تحدد بنيتها ووظيفتها بدلالة الكل والعام، أي بدلالة الوطن العربي، والأمة العربية، وهي بالتالي دولة وحدوية أو توحيدية بالقوة، ونظن أن هذا هو المدخل الديمقراطي للوحدة العربية: تحويل الدولة القطرية ديمقراطياً وتدريجياً إلى دولة وطنية هي جنين الدولة القومية. الدولة القطرية دولة انفصالية أو انعزالية بالضرورة لأنها متطابقة مع هوية المجتمع القومية، أي لأنها تعبير سياسي حقوقي عن الشيء العام، أو الشأن العام المشترك بين جميع المواطنين والذي هو ماهيتهم وجوهرهم. ولأنها ديمقراطية تعبر عن الكل الاجتماعي وتجسد سيادة الشعب، لأنها معادية للإمبريالية وإسرائيل عداء جذرياً. الديمقراطية هي شرط الوحدة العربية، والوحدة العربية شرط التقدم العربي.

عن موقع معهد الرسول الأكرم(ص)، مجلة الحياة الطيبة – العدد التاسع عشر.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً