ـ القسم الأوّل ـ
د. أبو القاسم فنائي(*)
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ (الأحزاب: 21).
1ـ مدخلٌ
يعمد هذا الفصل إلى نقد أخلاق الاجتهاد الموجود من زاويةٍ أخرى، ويقترح «التجربة الفقهية» بوصفها واحدة من أركان الاجتهاد بالمعنى الصحيح للكلمة. لا موقع للتجربة الفقهية في أخلاق الاجتهاد الراهن، أو أن موقعها لا يرقى إلى المستوى المطلوب. هذا في حين إن التجربة الفقهية تمثّل واحدة من الأركان الهامّة في أخلاق الاجتهاد المثالي. إن جوهر كلامنا في هذا الفصل هو أن الشريعة في مقام الثبوت (عالم التشريع) تشتمل على بسطٍ تدريجي وتاريخي، وإن هذا البسط يستمرّ إلى ما لا نهاية، ولا ينقطع بختم النبوّة ورحيل النبي الأكرم‘. إن هذا المدّعى ينطوي على نتيجة منهجية هامّة، وإن تأثيره على أخلاق الاجتهاد أو أخلاق التفكير والبحث الفقهي تأثير مصيري. فلو التزمنا بهذه النظرية، التي هي نظرية «أنطولوجية» في مجال «طبيعة» الشريعة و«انسيابيّتها» المستمرّة، نضطرّ إلى الاعتراف بـ «التجربة الفقهية» بوصفها واحدة من الأركان والعناصر الأساسية في الاجتهاد الفقهي، وهي نظرية معرفية في مجال «طبيعة» الاجتهاد الفقهي.
وبعبارةٍ أخرى: إن هذا الفصل يُجري مقارنة بين أسلوبين مختلفين في الاجتهاد الفقهي. ويمكن تسمية هذين الأسلوبين بـ: الاجتهاد «المتمحور حول القانون»؛ والاجتهاد «المتمحور حول النموذج».
وفي الاجتهاد المتمحور حول القانون يتم الاهتمام بشكل وظاهر القانون إلى حدٍّ كبير، ويتمّ تجاهل روحه وباطنه وحكمته وفلسفته.
وأما في الاجتهاد المتمحور حول المثال والنموذج فيتمّ الاهتمام بالحكمة والفلسفة وروح القانون، بينما يتمّ النظر إلى شكله الأوّلي لمجرَّد كونه مصداقاً لـ «نموذجٍ» ومثال من الأمثلة.
وفي الاجتهاد المتمحور حول القانون يحلّ «تأليه القانون» و«تأليه الظاهر» محل «عبادة الله». إن هذا النوع من الاجتهاد «يتمحور حول النص»، و«ينزع باتجاه الظاهر».
في حين إن الاجتهاد المتمحور حول النموذج «يتمحور حول التجربة»، و«ينزع باتجاه الباطن».
وإن ارتباط هذا الموضوع بأخلاق المعرفة الدينية واضحٌ. إن هذين الاجتهادين يتبعان في حقيقة الأمر نوعين مختلفين من أخلاق التفكير والتحقيق، ويقومان على فرضيات مختلفة.
إن الاجتهاد المتمحور حول القانون يعمل على تعريف الشريعة (الأخلاق الدينية) بـ «مجموعة الأوامر السابقة للشارع»، في حين إن الاجتهاد الذي يتمحور حول النموذج يعرّف الأخلاق الدينية من خلال «اقتباس واستلهام واتّباع نموذج مقدّس».
في الفصل الثاني من كتابنا (الدين في ميزان الأخلاق)([1]) عمدنا إلى تعريف الدين بـ «التجربة الدينية، وتفسير وتبيين هذه التجربة»، وفسَّرنا التديُّن بـ:
1ـ امتلاك التجربة الدينية؛
2ـ امتلاك تفسير صحيح لهذه التجربة؛
3ـ السلوك على طبق مقتضيات هذه التجربة (بشكلٍ يتطابق مع «الإيمان» و«العلم» و«العمل»).
إن موضوع ومتعلق التجربة الدينية إما هو حقيقة وواقعية عينية، وفي مثل هذه الحالة يكون تفسير وتبيين تلك التجربة على شكل تعاليم الدين الاعتقادية؛ أو هو حكم وتوصية في مجال السلوك والعمل، وفي مثل هذه الحالة يكون تفسير وتبيين تلك التجربة إما على شكل المعايير الأخلاقية (إرشادياً)، أو على شكل المعايير الفقهية (مولوياً).
إن السنّة الدينية بالمعنى العامّ للكلمة عبارةٌ عن التجربة الدينية لأولئك الذين يعيشون في صُلْب تلك السنّة وتفسير وتبيين تلك التجربة. إن هذه السنّة تشمل التجربة الدينية للنبي وتفسيره لهذه التجربة، كما يشمل البسط التالي لهذه التجربة وشروحها وتفسيراتها اللاحقة من قبل أتباع ذلك النبيّ. إن الاتّباع الصحيح للسنّة الدينية، وحُسْن الاستفادة منها وتوظيفها في عصر الحداثة، لا يعني الالتزام بالشرح والتفسير الذي قام به السابقون لهذه السنّة، بل بمعنى السعي إلى بسط التجربة الدينية والإصلاح العقلاني للسنّة الدينية على أساس العقلانية الحديثة.
إن سؤالنا الرئيس في بحثنا لهذا الفصل عبارة عن:
1ـ ما هي التجربة النبوية؟([2]).
2ـ كيف يمكن بسط التجربة النبوية؟
من خلال دراسة هذين السؤالين يتضح حكم التجربة الفقهية النبوية، التي هي نوعٌ خاص من التجربة النبوية.
2ـ بسط التجربة النبوية
إن نظرية بسط التجربة النبوية نظرية في مجال النصف البشري والترابي من النبيّ‘، والطبقة الأرضية والتاريخية من الوحي والدين.
يذهب الدكتور سروش إلى الاعتقاد بأن بسط الدين الإسلامي في عصر النبيّ‘ كان بسطاً «تدريجياً» و«تاريخياً»، وكان تابعاً لبسط التجربة في البُعْدين الداخلي والخارجي من النبيّ.
يرى الدكتور سروش أن التصوير الذي يمتلكه منهجنا العرفاني عن نبيّ الإسلام تصوير غير متوازن؛ إذ إن النصف الناسوتي والأرضي من النبيّ قد حُجب في هذا التصوير بنصفه اللاهوتي والسماوي، فلم يبْقَ من النبيّ على حدِّ تعبيره «سوى روح بلا جسد، أو شمس بلا ظلّ، أو صورة تفتقر إلى المادة، أو غيب يفتقر إلى الشهادة، أو تمثال مجرّد من التاريخ والجغرافيا»([3]).
تأتي نظرية بسط التجربة النبوية في الحقيقة في سياق السعي إلى تقويم هذا التصوير، من خلال تبيين نسبة الناحية البشرية والأرضية والتاريخية من النبيّ إلى الوحي والتجربة الدينية والشريعة.
إلاّ أن هذا التفسير يحمل توصيةً هامّة للمتدينين أيضاً، وهي أن بسط التجربة النبوية من قبل المؤمنين ممكنة ومطلوبة، بل ضرورية بمعنى من المعاني؛ لأن الكمال الراهن للدين كمالٌ في «الحدّ الأدنى»، وإن كمال الدين في «الحدّ الأقصى» يتوقَّف على مثل هذا البسط([4]).
ولكننا نرى أن تجاهل النصف البشري من الأنبياء لا يختص بسُنّة العرفان الإسلامي، وإنما يشمل الفلسفة والكلام والفقه الإسلامي أيضاً، حيث تعاني من ذات المشكلة. وفي الأساس فإن التصوير الذي يحمله عموم المسلمين ـ وخاصّة الشيعة ـ عن الأنبياء (والأئمة) تصوير غير متوازن. فإن فهم الشيعة لـ «العصمة» ـ على سبيل المثال ـ وكأنّ المعصوم بسبب عصمته غنيٌّ عن العقل والتجربة البشرية، وإنه من خلال عصمته يتعطّل عقله، وتلغى تجربته في مقابل الوحي والإلهام الإلهي، ويختفي دور العقل والتجربة خلف الحجاب. في حين إن هذا الشخص مهما كانت خصائصه لا يمكن أن يمثِّل أسوة للآخرين.
أ ـ أركان نظرية بسط التجربة النبوية
يمكن تبويب نظرية بسط التجربة النبوية في إطار القضايا التالية:
1ـ إن النبوة نوعٌ من أنواع التجربة.
2ـ إن التجربة النبوية قابلةٌ للتكامل.
3ـ إن الوحي أو التجربة النبوية تابعةٌ لشخصيّة النبيّ، دون العكس.
4ـ لقد كان لتجربة نبي الإسلام بسط «تاريخي» و«إمكاني» بتأثير «التعاطي مع المحيط» و«الحوار مع المعاصرين». (إن طبيعة الوحي طبيعة حوارية، وليست مونولوجية).
5ـ إن التجربة النبوية غير مختصّة بالأنبياء، ويمكن لغير الأنبياء أن يكون لهم حظٌّ ونصيب من هذه التجربة أيضاً.
6ـ إن البسط التاريخي للتجربة النبوية لا يتوقَّف برحيل النبي، ولا ينبغي لها أن تتوقَّف برحيله، وإن ختم النبوة لا يعني نهاية حضور النبيّ في دائرة الحياة البشرية.
7ـ إن اتّباع النبيّ يعني مشاركته في تجربته.
8ـ إن اتّباع النبيّ يعني بسط تجربته.
وفي ما يلي نسعى، من خلال توظيف كلمات الدكتور سروش، إلى بيان كلّ واحد من هذه العناوين باختصارٍ.
1ـ النبوة نوعٌ من أنواع التجربة
يرى الدكتور سروش أن النجاح الدنيوي للأنبياء لا يمكن أن يُعَدّ من المقومات أو العلامات الضرورية للنبوّة([5])، بل إن خاصّية الأنبياء هي الاتّصاف بالوحي، الذي هو نوعٌ من أنواع التجربة الدينية، وهذا الأمر هو «المقوِّم لشخصية ونبوّة الأنبياء، ورأسمالهم الوحيد»([6]).
إن اختلاف الأنبياء عن سائر الذين يتمتّعون بالتجارب المعنوية والروحانية من غير الأنبياء يكمن في أن الأنبياء على أثر هذه التجربة يؤمرون بالعمل على إرشاد وهداية الخلق وإبلاغ رسالة الله؛ في حين إن تجربة الآخرين تجربة شخصية وخاصة، ولذلك فإن مجرّد الحصول على التجربة الدينية لا يجعل من الشخص نبيّاً. «هناك في النبوّة مفهوم وعنصر من المأمورية والرسالة، وهذا هو العنصر المفقود في التجارب المتعارفة بين العرفاء. وفي الخاتمية إن هذه الرسالة تنحسر بعد الخاتمية، ولكنْ يبقى أصل التجربة والمكاشفة على حاله»([7])، و«إن النبوّة نوعٌ من التجربة والكشف»([8]). ينقل الدكتور سروش عن الغزالي قوله: إن الذين يعرفون الأنبياء، أو الذين يعرفون بشكل أفضل من غيرهم، هم الذين نالوا حظّاً ونصيباً من التجارب النبوية([9]).
2ـ التجربة النبوية قابلةٌ للتكامل
إن النبوّة نوعٌ خاص من التجربة التي تقبل التكامل. «كما أن كل مجرِّب يزداد خبرةً وحنكة ويغدو أكثر تجربة، يمكن للنبيّ أن يغدو بالتدريج أكثر نبوّةً»([10]).
يرى الدكتور سروش أن لتكامل التجربة النبوية أدلة داخلية، وشواهد تاريخية أيضاً([11])؛ فإن طلب النبي لزيادة العلم([12]) ـ على سبيل المثال ـ، والحكمة من النزول التدريجي للقرآن، يؤيِّد هذا الادّعاء([13]).
وفي ما يتعلق بالشواهد التاريخية يستشهد الدكتور سروش بكلام ابن خلدون والطبري([14])، مؤكِّداً على هذه النقطة، وهي أن التكامل التدريجي للتجربة النبوية لا يضرّ باعتبارها([15]).
3ـ الوحي أو التجربة النبوية تابعةٌ لشخصيّة النبيّ، دون العكس
يرى الدكتور سروش أن شخصية النبي هي كلّ رأسماله، وأن هذه الشخصية هي «المحلّ والموجد والقابل والفاعل للتجارب الدينية والوحيانية»، و«أن البسط الذي يحدث في شخصيّته يؤدي إلى بسط التجربة و(العكس صحيحٌ أيضاً). ولذلك فإن الوحي كان تابعاً لشخصيته، دون العكس. وإن كل ما كان يفعله ذاك الجميل جميل»([16]).
يعمد الدكتور سروش؛ لتأييد مدَّعاه، إلى التمسّك بنظريتين شائعتين بين عرفاء المسلمين:
النظرية الأولى بشأن قرب الفرائض والنوافل، والتي من خلالها يقترب العبد من الحقّ، ويفنى فيه، حتّى يكون إدراكه متّحداً مع إدراك الله، ويكون فعله متّحداً مع فعل الله.
إن هذه النظرية في الحقيقة شرحٌ وتفسير لحديث قدسي، وله مؤيِّداته القرآنية أيضاً.
والنظرية الثانية تأتي من التفسير العرفاني للمعراج، وأفضلية مقام ومنزلة النبيّ على جبرائيل، وتبعية جبرائيل للنبيّ.
4ـ كان لتجربة نبيّ الإسلام بسطٌ «تاريخي» و«إمكاني»
إن اختلاف التجربة النبوية لنبيّ الإسلام عن سائر الأنبياء يكمن في أن هذه التجربة هي في الحقيقة تركيب من تجربتين: «داخلية»؛ و«خارجية».
لم يكن نبيّ الإسلام مؤثراً للعزلة، ولم يكن منطوياً على نفسه، بل كان يعيش بين الناس، وكان مطَّلعاً على مشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
«لقد كان تعاطي النبيّ مع الخارج مؤثراً قطعاً في بسط رسالته، وفي بسط تجربته النبوية»([17]).
إن النتيجة الهامّة التي يستنبطها الدكتور سروش من هذه المسألة هي «أن الدين الذي نعرفه باسم الإسلام لم ينزل على النبي مرّةً واحدة، وإلى الأبد، وإنما تبلور بالتدريج. وإن الدين الذي يتكوّن بالتدريج ستكون له حركة وحياة تدريجية في قابل الأيام أيضاً»([18]).
إن السؤال عن ماهية تجربة نبيّ الإسلام هو من بعض النواحي سؤالٌ حول «حدوث وقِدَم القرآن»، أو طبيعته وماهيته، وما إذا كانت للقرآن ماهية محدَّدة مسبقاً، وما إذا كان نزوله «دفعياً» أو كانت له ماهية انسيابية تدريجية، وكان نزوله «تدريجياً»؟
إن هذا الاختلاف ينشأ في الحقيقة من تفسير بعض آيات القرآن، التي تشير إلى كيفية نزوله.
إن طريق الحلّ الذي يقترحه الدكتور سروش؛ لرفع التعارض الظاهري لهذه الآيات، هو أنه مع بعثة النبيّ يتمّ إيداع القرآن في حاق وجود النبي (النزول الدفعي)، وإن تفتح ذهن النبي ولغته وبسط تجربته عين تفصيل مجمل القرآن (النزول التدريجي)([19]).
وبعبارةٍ أخرى: إن دخول النبي إلى ساحة المجتمع شبيهٌ بدخول المدرِّس أو المعلِّم إلى قاعة الدرس، بمعنى أن ارتباط النبيّ بالناس هو ارتباطٌ متبادل وذو طرفين. يُطلق الدكتور سروش على هذا الارتباط تسمية الارتباط «الحواري»([20]). فالأستاذ الجيِّد والمحنَّك يعلم مسبقاً ما الذي سيقوله في قاعة الصفّ إجمالاً، حيث إنه يحدّد الإطار العام للبحث والدرس قبل أن يتوجَّه إلى قاعة الدرس، ولكنْ فوق ذلك كلّه «فإن كل شيءٍ يدخل في دائرة الإمكان»، بمعنى أن الأمور سوف تكون تابعةً للوقائع والأحداث التي ستهيمن على قاعة الدرس. وعليه فإن النتيجة النهائية للتدريس لا تُحْسَم مسبقاً؛ لأن هذه النتيجة إنما تتأثَّر بالحوار والتعاطي الذي يحدث بين الأستاذ وتلاميذه»([21]). إن مهمّة الأستاذ هي تربية التلاميذ وتعليمهم، وتعليم التلاميذ يعني «نقل التلاميذ من مرحلة التفرُّج والمشاهدة إلى مرحلة الأداء والتمثيل»([22]).
يقول الدكتور سروش: «عندما نقول: إن الدين أمر بشري لا نعني بذلك نفي قداسته، وإنما نريد بذلك أن النبيّ قد بعث من بين البشر، فهو يتحرَّك جنباً إلى جنب مع الناس، فيكون هنا تارةً، ويكون هناك تارةً أخرى، ويخوض الحرب تارةً، ويركن إلى السلم تارةً أخرى، ويقف حيناً في مواجهة الأعداء، وحيناً آخر في مواجهة الحمقى من الأصحاب، وفي كلّ واحد من هذه الموارد يتخذ موقفاً يتناسب مع ذلك المورد. وعليه يكون الدين مجموعةً من المواجهات ومن المواقف التدريجية والتاريخية للنبيّ. وحيث تكون شخصيّة النبيّ مؤيَّدة بالوحي وعين الوحي يكون كلّ ما يقوم به أو يقوله مقبولاً ومؤيَّداً، ومثل هذا الإنسان اللاهوتي يقدِّم ديناً هو إلهيّ وبشري»([23]).
وعلى هذا الأساس فإن دين الإسلام عبارةٌ عن «بسطٍ تاريخي لتجربة نبوية تدريجية الحصول»([24]).
إلاّ أن تاريخية الإسلام وتدريجيّته لا تجعل اعتباره ووثاقته في مهبّ الريح؛ لأن تجربة النبيّ ليست مسألة اعتباطية، وإنما هي تنشأ من شخصيّته الإلهيّة المؤيَّدة والمسدَّدة، ولذلك تكون هذه التجربة بالنسبة للنبيّ وبالنسبة لأتباعه واجبة الاتّباع ومُلزمة([25]).
إن القرآن ليس كتاباً سبق تأليفه([26]). من هنا لو امتدّ عمر النبيّ لفترةٍ أطول أو كان أقصر، وتعرَّض لأحداثٍ أخرى، لكان واجه أسئلةً من نوعٍ آخر، واتّخذ القرآن تبعاً لذلك مساراً مختلفاً، واتّخذ شكلاً وصورةً أخرى، وتمّ شرحه وبسطه بشكل مختلف، رغم أن محكماته (أمّ الكتاب) ستبقى هي تلك التي وصلت إلينا.
5ـ التجربة النبوية الدينية غير مختصّة بالأنبياء
هناك ثلاثة أدلة يمكن من خلالها إثبات أن التجربة الدينية للأنبياء لا تخصّ الأنبياء:
الدليل الأول: إن العرفاء والصوفيون والقدّيسون يتمتّعون بشكلٍ وآخر بهذه التجربة. فقد تحدّث القرآن ـ على سبيل المثال ـ عن نزول الوحي والمَلَك على غير الأنبياء، من قبيل: قوله تعالى بشأن السيدة مريم العذراء: ﴿فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً﴾ (مريم: 17)؛ وقوله بشأن أمّ موسى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ (القصص: 7).
ليس هناك من فرقٍ كبير، من حيث الماهية والمضمون، بين تجارب العرفاء وتجارب الأنبياء، غاية ما هنالك أن تجارب العرفاء ذات طابع شخصي وخصوصي، في حين إن التجارب النبوية ليست كذلك، بمعنى أن الأنبياء إثر حصول التجربة النبوية يؤمرون بإبلاغ كلمة الله إلى الناس، وأن يُشركوا الناس في الاستفادة من الحقائق التي اكتشفوها من طريق تلك التجربة، أما العرفاء فلا يتحمّلون مثل هذه المهمّة([27]). وبعبارةٍ أخرى: إن الأمر الذي يميّز التجارب النبوية من التجارب العرفانية هو أن التجارب النبوية «متعدّية» و«مُلزمة» وداعمة للولاية التشريعية والشخصية الحقوقية للأنبياء، في حين إن التجارب العرفانية لا تأتي لأصحابها بالولاية التشريعية والشخصية الحقوقية. إن ختم النبوّة يعني ختم الشخصية الحقوقية للنبيّ والولاية التشريعية له، وليس بمعنى ختم التجربة الدينيّة([28])([29]).
الدليل الثاني الذي يمكن إقامته على عدم اختصاص التجربة الدينية بالأنبياء مستنبطٌ من آراء الغزالي؛ إذ يذهب الغزالي إلى الاعتقاد بأن امتلاك غير الأنبياء للتجربة الدينية يمكِّنهم من إدراك حقيقة النبوّة، ويساعدهم على تمييز النبيّ من غير النبيّ([30]).
وبالتالي فإن الدليل الثالث هو أن التجربة الدينية تمثِّل الغاية القصوى للتديُّن وفلسفة العبادات والرياضات المعنوية والغاية النهائية من السير والسلوك الديني([31]). قال الله تعالى في القرآن الكريم:
ـ ﴿وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً﴾ (الإسراء: 72).
ـ ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ﴾ (فصِّلت: 53).
وقد بُعث الأنبياء لفتح هذا الطريق أمام الناس. فمن دون التجربة الدينية تغدو الأفكار والعقائد والآداب والتقاليد والسنن الدينية جافّةً وميِّتة، ويتحوَّل الإيمان إلى جهاز ميتافيزيقي، ويفقد طلاوته وحلاوته وبريقه، ليطاله البلى والضمور، ويتحوَّل الحماس الديني إلى برودةٍ وخمود.
6ـ البسط التاريخي للتجربة النبوية لا يتوقَّف برحيل النبيّ
يقول الدكتور سروش: «…لقد شهدت أمّة النبيّ بلوغاً ونموّاً بشكل متواكب مع النبيّ والوحي. وإن هذه الأمّة قد أسهمت في التكوين التدريجي للإسلام وبلورته، وقد كان لها دورٌ في صناعة الأحداث، ولم يكن الناس مجرَّد متفرجين حتّى في ما يتعلَّق بأعلى مستويات الديانة، المتمثِّلة بنزول الوحي أيضاً»([32]).
يرى الدكتور سروش أن استمرار الدين يتوقَّف على استمرار التجربة الدينية بالمعنى الأعمّ، وأن البُعْد الاجتماعي في الدين ليس مقوِّماً لدينيّتها؛ إذ مع غضّ النظر عن التجربة الدينية لن يكون هناك فرقٌ بين المذاهب الدينية والمذاهب العلمانية وغير الدينية([33]).
7ـ اتّباع النبيّ يعني مشاركته في تجربته وبسط تلك التجربة
يمكن تفسير اتّباع النبيّ بأحد معنيين:
يقوم المعنى الأول على تظهير الشخصية التاريخية للنبيّ، وفهمه بوصفه مجرّد مأمور قام بمهمته في فترة من التاريخ، ثم رحل من بيننا، وعلينا من الآن فصاعداً أن ننظر إلى تعاليمه بَدَلاً من شخصه.
إن اتباع النبيّ طبقاً لهذا المبنى ليس سوى اتّباع ظاهر تعاليمه.
وهذا الفهم للنبيّ هو الذي عليه الوهّابية، من وجهة نظر الدكتور سروش([34]).
ففي هذه الرؤية تنفصل العلاقة بين الشخصية المعنوية والباطنية للنبيّ عن شخصيته التاريخية انفصالاً تامّاً، وفي الحقيقة يتمّ محو الشخصيّة المعنوية للنبيّ في هذه الرؤية بشكلٍ كامل.
المعنى الثاني لاتّباع النبيّ يقوم على اختلاف النبيّ عن المؤسِّسين للمدارس البشرية؛ فإن للمؤسِّسين للمدارس البشرية شخصيةً تاريخية، والذي يتركونه بعد رحيلهم هو مدارسهم الفكرية. أما الشخصية التاريخية للنبيّ فتستند إلى شخصيته الباطنية. «لقد كانت النبوّة تجربةً. وما دام سراج تلك التجربة وضّاءً فالنبوّة لا تزال حيّةً». وعليه فإن «اتّباع النبي إنما هو اتّباع لتجاربه. والاتّباع ليس تقليداً وتكراراً منفعل، بل هو مشاركة فاعلة في تجارب الرائد»([35]).
«لقد كان وحي النبيّ وتجربته جواباً عن الأسئلة، وحلاًّ للمشاكل، وإقناعاً للأذهان، وإيضاحاً للسُبُل، وفتحاً للأبصار والبصائر في صُلْب الواقع، وإن صرف أداء التكليف وبيان الأيديولوجية لم يكن مطروحاً على نحوٍ سابق. فهو لم يكن يطبّق التجربة المنتزعة على الواقع. وقد أفنى عمره في التفاعل بين التجربة والواقع. واليوم يجب أن يتحوَّل التديُّن إلى تجربةٍ لحلّ المشاكل، وإقناع البصائر، وحلّ العُقَد وفتح الأقفال المغلقة. وكأنّ الوحي يتنزَّل من جديد، وكأنّ الواقعية تُلحظ في التجربة والإدراك الديني من جديد. واليوم لا بُدَّ أيضاً من عرض الدين بوصفه تجربة في حالة تحوُّل وتفاعل وتلاقح (وليس بوصفه أيديولوجية مغلقة ومحدَّدة ومكتملة مسبقاً)… وإن ذلك التفاعل وتلاقح التجربة الدينية للنبيّ‘ مع أداء اللاعبين في عصره واحتياجاتهم وتساؤلاتهم وذهنياتهم يجب اليوم أن يقوم في التجربة الدينية وأداء اللاعبين في العصر الراهن أيضاً…»([36]).
وفي الحقيقة يمكن القول: إن الاتّباع من النوع الأول (أي الاتباع الأعمى لظاهر تعاليم النبيّ) يؤدّي في الحقيقة إلى مخالفة النبيّ، كما أن الاتّباع الأعمى للقواعد الأخلاقيّة دون الاستناد إلى التجربة الأخلاقية يؤدّي إلى الخروج عن إطار الأخلاق أيضاً.
وفي موضعٍ آخر يعمد الدكتور سروش في البداية إلى تقسيم التديُّن إلى ثلاثة مستويات أو ثلاثة أنواع، ثم ينتقل بعد ذلك إلى بيان اتّباع النبيّ في هذه المستويات أو الأنواع الثلاثة([37]).
إن المستوى أو النوع الأول من التديُّن هو تديُّن التقليد والمصلحة. وإن اتباع النبيّ في هذا النوع من التديُّن عبارةٌ عن اتّباع أوامره ونواهيه.
والمستوى أو النوع الثاني من التديُّن هو التديُّن المعرفي. وإن اتّباع النبيّ في هذا النوع من التديُّن عبارة عن اتّباع المعارف التي حملها النبيّ للبشرية، والالتزام بالرؤية الدينية والاستفادة من علوم النبيّ.
وبالتالي فإن المستوى أو النوع الثالث من التديُّن عبارةٌ عن التديُّن التجريبي. وإن اتّباع النبي في هذا المستوى أو النوع من التديُّن عبارةٌ عن المشاركة في تجاربه.
ب ـ نقد نظرية بسط التجربة النبوية
يبدو أن نظرية بسط التجربة النبوية تحتوي على بعض مواطن الإبهام والإجمال، الذي يحتاج إلى الإيضاح والشرح والتفصيل. وهذه المواطن هي:
1ـ دور الله تعالى في التجارب الدينية.
2ـ القيمة المعرفية للتجربة النبوية.
3ـ تعيُّن المعايير والقيم الدينية.
نرى أن استمرار البسط التاريخي للتجربة النبوية قبل أن يكون منبثقاً عن طبيعة وحقيقة التجربة النبوية ينبثق عن البسط التدريجي والتاريخي للدين في مقام الثبوت، الذي يعتبر موضوعاً ومتعلقاً لهذه التجربة. إن رحيل النبيّ لا يعني انحسار دور الله، ولا يعني سكوته، ولا يعني تكبيل يدَيْه بالنسبة إلى التشريع، ونكوصه عن إكمال وبسط الدين بما يتناسب ومقتضات الزمان والمكان. وحيث إن الدين في مقام الثبوت في حالة متواصلة من البسط، وإن هذا البسط سيستمرّ إلى الأبد، فلا بُدَّ للناس من التعرُّف على الطريق والسبيل إلى اكتشاف أنواع البسط التالية للدين، والتي تحدث بعد رحيل النبيّ، وإن هذا الطريق والأسلوب هو الذي يُسمّى ببسط التجربة النبوية. وطبقاً لذلك يتعيَّن على أتباع النبيّ قبل أن يأتوا بالنبيّ إلى الساحة عليهم أن يأتوا بالله إلى هذه الساحة.
إن الاتّباع الحقيقي للنبيّ في كلّ واحد من الأنواع أو المستويات الثلاثة للتديُّن ـ من وجهة نظرنا ـ رهنٌ ببسط التجربة النبوية في ذلك النوع أو المستوى من التديُّن؛ لأن الأحكام الشريعة التي تركها النبيّ تنبثق عن نوعٍ خاصّ من التجربة النبوية، وهي التجربة الفقهية النبوية.
إن التجربة الفقهية النبوية عبارةٌ عن نوع من التجربة التي يتوصّل النبيّ من خلالها إلى كشف الأحكام الشرعية الإلهية. وعليه فإن الاتّباع الصحيح للنبيّ في مستوى التديُّن المعيشي لن يكون ممكناً إلاّ من خلال بسط التجربة النبوية الفقهية. وإن اتّباع النبيّ في مستوى التديُّن المصلحي رهنٌ ببسط التجربة «الفقهية» النبوية. وإن اتّباعه في مستوى التديُّن المعرفي رهنٌ ببسط التجربة «العلمية» و«المعرفية». وإن اتباعه في مستوى التديُّن التجريبي رهنٌ ببسط التجربة «العرفانية» للنبيّ.
إن للنبيّ شخصيةً متعدِّدة الأبعاد، وإن تجربته الوحيانية في الحقيقة مزيج من أنواع مختلفة من التجارب، وإن هذه الأنواع هي المنشأ لمختلف أجزاء أو مستويات الدين([38]).
إن تنوّع أنواع أو مستويات التديُّن تابع لتنوّع مستويات وأبعاد ذات الدين. وإن الدين ـ كما رأينا ـ ينبثق من جميع الجهات عن التجربة النبوية.
إن البُعْد التشريعي من الدين هو حصيلة التجربة الفقهية النبوية. وإن البُعْد العلمي والمعرفي للدين حصيلة التجربة العلمية والمعرفية النبوية. وإن البُعْد العرفاني والمعنوي للدين هو حصيلة بسط التجربة العرفانية والمعنوية للنبيّ.
ومن هنا فإن الاتّباع الحقيقي للنبيّ في كلّ واحد من تلك المستويات يتوقَّف على بسط التجربة النبوية بما يتناسب وذلك السطح والمستوى.
وبطبيعة الحال فإن التجربة النبوية لا تنحصر في هذه الأنواع الثلاثة. فقد كان للنبيّ ـ على سبيل المثال ـ تجربة سياسية أيضاً. من هنا يمكن القول: إن اتباع النبي في مجال السياسة يعني بسط التجربة السياسية للنبيّ، لا بمعنى اتّباع ظاهر تعليماته السياسية. وإن مجرّد تدخّل النبي في السياسة ومباشرته في رتق وفتق الأمور السياسية لا يشكِّل دليلاً مناسباً لصالح الادّعاء القائل: إن قول وفعل النبي في هذا المجال «ينبثق» دائماً عن الوحي والدين، ولم يكن لعقل النبي وتجربته البشرية أيَّ دورٍ في هذا الشأن. وهذا الأمر يُثبت أن قول النبيّ وفعله السياسي لا يتنافى مع الوحي والدين.
1ـ دور الله تعالى في التجارب الدينية للنبيّ
إن تظهير دور شخصيّة النبيّ في تكوين وبلورة البسط التدريجي للدين يجب أن لا يكون على حساب حضور الله، واضمحلال دوره في هذا المجال. أنا أتَّفق مع الدعوى القائلة بأن النبوّة نوعٌ من التجربة، وأن الوحي نوعٌ من التجربة الدينية، وأن التجربة الوحيانية قابلةٌ للبسط والتوسعة والتكامل، وأن هذه التجربة لا تقتصر على الأنبياء، وأنها لا تتوقَّف برحيل النبيّ، وأن اتّباع النبيّ يعني الاشتراك معه في تجربته، والعمل على بسط هذه التجربة.
كما أوافق على الدعوى القائلة بأن تجربة نبيّ الإسلام لها قابليةُ البسط التاريخي والإمكاني، وأنها من حيث المجموع كان يمكن لها أن تكون بشكلٍ آخر.
إلا أنني لا أستطيع الموافقة على الجزء الثاني من هذا الادّعاء، القائل: «إن الوحي تابعٌ للنبيّ، وليس العكس» بشكلٍ مطلق. فعلى الرغم من عدم إمكان إنكار دور شخصية النبيّ في التجربة الوحيانية، ولكنْ في الوقت نفسه لا يمكن إنكار دور الله في هذا المجال أيضاً. وإن هذا الدور لا ينحصر في خلق النبيّ. ولذلك يجب القول: إن الوحي من ناحيةٍ تابعٌ للنبيّ، وإن النبيّ تابعٌ للوحي من ناحيةٍ أخرى([39]).
وبعبارةٍ أخرى: نحن مضطرون إلى التفكيك بين نوعين من التجربة النبوية. ونسمّي هذين النوعين من التجربة على التوالي بـ: «التجربة النبوية الوحيانية»؛ و«التجربة النبوية غير الوحيانية».
لقد كان النبي واجداً لكلا هذين النوعين من التجربة. وإن لهاتين التجربتين من بعض الجهات حكماً واحداً، ولكنّهما تختلفان في الأحكام من جهاتٍ أخرى.
فهناك جزءٌ من النصوص الدينية ينبثق عن التجربة «غير الوحيانية» للنبيّ، بمعنى أن هذا الجزء من التجربة «يتحقّق» في ظرف هذه التجربة ومن خلالها؛ وذلك لأن شخصيّة النبيّ مؤيَّدة ومسدَّدة، وأن قوله وفعله مرضيٌّ ومؤيَّد من قبل الله تعالى. وفي هذا المورد تكون تجربة النبيّ منشأً لجزء من الدين، وليست منشأ للمعرفة الدينية. (وطبقاً للتعبير التقليدي: إطاعة النبيّ إطاعة الله).
أما التجربة النبوية «الوحيانية» فهي منشأٌ لـ «المعرفة» الدينية، وليست منشأً لـ «الدين» نفسه، فمن خلال هذه التجربة يقوم النبيّ بـ «اكتشاف» الدين، لا أنه «يوجده» أو «يُشرِّعه». وعليه فإن بسط التجربة النبوية الوحيانية رهنٌ ببسط الدين نفسه في عالم التشريع، أي حيث إن للدين في عالم التشريع بسطاً تدريجياً وتاريخياً، وإن هذا البسط لا يتوقَّف بختم النبوّة ورحلة النبيّ، فإن التجربة الدينية الناظرة إلى الدين في مقام الثبوت، والكاشفة عنه، يمكنها أو يجب أن تبسط بما يتناسب وبسط الدين نفسه، وإن بسطها يجب أن لا يتوقَّف بختم النبوّة ورحيل النبيّ.
إن جوهر الدين (المحكمات) في مقام الثبوت ونفس الأمر ثابتٌ وما فوق تاريخي، إلاّ أن هذا الجوهر في بسطه وازدهاره يتأثَّر بالعناصر التاريخية والاجتماعية، ويتحوَّل بشكل متوازٍ مع تحوّل المجتمع والتاريخ. وحيث لا تكون هناك نهاية لتحوّل المجتمع والتاريخ لن تكون هناك نهاية لتحوُّل الدين في عالم الثبوت أيضاً([40]).
إن التجربة النبويّة الوحيانية وغير الوحيانية تشتركان في هذه الخصوصية، وهي أنهما تابعتان لشخصية النبيّ من جهةٍ، وتابعتان للحوار والتعاطي القائم بين النبيّ ومحيطه من جهةٍ ثانية، وتابعتان لارتباط النبيّ بعالم الغيب من جهةٍ ثالثة.
ويمكن القول، على نحو الإجمال: إن شخصيّة النبيّ «محلّ وموجد وقابل وفاعل للتجارب الدينية». ولكنْ علينا أن لا نعتبر ذلك تجريداً لفاعلية الله في هذا المجال، وأن فاعلية الله ليست سوى فاعلية النبيّ؛ فإنّ كلا نوعَيْ التجربة النبوية تُنسب من جهةٍ إلى الله؛ ومن جهةٍ أخرى إلى النبيّ، والنبيّ يكون في الوقت نفسه «شارعاً» و«شارحاً» و«حكيماً» و«مزارعاً» و«تاجراً» وهكذا…، إلاّ أن النبيّ في ظرف تجربته الوحيانية يكون كاشفاً لشيءٍ موجود ومتحقّق وجارٍ وراء تجربته.
إن نسبة بعض التجارب النبوية غير الوحيانية إلى الله هي ما نجد التأكيد عليه في كلام الدكتور سروش. فحيث كانت شخصية النبيّ شخصيّة إلهية، وحيث كانت شخصيّة النبيّ قد تبلورت تحت رعايةٍ مباشرة من الله، كان كلامه في هذا المورد (في حكم) كلام الله، وكان فعله (في حكم) فعل الله، «إلاّ إذا كان هناك دليل على خلافه»([41]). وفي هذا الجزء من التجربة النبوية يكون الدين في واقع الأمر، أو الدين في مقام الثبوت، تابعاً للتجربة النبويّة بشكلٍ كامل، بمعنى أنه لا يوجد شيء وراء التجربة، لتكون التجربة «كاشفة» عنه. إن النبي هنا يمثِّل في الحقيقة دور «الشارع» و«الفاعل»، ويقع تشريعه مورداً لتأييد الله تعالى. إلاّ أن هذه التجربة إنما تكون مُلزمةً للمؤمنين إذا تمّ إمضاؤها من قبل الله تعالى. وفي هذه الحالة يكون النبيّ هو المحلّ والموجد والفاعل والقابل للتجربة الدينية، وإن التجربة الدينية هي مقام ثبوت الدين، بمعنى أن الدين يتحقَّق ويتبلور في ظرف التجربة، ويكون مضمونه ومحتواه تابعاً لإرادة وشخصيّة النبيّ مئة بالمئة. إن مضمون هذا الجزء من التجربة النبوية ليس وحياً، وإنْ كان منسجماً مع الوحي.
وأما انتساب التجربة النبوية «الوحيانية» إلى الله فيقوم على التعدُّدية والثنائية بين الظاهر والمظهر. وإذا نظرنا إلى الموضوع من هذه الزاوية سيكون الله هو الفاعل والموجد للتجربة الدينية، ويكون النبي محلاًّ وقابلاً لها. إن ذلك الجزء الذي يمثل الجانب التشريعي لله في التجربة الوحيانية يتمّ «اكتشافه» من قبل النبيّ، وليس «تشريعه»، فالنبي في مثل هذه الموارد كاشفٌ وشارح، وليس شارعاً. وبطبيعة الحال قد يقترن ثبوت وتحقُّق أو تشريع الدين من قبل الله تعالى متزامناً من اكتشافه من قبل النبي؛ إذ لا معنى للزمان في الأمور المعنوية، إلاّ أن المهمّ هو أنه في هذا النوع من التجربة يكون للدين ثبوتٌ في ذات الأمر ووراء التجربة النبوية، وإن التجربة النبوية في الحقيقة هي الدين في مقام الإثبات، بمعنى أن هذه التجربة كاشفةٌ عن شيءٍ يتمتّع بوجود مستقلّ وراء التجربة، حتى إذا لم يكن هناك بين تكوُّن موضوع ومتعلّق التجربة وتحقُّق ذات التجربة أيّ فاصلةٍ زمنية.
إن مضمون الوحي هو كلام الله تعالى، ومن هنا يكون مُلزماً في حقّ النبيّ. إن الوحي يختلف عن سائر التجارب التي يمارسها النبيّ وسائر كلماته التي يقولها، في حين إن جميع تجارب وكلمات النبيّ تنبثق بمعنى من المعاني من شخصيّته. فالنبيّ أيّاً كان فهو نبيّ، والنبوّة تعني الوساطة بين الله والخلق، وإيصال «رسالة» أحدهما إلى الآخر. إن الأنبياء مأمورون بإبلاغ رسالة الله تعالى إلى الناس، وليسوا مأمورين بإبلاغ رسالتهم الخاصة إليهم، رغم أن لديهم كلمات يقولونها، ويمكن لها أن تكون تحت ظلّ بعض الظروف جزءاً من الدين.
وعليه فإن نسبة الشخصيّة الإلهية للنبيّ إلى كلمات الله (الوحي) وكلمات نفس الرسول نسبة متساوية، وإن النبيّ يمارس نوعين مختلفين من التجربة. وعليه لا يمكن من خلال التمسّك بشخصيّة النبي أن نشرح ونبيِّن الاختلاف الواضح بين هذين النوعين من التجربة، والكلمات المنبثقة عن هذين النوعين من التجربة، والسلوك القائم على هذين النوعين من التجربة. إننا أمام نوعين من الكلمات والأفعال المنبثقة عن التجربة النبوية، والمنسوبة بمعنىً من المعاني إلى النبيّ. فالنبيّ يتحدَّث أحياناً بكلمات هي كلماته، ولا يدّعي أنها كلمات الله، وتارةً أخرى يبيِّن للناس كلام الله، وينقله إليهم، ويقول: إن هذا الكلام الذي أقوله هو كلام الله الذي نزل عليَّ من طريق الوحي، وقد سمعته، وتارةً يحكم النبيّ، ويقول: إن هذا الحكم هو حكمي، وتارةً يبيِّن للناس حكم الله.
إلاّ أن قراءة الدكتور سروش لنظرية القبض والبسط لا تستطيع أن تبيِّن اختلاف هذين النوعين من الكلام؛ لأن هذه النظرية تنظر إلى مجرّد نوعٍ خاصّ من التجربة النبوية. إن هذين النوعين من الكلام إذا اشتملا على حكم إلزامي كانا مُلزمين للآخرين؛ أما الأول فلأنه حكم الله؛ وأما الثاني فلأنه حكم النبيّ، في حين إن إلزاميّة حكم وكلام النبيّ بالنسبة إليه محلّ تردُّد ونقاش.
إن كلا هذين النوعين من الكلام يتأثّر بتجربة النبيّ وشخصيّته ومحيطه، إلاّ أن الكلام من النوع الثاني وحده هو الذي يحكي عن التجربة النبويّة الوحيانية. إن كلمات النبيّ نفسه وإنْ كانت مستندة بنحوٍ من الأنحاء إلى تجربته، إلاّ أنها لا تستند إلى هذا النوع الخاصّ من التجربة. وخلافاً للمورد السابق فإن النبيّ في هذا المورد لا يدّعي أن مَلَكاً قد قرأ عليه هذه الكلمات إثر تجربة وحيانية. وعليه فإن الولاية التشريعية للنبي غير الولاية التشريعية لله، بمعنى أن الأولى في طول الثانية، وليست في عرضها، وليست بديلاً عنها، ولا ذاتها.
وبكلمةٍ أشمل يمكن القول: إن الأنبياء يباشرون أنواعاً مختلفة من التجارب، وإن الوحي إنما هو مجرّد نوعٍ خاصّ من تلك التجارب.
والدليل على هذا المدّعى هو أن الأنبياء ليسوا أنبياء فقط، وإنما يتمتعون بشخصيّة ذات أبعاد متعدِّدة؛ فإنهم من «البشر» قبل أن يكونوا أنبياء، والإنسان الذي ينتمي إلى دائرة البشر يمتلك تجربة بشرية. ومضافاً إلى ذلك فإن النبيّ إنسان، وإن عقله ووجدانه لا ينتفي بعد صيرورته نبيّاً([42]). من هنا فإن للأنبياء تجاربهم العقلانية والأخلاقية (مصدر الحكمة) أيضاً. كما أن التجارب الحسّيّة للأنبياء، التي تنبثق عن البُعْد الجسماني والطبيعي من وجودهم، لا تمحى بصيرورتهم أنبياء.
إن تنوُّع وتعدُّد تجارب الأنبياء يجعل منافذ معرفتهم وقرارهم وسلوكياتهم متعدِّدة أيضاً. وبذلك فإن سيرة الأنبياء (أقوالهم وأفعالهم) تقبل التنوّع والتعدّد. وإن جانباً من سيرة الأنبياء تستند إلى تجاربهم الحسيّة. وإن جانباً منها ينبثق عن تجارهم العقلانية، وجانباً آخر من تجاربهم الأخلاقية، وجانباً خاصّاً منها يستند إلى تجاربهم النبوية أو الوحيانية وتعبِّر عنها. وعليه فإن بعضاً من تلك التجارب فقط ليس له منشأ خارجي وموضوعي. وبمعنى من المعاني فإن جميع هذه التجارب تنبثق عن شخصيّة النبيّ، وليس من بين تلك التجارب ما يستند إلى شخصية النبيّ «بما هو نبيّ» إلاّ نوعاً واحداً من أنواع تلك التجارب. وعلى هذا الأساس فإن شخصيّة النبي متعدِّدة الأبعاد «محلٌّ» لأنواع وأقسام التجارب، ولا ينبثق عن شخصيّة النبيّ من التجارب بما هو نبيّ سوى التجربة النبوية الوحيانية. وقد كان النبيّ قبل بعثه واصطفائه بالنبوّة والرسالة مفتقراً إلى هذا النوع من التجربة. في حين إن تجربة النبي غير الوحيانية تنبثق أيضاً عن شخصيّته، إلاّ أن قيمة واعتبار تجربة النبي غير الوحيانية لا تكمن في كشفها عن حكم الله تعالى، أو دلالتها على الشريعة في عالم التشريع، وإنما تكمن في تأييدها وإمضائها من قبل الله تعالى. إلاّ أن هذا التأييد والإمضاء لا يشمل جميع تجارب النبيّ غير الوحيانية.
ومن ناحيةٍ أخرى فإن جميع هذه التجارب والكلمات (والسلوكيات) المعبِّرة عن هذه التجارب تنتسب بمعنى من المعاني إلى الله تعالى، إنما التجربة النبوية الوحيانية هي وحدها التي يكون مضمونها هو كلام الله، وإن النبيّ عندما يضع مضمون هذه التجربة ويطرحها على الآخرين ينسبها إلى الله صراحةً، ويقول: «هذا كلام الله»، أو «هذا ما قاله لي جبرائيل عن الله». وإن هذه التجربة والكلمات المستندة إلى هذه التجربة هي وحدها التي تكون من الناحية الدينية مُلزمة في وقتٍ واحد لشخص النبيّ وللآخرين. وبطبيعة الحال إذا أصدر النبيّ استناداً إلى سائر تجاربه حكماً إلزامياً ومولوياً، ولم يكن إرشادياً، كانت تبعيّته واجبةً على «الآخرين»، ولم يكن واجباً عليه؛ وذلك لأن إطاعة النبيّ بحكم إطاعة الله، ولكنْ في الوقت نفسه هناك فرقٌ واضح بين حكم الله وحكم النبيّ([43]).
وعليه يمكن القول: إن للدين جزءين؛ وإن أحد هذين الجزءين «ثبوتاً» و«وجوداً» مستقلٌّ عن التجربة النبويّة. وإن هذا الجزء ينبثق عن إرادة الله تعالى، ويتمّ وضعه أمام الناس من طريق الوحي. وإن دور النبيّ في هذا المورد هو دور «الواسطة» و«المبلِّغ» و«المحلّ» و«القابل»، وليس دور «الفاعل» و«الشارع»([44]). وهنا يحصل النبيّ على رسالة الله من طريق الوحي، ويبلغها إلى الناس.
أما الجزء الثاني من الدين فهو «ثبوتاً» و«وجوداً» تابعٌ للتجربة النبوية، بمعنى أنه يتبلور في ظرف التجربة النبويّة، وفي هذا المورد يكون النبي «فاعلاً» و«شارعاً»، وليس «واسطة» و«مبلِّغاً».
وفي النوع الأول تكون للتجربة النبوية «طريقية»، وأما في النوع الثاني فتكون لها «موضوعية».
وفي الوقت نفسه فإن المسألة الهامّة هي أن كلا جُزْأَي الدين تابعٌ بمعنى من المعاني إلى شخصيّة النبيّ وتجربته، بمعنى أن تاريخية وبشرية الدين لا تشمل فقط ذلك الجزء من الدين الذي يمثّل تشريع النبيّ، بل إن تشريع الله تعالى يكون مشمولاً لهذا الحكم أيضاً. وعليه لكي ندخل عنصر البشرية والتاريخية في الدين لا ضرورة إلى إنكار الاستقلال الوجودي والثبوتي لجميع أجزاء الدين عن تجربة النبيّ.
طبقاً للتفسير الذي يقدِّمه الدكتور سروش عن دور النبيّ في التجربة الوحيانية يكون الوحي هو كلام النبيّ حقيقة، وليس كلام الله تعالى، وإن إسناده إلى الله تعالى يكون إسناداً مجازياً؛ إذ يرى الدكتور سروش عدم معقولية تكلُّم الإله غير المتشخِّص. ولكن حيث تكون شخصيّة النبيّ مؤيّدة من قبل الله تعالى يكون كلامه كلام الله، وحكمه حكم الله.
إن من بين الإشكالات التي تواجه هذا التفسير هو أنه لا يمكن من خلاله توضيح آلية تأييد النبيّ وتأييد حكمه وكلامه من قبل الله؛ فإن إثبات أن النبي مؤيّد من قبل الله تعالى، وأن حكمه هو حكم الله، وأن كلامه هو كلام الله، فرعُ افتراض وجود حكم وكلام لله وراء التجربة النبويّة، بمعنى أنه لا بُدَّ في الحدّ الأدنى من وجود حكمٍ تشريعي واحد يمكن نسبته إلى الله تعالى مباشرةً، وليس إلى النبيّ، يؤيِّد الله من خلاله كلام النبيّ، ويُلزم المؤمنين باتّباع تعاليمه؛ إذ لا يمكن لنا أن نقبل من النبيّ نفسه القول بأن كلامه هو كلام الله، وأن حكمه هو حكم الله. والسؤال المطروح في مثل هذه الحالة يقول: ما هو مكمن الفرق بين حكم الله وكلامه الصادر في مقام تأييد النبيّ عن سائر الأحكام والكلمات المنسوبة إلى الله؟ فإذا لم يكن بمقدور الله غير المتشخِّص أن يتكلَّم، أو أن يُصدر حكماً، فإنه لن يستطيع أن يؤيِّد النبيّ أيضاً. وبعبارةٍ أخرى: إذا كان الله الشارع حقيقةً هو النبيّ فما هو الدليل على تأييد النبيّ من قبل الله، ووجوب إطاعة تعاليمه؟([45]).
ومضافاً إلى ما تقدَّم من نوعَيْ التجربة الدينية، فإنّ النبيّ يباشر تجارب غير دينية أو ما فوق دينية أخرى أيضاً، وسوف نتحدَّث عنها في المستقبل بتفصيلٍ أكبر.
2ـ القيمة المعرفية للتجربة النبوية
إننا نختلف مع الدكتور سروش في هذا المورد من جهتين:
الجهة الأولى: القيمة المعرفية للتجربة الوحيانية.
الجهة الثانية: القيمة النظرية والعملية لتجربة المؤمنين الدينية.
إن إلزامية التجربة النبوية الوحيانية للنبي نفسه ولأتباعه تأتي من أن هذه التجربة تحظى بالاعتبار والقيمة من الناحية المعرفية، بمعنى أنها ذاتيّة، وذات صلة وانتساب مع الواقعية (أي إنها تعبّر عن الواقعية)، بمعنى أن كلاًّ من: النبيّ والآخرين الذين آمنوا بنبوّته يمتلكون أدلة مقنعة تجعلهم يوقنون بأن التجربة النبوية الوحيانية تعبّر عن واقعية وراء التجربة.
ولكنْ يبدو أن التقرير الذي يقدّمه الدكتور سروش عن نظرية بسط التجربة النبوية لا ينسجم مع هذه الخصوصية. إن التفسير الواقعي لتجربةٍ ما يقتضي أن نعتبر «منشأها» واقعية وراء التجربة، و«مضمونها» ظهور وتجلّي تلك الواقعية في ظرف التجربة، وإن التجربة الوحيانية ليست استثناءً من هذه القاعدة. ولكي نفهم ونفسّر هذا الادّعاء لا بُدَّ لنا قبل البحث في حقيقة التجربة النبوية الوحيانية أن نبحث في حقيقة التجربة بالمعنى العام للكلمة.
لقد تحدّثنا في العنوان رقم (3 / 3) من الفصل الثالث عن مباني نظرية العقلانية والعلاقة بين الذهن والعين. وقد عمدنا هناك إلى تقسيم التفسيرات البديلة الموجودة في هذا الشأن إلى ثلاث فئات. وهناك ما يُشبه هذا التقسيم يصحّ بشأن الآراء الموجودة في باب حقيقة التجربة والقيمة المعرفية للتجربة وربطها بالواقعية، حيث تندرج هذه الرؤية ضمن الفئات الثلاثة التالية أيضاً:
1ـ التفسيرات الواقعية والحتمية الجازمة.
2ـ التفسيرات المثالية أو التشكيكية.
3ـ التفسيرات الواقعية والانتقادية.
إن التفسيرات من النوع الأول تقول: إن مضمون التجربة يحكي عن كنه وحاقّ الواقعية، وإن الشخص المجرِّب في مقام التجربة مجرَّد متفرّج. في إطار هذه التفسيرات تتأثّر التجربة بـ «الموضوع» و«المتعلق» فقط، وتكون «ذاتية» بشكلٍ محض. طبقاً لهذا الرأي يكون للتجارب على الدوام قيمة معرفية واحدة، إن التجربة إما أن تكون مطابقة للواقع أو مخالفة له. وعليه فإن التجربة لا تقبل البسط، ولا تقبل التعميق والتكامل. إن التجارب الصادقة لها «منشأ» عيني، كما أن «مضمونها» يعبّر عن حاقّ وواقع وكنه الواقعية؛ إذ لا الواقعية لها ظاهر وباطن وكنه ووجه، ولا التجربة تتأثر بشخصيّة المجرِّب. ولذلك فإن التجربة لا تقبل التكامل، ولا تقبل التعميق.
أما تفسيرات النوع الثاني فتذهب إلى الاعتقاد بأن تجاربنا «ذاتية» بشكلٍ محض، ولا وجود لأيّ واقعية وراء التجربة، بل إن الواقعية تتكوّن في ظرف التجربة. طبقاً لهذا الرأي يكون الشخص المجرِّب «لاعباً» محضاً، وتكون التجربة تابعة بشكلٍ كامل لشخصيّته وسابقته العلمية والعملية والتاريخية والبشرية. ليست هناك تجربة معرفية، وليست هناك أيّ تجربة تنطوي على قيمةٍ معرفية. إن التجارب ليس لها منشأ عيني، ولا مضمونها مرتبط بالحقيقة والواقعية؛ إذ لا وجود في الأساس للواقعية والحقيقة وراء التجربة لكي تكون التجربة معبّرة عن تلك الواقعية والحقيقة، أو إذا كان لمثل هذه الواقعية من وجود فليس هناك دليلٌ مقنع مستقلّ عن التجربة ليدلّ على وجود تلك الواقعية.
وأما التفاسير من النوع الثالث فتقول: إن التجارب تنقسم إلى مجموعتين:
1ـ إن بعض التجارب «ذاتيّة» محضة.
2ـ إلاّ أن بعض التجارب الأخرى تكون «ذاتية»؛ وتكون «موضوعية» أيضاً، وليس لدينا تجربة ذاتية بحتة.
في التجارب الموضوعية يكون الشخص المجرِّب مجرّد لاعب، وأما في النوع الثاني من التجربة يكون الشخص المجرِّب في آنٍ واحد «لاعباً» و«متفرّجاً». وبطبيعة الحال فإن النسبة المئوية لموضوعية وذاتية الأفراد في هذا النوع من التجارب مختلفة، إلاّ أنه لا وجود للتجارب الموضوعية البحتة. إن هذا النوع من التجارب، مضافاً إلى تأثُّره بـ «الموضوع» و«المتعلق»، يتأثر أيضاً بـ «شخصيّة» المجرِّب (بمعنى عواطفه ومشاعره وأفكاره ومعلوماته ومجهولاته وتجاربه السابقة) والمحيط الطبيعي والسياسي والاقتصادي والثقافي أيضاً. إن هذه التجارب تتأثر من جهةٍ بالحوار والتعاطي من قبل الشخص المجرِّب مع محيطه، كما تتأثر بالارتباط الوجودي بينها وبين موضوع التجربة (متعلق التجربة) من جهةٍ أخرى. إن هذا الرأي يرى أن التجارب قابلة للبسط والتكامل والتدرّج، ويرى قيمة معرفية ثابتة ومتساوية لجميعها. ويعود هذا الاختلاف إلى أن بعض التجارب ليس لها «منشأ» عيني، رغم كونها ناظرةً للواقع. وفي الحقيقة فإن هذا النوع من التجارب لا يخبر عن واقعية وراءها، فهي مجرّد توهم وخيال محض. إلا أن التجارب ذات «المنشأ» العيني لا تعبّر عن «كنه» الحقيقة أيضاً، بمعنى أن «مضمون» هذه التجارب لا يمثل «حاقّ» الواقع، بل هي «ظهور» و«تجلّي» الحقيقة والواقعية في ظرف التجربة الشخصية للمجرِّب. إلاّ أن ظهور وتجلّي الحقيقة ليس متساوياً بالنسبة إلى الجميع، بل لها مراتب مختلفة باختلاف الأشخاص، وتتأثر بمختلف العوامل([46]).
كما يمكن طرح هذه الآراء في مورد التجربة الدينية والتجربة الوحيانية أيضاً، والتي تمثّل نوعاً خاصّاً من التجربة الدينية.
وفي الحقيقة فإن التفسير الأرثوذوكسي لماهية الوحي والتجربة النبويّة نوعُ تفسير حتميّ وجازم لهذه التجربة، والتي على طبقها يُعتبر النبي في مقام التجربة منفعلاً ومتفرِّجاً محضاً، وإن تجربته لا تتأثر بشخصيّته، ولا بمحيطه.
إن أنصار هذه الرؤية يدّعون أنه ما دام للدين منشأ إلهي فإنه سيكون ثابتاً وكاملاً وغير قابل للبسط والتغيير. وقد عمد الدكتور سروش في نقده لهذه الرؤية إلى التأكيد على أن الوحي تابع للنبيّ، دون العكس. إلاّ أن تعبيراته توهم هذا المعنى، وهو أن التجربة النبوية الوحيانية فاقدةٌ إلى الناحية «الذاتية»، وأنها لا تخبر عن حقيقة وواقعية وراءها، بل إن ذات الدين هو ظرف التجربة النبوية، أي إن كلماته أقرب إلى التفسير التشكيكي للتجربة النبوية منها إلى التفسير الواقعي الانتقادي([47]).
ولكنْ من وجهة نظري يمكن القول بتبعية الوحي لشخصية النبيّ، وتأثره بمحيطه، والقول ببسطه التدريجي والتاريخي، والقول في الوقت نفسه بالمنشأ العيني لهذه التجربة، بمعنى القول بأنه كلام الله ودلالته على الإرادة التشريعية لله أيضاً. إن تبعية الوحي للنبي لا تعني أن التجربة الدينية لا تخبر عن واقعية وراءها. وعليه من الأفضل القول بأن الوحي من زاوية تابعٌ للنبيّ، كما أن النبيّ تابعٌ للوحي من زاوية أخرى.
إن القيمة المعرفية للتجربة يتوقّف على حجم إراءتها للواقع، وانسجام مضمونها مع موضوعها. كما أن التداعيات العملية المترتبة على التجربة رهنٌ بالقيمة المعرفية لها. إن النبيّ أو سائر الذين يمارسون التجربة الدينية ليسوا مجرَّد لاعبين، وإنما هم كذلك متفرِّجون، ويستخبرون من طريق التجربة عن واقعية وحقيقة وراء تجربتهم، ويخبرون عنها. عندما يقول النبي: إني «أرى» أشياء و«أسمع» أموراً لا تمكن رؤيتها أو سماعها من المجاري المعرفية الطبيعية يكون التفسير الواقعي لتجربته تفسيراً يقول: إن الأمور التي يراها النبي ويسمعها خلال هذه التجربة لها واقعية، وليست من الوَهْم والخيال، وليست من صنع مخيّلته، بمعنى أنها ليست تابعة لشخصيته (الذاتية المحضة) مئة بالمئة. حيث يدّعي النبيّ أنه يسمع كلام الله يقتضي تفسيره الواقعي لتجربته القول بأن لتجربته منشأ عينيّاً (موضوعياً)، وأن ذلك المنشأ هو كلام الله، وأنه يسمع كلام الله حقيقة، وليس كلام شخص آخر، ولا كلامه الشخصي؛ فإن تجربة سماع كلام الله غير تجربة الشخص لسماع كلام نفسه. يمكن لمضمون ومتعلق التجربة الوحيانية أن يكون أمراً خالياً من الصورة، أو صورة عن الأمر الخالي من الصورة، ويمكن أن يكون حقيقة من حقائق عالم المعنى والملكوت، ويمكن أن يكون من أمر الله ونهيه. وفي المورد الأخير تكون التجربة النبوية «كاشفةً» عن أمر ونهي الله. إن مبنانا لقول مضمون هذه التجربة هي شهادة النبيّ، وليس إمضاء الله، إذ ليس لنا من طريق مستقلّ للكشف عن إمضاء الله.
وهنا تعتبر شخصيّة النبي ـ وخاصّة فضائله الأخلاقية، من قبيل: الصدق، والأمانة، وعدم مطالبته بالأجرة من الناس، وسائر القرائن الأخرى ـ في المجموع دليلاً مقنعاً للمؤمنين لصالح هذا المدّعى، فحيث ينسب النبي كلاماً إلى الله يكون صادقاً في ذلك، بمعنى أنه قد خاض تجربة سمع خلالها كلام الله. إن شخصيّة النبي والقرائن والشواهد المذكورة تدلّ أوّلاً وبالذات على «صدقه الأخلاقي» من الصدق والأمانة، إلاّ أن الاعتقاد بـ «الصدق المنطقي» لكلام النبيّ، بمعنى أن الكلام الذي ينقله النبيّ عن الله هو كلام الله «حقيقة»، رهنٌ بوجود الأدلة المقنعة([48])، حتّى وإن كانت تلك الأدلة تسمّى في الوسط الديني بـ «المعجزة»، إلاّ أنها لا تكون بالضرورة منفصلة ومستقلّة عن التجربة الوحيانية، بمعنى أن مضمون الكلام يثبت أحياناً من هو المتكلم، كما هو الحال بالنسبة إلى نبيّ الإسلام وإن القرآن نفسه ـ الذي هو معجزة النبي الأكرم ـ يثبت أنه كلام الله.
وبعبارةٍ أخرى: إذا تمّ الحصول على تجربة من الطرق المعتمدة والموثوقة سوف تشتمل على قيمة معرفية، وتكون مُلزمة لصاحب التجربة، كما تكون مُلزمة للآخرين أيضاً، فيحقّ لهم أو يجب عليهم حملها على الحقيقة، وأن يعملوا على طبقها، ما لم يعثروا على دليلٍ أقوى يثبت كذب تلك التجربة وعدم صوابيتها. وبطبيعة الحال فإن درجة اعتبار التجربة وحجم إلزاميتها يتأثّر بمختلف العوامل. إننا بوصفنا من العقلاء مُلزمون قبل القول بمفاد تجربةٍ ما والعمل على طبقها أن نحرز قيمة تلك التجربة واعتبارها العقلاني، ولذلك نحتاج إلى القرائن والشواهد التي تثبت في مسار تلك التجربة عدم وجود العوامل التي تحول دون معرفة الحقيقة، وتؤدّي إلى تحريف التجربة وارتكاب الخطأ فيها. وإن بعض هذه العوامل يعود إلى شخصيّة المجرِّب، وبعضها الآخر يعود إلى المحيط الخارجي.
إن الدعامة المعرفية للتجربة النبوية الوحيانية عبارةٌ عن عصمة النبيّ وشخصيّته، وإن هذه الخصوصية تضمن حجّية واعتبار وقيمة هذه التجربة للنبيّ وللآخرين. إن العصمة تعني أن النبيّ يتمتع بأعلى درجات الفضائل المعرفية والأخلاقية. إلا أن المسألة الهامّة هي أن غير الأنبياء الذين يتصفون بهذه الفضائل تُعَدّ تجاربهم موثوقة وقيِّمة، وإنها تكون في بعض الحالات مُلزمة لهم، ومُلزمة للآخرين الذين يفتقرون إلى تلك التجارب. وبطبيعة الحال فإن قيمة واعتبار التجربة تخضع للظروف والشرائط، ومن تلك الشرائط: انسجام مضمون تلك التجربة مع المعايير العقلانية والضوابط العقلانية، دون أن يكون هناك فرقٌ من هذه الناحية بين التجربة الدينية للنبي والتجربة الدينية للآخرين.
وعليه فإن الذي يقول: «إذا شعرت بالتكليف فإني لن أتورّع عن هتك أعراض الآخرين» لا يلتفت إلى أن تجربة الشعور بالتكليف إنما تكون ذات قيمة واعتبار إذا كان مضمونها منسجماً مع القِيَم والمعايير العقلانية والأخلاقية؛ فإن البشر لكي يتّبع تجربته أو تجارب الآخرين يحتاج إلى «المصادقة التأمُّلية»([49]) على مضمون تلك التجربة من قبل العقل، رغم أن المصادقة التأمُّلية لمضمون التجربة لا تتوقَّف على امتلاك دليلٍ مستقلّ لصالح ذلك المضمون. إن العقلانية هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن من خلالها التمييز بين التجارب الرحمانية وبين الوساوس الشيطانية. وعلى هذا الأساس فإن عدم انسجام مضمون تجربة ما مع القِيَم الأخلاقية يعتبر دليلاً مقنعاً على عدم اعتبار تلك التجربة من الزاوية المعرفية، كما أن الأمر كذلك بشأن الشعور بالتكليف تجاه هتك أعراض الآخرين، أو استخدام العنف والممارسات اللاأخلاقية ضدّهم.
إلاّ أن هذا الكلام لا يعني أن تجربة غير الأنبياء لا تكون معتبرةً حتّى إذا لم يقم دليلٌ على خلاف مضمونها، وأننا للقول بتجاربنا أو تجارب الآخرين والعمل على طبقها نحتاج على الدوام إلى دليلٍ مستقلّ لصالح مضمون تلك التجربة([50]). إن القبول العقلاني بالتجربة ـ من وجهة نظرنا ـ، سواءٌ كانت من قبل الأنبياء أو الآخرين، تتبع ضابطاً ومعياراً واحداً، وهو وجود القرائن والشواهد التي تثبت أن العوامل التي تحول دون معرفة الحقيقة، وتمنع من مطابقة مضمون التجربة مع الواقع في هذا المورد الخاصّ، إما مفقودة وغير موجودة؛ أو أن احتمال وجودها أضعف من أن يُعتنى به من قبل العقلاء. ليس بين التعبُّد والتعقُّل تقابلٌ ذاتي، وإنما التعبُّد يننقسم إلى نوعين: معقول؛ وغير معقول. وعلى هذا الأساس فإن القبول التعبّدي بكلام أو تجربة شخص إنما يكون جائزاً إذا تمّت فيه مراعاة الضوابط العقلانية الحاكمة على التعبّد (أخلاق التقليد). إن التعبّد بمعنى القبول غير المستدلّ ليس مجرّد ادّعاء، وإن اختلاف التقليد عن التحقيق يكمن في نوع الدليل، وليس في أصل الدليل.
إن الشخصيّة الأخلاقية والفضائل المعرفية لغير الأنبياء يمكن لها أيضاً أن تكون دليلاً جيّداً لاتّباع تجربتهم؛ لأن هذه الخصائص توفّر الدعامة العقلانية اللازمة لتلك التجربة، وترفع احتمال صدقها إلى المستوى اللازم. ومن هذه الناحية لا فرق بين النبيّ وغير النبيّ، وبين التجربة الدينية والتجربة غير الدينية. وإذا كان هناك من اختلاف فهو في درجة الظنّ والاطمئنان الحاصل من التجربة. وعلى هذا الأساس يمكن لتجربة العرفاء وعلماء الدين أن تكون مُلزمةً للآخرين في حدود خاصة، ومن خلال مراعاة الشروط والضوابط اللازمة، كما يمكن لتجربة كلّ متخصِّص أن تكون حجّةً على الآخرين الذين يفتقرون إلى ذلك التخصُّص. وبطبيعة الحال فإن هذا الأمر لا يتنافى مع القابلية على النقد، وإمكان تصحيح وتكميل تلك التجربة من قبل الآخرين أبداً.
من هنا تلعب شخصيّة النبي دوراً محورياً في الإيمان بتجربته. فعلى سبيل المثال: لو أن مدّعي النبوّة طالب بالأجر على تبليغ الرسالة حقَّ لمخاطَبيه أن يشكّوا في صدقه، وفي أحقّية ادّعائه، وفي كشف تجربته عن الحقيقة والواقع([51])؛ أو إذا كان مدّعي النبوّة يعاني من نقصٍ في العقل، أو كان متصفاً بالرذائل المعرفية والأخلاقية، كأن يكون جازماً في قراراته، ومستبدّاً ومتكبّراً وظالماً وحاسداً وقمعياً، أو يعاني من عدم الاعتدال الروحي، أو كان يشكو من الأمراض النفسية، أو أنه ترعرع ودرس في بيئةٍ تعليمية وتربوية فاسدة، ستكون هذه الأسباب وجيهةً للشكّ في القيمة المعرفية لتجربته([52]). وعلى هذا الأساس فإن دور شخصيّة النبيّ في بلورة الدين والتديّن ليس مجرّد دور ميتافيزيقي (أنطولوجي)، بل مضافاً إلى ذلك تلعب هذه الشخصيّة دوراً معرفياً هامّاً أيضاً. وتظهر أهمّية هذا الدور في موضعين: الأول: في تكوُّن التجربة النبويّة، والآخر: في إثبات القيمة المعرفية لهذه التجربة، والتفسير المعرفي للإيمان بمضمون هذه التجربة([53]).
وأما إذا لم تكن التجربة النبوية الوحيانية معبّرة عن الواقع، بمعنى أن لا يكون مضمونها تجلياً للواقعية في روح النبيّ، ولم يكن لتلك التجربة أيّ ارتباط أو نسبة بالحقيقة، أو إذا لم تكن هناك واقعية وحقيقة وراء هذه التجربة، وكان الأمر، كما يقول الدكتور سروش، أن التجربة هي الموجدة والفاعلة للواقعية التي يُخبر عنها المجرِّب، فإن هذه التجربة ـ أيّاً كانت ـ لن يكون لها قيمة معرفية، وتبعاً لذلك لن تكون لها قيمة عملية أو حقوقية. فلو شعر النبيّ بأن الله يكلِّمه، ولكن في الحقيقة كان هو مَنْ يتحدَّث إلى نفسه، بمعنى أنه لو كان المتكلم والسامع للوحي هو النبيّ نفسه، ففي مثل هذه الحالة لن يكون هناك في الأساس معنى لـ «النبوّة» و«إبلاغ» رسالة الله إلى الناس؛ إذ لن يكون على هذا الفرض واقعية وراء هذه التجربة، لتكون تلك التجربة معبِّرة عنها. فهل هناك في الأساس غير التجربة الدينية دليلاً مقنعاً آخر لصالح وجود الله وعالم ما وراء الطبيعة؟
وعلى هذا الأساس يمكن تلخيص الاختلاف في الرأي بيني وبين الدكتور سروش في هذا الشأن كما يلي: أولاً: إن التجربة الوحيانية موضوعية، بمعنى أنها تعبّر عن واقعية وراء التجربة. وثانياً: إن هذه التجربة تشمل بعض الأحكام الشرعية أيضاً. إن الدكتور سروش لا يُعمِّم التجربة النبوية إلى البُعْد الفقهي والحقوقي لشخصية النبيّ، ولا يقول بشيء اسمه التجربة النبوية الفقهية، أو إنه لا يراها قابلة للبسط من قبل الآخرين، في حين إننا نذهب إلى القول بوجود هذه التجربة، كما يمكن للآخرين بل يجب عليهم العمل على بسطها.
ولكنْ يمكن تقسيم التجربة النبوية غير الوحيانية إلى نوعين أيضاً:
فالنوع الأول من هذه التجربة يعني مجرّد المهارة والتخصُّص والخبرة في القيام بعملٍ معيّن، من قبيل: القيادة، والتشريع، والتقنين، وحلّ الخلافات، واتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية، وغير ذلك. إن هذا النوع من التجربة وإنْ كان بحاجة إلى علم أو علوم ذات صلة، ولكنّه عبارة عن شيء يفوق العلم والمعرفة، وإن قيمته وإلزاميته ليست تابعة لمعرفيته، بمعنى أن أهميته لا تعود إلى تعبيره عن واقعية وحقيقة وراءه، وإنما من أجل خبرة وتخصُّص صاحب التجربة في إنجاز عملٍ خاصّ، وإنْ كانت تلك الخبرة والكفاءة رَهْناً بمعرفة العلوم والمعارف ذات الصلة بذلك الاختصاص.
إن هذا النوع من التجربة النبوية غير الوحيانية إنما تكون مُلزمة للآخرين إذا كانت تدلّ على الأمر والنهي المولوي لذلك النبي؛ إذ إن إطاعة أمر النبيّ ونهيه في هذه الحالة سيكون واجباً بحكم الله. إلا أن أمر النبيّ ونهيه في طول أمر الله ونهيه، وليس في عرضه، بمعنى أن النبيّ لا يحقّ له أن يحكم على خلاف أمر الله ونهيه([54])، بمعنى أن النبيّ حُرٌّ في مقام اتخاذ القرار والتشريع والتقنين في إطار أمر الله ونهيه، إلا أن المسألة الهامة هي أن حكم النبيّ غير حكم الله، وينبثق عن عقله وتجربته البشرية، وليس عن الوحي، وإنْ كان حكمه منسجماً مع مضمون الوحي، ولا ينقض حكم الله.
النوع الثاني من التجربة النبوية غير الوحيانية من سنخ التجارب المعرفية، من قبيل: أن يكون النبي مشاهداً لحقائق عالم الغيب، أو أن يكون واجداً للمشاهدات الحسيّة والعقلانية والأخلاقية دون أن ينزل عليه جبرائيل. وليس من اللازم على مَنْ عاصر النبيّ أن يلتزم بمضمون هذه التجارب واتّباع التوصيات المنبثقة عن هذه التجارب، فضلاً عن المؤمنين الذين سيأتون في الفترات الزمنية اللاحقة؛ إذ لا ولاية للنبيّ في هذه الموارد. إن للنبيّ، مضافاً إلى الأمر والنهي المولوي، أمراً ونهياً إرشادياً أيضاً، وقد يتحدّث ـ مثل سائر الأشخاص ـ على أساس تجاربه الشخصية، وأن يقترح حلاًّ لرفع مشكلةٍ خاصّة. ليس هناك دليلٌ يوجب على المؤمنين ويلزمهم بالتعاطي مع جميع أنواع تجارب النبيّ على نسقٍ واحد.
إن الاتّباع الصادق والحقيقي للنبيّ يعني السعي إلى البسط المتوازن لجميع أنواع تجاربه. إن البسط المحدود لبعض أنواع التجربة النبوية لا يعني اتّباعه، وسوف يستوجب الانحطاط والأزمة في المجتمع الديني. يجب على المؤمنين أن يعملوا على بسط تجارب النبي الوحيانية، كما يجب عليهم بسط تجاربه غير الوحيانية، ويجب أن يأتي بسط كلا هاتين التجربتين في وقتٍ واحد؛ لأن بسط كلا هاتين التجربتين بالنسبة إلى النبيّ جاء بشكلٍ متزامن([55]). إن هذين النوعين من التجارب يتأثَّران ببعضهما، وإن ضعف وقوّة أحدهما تتدخَّل في ضعف وقوّة الآخر.
إن دعوة المؤمنين إلى بسط التجربة النبوية المعرفية إنما تكون معقولةً إذا كانت هذه التجربة معبّرة عن واقعية وعن حقيقة وراء التجربة، وإن الحقائق التي يمكن للمؤمنين أن يروها أو يسمعوها من خلال التجربة الدينية على قسمين:
القسم الأول: هو ما جرّبه النبي أيضاً، وأخبر الآخرين بوجوده. وفي مسار هذه التجربة يقوم المؤمنون بتحويل علم اليقين الحاصل عندهم إلى عين اليقين، وإن الشيء الذي سبق لهم أن آمنوا به، اعتماداً على إيمانهم وعلى صدق النبيّ، يدركونه من خلال التجربة والمشاهدة([56]).
وأما القسم الثاني من تلك الحقائق فهو عبارة عن أنواع البسط والتكامل التي تحدث بعد رحيل النبيّ في الدين في عالم التشريع وقد نزل بشكلٍ مجمل ضمن النزول الدفعي للقرآن على النبيّ، ولكنْ لا يوجد ذكرٌ له في النزول التدريجي والتفصيلي للقرآن، ولا تدلّ عليه ظواهر آيات القرآن أيضاً. وعليه فإن بسط التجربة النبوية في المورد الثاني يتوقَّف على القول بأن النزول التدريجي للقرآن لا يتوقَّف برحيل النبيّ، وإنه سوف يتواصل ويستمرّ إلى الأبد؛ فإن ختم النبوّة لا يعني سكوت الله وانقطاع الصلة بين السماء والأرض([57]). إن كل تفسير يقوم به المفسِّر لآيةٍ أو عدد من آيات القرآن إنما يُمثِّل في الحقيقة نزولاً للقرآن إلى مستوى عقل المفسِّر وإدراكه، ويمثِّل بسطاً وتجلّياً للقرآن في ذهنه ولشخصه. وعلى هذا الأساس فإن استمرار نزول القرآن بعد رحيل النبيّ ليس بالشيء المستغرب والخارق للعادة([58]).
يُضاف إلى ذلك أن النبيّ برحيله إنما يفارقنا جسداً، حيث تنقطع صلتنا الفيزيقية به، بَيْدَ أن القرآن إنما كان ينزل على قلبه، ولم ينزل على جسمه. وعليه أيّ إشكال في القول بأن روحه الشريفة حاضرةٌ إلى الأبد؟ وهي أبداً واسطة الفيض الرباني والمعنوي. وإن هذه الوساطة لا تنقطع بعد مغادرته العالم الأرضي والسفلي، بمعنى أن القرآن لا يزال ينزل عليه، ويمكن بتوسُّط روحه أن ينزل على عقل أمّته أيضاً، شريطة أن تجتهد هذه الأمّة في بسط التجربة النبوية، وأن توفِّر في ذاتها شروط الحصول على هذه التجربة([59]).
يمكن القول بأن أتباع الفقه التقليدي يذهبون إلى القول بهذا الرأي أيضاً؛ لأن الاجتهاد في الفقه التقليدي عبارةٌ عن تطبيق الأصول على الفروع المستحدثة التي تظهر بعد رحيل النبيّ، وإن معنى تطبيق الأصول على الفروع الجديدة ليس سوى «بسط» تلك الأصول. وعليه فإن من فرضيات الفقه التقليدي وجودَ حكم الفروع الجديدة مسبقاً، وبشكل مغلقٍ ومجمل ضمن الأصول العامة الواردة في القرآن والسنّة، إلاّ أن أنواع البسط اللاحق لهذه الأصول لم تَرِدْ في القرآن والسنّة. وعلى هذا الأساس ليس الاجتهاد سوى بسط الدين المجمل، أو بعبارةٍ أفضل: إن الاجتهاد ليس سوى الكشف عن أنواع البسط التي تحدث في الدين في عالم التشريع بعد رحيل النبيّ. يسعى الفقهاء من طريق تطبيق الأصول العامة على الفروع الجديدة إلى كشف واستنباط حكم الله بشأن هذه الفروع، بمعنى استنباط وكشف الحكم غير الموجود في القرآن والسنّة بشكل تفصيلي ومبسوط. إن تطبيق الأصول على الفروع وإنْ كان من ناحية لا يُضيف شيئاً إلى الدين، ولكنّه من ناحيةٍ أخرى يعني كشف تفصيلات وأنواع جديدة للبسط تحدث في الدين بعد رحيل النبيّ. إن الاجتهاد عبارة عن بسط الدين أو كشف البسط الحادث في الدين في عالم التشريع. إن الدين المبسوط بمعنىً من المعاني هو عين الدين المجمل، كما أنه غيرُه بمعنىً آخر.
وحيث إن هذا البسط في شكله التفصيلي لم يحدث من قبل شخص النبيّ، أو لم يتمّ الكشف عنه في عهده، يمكن القول: إن الرؤية التقليدية تفترض أيضاً أن الدين في عالم التشريع في حالة بسطٍ واتّساع مستمر، وإن هذا البسط والاتّساع لا يتوقف بخاتمية النبيّ أو رحيله.
وإذا كان هناك اختلافٌ فهو في المنهج والأسلوب المناسب الذي يمكن من خلاله اكتشاف القبض والبسط والتحوُّل التكاملي الذي يحصل في الدين في عالم التشريع بعد رحيل النبيّ.
يرى أتباع الرؤية التقليدية أن هذا الأمر ممكنٌ من طريق التطبيق الآلي للأصول على الفروع.
إلا أننا لا نرى هذا المقدار كافياً؛ لأن النبي نفسه لم يكن يعمل على هذه الشاكلة. إن تطبيق الأصول على الفروع يجب أن يقترن بالتجربة الفقهية، بمعنى أن التجربة الفقهية هي التي يمكن لها أن توضِّح لنا ما هي الجهة التي يتمّ فيها بسط الدين في عالم التشريع بعد رحيل النبيّ؟ وما هي التغييرات والإصلاحات الحاصلة فيه وستحصل في قابل الأيام أيضاً؟
وأما في ما يتعلق بالتجربة النبوية غير المعرفية، أي التجربة بمعنى التخصُّص والكفاءة في القيام بعملٍ معيّن، فيمكن لنا أن ندّعي أيضاً أن بسط هذا النوع من التجربة على يد المؤمنين مرضيٌّ ومقبول عند الله تعالى. وأساساً إن بسط التجربة النبوية المعرفية تضمن الكمال والسعادة للناس. وعليه فإن بسط العلوم التجريبية والإنسانية على أساس معطيات هذه العلوم، والسعي إلى حلّ المسائل والمعضلات البشرية، من خلال توظيف الكفاءات والاختصاصات الضرورية واللازمة، هو نوعٌ من أنواع بسط التجربة النبوية المرضيّة عند الله تعالى، بمعنى أن النبيّ لو كان اليوم حاضراً، وبُعث بالرسالة من جديدٍ، لأحسن الاستفادة من هذه العلوم والكفاءات والاختصاصات، ولما استبدل هذه العلوم بالوحي، بل لنظر إلى معطيات هذه العلوم بوصفها من الإلهامات الإلهية.
نضيف هنا أننا نرى أن التجارب الدينية لآحاد المتديِّنين يمكنها أيضاً أن تكون معتبرة ومُلزمة لهم وللآخرين أيضاً، شريطة أن يكون هناك دليلٌ مقنع يثبت أن احتمال الخطأ في تلك التجربة قليلٌ، وأن تلك التجربة «يمكن الاعتماد» عليها.
إلا أن هذا الدليل ليس دليلاً يؤيِّد مضمون تلك التجربة بشكلٍ مستقلّ؛ إذ لو كان هذا الدليل موجوداً فإن بسط التجربة النبوية من قِبَل المؤمنين سيفقد أهمّيته وضرورته. وعليه يمكن في بسط التجربة النبوية للذين يفتقرون إلى هذه التجربة أن يستندوا إلى تجربة الآخرين الذين يخوضون مثل هذه التجارب. ومن هذه الناحية لا فرق بين التجربة الدينية للنبيّ والتجربة الدينية للمؤمنين. وإذا كان هناك فرقٌ فهو في شروط اعتبار هذه التجارب، وفي «حجم» اعتبارها، و«درجة» إلزاميّتها، وليس في «أصل» اعتبارها وإلزاميّتها. إن اتّباع الشخص لتجربته الخاصة أو لتجارب الآخرين بشكلٍ أعمى مخالف للعقلانية، إلاّ أن اتّباع التجارب مع مراعاة القِيَم والمعايير ذات الصلة هو عين العقلانية، سواء أكانت تلك التجربة هي تجربة ذات الشخص أو تجربة شخصٍ آخر يتمتّع بالخبرة والمهارة والاختصاص في مجال تلك التجربة.
3ـ عينيّة القِيَم والمعايير الدينية
يقول الدكتور سروش في مقام تأكيده على الدور المحوري لشخصيّة النبيّ في بلورة وبسط التجربة النبويّة: حيث إن شخصيّة النبيّ مؤيَّدة فإن كلّ ما يقوله ويفعله يُعَدّ مقبولاً ومرضياً (فكلّ ما يفعله ذاك الجميل جميل).
إن هذا الادّعاء بشأن النبيّ صادق بشأن الله بشكلٍ أسبق وأكثر، إلاّ أنه ينطوي على إبهامٍ وغموض أدّى إلى سوء الفهم، ولذلك فهو بحاجةٍ إلى شرح وتوضيح.
يمكن القول بشأن إرادة الله: إن قولنا: «كل ما يفعله ذلك الجميل جميلٌ» لا يعني عدم وجود أيّ قِيَم بقطع النظر عن إرادة الله أو فعله، وأن إرادة الله اعتباطية وفاقدة للمعيار والضابطة العقلانية، بل يعني أن إرادة الله وفعله يتطابق أبداً مع القِيَم، وأن التنافي بينهما محالٌ([60]).
إلاّ أن هذا الادّعاء بشأن النبيّ يمكن أن يكون له معنيان:
وطبقاً للمعنى الأول بغضّ النظر عن إرادة النبيّ لا وجود لأيّ حكم شرعي، ويكون حكم الله هو حكم النبيّ. ويبدو أن هذا هو المعنى الذي يرمي إليه الدكتور سروش.
ولكننا لا نرى هذا الكلام صائباً، بمعنى أن حكم النبيّ غير حكم الله، رغم أن إطاعة النبيّ واجبة بحكم الله، وإنّ حكم الله مؤيَّد من قبل الله، كما تترتب آثار ونتائج موافقة ومخالفة حكم الله على موافقة ومخالفة حكم النبيّ أيضاً. إن حكم النبي «في حكم» حكم الله، وليس عينه. وعليه هناك فرقٌ واضح بين أن يصدر النبيّ ويشرِّع حكماً، وبين أن يقوم بتبليغ حكم الله للناس. ففي ما يتعلّق بأحكام النبيّ يمكن القول: إن هذه الأحكام تنبثق عن شخصيّة النبيّ وتجربته، بمعنى أنها لا وجود لها بقطع النظر عن إرادة وتجربة النبيّ. وفي هذا المورد تكون إرادة وتجربة النبيّ منشأً لوجود وتحقّق هذه الأحكام. وحيث إن شخصيّة النبي مؤيَّدة فكل ما يصدر عن ذاك الجميل جميلٌ؛ لأن هذه الشخصية تراعي في أحكامها القِيَم الأخلاقية، كما تراعي أحكام الله.
وأما في ما يتعلَّق بأحكام الله فلا يمكن قول الشيء ذاته؛ لأن هذه الأحكام تنبثق عن إرادة الله، رغم تأثير شخصيّة النبيّ وتجربته، وكذلك الحوار والتعاطي بينه وبين محيطه وبيئته، على هذه الأحكام أيضاً، إلاّ أن طريقة تأثير هذه الأمور على حكم الله تختلف عن طريقة تأثيرها على حكم النبيّ.
وعلى فرض المحال لو أصدر النبيّ حكماً على خلاف حكم الله لا يحقّ لنا أن نطيع حكمه. وهذا يثبت أن حكم الله من الناحية الوجودية والثبوتية غير حكم النبيّ.
وأما المعنى الثاني لعبارة: «كل ما يفعله ذاك الجميل جميلٌ» فهو أن ذلك الجميل إنما يقوم بأفعاله ضمن إطار القِيَم الأخلاقية والأحكام الإلهية، ولذلك تكون أقواله وأفعاله متطابقةً مع الموازين.
وعلى أيّ حال نحن نعتقد بأن القول بالملاحظات الصائبة والقيِّمة التي جاء بها الدكتور سروش في توضيح وتفسير الدور الذي تلعبه شخصيّة النبيّ وتجربته في بلورة الدين والشريعة ليست رَهْناً بإنكار التعبير عن الواقع وعينية التجربة النبوية، وإنكار تقدُّم الوجود الذاتي للدين على التجربة النبوية، بل على العكس، فإن البسط التاريخي والتدريجي لذات الدين في نفس الأمر مؤثِّر في بسط التجربة النبويّة للنبي، ومتقدِّم عليه. وبعبارةٍ أخرى: نحن نعتقد بأن للتجربة النبوية أنواعاً وأقساماً، وأن لهذه الأنواع والأقسام من بعض الجهات أحكاماً متساوية، ولها من بعض الجهات الأخرى أحكامٌ مختلفة.
ـ يتبع ـ
الهوامش
(*) أستاذٌ في جامعة المفيد، وأحد الباحثين البارزين في مجال الدين وفلسفة الأخلاق، ومن المساهمين في إطلاق عجلة علم الكلام الجديد وفلسفة الدين.
([1]) عنوانه في الأصل الفارسي: (دين در ترازوي أخلاق)، المعرِّب.
([2]) في ما يتعلق بحقيقة التجربة الدينية بالمعنى الأعمّ، وأنواعها، وكذلك اعتبارها وحجّيتها المعرفيّة، انظر: ملكيان، معنويت گوهر أديان (1) في كتاب سنت وسكولاريسم: 306 ـ 276، طهران، مؤسسة فرهنگي صراط.
([3]) سروش، بسط تجربه نبوي «بسط التجربة النبوية»، طهران، مؤسسه فرهنگي صراط.
([4]) سروش، «بسط تجربه نبوي»، في كتاب بسط تجربه نبوي: 26 ـ 28.
([9]) انظر: المصدر السابق: 6 ـ 8.
([11]) انظر: المصدر السابق: 10 ـ 11.
([13]) الفرقان: 32؛ الإسراء: 74 ـ 75.
([14]) سروش، «بسط تجربه نبوي»، في كتاب بسط تجربه نبوي: 11 ـ 12.
([15]) انظر: المصدر السابق: 13.
([19]) انظر: المصدر السابق: 17.
([26]) انظر: المصدر السابق: 21.
([27]) انظر: سروش، «بسط تجربه نبوي»، في كتاب بسط تجربه نبوي: 4 ـ 6؛ سروش، خاتميت پيامبر (1)، في كتاب بسط تجربه نبوي: 117.
([28]) انظر: سروش، خاتميت پيامبر (1)، في كتاب بسط تجربه نبوي: 132 ـ 135؛ سروش، خاتميت پيامبر (2)، في كتاب بسط تجربه نبوي: 139 ـ 141.
([29]) يوجد هنا إشكالٌ، وهو أن ختم النبوة لا يعني ختم التجربة «الدينية»، ولكنها تعني ختم التجربة «النبوية»، والتي هي بحَسَب الادّعاء نوعٌ خاص من التجربة الدينية. وعليه كيف يمكن الحديث عن بسط التجربة «النبوية»؟ مع الشكر الجزيل للأستاذ مصطفى ملكيان على طرح هذا السؤال.
وربما أمكن القول في الجواب: إن جوهر نظرية بسط التجربة النبوية في الحقيقة هو أن فلسفة بعثة الأنبياء لم تقُمْ على أن الذين يفتقرون إلى التجربة النبوية يلتزمون بمضمون تجربة الأنبياء، ويتبعونها دون أن تكون لهم مثل تلك التجربة. وإنما فلسفة البعثة تتلخَّص في تمكين أولئك الذين «يفتقرون» إلى تلك التجربة، ليكونوا «واجدين» لها. إن هذه التجربة تمثِّل روحاً في جسد التديُّن، وإن وجودها ضروريّ لاستمرار الحياة على النمط الإيماني. إن دور هذه التجربة في الحياة الدينية بمثابة دور «التجربة الأخلاقية» في الحياة الأخلاقية. فكما لا يمكن للفرد أن يحيا حياةً أخلاقية دون أن يتحلّى بالتجربة والمشاهدة الأخلاقية، ولا يحصل من خلال الاتّباع الأعمى للأصول الأخلاقية، كذلك فإن الحياة الدينية لا يتمّ الحصول عليها من خلال الاتّباع الأعمى للتجارب الدينية الحاصلة للآخرين، حتّى وإن كان هؤلاء الآخرون هم الأنبياء. وعليه عندما نتحدّث عن بسط التجربة النبوية نريد بذلك أن على أتباع النبيّ أن يسعوا بقدر استطاعتهم إلى الحصول على الدرجات الدنيا من هذه التجربة؛ إذ إن نمط الحياة الدينية ليس شيئاً آخر غير امتلاك التجربة الدينية، والحياة على طبق تلك التجربة. إن هدفنا هنا هو إثبات أن امتلاك أتباع النبيّ للتجربة الدينية شرط ضروري لفهم التجربية الدينية للنبيّ بشكلٍ صحيح، وأن تطبيق مقتضيات تلك التجربة على أوضاع وأحوال مغايرة للأوضاع والأحوال التي كان النبيّ يعيش في أجوائها.
([30]) انظر: سروش، «بسط تجربه نبوي»، في كتاب بسط تجربه نبوي: 6 ـ 8.
([32]) سروش، «بسط تجربه نبوي»، في كتاب بسط تجربه نبوي: 23.
([33]) انظر: سروش، «پيامبر در صحنه»، في كتاب بسط تجربه نبوي: 169.
([34]) انظر: المصدر السابق: 171.
([36]) سروش، «بسط تجربه نبوي»، في كتاب بسط تجربه نبوي: 28.
([37]) سروش، «پيامبران خطيبان بي مخاطب»، بسط تجربه نبوي: 193 ـ 194.
([38]) إن كلمات الدكتور سروش في أصناف التديّن، وكيفية اتّباع النبيّ في مختلف مستويات التديّن، تنطوي على صيغة توصيفيّة وتقريرية، وهي ناظرةٌ إلى التديُّن في مقام التحقُّق (كما هو كائنٌ). وأما ادعاء أن التديّن الواقعي في كلّ مستوى يتوقّف على بسط التجربة النبوية في ذلك المستوى فهو ادعاء معياري، وناظر إلى التديّن في مقام التعريف (كما ينبغي ويجب أن يكون). ولذلك فإن هذين الادّعاءين منسجمان، ويمكن الجمع بينهما.
([39]) قال الدكتور سروش: «إن النصوص التي ظهرت في الأديان ـ وخاصّة في الإسلام ـ على قسمين: القسم الأول: الصور الأسطورية التي تمّ إسقاطها على الحقيقة؛ والقسم الآخر: يرتبط بالحياة والمعاملات والتشريعات التي يتجلى فيها الله تعالى على هيئة الآمر والناهي، بل إن الآمر والناهي والشارع في الواقع هو النبيّ، وإن الله يمضي تشريعاته ويُصادق عليها». (سروش، «إيمان وأميد»، في كتاب أخلاق خدايان: 138). وقال أيضاً: «نشير بالقول إلى أن اعتبار كلام النبيّ هو عين كلام الباري خير طريق لحلّ المشاكل الكلامية لتكلُّم الباري». (سروش، «بسط تجربه نبوي»، في كتاب بسط تجربه نبوي: 14).
ولكننا نرى أن «اعتبار كلام النبيّ عين كلام الباري» شيءٌ، و«اعتبار كلام الباري عين كلام النبيّ» شيءٌ آخر. ولكنّه ادعاءٌ صحيح، بمعنى أن كلام النبيّ هو كلام الله. وإن هذا الادعاء ينسجم مع الفصل بين نوعين من كلام النبيّ.
وأما الثاني فلا يبدو من وجهة نظرنا صحيحاً؛ لأن كلام الله هو غير كلام النبيّ. عندما نقول: إن كلام النبي هو عين كلام الباري لا نريد بذلك أن كلامه في حكم كلام الباري، بل نريد به أن النبي فانٍ في ذات الله، وفي الحقيقة فإن الله نفسه هو الذي يتحدَّث إلى الناس من خلاله. وفي هذه الحالة يكون إسناد الكلام إلى النبيّ إسناداً مجازياً؛ إذ في حالة الفناء في الحقيقة لا تكون هناك نبوّة في البين. وأما عندما نقول: إن كلام الباري هو عين كلام النبيّ فيكون مرادنا أن إسناد الكلام إلى النبيّ حقيقي، وإلى الله مجازي. ومن الواضح أن الإسناد الحقيقي لكلام إلى النبيّ يتوقف على افتراض وجوده، وافتراض عدم فنائه في الله. وهذه المسألة تخلق مشكلةً مستقلّة أمام نظرية الدكتور سروش؛ لأنه يدعي قائلاً: حيث إن النبي فانٍ في الله يكون كلام الله هو كلام النبيّ. في حين إن الفناء في الله يقتضي أن يكون المتكلِّم الحقيقي هو الله، بمعنى أن يكون إسناد الكلام إلى الله حقيقي، وإلى النبيّ مجازي.
ويمكن العثور على الكثير من الشواهد الدينية لصالح هذه الرؤية. فهناك ـ على سبيل المثال ـ بعض الآيات التي تدلّ على أن نزول الوحي أو ملاك الوحي لم يكن بإرادة النبيّ تماماً. ففي ما يتعلق بقضية تغيير القبلة كان النبيّ يترقَّب الوحي لمدّةٍ طويلة. وقد أشار القرآن إلى هذه المسألة قائلاً: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ (البقرة: 144). وأحياناً يتوقّف الوحي مدّة طويلة، حتّى يتخذ الأعداء من ذلك ذريعةً للطعن بالنبيّ وغمزه، قائلين: إن الله قد نسيك، وإنه قد قلاك. انظر في هذا الشأن: (الميزان 13: 379؛ 20: 310). وجاء في القرآن: ﴿وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ﴾ (الكهف: 23 ـ 24). وممّا جاء في تفسير هذه الآيات أن اليهود أو قريش سألت النبيّ الأكرم‘ عن أصحاب الكهف وأسئلةً أخرى، فقال لهم النبيّ: سأجيبكم عن ذلك غداً، ولكنّه نسي أن يعلِّق ذلك على مشيئة الله. ولهذا السبب توقَّف الوحي لفترةٍ دامت أربعين يوماً، وعلى الرغم من أن النبيّ كان يطلب الوحي طيلة هذه المدّة، إلاّ أن جبرائيل لم ينـزل عليه، وبعد تمام الأربعين يوماً نزلت آيات سورة الكهف. انظر في هذا الشأن: (مَنْ لا يحضره الفقيه 3: 362؛ وسائل الشيعة 23: 253).
كما يمكن لنا أن نسوق الكثير من الشواهد الأخرى على هذا الادّعاء أيضاً، ومنها: قوله تعالى:
ـ ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾ (الضحى: 3).
ـ ﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ (القيامة: 16 ـ 19).
ـ ﴿وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾ (طه: 114).
ـ ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ﴾ (التحريم: 1).
ـ ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى﴾ (عبس: 1 ـ 10).
ـ ﴿عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ (التوبة: 43).
ـ ﴿لاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ (الأحزاب: 1، 48)؛ وانظر أيضاً: الفرقان: 52.
ـ ﴿وَلَوْلاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً﴾ (الإسراء: 74).
ـ ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ﴾ (هود: 12).
ـ ﴿لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلاَ أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ﴾ (الأحزاب: 52).
ـ ﴿فَلاَ تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ (هود: 17).
وبطبيعة الحال فإن هذه الشواهد لا تنفي تدريجية وتاريخية وانسيابية الوحي، وتبعيّته للتجربة الداخلية والخارجية للنبيّ. وإنما الشيء الوحيد الذي تثبته هو أن «فاعل» الوحي (الذي هو نوعٌ خاص من التجربة الدينية) هو الله، وليس النبيّ. ومن الجدير ذكره أن هذه الشواهد هي مجرّد مؤيّدات ظنّية على المدَّعى. وعليه إذا توفّرت شواهد أقوى لصالح النظرية المخالفة (أي نظرية الدكتور سروش) حينها سيمكن القول بكل بساطةٍ: إن مضمون هذه الآيات هو نوعٌ خاصّ من أساليب الكلام الأدبية التي يتحدث فيها شخص المتكلِّم إلى نفسه. وكما ذكرنا يبدو أن المعضلة التي جالت في ذهن الدكتور سروش، والتي على أساسها اعتبر فاعل الوحي هو النبيّ نفسه، هي المعضلة الكلامية لكلام الباري، وأن الله كيف يتكلَّم؟ وهل يمكن له في الأساس أن يتكلَّم حتّى نبني على ذلك بيان ماهية هذا الكلام؟ وما إذا كان تدريجياً وتاريخياً ومتناسباً مع التجربة الذهنية والعينية للنبيّ؟! ومن وجهة نظرنا فإن الذي يواجه هذه المشكلة هو إله الكلام والفلسفة فقط، وأما إله العرفان فيمكن له أن يتكلَّم، ويمكن لكلامه أن يكون تدريجياً وتاريخياً وانسيابياً.
([40]) إن الوحي كلام الله، وإن كلام الله هو المصداق الأتمّ للكلام الطيِّب والطاهر، ولذلك فإنه يكون مشمولاً لهذه الآية الشريفة: ﴿ألم تر كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (إبراهيم: 24 ـ 25).
([41]) يأتي هذا القيد من أن الله تعالى قد منع النبيّ في القرآن من بعض أفعاله، أو أنه عاتبه على بعض أفعاله. وقد ذكرنا في هامش سابق في هذا الفصل بعض الشواهد القرآنية لصالح هذا الادّعاء. مع الشكر الجزيل للأستاذ مصطفى ملكيان الذي نبَّهني من خلال طرحه تساؤلاً إلى ضرورة إضافة هذا القيد.
([42]) جاء في بعض رواياتنا: «ولا بعث الله نبياً، ولا رسولاً، حتّى يستكمل العقل»، الكافي 1: 60، كتاب العقل والجهل، ح11.
([43]) لأجل هذا الاختلاف نجد القرآن الكريم يؤكد في أكثر من مورد على اقتران وجوب إطاعة النبيّ بوجوب إطاعة الله، في حين لو كانت إطاعة النبيّ عين إطاعة الله لكان هذا التكرار لغواً لا فائدة منه؛ فقد ورد في القرآن مثلاً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ (النساء: 59). وقد تكرّر هذا المضمون خمس مرّات في القرآن. وقال أيضاً: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً﴾ (الأحزاب: 36)، وعلى هذه الشاكلة فإن التأكيد على تبعية جبرائيل للنبيّ ـ وهو ادعاء صائب ـ يجب أن لا يتنافى مع تبعية جبرائيل لله، وتبعاً لذلك تعليم جبرائيل للنبيّ. فعلى سبيل المثال: جاء في القرآن بشأن تعليم جبرائيل للنبيّ قوله: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ (النجم: 5).
([44]) إن فاعلية المجرِّب على نوعين: فاعلية بالمعنى الذي يُستنبط من كلمات الدكتور سروش. وهذا المعنى يستلزم نفي تدخّل غير المجرِّب في حصول وتحقق التجربة. عندما يقول الدكتور سروش: إن النبيّ فاعل للتجربة الوحيانية فإنه يريد بذلك أن الله لا دخل له في تحقُّق هذه التجربة. وهذا المعنى من الفاعلية هو موضوع بحثنا هنا.
وأما المعنى الثاني من الفاعلية فعبارةٌ عن تدخُّل المجرِّب في حصول التجربة، دون أن يستلزم هذا التدخُّل نفي تدخُّل الآخر في حصول التجربة. وقد عمدنا في دراسة أخرى إلى القول بفاعلية المجرِّب بالمعنى الثاني، وأما الفعلية التي ننفيها هنا فهي الفاعلية بالمعنى الأول.
ومن وجهة نظرنا إن النبي يلعب دوراً في حصول التجربة الوحيانية، وإن مضمون ومحتوى هذه التجربة يتأثَّر بشخصيّته ومحيطه. وفي الوقت نفسه فإن هذا التأثير لا يتنافى مع المنشأ العيني للتجربة الوحيانية، بمعنى أنه لا يتنافى مع فاعلية الله تعالى.
([45]) إن «التأييد» و«التكلم» و«الحكم» وكذلك «الخلق» و«التربية» كلّ ذلك يقتضي وجود إله «متشخّص» و«متأنسن». وعلى هذا الأساس فإن رؤية الدكتور سروش هنا لا تنسجم مع رأيه الآخر بشأن عدم تشخُّص الله تعالى. ولدراسة ونقد هذا الرأي انظر:
نراقي، «بازخواني نظرية سروش درباره تجربه نبوي وبسط آن»، في:
http://www.arashnaraghi.org/articles/revelation.pdf
نراقي، «أكبر كنجي وآموزه قرآن محمدي» في:
http://www.arashnaraghi.org/articles/Ganji.htm
مع الشكر الجزيل للأستاذ مصطفى ملكيان على تذكيره بهذا التنافي.
وكما أثبتنا في مقال «صفات الباري، كلام الباري» فإن «عدم تشخُّص» الله تعالى يعني أنه «وراء» كل تشخُّص، لا بمعنى أن تشخُّصه في عدم تشخُّصه. إن الله موجود ما فوق شخصي، وإن الموجود الذي يتمتع بهذه الخصوصية يمكن له أن يقبل العديد من التعيّنات والتشخّصات المؤنسنة وغير المؤنسنة، دون أن تؤدّي هذه التعيّنات والتشخّصات إلى المساس بكبريائه. وعليه فإن هذا الإشكال إنما يَرِدُ على رؤية الدكتور سروش، ولا يَرِدُ على رؤيتي.
من وجهة نظري إن رأي الدكتور سروش بشأن الإله غير المتشخِّص ليس صحيحاً؛ إذ إن الله طبقاً لهذه الرؤية إما أن يكون متشخّصاً أو غير متشخّص، وحيث إنه لا يرى الله متشخّصاً فإن تكلُّمه لن يكون معقولاً.
وأما طبقاً لرؤيتي، المستنبطة من رؤية عرفان ابن عربي ومفسِّريه، يكون مصطلح «غير المتشخِّص» مشتركاً لفظياً. فهو في أحد معانيه نقيض لمعنى «التشخُّص»، بمعنى أن الموجود إما متشخّص أو غير متشخّص. وأما هنا فإن غير التشخُّص في الحقيقة هو نوعٌ من التشخُّص الذي يعمل في الحقيقة على طرد التشخُّصات الأخرى. وأما «غير المتشخّص» بالمعنى الثاني للكلمة فيرادف «ما فوق التشخّص»، وبهذا المعنى لا يكون غير المتشخِّص نوعاً من التشخُّص الذي لا يمكن أن يجتمع مع سائر التشخّصات. إن الإله ما فوق الشخصي يمكنه أن يتكلَّم، وأن يعرض عليه التعيُّن والتشخُّص «متكلِّم»، بمعنى أنه يتجلى بهذه «الصورة».
([46]) إن نزول القرآن نزول معنوي، وليس نزولاً مكانياً، وإن معنى النـزول المعنوي للقرآن يعني أن القرآن الموجود بين أيدينا إنما هو ظهور وتجلٍّ لباطن وحقيقة القرآن. إن للقرآن، مثل سائر الحقائق، «وجوداً» و«ظهوراً»، وظاهراً وباطناً، وعلى حدّ تعبير بعض الروايات: إن له سبعة بطون (أو سبعين) بطناً (عوالي اللآلي 4: 107). ولو صحّت رواية السبعين لم يكن لهذا العدد موضوعيةٌ؛ لأن هذا العدد في اللغة العربية تعبيرٌ عن الكثرة. وبعبارةٍ أخرى: لا بُدَّ من القول: إن حقيقة القرآن لا يعلمها إلى الله. إن هذه الحقيقة تنـزل من عالم التشريع على قلب النبيّ الأكرم‘، بمعنى أنها تتجلى وتظهر من خلال تجربة النبيّ، ومن هناك تنـزل إلى مستوى فهم وإدراك عامّة الناس، وتتجلّى لعقولهم. وعليه فإن ظهور وتجلي القرآن لكلّ شخص إنما يكون على قدر وسعة عقلانيته. يقول القرآن الكريم: ﴿أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ (الرعد: 17).
([47]) يذعن الدكتور سروش بالمنشأ الإلهي للدين. ولكنه في التفسير الذي يقدِّمه لهذا الأمر يرى أن إلهية الدين تعود إلى رضا الله بقول النبيّ وفعله.
وأرى إن الافتراض الذي أدّى به إلى القول بهذا الرأي هو أنه لو أريد للدين أن يحتفظ بمنشئه الإلهي بمعناه التقليدي لن يمكن أن يكون بشرياً وتاريخياً. إلا أن هذا الافتراض يمكن أن يخضع للنقاش من وجهة نظرنا.
([48]) إن الانتقال من «الصدق الأخلاقي» إلى «الصدق المنطقي» في ما نحن فيه لا يعتبر مغالطةً؛ إذ إن الشيء الذي يتمّ القبول به على أساس الصدق الأخلاقي ليس هو مطابقة المفاد والمضمون مع الواقع (الصدق المنطقي)، بل هو صرف وجود وتحقُّق التجربة، وإنه عندما يقول النبيّ: ﴿يُوحَى إِلَيَّ﴾ يكون قد خاض هذه التجربة حقّاً. ولكن عندما يتمّ التصديق بوقوع التجربة فعندها لا يختلف الأمر من الناحية المعرفية بين أن تكون تلك التجربة قد تحقّقت بالنسبة لنا أو بالنسبة إلى شخصٍ آخر. فإذا كانت التجربة الخاصّة التي تتحقّق بالنسبة لنا معتبرةً من الناحية المعرفية لماذا لا تكون معتبرةً كذلك إذا تحقّقت بالنسبة إلى الآخر؟ فعلى سبيل المثال: إن التجارب البصرية تكون في ظل بعض الظروف الخاصة معتبرةً وقيِّمة من الناحية المعرفية بالنسبة إلى الرائي، وذات هذه التجربة تكون معتبرة وقيِّمة أيضاً من الناحية المعرفية بالنسبة إلى الآخرين، الذين يؤمنون ويوقنون بالصدق الأخلاقي لذلك الرائي والمشاهد.
([49]) reflective endorsement.
([50]) انظر في هذا الشأن: سروش، (خاتميت پيامبر (1)، في كتاب بسط تجربه نبوي: 134.
([51]) ليس المراد من الأجر هنا خصوص النقود والثروة، وإنما يشمل كل نوعٍ من أنواع الامتيازات المادية والدنيوية، ومنها: السلطة السياسية والحيثيّة والوجاهة الاجتماعية وما إلى ذلك من المزايا والإمكانات التي تميِّزه من الآخرين، أو إعفاؤهم من دفع الضرائب والقيام ببعض التكاليف وتحمّل بعض المشاقّ، وحصولهم على بعض الحقوق الخاصة. أرى أنه لو كان لدى شخصٍ دليلٌ مقنع يُثبت أن دافع مدّعي النبوّة من وراء طرح مثل هذا الادّعاء هو الحصول على أمور من هذا القبيل يحقّ له بل يجب عليه أن يُنكر ادّعاء ذلك المدَّعى؛ إذ مع وجود هذه الدوافع لا يمكن الاعتماد على شهادة ذلك المدّعي بشأن امتلاكه لتلك التجربة النبوية. مع الشكر الجزيل للأستاذ مصطفى ملكيان على طرحه تساؤلاً أدّى إلى كتابة هذه الملاحظة. وبطبيعة الحال فإن مجرّد حصول مدّعي النبوة على مكانة اجتماعية بعد إيمان الناس بدعوته لا يدلّ على أن دافعه من وراء ادّعاء النبوّة هو الحصول على هذه الأمور.
([52]) كان بعض هذه الخصائص يُذكر في علم الكلام التقليدي أيضاً، إلاّ أن هذا العلم كان يذكر أدلة أخرى لصالح القول بوجوب أن لا يتصف مدّعي النبوّة بها. فكان يقال مثلاً: إن بعث شخص بهذه الصفات بالنبوّة والرسالة مخالفٌ للحكمة والأخلاق، وإن الله لا يرتكب القبيح.
([53]) قد يُشكل بأن هذا الاستدلال يقوم على الخلط بين «الصدق المنطقي» و»الصدق الأخلاقي»؛ لأن الشخصية والطبيعة الأخلاقية السليمة للشخص بمجرّدها تضمن الصدق الأخلاقي، بمعنى أنها تثبت أن «كلامه» مطابقٌ لـ «إيمانه». إن هذه الشخصيّة والسجيّة لا تضمن الصدق المنطقي لكلامه، بمعنى أنه لا يثبت أن «كلامه» مطابقٌ لـ «الواقع»، والحال أن القيمة المعرفية تتوقَّف على الصدق المنطقي. أشكر الأستاذ مصطفى ملكيان على بيان هذا الإشكال.
ويمكن القول في الجواب: لم يحصل خلطٌ في هذا الاستدلال؛ لأن النتيجة التي نحصل عليها من الصدق الأخلاقي لمدّعي النبوّة هو أنه عندما يقول مدّعي النبوّة أنه خاض تجربةً يكون قد خاض تلك التجربة حقيقة (وبعبارةٍ أخرى: عندما يدّعي أنه يوحى إليه يجد في ظرف التجربة حقيقةً أنه يُوحى إليه) ليس إلاّ. وعليه فإن النتيجة القصوى التي نحصل عليها من الصدق الأخلاقي لمدّعي النبوّة عبارة عن: «حصول» و«تحقق» التجربة الوحيانية. ولكنْ عندما نؤمن بتحقُّق هذه التجربة في هذه الصورة لا يختلف الأمر بين أن تكون تلك التجربة قد حصلت لنا أو لغيرنا، بمعنى أن الاعتبار المعرفي لتجربته سترقى في الحدّ الأدنى إلى حدود الاعتبار المعرفي لتجربتنا. فعلى سبيل المثال: لو أنني فقدت القدرة على السمع، وقال لي صديق ـ أثق بصدقه الأخلاقي ـ: إنه سمع صوتاً، فعندها يحقّ لي أن أستنتج من صدقه الأخلاقي عندما يقول لي بأنه يسمع صوتاً أنه يخوض حقيقة تجربة سماع صوت ما، رغم أني لا أستطيع أن أستنتج من صدقه الأخلاقي الصدق المنطقي لكلامة بشكلٍ مباشر، وأن أقول على أساس ذلك: إن مضمون ومتعلق تجربته ـ أي ذلك الصوت ـ موضوعيّ، وإن له وجوداً في عالم الخارج. وأما لو كنت أنا سميعاً، وكنتُ أسمع ذلك الصوت بنفسي، حقَّ لي في بعض الظروف أن أستنتج الوجود الخارجي لذلك الصوت من خلال تجربتي الخاصة. ففي مثل هذه الحالة لماذا لا أستطيع أن أستنتج الوجود العيني لذلك الصوت من تجربة صديقي ـ بطبيعة الحال ـ بعد الاطمئنان بحصول وتحقُّق تلك التجربة؟ خلاصة الكلام: صحيح أن الصدق الأخلاقي إنما يُثبت مجرّد تحقُّق التجربة في نفس المجرِّب، إلاّ أن تعبير التجربة عن الواقع تحصل من طريق انضمام مقدّمة جديدة لادّعاء المجرِّب. وإن تلك المقدّمة تقول: لا فرق بين تجربته وتجربتي، وإذا كانت تجربتي معبِّرةً عن الواقع، وقابلةً للاعتماد في ظروفٍ معيَّنة، فإن تجربته أيضاً في ظلّ تلك الظروف يمكنها أن تحكي عن الواقع، ويمكن الاعتماد عليها. وعليه فإن تعبير تجربة مدّعي النبوّة عن الواقع لا يحصل من خلال صدقه الأخلاقي. فالذي يحصل من صدقه الأخلاقي هو مجرّد «تحقق» و«وقوع» تلك التجربة، وليس تعبيرها عن «الواقع». ولكنْ بعد أن نثبت وجود وتحقُّق التجربة بالاستناد إلى الصدق الأخلاقي يحقّ لنا الادّعاء أنه لا فرق من الناحية المنطقية والمعرفية بين أن يكون الشخص الواجد لتلك التجربة هو أنا أو شخص آخر، من حيث التأثير في التعبير والحكاية عن الواقع، وفي الصدق والكذب المنطقي لمضمون تلك التجربة، بمعنى أنه يحقّ لنا من الآن أن نفترض أننا نحن الذين خضنا تلك التجربة.
في تصوري إن هذا البيان مبنىً لـ «المعرفة من طريق الشهادة» (knowledge by testimony). ولذلك لو كان الإشكال المذكور وارداً ستكون المعرفة من طريق الشهادة مستحيلةً بالمطلق، بمعنى أن هذا الإشكال لو كان وارداً ستكون نتيجته التشكيك في باب المعرفة من طريق الشهادة. إلا أن هذه النتيجة غير معقولة؛ لأن أكثر معلوماتنا تقوم على شهادات الآخرين.
([54]) ورد في الحديث: «لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق». بحار الأنوار 71: 226، 356.
([55]) قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ (فصِّلت: 6).
([56]) تحدّث القرآن الكريم في واحدةٍ من قصصه عن النبيّ إبراهيم×، إذ سأل الله أن يُريه كيفية إحياء الموتى، فقال له الله: (أَوَلم تؤمن بهذه الحقيقة)؟ فقال إبراهيم: (بلى، ولكنْ أريد أن يطمئن قلبي). انظر: البقرة: 260.
([57]) يمكن لمَنْ يصعب عليه استيعاب هذا الادّعاء أن يلتفت إلى هذه المسألة، وهي لو أنه قدّر للنبيّ أن يعيش فترةً أطول أو أقصر من تلك التي عاشها لكان حجم ومحتوى الآيات المتشابهة في القرآن بشكلٍ آخر، وإنْ كانت محكماته ستبقى على حالها.
([58]) قد نتساءل: «ما هو الداعي إلى الإصرار على تسمية تفسير القرآن بسطاً للتجربة النبوية واستمراراً لنـزول القرآن؟».
ويمكن القول في الجواب عن هذا السؤال: إن هذه التسمية ليست مجرّد تسمية، وإنما تشتمل على فائدة هامّة، وهي عبارة عن تصحيح أسلوب ومنهج تفسير القرآن. لو كان «تفسير» القرآن هو «نزول» القرآن ففي هذه الحالة لا يمكن الاكتفاء بالأدب العربي في مقام تفسير القرآن؛ إذ على هذا الافتراض يجب لفهم القرآن بشكلٍ صحيح الاقتداء بالنبي الأكرم بوصفه قدوةً وأسوة، ولكي نستنسخ شخصيّة النبي الأكرم لا بُدَّ من السعي إلى التشبُّه به على المستوى الروحي والمعنوي. وهذا هو الذي يُشير إليه القرآن بقوله: ﴿لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ﴾ (الواقعة: 79).
([59]) يرى بعض الصوفيين والعرفاء من المسلمين أن الاعتبار والقيمة المعرفية للتجارب العرفانية يتوقَّف على انسجام مفاد ومضمون هذه التجارب مع القرآن والسنّة.
ونحن نرى أن هذا صحيح، ولكنّه يحتاج إلى تفسيرٍ وتوضيح. فإذا كان المراد من الانسجام هنا هو الانسجام في «الحدّ الأدنى» أمكن القبول بهذا الكلام. إن الانسجام في الحدّ الأدنى يشتمل على خصوصيتين: الأولى: إن هذا الانسجام يعني «عدم المنافاة»؛ والثانية: إن هذا الانسجام يعني التناغم مع «المحكمات». وأما إذا كان المراد من الانسجام هو الانسجام في الحدّ الأقصى فإن هذه التجارب ستفقد قيمتها المعرفية بالمرّة. إن قيمة واعتبار هذه التجارب ليس رَهْناً بتأييد وتصديق مفادها ومضمونها في القرآن والسنّة. هذا، وإن عدم انسجام مفاد ومضمون التجارب العرفانيّة مع المتشابهات وظواهر الكتاب والسنّة لا يمكن أن يُعتبر دليلاً على بطلان هذه التجارب؛ فإن التجارب الدينية والعرفانية البديعة والخالصة ما دامت منسجمةً مع محكمات القرآن تُعَدّ مُعتبرةً وذات قيمة، فإن تجربة وحدة الوجود ـ على سبيل المثال ـ منسجمةٌ مع محكمات القرآن، ولكنّها غير منسجمة مع ظواهره؛ لدلالة ظاهر القرآن على كثرة الوجود.
([60]) يقول القرآن في وصف الله تعالى: ﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ (الأنبياء: 23). وكما تقدّم أن ذكرنا فإن هذه الآية لا تقول: إن فعل الله فاقدٌ للضابطة والمعيار. بل تقول: إن فعله مطابق للضوابط والمعايير الأخلاقية دائماً. وبعبارةٍ أدقّ: إن هذه الآية تقول: «إن الله لا يُسأل عن أفعاله»، إلاّ أنها لا تقول: «لماذا لا يُسأل عمّا يفعل»، بمعنى أنها «مُجملةٌ» من هذه الناحية. إن للسؤال القائل: لماذا لا يُسأل الله عن أفعاله؟ جوابين: الأول: إن أفعال الله فوق السؤال والنقد؛ لأنها اعتباطية، ولا تستند إلى الضوابط والمعايير؛ والآخر: إن أفعال الله تقوم دائماً على المنطق والضوابط. ولا يمكن ترجيح أحد هذين الاحتمالين على الآخر من خلال الاستناد إلى ذات هذه الآية، بل إننا نحتاج في ذلك إلى القرائن والشواهد الخارجية.
لقد كان الأشاعرة طبقاً لفهمهم الخاص للأصل التوحيد يرجِّحون الاحتمال الأول؛ فإنهم يرَوْن أن استقلال الأخلاق عن الدين، واعتبار ما فوق دينية الأخلاق نوعاً من الشرك، أو مُستلزماً لنوعٍ من الشرك.
أما الاحتمال الثاني فينسجم مع فهم المعتزلة لأصل التوحيد والعدل. فإذا كان العدل من أوصاف الله، وإذا كان المعنى المحصَّل والمعقول لاتصاف الله بصفة العدل هو رهنٌ بأن يكون معنى ومعيار العدل مستقلاًّ عن وجود وإرادة الله، ففي هذه الحالة يجب القول: إن أفعال الله تكون على القاعدة مشمولةً للأصول والقِيَم الأخلاقية، وتكون عُرضةً للنقد والتقييم الأخلاقي.
وعليه لا بُدَّ لنا من ترجيح الاحتمال الثاني.
ويبدو أن ترجيح الاحتمال الثاني في الجواب عن السؤال المذكور لا يستلزم العدول عن المعنى الظاهري لهذه الآية؛ إذ كما تقدّم فإن هذه الآية لا تجيب عن هذا السؤال، فهي مجملةٌ من هذه الناحية. مع الشكر الجزيل للأستاذ مصطفى ملكيان؛ إذ أشار عليَّ بضرورة إضافة هذا التوضيح.