أحدث المقالات

أ. نبيل علي صالح(*)

كتابٌ جديدٌ ومهمّ صدر حديثاً للباحث العراقي النَّشِط د. علي المؤمن، وأخذ العنوان «الاجتماع الديني الشيعي ـ ثوابت التأسيس ومتغيِّرات الواقع».

يثير الكتاب قضيّةً محوريّة متشعّبة وممتدّة في الفكر والتاريخ الإسلامي، وفي عُمْق حركيّة الاجتماع الشيعي بالذات… وهي قضيّةٌ لم تتمّ معالجتها بتوسُّعٍ تحليليّ واستطرادٍ وصفي تاريخيّ أكاديمي، مع أهمِّيتها الفكرية والمعرفية الاجتماعية والتاريخية، ورغم تناولها الجزئي المحدود من قِبَل بعض الكتّاب والفقهاء والمجدِّدين ضمن مؤلَّفاتهم الفقهية أو الاجتماعية أو السياسية حول المذهب الإسلامي الشيعي عموماً.

صدر هذا الكتاب في العام الماضي (2021م)، عن مركز دراسات المشرق العربي (لبنان ـ بيروت)، وهو يقع في 331 صفحة، إضافةً إلى ملحقين للمراجع والفهرسة.

استعان الباحث؛ لإنجاز كتابه، بأكثر من 200 كتاب ومرجع فكري وسياسي وفلسفي واجتماعي، كما عاد إلى أكثر من 20 مقالةٍ وبحثٍ ودراسةٍ تخصّ الموضوع السابق أو تفرُّعاته المتعددة.

يتألّف الكتاب من تسعة فصولٍ، نستعرضها سريعاً كما يلي:

الفصل الأوّل: منهج دراسة الاجتماع الديني الشيعي.

الفصل الثاني: المسار التاريخي للنظام الاجتماعي الديني الشيعي.

الفصل الثالث: البنية العقدية والفقهية للاجتماع الديني الشيعي.

الفصل الرابع: المرجعية الدينية ـ قيادة النظام الاجتماعي الديني الشيعي.

الفصل الخامس: الحوزة العلمية ـ المؤسّسة الدينية للنظام.

الفصل السادس: إعادة مأسسة منظومة المرجعية الشيعية.

الفصل السابع: عناصر قوّة الاجتماع الديني الشيعي.

الفصل الثامن: إشكاليات الهويّة الشيعية.

الفصل التاسع: المرجعية الشيعية بعد السيستاني والخامنئي.

النتائجُ والخاتمة.

 

بيانٌ مختصر للمحتوى

وسنحاول في هذه العُجالة الفكرية تسليطَ الضوء على محتويات هذا الكتاب وطبيعة مضامينه الأساسية؛ لنتعرَّف على طروحاته وأفكاره، وماهية الجدّة الممكن ملامستها فكرياً وعملياً في معالجته لقضيّةٍ محوريّة انشغل بها عموم التفكير والسلوك الاجتماعي الديني عند الشيعة بالذات (وعند غيرهم بطبيعة الحال؛ حيث التفكير بالآخر قد يتفوَّق أحياناً على التفكير بالذات)، دونما تأسيسٍ منهجي تنظيمي عملي لها، بل بقيَتْ متناثرةً ومبعثرةً نظرياً بين طيّات النصوص ومظانّ الكتب والمفاهيم والفتاوى الدينية، حتّى اندلاع الثورة الإسلامية في إيران، التي تحوّل بموجبها الاجتماع الديني الشيعي (السياسي) ـ عبر إحدى قنواته الاجتهادية، وهي: ولاية الفقيه ـ إلى واقعٍ دستوري قانوني دولتي ـ إذا صحّ التعبير ـ، ارتدى جسمَ الدولة ـ في مبانيها وهياكلها المؤسّسية الحديثة ـ لأوّل مرّةٍ في التاريخ الإسلامي الحديث.

نؤكِّد بدايةً على أنّ مصطلح «الاجتماع الديني الشيعي»، كخلفيّةٍ نظريّة تحاول تأطيرَ الشيعة في بُعْدٍ اجتماعي وسياسي ديني واحد متمايز عن اجتماع ديني آخر لم يتمّ تداوله ـ كما قلنا ـ في الفضاء الثقافي والديني الإسلامي إلاّ خلال الفترات الزمنية اللاحقة لظهور المعالم التأسيسية الأولى لمجمل المنظومة التفكيرية الشيعية، خاصّة بعد انتصار ثورة إيران الإسلامية عام 1979م، حيث أعيد التركيز مجدّداً على كامل تلك المنظومة، بما فيها من رؤى واعتقادات الشيعة الإمامية في العالم كلّه، وهم كانوا ـ بطبيعة الحال ـ معروفين كجماعةٍ دينية أو كتيّارٍ ومذهبٍ إسلامي له أصوله العَقْدية والطقوسية وانتماؤه الولائيّ لخطّ (وفكر ونهج) أهل البيت^، ولكن وصولهم إلى الحكم والسلطة السياسية مجدّداً في العصر الحديث أعاد التركيز مجدّداً على أهمّ مفردة من مفردات هذا الاجتماع الديني الشيعي، وهي مفردة «ولاية الفقيه»، التي استندَتْ إليها الثورة ـ كما قلنا ـ لبناء هيكل الدولة بطابعها الإسلامي الجديد، وفقاً للمنظور والبِنْية الفكرية الدينية الشيعية، بكلّ أبعادها السياسية والإدارية والحقوقية.

وعندما نتحدَّث هنا عن «اجتماعٍ ديني شيعي» لا بُدَّ أن تكون السياسة فيه حاضرةً بقوّةٍ على مستوى بيان الغاية منها، ومعرفة العلاقة بين المراجع والناس، والمراجع والدولة، وعلاقات الناس بمنظومتها الاعتقادية الدينية في سياق تفاعلها مع مؤسّسات الدولة، ومفردات بناء الدولة، في بِنْيتها وطبيعة مكوناتها الجماعاتية الأهلية والمدنية المتنوِّعة والمتعدّدة. يعني هي قضيةٌ تتشعَّب منها قضايا كثيرة في مستوياتٍ متعدّدة ومتشابكة، وقد تكون متضاربةً.

ففي الفصل الأوّل من هذا الكتاب، والذي حمل العنوان التالي: «منهج دراسة الاجتماع الديني الشيعي»، يقول الكاتب: إنه اعتمد على المنهج الوصفي التحليلي والدراسة التاريخية، حيث يستحضر المشهد ويفكّك محتوياته، ومن ثمّ يحاول إعادة مأسسته وبناء عمرانه المعرفي بصورةٍ زاهية جديدة، من باب الإصلاح والتجديد والتأصيل للواقع.

يعتقد الكاتب أنه تمكّن من القبض على مفاصل النظام الاجتماعي الديني الشيعي في كلّ ما يتعلّق بهيكليّته ومكوّناته وأجزائه و أنساقه الداخلية، وطبيعة علاقاته مع الآخر المختلف مذهبياً ودينياً وفكرياً وسياسياً.

يبدأ الكاتب بتعريف «النظام الديني الاجتماعي الشيعي» من حيث إنه ظاهرةٌ مركّبة، اجتماعية تاريخية إنسانية، تستند إلى قواعد تأسيسيّة نظريّة، عَقْدية وفقهية وتاريخية، وتقف على بنى اجتماعية دينية، واجتماعية سياسية، واجتماعية ثقافية، واجتماعية معرفية.

ويعتبر الكاتب أنّ علمَ الاجتماع الديني هو منهجٌ معرفي نشأ في الغرب كردّ فعلٍ على احتكار الكنيسة للدراسات المعنية بالأديان وتطوُّرها التاريخي وفلسفتها وعقائدها. ولكنه منهجٌ اصطبغ بالعلمانية، وبرزَتْ فيه منهجياتها السوسيولوجية والأنثروبولوجية والأثنولوجية الدينية، التي قدَّمَتْ تفسيراتٍ وشروحاتٍ علمانيةً لنشوء الأديان، وتطوُّرها، ولتعريف المقدَّس والمدنَّس.

وبيَّن الكاتب أنّ علم الاجتماع الديني التقليدي يمثِّل الفهم السوسيولوجي العلماني للدين. وهو أمرٌ مختلف عن علم الاجتماع الديني الجديد ـ الذي ينظّر له ـ، القائم على دراسة الدين من داخل نصوصه ومعطياته ومفاهيمه، من خلال علم العقيدة وعلم الفقه وعلوم النصّ المقدَّس، وتاريخ الأنبياء والأديان.

ويعتبر الكاتب أن علمَ الاجتماع الديني المعاصر قاصرٌ جدّاً عن دراسة النظام الديني الاجتماعي الشيعي أو الظاهرة الدينية الاجتماعية، حيث إنها ظاهرةٌ اجتماعية سياسية ثقافية مركبة، تضمُّ تحت جناحَيْها كلّ المنتمين إلى المذهب الشيعي الاثني عشري حَصْراً، سواء المنتمي بالوراثة أو المنتمي بالاكتساب العميق، وسواء كان هؤلاء المنتمون متدينين ملتزمين بالجوانب الإيمانية والشعائرية أو غير متدينين.

ويؤطِّر الكاتب الشخصيّةَ الشيعية المنتمية لفضاء المذهب الشيعي بعدّة عناصر، تشكِّل بمجموعها قوام هذه الشخصية المتكاملة في إيمانها العَقْدي النظري، وهذه العناصر هي: العنصر العَقْدي؛ العنصر الفقهي؛ العنصر السلوكي؛ العنصر التاريخي؛ العنصر الاجتماعي. ويُضاف إلى تلك العناصر ميزةٌ أساسية، بل حيويّة جوهرية، لهذا الاجتماع الديني الشيعي، وهي ميزة: نيابة سلطة النظام الاجتماعي الشيعي عن القائد الحقيقي الغائب، وهو الإمام محمد بن الحسن المهديّ المنتظر×..

ويبرز الكاتب ـ في هذا الفصل ـ ستّ ظواهر (مفردات) متفرّعة (أساسية) عن النظام الاجتماعي الشيعي، وهي:

1ـ السلطة السياسية.

2ـ المؤسّسة الدينية العلمية.

3ـ الشعائرية الوجدانية والطقسية.

4ـ المال الشرعي.

5ـ المؤسّسات الداعمة.

6ـ القاعدة الاجتماعية.

ويعيد المؤلِّف التأكيد على أن مصطلح النظام الاجتماعي الديني السياسي لا يعني فقط مفهوم المرجعية الدينية الشيعية، بل هو نظامٌ اجتماعي ديني مكوّنٌ من المذهب الشيعي والطائفة الشيعية، حيث تقف المرجعية الشيعية على رأس الاجتماع الديني الشيعي؛ لتكون مرجعيّةَ قيادةٍ ورعايةٍ لهذا النظام.

ويؤكِّد الكاتب أنه توصَّل إلى صياغة هذ المصطلح (النظام الاجتماعي الديني الشيعي) من خلال بحثه عن مصطلحٍ جامع يستوعب كلّ جوانب الكيانية الشيعية في بُعْدَيْها النظري والعملي، زَعْماً منه بأن هذا المصطلح يقارب حقيقة هذه الكيانية الاجتماعية الدينية الثقافية السياسية، التي تعبِّر عن واقع الشيعة الإمامية الاثني عشريّة، ومسارهم التاريخي والجغرافي، بوصفهم أكبر جماعةٍ بشريّةٍ منظّمة في العالم، يصل عددها إلى 400 مليون نسمة تقريباً.

ويعتبر الكاتب ـ وفقاً لمنهجه الوصفي التحليلي ـ أن الشيعة (كمجتمع) يتميَّزون عن غيرهم بتحوُّلهم إلى جماعةٍ مستقلة ـ غالباً ـ عن الدولة في مساراتها الدينية والاجتماعية والسياسية والمالية والحِسْبية.

وأما عن هيكليّة هذا النظام الاجتماعي الديني الشيعي فيعتبر المؤلِّف أنه يضمّ عشرة أجزاء، تقف على رأسها ـ وفي مقدّمتها ـ المرجعيّة الدينية العليا (ولاية الفقيه).

وفي الفصل الثاني من هذا الكتاب، والذي حمل عنوان: «المسار التاريخي للنظام الاجتماعي الديني الشيعي»، يستعرض الكاتب بدايات تأسيس النظام الديني الشيعي الذي وُضع على يد الإمام عليّ بن أبي طالب×، بعد وفاة الرسول|، وإنجاز واقعة السقيفة في المدينة المنورة عام 11هـ، الموافق 623م، بما يعني أن الحَدَث التأسيسي لهذا النظام الديني الشيعي هو مخرجات واقعة السقيفة. وهو حَدَثٌ مركَّب ينطوي على بُعْدٍ عَقْدي أساس، عنوانه «الحقّ الشرعي»، المستند إلى وصيّة الرسول| للإمام عليّ× في خلافته، أيّ إنه حقٌّ ديني، وليس حقّاً سياسياً. وهذا الوَعْي الديني (والسياسي) بات ركيزةَ الأطروحة الفكرية والسياسية لمدرسة وخطّ أهل البيت× في امتداد الأيام والعصور، وهي أطروحةٌ تعطي للحاكم الشرعي بُعْداً تأصيلياً دينياً، وليس سياسيّاً فحَسْب.

ويتابع الكاتب استعراضه التاريخي لمآلات تكريس مدرسة الخلافة في العصور اللاحقة، وخاصّةً بعد استئثار آل أميّة بالحكم (دولةً ومقدّرات وثروات)، وتحويلهم النظام إلى مُلْكٍ عضوض، ومركّب ثيوقراطي (ديني علماني سلطاني)، متشبِّه بالنظام «القسطنطيني الروماني المسيحي»، دون نسيان وضع لافتات وشعارات ومسوح دينية ظاهرية شعاراتية؛ لكي تضفي على سلطتها شرعية خلافة رسول الله|. وهذا ما نجحَتْ فيه للأسف هذه السلطة، التي بنَتْ لنفسها هويّةً معيارية تاريخية ارتزاقية خاصّة، قبضَتْ بموجبها على رأسمال الأمّة المادّي لعدّة عقودٍ، ووحَّدَتْها (الأمة) ضمن اجتماع عقدي سياسي جديد في مواجهة نظامٍ اجتماعي دينيّ آخر للشيعة، وهو نظامٌ بقي مستقلاًّ عن آلة الحكم والرئاسة والدولة، التي كانت في نظره غير شرعيّةٍ.

وهكذا، مع مرور الأيام، وبعد الانتهاء من عصر الإمامة لتبدأ مرحلة الغَيْبة (غَيْبة الإمام المهديّ المنتظر / الإمام الثاني عشر عند الشيعة الإمامية) في العام 260هــــ ـ 874م، استمرّ النظام الديني الاجتماعي الشيعي تحت قيادة زعماء الشيعية الدينيين في بغداد ابتداءً، ثمّ في النجف لاحقاً، حيث بات الفقيه المتصدّي هو الزعيمُ الدينيّ والمرجعُ الاجتماعي والسياسي والقضائي للشيعة، في امتداد الزمن كلِّه، حتّى يخرج الإمام المنتظر#.

وقد تمكَّنَتْ هذه المرجعية، من خلال استقلاليّتها عن الخطّ الرسمي الحاكم، من المحافظة على:

1ـ تراث الأئمّة وآل بيت رسول الله^ ومواريثهم الفكرية والقِيَمية والعملية.

2ـ حفظَتْ الشيعةَ، كأفرادٍ وكجماعةٍ، على طول التاريخ..

3ـ خلقَتْ للشيعة كياناً اجتماعياً دفاعياً منظَّماً، بالرغم من كلّ محاولات الهيمنة والتمزيق والقمع والاجتثاث والتصفية، التي ارتكبَتْها الخطوط والزعامات السياسية الزمنية الحاكمة، على مرّ الأيام والدهور الإسلامية.

بعدها يتحدَّث الكاتب عن عصور الشيعة الستّة، واضعاً لها التحقيب الزمني التالي:

1ـ عصر الإمام عليّ× (في المدينة والكوفة)، استمرّ 112 سنة (من 632م إلى 750م).

2ـ عصر الإمام الصادق× (في المدينة والكوفة)، استمرّ 128 عاماً تقريباً (من 750م إلى 874م).

3ـ عصر الشيخ عثمان بن سعيد العمري (في بغداد)، استمرّ حوالي 188 عاماً (من 874م إلى 1056م).

4ـ عصر الشيخ محمد بن الحسن الطوسي (في بغداد)، استمرّ حوالي 459 عاماً (من 1056م إلى 1501م).

5ـ عصر إسماعيل الصفوي (في تبريز وأصفهان)، استمرّ حوالي 262 عاماً (من 1501م إلى 1763م).

6ـ عصر روح الله الموسوي الخميني (في قم وطهران)، بدأ في العام 1979م، وما زال مستمرّاً حتى تاريخه.

وضمن هذا الفصل يشير الكاتب (د. علي المؤمن) إلى عوامل انهيارات العصور الشيعية اللاحقة، معترفاً بوجود أسباب وعوامل مَرَضيّة داخلية، قبل الحديث عن مؤامرات خارجية، ومركِّزاً على عدم وضوح المشروع، وافتقاره لاستراتيجيا السياسة والحكم، وتناحر أطرافه، وتشتُّت قراراهم، والاقتناع بالمكاسب الخاصّة من قِبَل بعض الشيعة.

وفي الفصل الثالث من الكتاب، وهو تحت عنوان: «البِنْية العقديّة والفقهيّة للاجتماع الديني الشيعي»، يتحدّث الكاتب عن قاعدة نيابة الإمام المعصوم، كمبدأ عَقْدي شيعي، ومبدأ التقليد، وهو من المبادئ الفقهية الأساسية في منظومة الفقه الشيعية، والتي يركز فيها على ولاية الفقيه، كإحدى أهمّ آليّات وبنى التقليد العملية في الفكر الإمامي بعد غَيْبة المعصوم، مستعرضاً آراء العلماء فيها.

ويبين الكاتب أن منظومة التقليد عند الشيعة الإمامية قائمةٌ وموجودةٌ تاريخياً منذ غَيْبة الإمام المهديّ المنتظر، حيث دخلَتْ مدرسة الإمامة عصراً وعهداً ومرحلةً جديدة كانت تتطلَّب تحديد شكل النظام الشيعي ومضمونه وصاحب الحقّ الشرعي في قيادته. حيث لجأ ـ كما يؤكِّد الكاتب ـ المحدِّثون الشيعة إلى أحاديث الأئمّة التي أناطَتْ هذا المنصب بالفقهاء أو العلماء أو رواة الأحاديث، وهي كلّها تسمياتٌ لمعنى واحد. ويشير الكاتب إلى أهمّ تلك الأحاديث، ومنها: «العلماء ورثة الأنبياء»؛ و«العلماء حكّامٌ على الناس»؛ و«أما مَنْ كان من الفقهاء، صائناً لنفسه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوامّ أن يقلِّدوه»؛ و«وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا؛ فإنهم حُجَّتي عليكم، وأنا حُجّة الله»، فضلاً عن أحاديث أخرى كثيرة داعمة، تؤكِّد على وجوب التقليد، وتدلّ ـ كما يرى الكاتب ـ على صلاحية الولاية الدينية والقيادة الاجتماعية الشاملة للفقيه كحدٍّ أدنى.

وهنا يبيِّن الكاتب أن الفقهاء يذهبون إلى أن الدلالات الجوهرية لهذه الأحاديث تحدِّد خمس وظائف أو صلاحيات حَصْريّة للفقيه، وكلّ واحدة منها تمثِّل ولايةً فرعية من ولاية الفقيه:

1ـ وظيفةٌ فقهية، تتمثَّل في الإفتاء.

2ـ وظيفةٌ تحكيمية، تتمثَّل في القضاء.

3ـ وظيفةٌ مالية، تتعلَّق بشؤون الحقوق الشرعيّة.

4ـ وظيفةٌ حِسْبية، تتعلّق بإدارة شؤون المجتمع الشيعي.

5ـ وظيفةٌ سياسية، تتعلّق بإقامة الدولة الإسلامية وقيادتها.

وفي سياقٍ آخر من هذا الفصل، وتأكيداً على مبدأ ولاية الفقيه، يتحدَّث الكاتب عن تأصيل هذه الولاية الشاملة منذ أيام الشيخ المفيد (أي قبل 1050 عاماً)، ويتابع قراءته التاريخية لهذا السلسلة من التوثيقات الفكرية التاريخية للعلماء والفقهاء الشيعة الذين أكَّدوا على هذا المبدأ، وصولاً إلى واقع هذا المبدأ «الفقهي ـ السياسي» في كلٍّ من مدرستي النجف وقم، حيث يؤكِّد الكاتب أن وجود خلافٍ بينهما حول مبدأ ولاية الفقيه كمبدأ مركزيّ وأساسيّ في منظومة التفكير الاجتماعية الدينية الشيعية هو مَحْضُ هراء، وحديثٌ دعائي انفعالي بعيدٌ عن لغة العلم والواقع القائم، وحتّى لو كان يوجد خلافٌ بين المراجع، سواء في النجف أو قم، فهو خلافٌ علمي بَحْتٌ، وليس خلافاً في أصل وبيِّنة مبدأ ولاية الفقيه، بل في مساحاته.

ويلقي الكاتب الضوء على مبدأ ولاية الفقيه، الذي وصل إلى أعلى درجات تطبيقه خلال عهد الإمام الخميني، الذي فجَّر الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م، معتبراً أن البداية الحقيقية للنهضة المنهجية في بحوث ولاية الفقيه جاءَتْ مع الإمام الخميني، فكانت المرّة الأولى في تاريخ النظام الاجتماعي الديني الشيعي التي يؤسِّس فيها أحد الفقهاء لأطروحةٍ فقهية متكاملة في شمولية ولاية الفقيه لوظيفة الحكم، ويدعو صراحةً إلى تطبيقها.

ويشير الكاتب إلى أن ثورة الإمام الخميني ودولته ترافقَتْ معها نهضةٌ بحثيّة علميّة واسعة متفرِّدة، في موضوعات ولاية الفقيه خاصّة، والفقه السياسي الإسلامي الشيعي عامّة، ومن تلك البحوث الرائدة:

1ـ كتاب «الإسلام يقود الحياة»، للسيد الشهيد محمد باقر الصدر(1980م).

2ـ «دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإٍسلامية»، للشيخ حسين بن عليّ المنتظري(2009م).

3ـ «الفقه السياسي»، للشيخ عباس علي عميد الزنجاني(2011م).

وفي الفصل الرابع من الكتاب، وهو بعوان: (المرجعية الدينية، قيادة النظام الاجتماعي الديني الشيعي)، يقدِّم لنا الكاتب رؤيةً تاريخية فكريّة تحليليّة عن ثوابت المرجعية الشيعية، وتطوُّر المفاهيم التدبيرية العقلائية، ومواصفات المرجع المتصدّي للفتيا والشأن العامّ.

ويعتقد الكاتب أن المرجعية الدينية في مدرسة أهل البيت^ تمثِّل امتداداً موضوعيّاً للإمامة في عصر الغَيْبة، وما يترتَّب على ذلك من مسؤوليات وحقوق وواجبات علمية ودينية واجتماعية ومالية تقع على عاتق المرجع الديني، بما يعني أن المرجعية ليست فقط ذات طابعٍ أو شأنٍ اختصاصي ديني، بل هي مسؤوليّاتٌ اجتماعية وحياتية وتدبيرية إجرائية، أي هي ـ بحَسَب الكاتب ـ منظومةٌ دينية اجتماعية، وحتى سياسية.

وعن الاختلاف بين المراجع، الذي قد يظهر في سياق ممارستهم لمسؤولياتهم بين مقلِّديهم، يبيِّن لنا الكاتبُ أن الخلافَ ليسَ حالةَ شقاقٍ هنا، وأمرٌ طبيعي أن يحدث الخلاف والتنوُّع في الآراء، وهو متعارَفٌ عليه، شأنه شأن أيّ خلافٍ إنساني، شرط أن لا يتسبَّب بحدوث انشقاقاتٍ وانقساماتٍ وحالاتِ فتنٍ واضطراباتٍ اجتماعية وغير اجتماعية.

فالمرجعية تبقى دائماً ـ رغم كلّ ما قد يحدث من خلافٍ في وجهات النظر وآراء الفقهاء ـ تمثِّل الأبوّة لكلّ الوجودات الثقافية والسياسية والاجتماعية الشيعية.

والخلاف حول المرجعية، وفيها، أفكاراً وشخوصاً ومفاهيم وغيرها، لم يكُنْ يوماً خلافاً جغرافياً أو قومياً أو مناطقياً، إلاّ في مخطَّطات ووسائل الإعلام الطائفية، بحَسْب ما يرى الكاتب، الذي يتابع قائلاً: إن الخلاف الحقيقي داخل الحوزات العلمية يتَّصل بالخلاف حول تطبيقات الالتزام بمنهجية عمل الحوزة وسياقاته المتعارفة، وأهمّها: طريقة طرح بعض علماء الدين أنفسهم كمجتهدين ومراجع خارج السياقات المتعارفة، وطرح بعض الأفكار المتعارضة مع مشهور المذهب، أو ممارسة ترتبط بالشأن العامّ تتعارض مع الخطّ العامّ الذي تمثِّله المرجعيات العليا المتصدِّية؛ الأمر الذي يساهم في تمزيق الواقع الشيعي. وهنا يقدِّم لنا الكاتب عدّة نماذج أو أمثلة تاريخية معروفة وموثَّقة عن الخلافات في مواضيعها وشخوصها، التي وقعَتْ ضمن الحوزات العلمية أو خارجها.

وضمن الإطار ذاته نجد الكاتب يضع مجموعة شروط أو عناصر معروفة ضمن أجواء الحوزات العلمية، تمثِّل معايير التزام عالم الدين الشيعي بالسياقات الحوزوية المتعارفة والخطّ المرجعي العامّ، وهي:

1ـ التدرُّج الطبيعي لعالم الدين في الدراسة الحوزوية.

2ـ حصول عالم الدين على درجة الاجتهاد من أستاذه المعتَرَف باجتهاده حوزوياً، أو شهادة أهل الخبرة (المجتهدين العدول) باجتهاده.

3ـ عدم خروج عالم الدين على الإجماع العَقْدي والفقهي في القضايا الأساسية.

4ـ عدم خروج عالم الدين على المرجعية العليا في القضايا الأساسية ذات العلاقة بالشأن العامّ، حتّى بعد أن يحصل على الاجتهاد، ويطرح نفسه مرجعاً للتقليد، وتتوسَّع مساحات نفوذه الديني.

5ـ التزام عالم الدين بالسياقات المتعارفة في مرحلة نشر رسالته الفقهية العملية، وإعلان مرجعيّته، ونشر وكلائه.

ويتابع الكاتب حديثه الوصفي التاريخي، في هذا الفصل المهمّ من الكتاب، عن الخلاف في منهجيّات العمل بين ثلاثة خطوط مرجعيّة ظهرَتْ في تاريخ الحوزات العلمية، وتنوَّعت إلى ما بين خطٍّ إصلاحي؛ وآخر ثوري؛ وثالث محافظ.

كما تحدّث عن دَوْر جماعات الضغط والمصالح، ومفهوم الحواشي في مؤسّسة المرجعيّة، ومن ثمّ قام الكاتب بتحليل وتحديد الفَرْق بين قُدْسيّة الدين ومهنيّة الفقيه.

وفي الفصل الخامس من الكتاب (الحوزة العلمية، المؤسّسة الدينية للنظام)، يتحدَّث الكاتب عن عدّة نقاط تختصّ بالحوزات العلمية وتطوُّرها التاريخي في النجف الأشرف وقم، ابتداءً من تأسيسهما وإلى أيامنا هذه، حيث يعتبر الكاتب أن الحوزة العلمية النجفية هي العاصمة العلمية الدينية التاريخية للنظام الاجتماعي الديني الشيعي منذ 1000 عام، مستعرضاً تاريخ هذه المدينة العلمية، التي شكَّلَتْ قاعدةً علمية فقهية وتراثية وكلامية واعتقادية (وحاضنة اجتماعية ـ سياسية) للمذهب الشيعي أو للطائفة الشيعية، منذ بدايات نشأة الحوزة في زمن الشيخ محمد بن الحسن الطوسي (المعروف بشيخ الطائفة)، وإلى عهد وعصر ومرجعيّة السيد عليّ السيستاني في عصرنا وأيامنا هذه.

طبعاً؛ ولعدم التقليل من أهمِّية حوزة قم، وما تمثِّله هي الأخرى من وجودٍ نوعي مميَّز في تاريخ الاجتماع الديني الشيعي، يتحدَّث الكاتب عن هذه الحوزة العلمية الرصينة، وعن أصالتها وعمقها التاريخي، إلى أن تحوَّلت بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م، وإقامة نظامٍ إسلامي وفقاً للمذهب الجعفريّ، إلى مؤسَّسةٍ علميّة منظّمة كبرى، حيث أُرسيَتْ فيها نهضةٌ علمية نوعية وكمِّية مميزة، وباتَتْ تضمّ مئات الجامعات والمدارس والمعاهد الدينية، ومراكز البحوث والتبليغ والمكتبات العامّة وقاعات المؤتمرات والمؤسّسات الخدمية، وباتَتْ قريبةً من الهيكليات والأنساق والجامعات الأكاديمية، مع احتفاظها بنكهة الدرس المسجدي التقليدي. وهي في مضمونها تشبه أطروحة السيد محمد باقر الصدر في «المرجعيّة الرشيدة».

وفي الفصولِ اللاحقة يغوص الكاتب أكثرَ فأكثرَ في محاولاته الجِدّية المميزة لإعادة بناء قواعدَ مُحْكَمة ورصينة لمنظومة المرجعية الشيعية.

ففي الفصل السادس (إعادة مأسسة منظومة المرجعية الشيعية) يتحدّث الكاتب عن قضايا مرجعية شيعية تلامس واقع التفكير والممارسة الاجتماعية الشيعية، فردياً وجماعياً، حيث إن تغيُّرات الحياة وتطوُّرات الواقع العامّ تقتضي         ـ كما يرى الكاتب ـ تغيُّراتٍ في المفاهيم، وتحوُّلاتٍ في المصطلحات والبِنَى التقليدية القائمة، ولهذا بدأَتْ تظهر مع مرور الأيام مفاهيم وكلمات ومصطلحات جديدة، تهدف إلى توضيح مدلول المرجعيات المعاصرة، فظهرَتْ مصطلحات (المرجعية القائدة) و(المرجعية الرشيدة) و(المرجعية المؤسَّسة) وغيرها.

وحاول الكاتب في هذا الفصل التركيز على موضوع مجلس أهل الخبرة (والمؤلَّف من الحكماء والخبراء وأهل الاختصاص) لاختيار المرجع الأعلى، مؤكِّداً على ضرورته وأهمِّيته النوعية، شارحاً كيفية عمله، التي تقوم على تقديم المشورة لكلّ مكوّنات النظام وتفرُّعاته الدينية والاجتماعية والسياسية والمالية، على أن يتمّ الأمر عبر قواعد نظريّة وأدوات إشراف عمليّة.

ولا ينسى الكاتب أن يمرّ على شروط اختيار المرجع الأعلى، وبالأخصّ منها شرط الأعلميّة، مطالباً بضرورة ترشيد هذا الشرط في ظلّ سرعة التحوُّلات الزمانية والمكانية ومتطلّباتها، وتراكم الموضوعات والحاجات المجتمعية والتنظيمية، وانحصار خيار الأمّة بتفعيل وظائف المرجعيّة الأخرى، وأيضاً في ظلّ ما قد يظهر من إشكاليّات وأسئلة موضوعية حول مفهوم المرجعية ذاته!

وفي الفصل السابع من الكتاب (عناصر قوّة الاجتماع الشيعي)، يعتبر الكاتب أن الاجتماع الديني الشيعي يحظى بعناصر قوّةٍ وثبات واستمرار لا يحظى بها أيّ نظامٍ اجتماعي ديني آخر، إسلامي وغير إسلامي، وهي (أي عناصر القوّة) ليست وليدة العصر الحاضر، بل إن بداياتها وقواعدها قديمةٌ قِدَم النظام الاجتماعي الديني الشيعي العالمي، الذي وَضَعَ أُسُسَه في عصر غَيْبة الإمام المهديّ سفيرُه الأوّل الشيخ عثمان العمري، بعد العام 874م، ثمّ رسَّخ دعائمه السفراء الثلاثة الذين أعقبوه، إضافةً إلى جهود الفقهاء المؤسِّسين الأربعة: الشيخ الصدوق، الشيخ المفيد، السيد المرتضى، والشيخ الطوسي. إلاّ أنّ تطوُّر هذه العناصر، ونموّ تفرُّعاتها، وتبلور مضامينها الفكرية والشعائرية والطقسية، احتاج إلى قرونٍ كثيرة، لتخرج بالصِّيَغ التي هي عليها الآن؛ حيث يتحدّث الكاتب في اثنتي عشرة نقطةً عن أهمّ معالم وعناصر قوّة الاجتماع الديني الشيعي في وقتنا الحالي، وهي: القضية المهدوية؛ المرجعية الدينية؛ ولاية الفقيه؛ التماسك المجتمعي الديني؛ عالمية النظام الشيعي ووحدة مساراته؛ الاستقلال المالي الديني؛ المراقد والمزارات؛ شعائر الإمام الحسين؛ إيران؛ السلطة السياسية؛ التنظيمات السياسية؛ جماعات المقاومة.

وفي الفصل الثامن من الكتاب (إشكاليات الهويّة الشيعية)، يبحث الكاتب في أهمّ الأسئلة والرهانات الفكرية والسياسية والتنظيمية التي تُثار في وجه الاجتماع الديني الشيعي المعاصر كقوّةٍ جامعة بين مختلف مكوّنات الشيعة ومرجعيّاتها. فيتناول البحث في هوية الشيعي بين المذهب والقومية والوطن، وغيرها من القضايا المتَّصلة بالتعدُّد والتنوُّع الوطني والمناطقي والقومي وقواعد التمايز والتكامل وموقف الفكر الشيعي منها.

وفي الفصل التاسع وهو آخر فصول الكتاب، والمعنون: (المرجعية الشيعية بعد السيستاني والخامنئي)، يتحدّث الكاتب عن نماذج المرجعيات الشيعية المطلقة، وعن واقع مرجعيتَيْ كلٍّ من: السيستاني؛ والخامنئي. ثمّ ينتقل للحديث عن المراجع المحتملة لمرحلة ما بعد السيستاني والخامنئي.

وفي آخر الكتاب، يصل الكاتب إلى جملةٍ استنتاجاتٍ وخاتماتٍ على صعيد محاولته تقديم وَعْي علميّ وفكريّ بحقائق الاجتماع الديني الشيعي:

ـ محاولة تأسيس علم اجتماع ديني شيعي.

ـ الأصول التشريعية للنظام الاجتماعي.

ـ واقع المرجعية الدينية ومستقبلها.

ـ الحوزة العلمية، المؤسّسة الدينية العالمية للنظام.

ـ تزاحم الهويّات ومقدّمات الاندماج.

ويطالب الكاتب في نهاية كتابه بضرورة التجديد في كثير من محدّدات وشروط التصدّي للمرجعية (وهي أهمّ نقطة قوّةٍ في هذا الاجتماع الدين الشيعي)، حيث يعتبر أن طريقة اختيار المرجع الأعلى في كلٍّ من حاضرتَيْ النجف وقم ما زالت تقليديّةً متوارَثة منذ مئات السنين..

ملاحظاتٌ وتأمُّلات

بعد مراجعتي لفصول هذا الكتاب المهمّ والنوعيّ والفريد في تناوله التاريخي الوصفي والتحليلي لقضيّةٍ غايةٍ في الأهمِّية وشديدة الصلة بالواقع، وهي قضية الاجتماع الديني الشيعي، والذي أجادَ كاتبُه حقيقةً في ضبط مسارات الاجتماع الديني الشيعي، وتبيان معالمه ومعاييره ضمن انتظاماتٍ تاريخيّة ومحدّدات فكريّة ممنهجة، بحيث بدَتْ لنا آليّاته ومحدّداته، التي مَنْهَجَها الكاتب، كالسدّ الذي ينظِّم (وينسِّق) تدفُّق مياه النهر الجارف، خالقاً حوله بساتين وظلال وارفة من الخضرة والجمال، أقول: بعد مراجعتي للكتاب يمكن أن أؤكِّد أنّ الكاتب (وهو الخبير المتمرِّس في كلِّ ما يتعلَّق بثقافة أهل البيت وتراثهم وتاريخهم وامتداد حركتهم) نجح بمهارةٍ في بناء أُسُس أوَّلية لمذهبٍ اجتماعي ديني شيعيّ جديد، هو قائمٌ وموجود بالقوّة في صلب التاريخ الشيعي الطويل والممتدّ في حركة التاريخ العربي والإسلامي، بل تمكَّن الكاتب أيضاً من القبض على أُسُس منهجية لدراسته وتوثيقه، ليس في ذاكرة ووجدان التاريخ والناس، وإنما في عقول الباحثين والمفكِّرين ومختلف مواقع المؤسّسة المرجعية، بما يفرض ضرورة إعادة التركيز على ما سلَّط عليه الضوء من مفاهيم وإصلاحات وتحليلات نوعيّة، والتوسُّع في إبرازه وتظهيره، والعناية المنهجية والعملية به.

ولكن كلّ ما تقدَّم لا يمنع أن نضع بعض الملاحظات والرؤى الفكرية السياسية، التي نأمل أن يتَّسع لها صدر الكاتب المحترم، وهي بطبيعة الحال قد لا تكون ملاحظاتٍ على الكتاب ذاته، بقدر ما هي إضاءاتٌ وإشعاعاتٌ فكريّة متنوّعة، وهواجس معرفية، أطلقها الكتّاب من حوله، في ما أثارته وأشعلته مضامين هذا الكتاب من أفكار ورؤى وتأمُّلات وتحليلات، وبما يمكن أن يفتحه في الذهنية الفكرية للمنظومة الاجتماعية الشيعية من منافذ وإمكانات وتصوُّرات فكرية وتاريخية، يجب فتح النقاش الجِدّي حولها.

1ـ حول ولاية الفقيه

شكَّلَتْ ولاية الفقيه مبدأً جوهرياً في منظومة الاجتماع الديني الشيعي، خاصّة بعد النهضة الإسلامية الخمينيّة في إيران عام 1979م، والتي استقرأَتُ أن الكاتب يعتبرها «أُسَّ» منظومة الاجتماع الديني الشيعي المعاصر.

فمن المعروف أن ولايةَ الفقيه فكرةٌ «دينيّة ـ سياسيّة» موغلةٌ في التاريخ الثقافي والديني الشيعي، وليست حَدَثاً طارئاً أو مستجدّاً؛ وسبق لها أن فتحَتْ مجالاتٍ لأسئلة كبرى، وأثارت هواجس معرفية وغير معرفية، وحازَتْ (وما زالت تحوز) على نقاشات فكرية واسعة في الدائرة الفقهية الشيعية، بل غير الشيعية أيضاً، وخاصّة بعد تحوُّلها إلى واقعٍ سياسي ملموس ومطبَّق في نظامٍ سياسي معاصر.

وكان من الطبيعي جداً أن لا تحظى هذه الفكرة ـ رغم التأكيد على كونها مبدأً أساسياً في منظومة التفكير الديني والسياسي الشيعي ـ بإجماع كلّ العلماء وإمضاء كلّ الفقهاء، لتبقى مثارَ جَدَلٍ ونقاش وسجالات (فكريّة ـ سياسيّة) بين علماء ومفكِّرين ونُخَب مثقَّفة، ممَّنْ توزَّعوا بين مؤيِّد لها ومعارضٍ. ولكنّ النقاش والاعتراض المرجعي والنخبوي الثقافي والسياسي على «ولاية الفقيه» بقي قائماً في تطبيقاتها السياسية والفقهية، وخاصّة لناحية إمكانية تحوُّلها إلى ما يشبه الحكم الديكتاتوري (الديني)، بما يكرِّس حكم الفرد والزعيم الخالد (شبه المعصوم)! الأمر دفع بعض العلماء والمراجع الكبار إلى بناء رؤىً واجتهاداتٍ «فقهيّة ـ سياسيّة» (مقابلةٍ لولاية الفقيه)، كولاية الأمّة على نفسها، وليس ولاية الفقيه على الأمّة، حيث إنه ـ في هذه الحالة ـ تصبح الولاية الدينية للمرجع نَوْعاً أو شَكْلاً من أشكال الاستبداد الفكري والسياسي، المؤدّي حَتْماً إلى ممارسة مختلف طرق ووسائل الضغط والقَسْر، ورُبَما الظلم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، تحت زعم حماية الحقيقة والعقيدة المقدَّسة و»الحفاظ على بيضة الإسلام»، رغم ما قد يتَّصف به المرجع من شرائط الفقاهة والعلم والمعرفة والعدالة!

وهذا النوع من الاستبداد الديني إنْ وقع (وقد وقع في التاريخ) فإنه ـ برأيي ـ أشدُّ خطورةً وأكثر كُلْفةً من أيّ شكلٍ آخر للاستبداد والطغيان؛ لأنه استبدادٌ يغلِّف نفسه بستار الدين، ويسوّر هويته بأسوار حديدية من تفاسير النصوص الدينية المقدَّسة التي يؤمن بها الناس، وتلهب مشاعرهم، وهنا تكمن الخطورة في أن يتحوَّل الدين إلى مجرّد قناعٍ أو غطاءٍ لممارسة شتّى ألوان القَسْر والإكراه التي يمكن حدوثها.

وكم كنتُ أتمنّى على الكاتب الكريم لو أنه توسَّع فكريّاً ومنهجيّاً في حديثه عن مبدأ «ولاية الأمّة على نفسها»، وأعطاه حقَّه من النقاش والتحليل، مثلما تحدَّث بتوسُّعٍ واستطرادٍ تحليليّ (يُشْكَر عليه بطبيعة الحال) عن مبدأ ولاية الفقيه! فالفكرة باتَتْ لها جماهيرها وحضورها القويّ بين صفوف الناس والنُّخَب المثقَّفة.

وأنا أتصوَّر هنا أنه إذا كانت نظرية ولاية الفقيه قد شكَّلَتْ، في وقتها، النظريّة الناضجة الأهمّ (على المستوى العملي)؛ لإعادة بناء قدرات المجتمع الإيراني، والصيغة الأكثر توافقاً وانسجاماً لتماسك الوطنيّة الإيرانية ـ الدينية، فإنّ ذلك لا يعفي أصحابها والمنظِّرين لها من الوقوف النقديّ أمام الإشكاليات المثارة حولها اليوم (ولا سيَّما لناحية التعدُّدية السياسية، وحقّ التنظيم والمعارضة، وغيرها)، ومحاولة البحث فيها من جديدٍ، والإجابة الجادّة عنها؛ حيث إنها ـ على الرغم من تطبيقها على مدى حوالي أربعة عقود زمنية ـ ظلّت سلطةً سياسيّة خاصّة بالمذهب الشيعيّ في إيران، لها مؤيِّدوها، ولكنْ لها أيضاً معارِضون وناقدون كُثُر في بلدان أخرى، وحتّى داخل إيران، بطبيعة الحال.

إنَّ الحرِّية الفكريّة والسياسيّة (التعبير عن الرأي وحرِّية التنظيم السياسي والتظاهر السلمي وتشكيل الأحزاب السياسية…إلخ) حقٌّ جوهريّ من حقوق الإنسان، ولم يَعُدْ من الممكن حَجْب النظر عنه، أو بناء وتأسيس هياكل سياسية وإدارية شكليّة وديكوريّة؛ للتظاهر بالتعبير عن هذا الحقّ أو الإيمان به. وإذا ما اصطدمَتْ الحرِّية بأيّ واقعٍ سياسيّ وفكريّ وأيديولوجيّ آخر فالحرِّية هي الخيار والقاعدة والمرجعيّة التي يجب أن يُقاس عليها، ويعاير بها. ونحن نتحدَّث هنا عن الحرِّية بمعناها الإنساني الراقي المسؤول والواعي والرصين، البعيد عن الفوضى والانتهازية والشخصنة والإثارات الغرائزية.

فالحرِّية فطرةٌ وقيمةٌ جوهرية، يجب تقعيدها قانونياً ودستورياً وعملياً، وهي من حقّ الجميع، بصرف النظر عن قناعاتهم ومعتقداتهم واتجاهاتهم الفكرية. والإسلام أشاد قواعد راسخةً لها في عملية تنظيم شؤون الدولة والمجتمع والعلاقة بين الأفراد وحكّامهم، حيث تشكِّل تجربة الإمام عليّ× نموذجاً رائداً في هذا المجال، في طريقة تعاطيه مع خصومه ومعارضيه السياسيّين، ممَّنْ نبذوا العُنْف والإرهاب، وعارضوا دولته ورؤيته السياسيّة، بكلماتهم ومواقفهم ومساءلتهم وحرِّية التعبير السلمي عمّا يجول في نفوسهم وخواطرهم.

وإذا عُدْنا إلى النصوص القرآنية سنجد أن الحرِّيةَ أصلٌ عقائديّ، وليست مجرّد رغبةٍ أو تطلُّعٍ إنساني، بل هي حقٌّ وفطرةٌ، وخصوصاً أن الدين يؤكِّد أن حكمة الـتكليف قائمةٌ على أساس وجود إرادةٍ حُرّة عند الانسان، تقتضي أن يختار بنفسه طريقه في الحياة، بوَعْيٍ ومسؤوليّةٍ؛ لأن أساس الثواب والعقاب هو أن تكون مسؤولاً عمّا تقوم به وتفعله، والمسؤولية تقتضي الحُرِّية، يقول تعالى: ﴿فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (التوبة: 71)؛ ويقول تعالى: ﴿مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ (الإسراء: 15)؛ وقوله: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ (البقرة: 256).

من هنا نحن نعتقد أن الولاية العامة والشاملة ليست من أساسيات الدين والمذهب، بل هي مسألةٌ فكرية (سياسية) قابلةٌ للنقاش والنقد والمساءلة، وخصوصاً أنها ليست موضع إجماع الفقهاء والعلماء، كما قُلْنا؛ وفي عقيدتي أنها من الفروع، والحرِّية قيمةُ القِيَم هي من الأصول.

وبطبيعة الحال لا يعني هذا ترك الأمور السياسية والمجتمعية للفوضى واللامسؤولية، أو عدم حفظ النظام وعدم التفكير بدَرْء الفوضى، حيث إن ترك الأمّة بلا قيادةٍ واعية مسؤولة متصدِّية للأمور العامة (بالمعنى الدولتي المؤسّسي) سوف يقود الأمّة والمجتمعات الى التفكُّك والفوضى، ورُبَما السقوط في براثن الأعداء.

وهذا كلُّه (أي إدارة شؤون المجتمع) لا ينظَّم بالقهر والاستبداد وقَمْع الناس والضغط عليهم وانتهاك حقوقهم وتضييع مصالحهم، بما يؤدّي إلى نشر الفساد والإفساد، بل يكون بأن تتصرَّف النُّخَب الحاكمة (الحكومات) برضا الأمّة، ومَنْح الناس حقوقهم كاملةً، ومراعاة مصالحهم، وعدم سَلْب حرِّياتهم، تحت أيّ ستارٍ أو قناعٍ أو معنى.

إن الاستبداد أخطر أمراض الأمّة؛ وهو تارةً يتقنَّع بأيديولوجياتٍ سياسية علمانية؛ وتارةً أخرى يتقنع بأيديولوجياتٍ وأفكار دينية، وهنا مكمن الخطورة. وفي كلا الحالين لا يمكن تحقُّق الاستقرار والتطوُّر والازدهار في أيّ نظامٍ اجتماعي سياسي من دون حُرِّيات وحقوق ومشاركة جماعية ناتجة عن الوَعْي والمسؤولية، ولا يمكن أن تتحقَّق إلاّ عبر نظام الحُرِّيات العامّة، ومن أهمِّها، وفي مقدِّمتها: حُرِّية الانتخاب، انتخاب الحاكم. ولهذا رأَيْنا في كلّ تاريخنا العربي والإسلامي، وحتّى في تاريخ الشعوب والأمم الأخرى، أن أكثر الأمم والدول والمجتمعات فساداً وفوضى هي الدول والمجتمعات المحكومة بنُظُمٍ ديكتاتورية قَمْعيّة، تنتشر فيها كلّ أشكال الأمراض السياسية والأخلاقية والاجتماعية، وعلى رأسها: النفاق والكذب والأنانية والانقسام والتناحر والتباغض. وفي أجواء تناحُرية صراعية كهذه لا يمكن للفَرْد أن ينتج ويبدع ويثمر، عقليّاً وعلميّاً، ولا يمكن للمجتمع أن يتطوَّر ويزدهر، ولا يمكن للدولة أن تصبح قويّةً قادرةً وذات شأنٍ مؤثِّر في محيطها أو في العالم.

إن حقّ الحُرِّية هو من أهمّ حقوق الناس، وليس لأيٍّ كان، مهما بلغ وارتقى علميّاً ودينيّاً وسياسيّاً، أن يكون «وليّاً» عليهم في ما يختارون ويريدون ويؤمنون ويقتنعون، وليس له أن يحدِّد حُرِّياتهم، أو يتصرَّف بشؤونهم ومقدّراتهم بغير إذنهم، وللأفراد أن ينتخبوا الفرد الأصلح والأكفأ والأَوْعى.

من هنا، وكخلاصة لما تقدَّم، النظام (العادل والقادر والقويّ) يأتي ويتحقَّق ويتكامل مع الحُرِّية فقط، ويختنق ويتداعى وينهار مع الاستبداد وقَمْع الحُرِّيات وإقصاء الآخر المختلف، حتّى لو كان مصبوغاً بصبغةٍ دينية. وهو للأسف أمرٌ ساري المفعول في حركة هذه الأمّة، التي كرَّمها الله بالعقل والمسؤولية، فأضاعَتْ العقل، ورهنَتْ المسؤولية.

2ـ الهويّة المذهبيّة والاندماج الوطنيّ

عندما نتحدّث عن اجتماعٍ ديني شيعيّ لا بُدَّ أن تكون السياسة حاضرةً فيه بقوّةٍ على مستوى العلاقة بين المراجع والناس، بمختلف توجُّهاتهم وانتماءاتهم وخلفيّاتهم واتجاهاتهم، والعلاقة مع مؤسَّسات الدولة، وآليّات التعاطي معها على كلّ المستويات والأصعدة. وهنا تبرز إشكاليةٌ كبرى حول مضامين القِيَم والأفكار والاعتقادات والقناعات الفقهيّة للناس، التي قد تتعارض بل تتناقض مع الاجتماع المدني السياسي، الذي له أفكاره ومؤسّساته وقوانينه المتعارضة مع قناعات الناس المنتمين للاجتماع الديني الشيعي! إذ كيف يتصرَّفون ويعيشون ويمارسون حياتهم الطبيعية في بلدانٍ لا تدين بمبادئهم الولايتية الشيعية، التي تربط بين السياسة والدين، ولا ترى أدنى الفوارق بينهما؟! هل يلتزمون بقناعاتهم واعتقاداتهم الخاصّة أم بأفكار وقِيَم وعادات وقوانين البلد التي قد تتناقض وتختلف معهم؟! هل يقلِّدون مَرْجعاً يعيش في بلدٍ آخر وله سلطةٌ (ولايتية) على بلده، حتّى لو أفتى بما يعاكس عيشهم وانتماءهم لبلدهم ومسقط رأسهم؟!

طبعاً، ما زالت هذه الإشكالية قائمةً في الاجتماع السياسي العربي والإسلامي، ولم ينجَحْ الفقه السياسي الشيعي الحديث، المرتكز ـ في التطبيق السياسي الإيراني المعاصر ـ على عقيدة أو مبدأ ولاية الفقيه، في حلِّها وحَسْم الجَدَل واللَّغَط السياسي والعملي حولها؛ لأننا شهدنا حدوث صراعاتٍ واندلاع أعمال عنفٍ وتضارب مصالح في ما يتَّصل بمفاعيلها في كثير من البلدان.

وقد رأَيْنا وعِشْنا كثيراً من تداعيات وإرهاصات (وسلبيات) هذه الإشكالية، ولاحَظْنا كيف كان للشيخ الراحل محمد مهدي شمس الدين([1]) ـ في دعوته الشيعة إلى الاندماج في مجتمعاتهم ومشاريع بلدانهم الوطنية، بعيداً عن أيّ أفكار ورؤى ومشاريع مذهبية أو طائفية خاصّة ـ قَصَب السَّبْق في معالجة بعض الآثار السلبيّة لتلك القضية، لناحية منع حدوث فتنٍ واضطرابات دينية مذهبية وسياسية في بعض دول الخليج والمنطقة، التي تتواجد فيها الطائفة الشيعية كأقلِّية دينية، رغم أن مفهوم الأقلِّية هنا قد أثار ويثير الكثير من الشجون السياسية والاجتماعية، ولهذا جاءَتْ الدعوة ليتمّ التعامل معهم كمواطنين، لهم حقوقٌ، وعليهم واجباتٌ، وليس كأتباع منهجٍ دينيّ يتمّ تسييسه بين وقتٍ وآخر؛ طلباً للمصالح والأغراض الخاصة لهذه الدولة أو تلك، أو هذا المحور أو ذاك!

وقد جاءَتْ تلك الدعوة من الشيخ شمس الدين بخصوص موقف الشيعة داخل أوطانهم ومجتمعاتهم، ولا سيَّما بعد انتشار الصحوة الإسلامية، وتصاعد المواجهة مع العالم الغربي بقيادة الولايات المتَّحدة الأميركيّة، وتكاثر الفتن والحروب الأهليّة في الأقطار العربيّة والإسلاميّة؛ حيث إنه في غضون ذلك تمّ تسليط الضوء على الحالة الشيعيّة باعتبارها تمثِّل نتوءات في أوطانها، وتضافَرَتْ جهودٌ كثيرة لرَمْيها بالعُنْف والتعصُّب والتطرُّف والإرهاب، فأصبحَتْ في كثيرٍ من الأوقات هَدَفاً للعديد من الدوائر السياسيّة والأمنيّة في العالم، فضلاً عن الدوائر الإعلاميّة. هنا كان موقف الشيخ شمس الدين حاسماً وحازماً واضحاً، حيث دعا جميع الشيعة في العالم إلى الاندماج في أوطانهم (كما قُلْنا)، وإلى أن يكون مشروعُ الدولة الوطني هو مشروعهم المشترك مع غيرهم من المواطنين، ولا يفيدهم في شيءٍ أن يكون لهم مشروعٌ خاصّ بهم. وعليه ينبغي انخراطهم في أرقى درجات الالتزام الأخلاقيّ بقضايا الوطن والمواطنين، والالتزام بحفظ النظام العامّ، وإطاعـة القوانين. فالحوار والمصالحات الداخليّة والاندماج الوطني هي الطريقُ السليم لحفظ كرامة الشيعة، وتعزيز مكانتهم، وليس الانكفاء والسلبيّة أو الحالة الهجوميّة([2]). وبديهيٌّ القول: إنّ موقف الشيخ محمد مهدي شمس الدين في هذا الصدد لا ينطلق من حساباتٍ واعتباراتٍ مذهبيّة ضيِّقة خاصّة، أو سياسيةٍ ظرفية آنيّة، وإنما ينطلق من المصلحة الإسلامية العليا الجامعة، وينبني على تأصيلٍ فقهيّ بَسَطه في كثيرٍ من كتبه ودراساته وأبحاثه حول الاجتماع السياسي الإسلامي([3]).

وهذا ما أجاد الكاتب (د. علي المؤمن) في تسليط الضوء عليه عندما تحدَّث ليس فقط عن مسؤوليات مرجعيات الشيعة ونُخَبها، بل أيضاً عن ضرورة «أن يؤمن السنّة وأنظمتهم بأن الشيعة مواطنون مثلهم، ولهم حقُّ المشاركة السياسية والقانونية الكاملة في دولة المواطنة والقانون، وأن من حقّ الشيعيّ أن يكون في أيّ موقعٍ في الدولة والمجتمع، دون تمييزٍ طائفيّ».

وما نأمله أن يبقى تظهير وتأطير هذا الاجتماع الديني الشيعي في تأسيسه ومؤسّساته ومرجعياته بعيداً عن أن يكون حالةً عصبيّة اجتماعيّة ومذهبيّة جديدة، في مواجهة عصبيّاتٍ أخرى، تتصارع وتتقاتل على الرأسمال الرمزي والقِيَمي للأمّة، وعلى الإنتاج المعنوي الروحي، إذا صحّ التعبير.

3ـ الدَّوْر العمليّ للمرجعيّات الشيعيّة

التعدُّدية في المرجعيات الشيعية أمرٌ راسخ وثابتٌ منذ زمنٍ بعيد، وهذه النقطة هي من أهمّ عناصر قوّة وحيوية (ومستقبلية) المؤسّسة المرجعية الشيعية، إذا صحّ التعبير، في سياق تفاعلها مع الآخر المختلف، وانسجامها البنيوي مع متطلّبات التشارك المجتمعي الإنساني الحضاري معه؛ حيث إنه في ظلّ هيمنة أجواء التطرُّف والتعصُّب والتناحر في كثيرٍ من مواقع ومفردات هذه الأمّة يجب أن تتحرَّك المرجعيات بوَعْيٍ ومسؤولية لإرساء دعائم وأُسُس خطّ الاعتدال والتفاهم والحوار الدائـم، وتركيز ثوابت ينعقد عليها الوفاق الوطني في داخل البلدان، وخاصّة المتنوِّعة منها، بعيداً عن قناعات وسلوكيات التميُّز والمحوريّة وادّعاء امتلاك الحقيقة!

كما أنني أتصوَّر أن من أهمّ عناصر قوّة المرجعية على مستوى الداخل المجتمعي هو أن تجد لنفسها امتداداتٍ حقيقيّةً عمليّة في حركة العمران الروحي والعملي، وخصوصاً أنها مرجعية اجتماعية وسياسية وعملية، تتدخَّل في كلّ شيء توجيهاً وإشرافاً، وأوامريّاً في كثيرٍ من الحالات. وإذا لم يكن الأمر على هذا النحو الحيويّ فعن أيّ عناصر قوّةٍ نتحدَّث؛ حيث إن ما نعايشه ونعاينه على الأرض في بعض مجتمعات (الشيعة) يقدِّم لنا صورةً قبيحة ومأساوية عمّا بلغَتْه أحوال الناس وأوضاعهم العامّة؟!

إن قيمة الفكر والمبادئ والنصوص تكمن في أن تتحوَّل إلى واقعٍ حيٍّ معاش وملموس ـ على نحوٍ مسؤول ـ بين الناس في سلوكهم وعلاقاتهم وتعاملاتهم، في تطبيقات العدل بينهم، وإحساسهم الحقيقي بالانتماء الفاعل والحقيقي إلى مرجعيّاتهم، ليس نظريّاً وكلاميّاً فقط، بل عمليّاً ونهضويّاً وعمرانيّاً. وكمثالٍ على ما تقدَّم لننظر مثلاً اليوم إلى واقع وحال مجتمع العراق (المحكوم بأحزابٍ إسلامية ونُخَب وشخصيّات شيعية)، وهو بلدٌ أنهى عصر الديكتاتورية الفردية الحزبية الصنمية الشخصية منذ ما يقرب العَقْدَيْن تقريباً، ولكنْ ما زال أهله وناسه يخوضون غمار صراعاتٍ سياسية وحزبية (ومعيشية)، في ظلّ هيمنة أحزابٍ تحكم تحت عناوين وشعارات دينية مقدَّسة، أفلسَتْهم ودفعَتْ بلدهم إلى الحضيض السياسي والاقتصادي، حتّى بالكاد يجدون الكهرباء والغاز والماء! وهناك كثير من الناس والنُّخَب يسألون: ماذا قدَّمَتْ وأثمرَتْ وأعطَتْ تلك الأحزاب الإسلامية التي جاءَتْ بعد عهد صدّام؟! هل تحوَّل العراق (وهو بلدٌ ومجتمعٌ أساسي من النظام الاجتماعي الديني الشيعي، ونضربه هنا كمثالٍ فقط، مع أنه توجد بلدانٌ تعاني مثله وأكثر) في ظلّ تلك النُّخَب والأحزاب الدينية إلى دولةٍ قوية عادلة وقادرة، وتملك زمام أمورها، وتفرض سيادتها واحترامها على غيرها؟! ثمّ هل يكفي فقط أن نقول: إن الناس تحرَّروا واستقلّوا دينياً في قناعاتهم وخياراتهم وزياراتهم وتمثُّلات إيمانهم على الأرض، بينما التخلُّف الاقتصادي والمعاناة الاجتماعية القاسية ما زالت مهيمنةً ومسيطرة، بل بالعكس زادَتْ أرقام ومعدَّلات الفساد والنَّهْب في عهدهم؟!

كلُّنا يعلم أن عراق اليوم، الممتلئ بالرأسمال الرمزي والروحي للاجتماع الديني الشيعي، تحرَّر فعليّاً من ربقة ديكتاتورٍ واحد، ولكنّه بات يعاني من تحكُّم «ديكتاتوريات» عديدة على الأرض، تتصارع وتتقاتل على موارد الناس وأرزاقها وثرواتها (رغم أن ثروة البلد هي ثروةٌ للجميع)! وهذا ما جعل العراق بلا قوّةٍ تجمعه، ولا بنى تحتية تخدم أبناءه، وبلا شبكات بِنَى تحتيّة قوية وفعّالة مثل أيّ دولةٍ أخرى، كما في الخليج مثلاً، مع أنه (أي العراق) دولةٌ نفطية، وفيها إمكاناتٌ وموارد هائلة! والسبب الفساد وتدخُّلات الخارج. وهذا واضحٌ تماماً للجميع.

وهنا نسأل: أين هو دَوْر وفعالية وحضور المرجعية في الشأن العامّ في الواقع والحقيقة، وليس في التوجيه والتنبيه والإشراف العامّ؟! هل الدَّوْر يكمن فقط في حفظ معالم الدين، وتدريس تقاليده واختصاصاته الفقهية والكلامية والمنطقية داخل الهياكل التدريسية التقليدية المعروفة (التي تكاثَرَتْ وتزايَدَتْ أرقامها حتّى بلغَتْ أرقاماً قياسية)، بعيداً عن حياة الناس والمجتمع؟! أليس من علاقةٍ بين المفهوم وتطبيقه على الأرض؟! ثمّ ما فائدةُ الدِّين كلّه ـ وهو قيمة القِيَم في حركة الحياة ـ من دون تمثُّل مفاهيمه وغايته ومقاصده الإنسانية (والوطنية) على الأرض بين الناس، بكافّة أطيافهم وتنوُّعاتهم وانتماءاتهم؟!

للأسف قدَّمَتْ أحزاب العراق (وشخوصه ونُخَبه ومؤسَّساته السياسية التي تشكَّلت عقب زوال حكم صدام) نموذجاً سيِّئاً للحكم والعلاقة بين الناس والمسؤولين والمرجعيات الدينية، ولهذا كلِّه سببٌ أساس، كما أعتقد، وهو تداخلُ السياسي بالديني، وهيمنة رجالاتٍ غير مسؤولة، وتصارع مرجعيّاتٍ شتّى، وعدم وضوح الرؤية السياسية الحقيقية لعراق المستقبل، والسماح بالتدخُّلات الخارجية. وهذا كلّه أسهم في فقدان تأييد جموعٍ غفيرة وكبيرة من الشباب للمرجعيات الدينية، ورُبَما في ابتعادها حتّى عن مجال الدين والتديُّن، وهناك بياناتٌ ومعطيات وإحصائيّات كثيرة تتحدَّث عن هذا الجانب الخطير والمؤسف!

إنني أعتقد أن هذه المفردات والعناصر ـ التي يعتدّ بها الكاتب، ويعتبرها عناصر قوّة الاجتماع الديني الشيعي ـ ما زالَتْ مثارَ جَدَلٍ وإشكالٍ فكري وتاريخي، وحتى معرفي، بالنسبة إلى كثيرٍ من المراجع والمثقَّفين الشيعة وغير الشيعة. وما قد يعتبره الكاتب عنصر قوّةٍ قد يعتبره غيرُه عنصر أو نقطة ضعفٍ بطبيعة الحال، وليس موضع إجماعٍ، حتّى بين صفوف كثير من علماء ومراجع ومفكِّري ونُخَب الشيعة، قبل غيرهم من نُخَب وعلماء آخرين، ينتمون إلى مدارس فكرية وسياسية ودينية أخرى.

من هنا أتصوَّر أن أهمّ نقطة قوّةٍ في منظومة الاعتقاد الشيعي الاجتماعي التاريخي أن الشيعة كلّهم متفقون كلِّياً على الأساسيات في ما هو تراث آل البيت وعقائدهم وقيمهم وشخوصهم وتحوُّلهم لقِيَم كمالية راقية (مُثُل عليا مرتفعة، بتعبير الشهيد الصدر) للأخلاق والفضائل والرسالة الإنسانية، ولكنّهم مختلفون ومنقسمون على مرجعيّاتهم، وآليّات حضورهم في واقعهم وحياتهم، عبر الأحزاب والتشكيلات السياسية وغيرها.

وهنا علينا قبول التنوُّع وفكرة التعدُّدية السياسية والثقافية، فهناك كثيرٌ من الشيعة غير مؤمنين، وخصوصاً الأجيال اللاحقة، التي تسبَّبت أمراض البيت الشيعي ـ كما قُلْنا آنفاً ـ بتحوُّلها إلى مواقع الإلحاد أو اللادينية أو اللاأَدْرية. وهؤلاء وغيرهم ـ حتّى من صفوف النُّخَب الشيعية العلمانية، وحتّى المتديِّنة، التي لا تأخذ بآراء المرجعيّات ـ بات لهم حضورُهم ومشروعُهم السياسي، وهم بعيدون عن التظلُّل بظلّ مرجعيّةٍ من هنا أو مرجعيّةٍ أخرى من هناك.

وهنا علينا أيضاً أن لا نصوِّر للناس حالة وواقع الاجتماع الشيعيّ وكأنّ عموم الشيعة يعيشون ويتنفَّسون فقط من خلال مرجعيّاتهم، وأنهم لولا تلك المرجعيات لكانوا في الحطام والقاع السياسي وغير السياسي، بل يجب أن نقرَّ ونعترف أن هناك أجيالاً وُلدَتْ شيعيّةً بالهويّة الشخصيّة فقط، لكنّها باتَتْ تحلِّق فكرياً وثقافياً واجتماعياً وعلمياً في فضاءات وعناوين ومواقع أخرى تنتمي إلى عصرها فقط، بكلّ ما فيها من أجواء ومتعلّقات وابتكارات وتفاعلات، سلبية كانت أم إيجابية. وهنا نسأل: مَن يتحمَّل مسؤولية هذا الانفكاك المجتمعي، إذا صحّ التعبير، وابتعاد كثير من هؤلاء عن مرجعيّاتهم الأمّ؟!

إن شعورَ كثيرٍ من شبابنا وأبنائنا في داخل أوطانهم ومجتمعاتهم بالغبن والظلم والتهميش والإقصاء والاستبعاد والهامشية، إضافة إلى تفشّي الفقر والعطالة والبطالة وانسداد الآفاق، كلّها عوامل أسهمَتْ بقوّةٍ في دَفْع الكثير منهم (الفاقد للأمل بحياة منتجة ومزدهرة يكون لهم فيها حضورٌ ووجودٌ حقيقي)، إلى الارتماء في أحضان الغلط وسوء الفِعَال، وتبنّي خيارات ومسالك عَدَمية، والانسياق وراء التنظيمات والجماعات والميليشيات الدينية المتطرِّفة، التي لم يجِدْ كثيرٌ من أولئك الشباب من فرصة عملٍ سوى الارتماء في تلك التنظيمات؛ طَلَباً للحصول على عملٍ ودَخْلٍ مادّي، وليس فقط لقناعاتٍ فكرية أيديولوجية.

فأين المرجعيّات والاجتماع الشيعي المعاصر من هؤلاء الشباب والأجيال التي خرجَتْ إلى الحياة العملية بلا عملٍ، ولا شغلٍ، ولا إنتاجٍ مادّي حقيقي؟! هل تكفي النظريات والروحانيات والقِيَم الدينية التي نلقيها عليهم ليلاً نهاراً؛ لتنميتهم، وبناء العمران الحقيقيّ لهم، في وجوب عيشهم الحياتي الكريم، القائم على العدالة والمساواة، وتوفُّر فرص العمل الملائمة لشهاداتهم، والمشاركة والانخراط في ميادين الفاعلية، واستثمار طاقاتهم ومواهبهم وكفاءاتهم؟!

لقد أثبتَتْ وقائع تجارب الحياة والحضارات البشريّة أن مجتمعات الفضيلة (التي تنطلق من مقتضياتٍ وقِيَمٍ دينية) لا يمكن أن تُقام وتُبْنَى إلاّ مع إشاعة الحقوق، وعلى رأسها: الحُرِّية والعدالة والكرامة الإنسانية، وشعور الناس بوجودها الحيّ الفاعل، البعيد عن الاستتباع والإمّعية والكَبْت والحرمان والارتهان السياسي وغير السياسي. وهذه قِيَمٌ سلبيّة انفعالية لا يمكن للفرد، ولا للمجتمع، أن ينجح أو يزدهر في ظلِّها.

4ـ سوريا كبلدٍ علمانيّ

في إشارته إلى قوّة الاجتماع الشيعي، وإلى المشاركة في السلطة، يتحدَّث الكاتب في الفصل السابع (ص222) عن سوريا، قائلاً: «..أخرجَتْ ـ أي تلك التجارب ـ أنظمةَ هذه البلدان من معسكر الأنظمة الطائفية، الموغلة في تهميش الشيعة وقمعهم، إلى معسكر الأنظمة المحايدة…إلخ». ولا أدري ما الذي دفع الكاتب إلى وضع اسم سوريا هنا؛ فتاريخيّاً لم تعرف سوريا حروباً مذهبيّة أو طائفيّة أو أهليّة قبل عام 2011م، حتّى أحداث حماة لم تكن طائفيّةً؛ فقد عانى المجتمع السوري ـ المتنوِّع والمتعدِّد في أديانه ومذاهبه وطوائفه واثنياته وقومياته ـ من التطرُّف والتعصُّب والإرهاب الإقليمي والدولي، ومن هيمنة التنظيمات والميليشيات العنفيّة الإرهابيّة المدعومة إقليميّاً ودوليّاً!

إنّ سوريا بلدٌ علماني في دستوره ومؤسّساته وهياكله الإدارية والسياسية والمدنية، ولم تعرف في تاريخها الحديث أيّ تهميشٍ لأيّ أقلِّية، إسلامية كانت أم غير إسلامية. بالعكس عُرِفَ عنها أنها حاميةُ الأقلِّيات، وموطن التعدُّديات، الاثنية والقومية والدينية وغيرها.

أما موضوع اندراج سوريا في خطّ الممانعة أو محور المقاومة فالموضوع يعود إلى بدايات الثورة الإسلامية الإيرانية، وله أُسُس تاريخية سياسية، تعود ـ في حيِّزٍ مهمٍّ منها ـ إلى فترة تأسيس حزب الله في لبنان في العام 1982م. ولا أتصوَّر أن للبُعْد المذهبي الطائفي الدَّوْر المهمّ فيه، فالتحالفات تبقى خاضعةً لظروفها وتحدِّياتها وإشكالات الواقع السياسي القائم حولها. وسوريا تاريخيّاً بلدٌ مقاوم، خاض حروباً عديدةً ضدّ إسرائيل، حتّى قبل أن ينبلج فجر الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

5ـ نواةٌ لمذهبٍ اجتماعيّ شيعيّ إسلاميّ

أتساءل هنا: هل يمكن لهذا الكتاب أن يشكِّل نواةً لمذهبٍ اجتماعي شيعي إسلامي؟ حيث إن استخدامنا هنا لمفهوم أو مصطلح «مذهب اجتماعيّ» يعني مجموعة الأفكار والمفاهيم الدينية الإسلامية (الشيعية) التي يمكن الوصول إليها من خلال تحليل نصوص القرآن والأحاديث الشريفة (الواردة على لسان النبيّ والأئمّة) ومجمل «كلاميّات» ونصوص العلماء والفقهاء، في ما يتعلَّق بالمسألة الاجتماعية، وضرورة العمل على تطويرها وتجديدها، بحيث يمكن أن تُقدَّم كإطارٍ فكري مفاهيمي لمنظومةٍ إسلامية على الصعيد الاجتماعي؛ لتكون معبِّرةً عن «المذهب الاجتماعي الشيعي الإسلامي» في غاياته، المتمثِّلة بإقامة العدل بين الناس، وردّ المظالم، وفصل الخصومات، وإحقاق الحقوق، وتوجيه الاهتمام بالعلوم ووسائل التقدُّم والرقيّ الحضاري، والسعي الحثيث لإقامة التكافل الاجتماعي داخل المجتمع.

ما تقدَّم يحتاج إلى بيئةٍ نظرية أو مرجعيّةٍ نظرية وتشريعية معيارية ضابطة، يمكن من خلالها صياغة المفاهيم والتنظير للمذهب الاجتماعي الإٍسلامي. وهذا ما لاحَظْناه لدى أحد كبار المراجع الإسلاميين المتنوِّرين، وهو السيد محمد باقر الصدر، الذي أكَّد على أن معالجة موضوعة «المذهب الاجتماعي في الإسلام» يجب أن تستند إلى مؤشِّرات عامّة، تعبِّر عن روح «الشريعة» ومقاصدها، يطلق عليها الصدر مصطلحاتٍ عدّة، هي: اتجاه التشريع والهدف المنصوص لحكمٍ ثابت، والقِيَم الاجتماعية التي أكَّد الإسلام على ضرورة الاهتمام بها([4]).

خاتمةٌ

وفي نهاية هذه المراجعة السريعة لهذا الكتاب نتوجَّه بالشكر والتقدير للكاتب على إنجازه النوعيّ، وعلى المجهود الفكري الأكاديمي الغنيّ والرائد، الذي بذله في استعراضٍ تاريخيّ حافل بالوقائع والتواريخ والتفاصيل والحيثيات التاريخية والوصفية، بما يدلّ على امتلاكه لعقلٍ موسوعي، مسلَّحٍ بأدواتٍ معرفية فعّالة وشديدة التأثير، وقابضٍ على عدّةٍ معرفية فعّالة، مكَّنته من التجوال العقلي، واصفاً وشارحاً ومحلِّلاً، في محطّات وامتدادات تاريخ المسلمين الشيعة، منذ بدايات تأسيس اجتماعهم الديني قبل نحو 14 قرناً وإلى يومنا هذا.

كما أرجو أن يتقبَّل ـ وهو المثقَّف النقديّ الصارم ـ ما أَثَرْناه من نقاطٍ تاريخية وإضاءاتٍ فكريّة، نزعم أنها قد تشكِّل إضافةً نوعية إلى بعض مفاصل كتابه الفريد، آملاً أنْ تفتح نقاشاتٍ جِدِّيةً في هذا المجال؛ خدمةً للفكر والمعرفة الحقيقية.

الهوامش

(*) كاتبٌ وباحثٌ سوريّ، مهتمٌّ بشؤون الثقافة العربيّة والإسلاميّة ومختلف إشكاليّاتها التاريخيّة والمعاصرة. له كتبٌ ومقالاتٌ عديدةٌ ومتنوِّعة.

([1]) للتوسُّع والاستزادة يمكن العودة إلى أحد أهم كتب الراحل شمس الدين، وهو كتاب (في الاجتماع السياسي الإسلامي)، الصادر عن المؤسّسة الدولية للدراسات والنشر، لبنان ـ بيروت، ط1، 1992م. وقد بحث فيه موضوعاً مهمّاً يتعلَّق بحيِّزٍ مهمّ ممّا نراجعه في هذا الكتاب، من اجتماعٍ شيعي، أو ما يسمِّيه الراحل شمس الدين بـ (الخصوصية الشيعية في إطار الإسلام): 200 وما بعدها.

([2]) راجِعْ: جريدة الوطن الكويتية، تاريخ: 27 / 1 / 1994؛ وكتاب (الأمّة والدولة والحركة الإسلامية): 168 ـ 172، للشيخ الراحل الإمام محمد مهدي شمس الدين، منشورات مجلّة الغدير، 1994م؛ ويُنظَر خصوصاً في هذا الشأن كتاب (الوصايا)، للشيخ شمس الدين.

([3]) يُنْظَر في هذا المجال كتاب (نظام الحكم والإدارة في الإسلامي)، وكتاب (في الاجتماع السياسي الإسلامي)، بالإضافة إلى عددٍ من الدراسات والأبحاث حول ولاية الأمّة على نفسها، وموضوعات الوحدة الإسلامية والتقريب بين المذاهب.

([4]) محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة: 41 ـ 55، دار التعارف، لبنان ـ بيروت، 1990م.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً