أحدث المقالات

الشيخ محمد الخالدي(*)

 

3ـ تلقيح الزوجة بنطفة أقاربها

كما لو لُقِّحت الزوجة بماء أبيها أو أخيها أو عمِّها أو خالها ممَّنْ يحرم عليها؛ بسبب النَّسَب، أو لُقِّحت بماء ابن عمِّها أو ابن خالها أو عمّتها أو خالتها ممَّنْ يحل لها نكاحه، وإنما حرم لكونها في عقد زواجٍ من رجلٍ آخر،فهنا لا بُدَّ من التفصيل بين الحالتين السابقتين، في أن ماء الأقارب هل هو منشأ تكوُّن الطفل أم أنه مجرد عالم مساعد لتنشيط حيامن الزوج على التلقيح؟ ولا بُدَّ من استعراض الأدلة العامة التي مرَّتْ في الصورة السابقة، ثم بيان الأدلة الخاصّة على الحرمة، في الحالتين، في هذه الصورة.

الأدلّة العامّة على حرمة التلقيح بنطفة الأجنبيّ

أـ الآيات القرآنيّة

يمكن الاستدلال على حرمة التلقيح المذكور بكلتا حالتَيْه بإطلاقات الآيات السابقة التي استدلّ بها على حرمة التلقيح بماء الأجنبي مطلقاً؛ فإن مقتضى الآيات الثلاثة الأولى، والآية السادسة، وجوب حفظ الفروج عن غير الأزواج والزوجات أو ما ملكت الأَيْمان، وحرمته على غيرهم. وهو بإطلاقه شاملٌ لحالة الممارسة الجنسية أو التلقيح الصناعيّ. كما أن الآية الرابعة الدالّة على حرمة الفواحش مطلقاً شاملةٌ أيضاً لما يكون بواسطة التلقيح الصناعي. وهكذا الآية الخامسة الدالة على اختصاص الزوجة بأنها حرثٌ للزوج، دون غيرها، فإنها دالّةٌ على حرمة جعلها حرثاً للغير، ولو بواسطة التلقيح؛ إذ الحرث هو المنبت الذي يقصد منه الولد.

ولكنّ كلَّ ما أُفيد محلُّ نظرٍ؛ من جهة أن مناسبات الحكم والموضوع توجب صرفها إلى الحفظ عن الممارسات الجنسية، لا مطلقاً، ولو بالتلقيح، وخصوصاً مع عدم منافاة الحفظ في نظر العُرْف مع التلقيح الصناعيّ برضا الزوج. كما أن الآية الرابعة تحرِّم ما يصدق عليه عنوان الفاحشة، ومن البعيد صدقه عُرْفاً على التلقيح. وكذلك الآية الخامسة هي ـ كما ذكَرْنا سابقاً ـ ليست في مقام البيان من هذه الجهة، بل في مقام بيان جواز جميع الاستمتاعات بين الزوج والزوجة، دون تعيينٍ لكيفيّةٍ معيَّنة أو زمانٍ معين، ولو سُلِّم أنها في مقام البيان من جهة اختصاص كون المرأة حرثاً للزوج، دون غيره، فمن الواضح أن مناسبة الحكم للموضوع تقتضي الانصراف إلى الحرث بمعنى الممارسة الجنسية الموجبة لإنبات الولد، لا مطلقاً.

وعلى أيّ تقديرٍ، لو سُلِّم شمول الآيات لمثل التلقيح فحَتْماً ستختصّ الحرمة بصورة التلقيح بماء الأجنبي مستقلاًّ، فلا تكون دليلاً إلاّ على حرمة التلقيح بماء أقارب الزوجة مستقلاًّ، بحيث يكون تولُّد الطفل من مائه، وأما لو كان التلقيح به مخلوطاً مع ماء الزوج، بحيث يكون مجرّد عامل مساعد على التلقيح، فلا تشمله إطلاقات الآيات الدالّة على الحرمة.

ب ـ الروايات الدالّة على التحريم مطلقاً

وأيضاً نرجع إلى الروايات السابقة في الصورة الثانية؛ بدعوى أن العناوين الواردة فيها؛ كإقرار النطفة في رحم الغير؛ أو إفراغ الماء في المرأة المحرَّمة؛ أو وضعها في رحمٍ محرَّم؛ أو تضييع النطفة في غير محلّها؛ أو حرمة نقله من الزوجة إلى امرأةٍ لا تحلّ، ولو بالمساحقة؛ أو العلة الواردة في تحريم الزِّنى، وأنه يوجب ذهاب الأنساب وترك تربية الأطفال وفساد المواريث، كلّ هذه العناوين شاملةٌ لموارد التلقيح، ومنها: التلقيح بماء أقارب الزوجة.

والمناقشةُ في شمول إطلاقها للتلقيح كما مرَّ؛ لانصرافها إلى الممارسات الجنسية. كما أن حرمة نقل النطفة واردٌ في مورد تحريم السحاق، لا غير، وأن الحدّ والعقاب ترتَّب على نفس المساحقة، لا مجرّد النقل، ولو بدونها. كما أن ما دلّ على أن تحريم الزِّنى وغيره من جهة تضييع الأنساب وتربية الأطفال وفساد المواريث إنما هو مجرّد حكمةٍ في المقام، ولو كان علّةً لما صحّ تعميم الحرمة إلى غير موارد الزِّنى؛ لعدم الجَزْم بعموم الحكم لها.

ثمّ إنه لو سُلِّم تمامية دلالة الروايات على حرمة التلقيح فلن تكون شاملةً لحالة التلقيح بماء الأجنبي منزوع الحيامن، كما هو واضحٌ.

ج ـ تعليل حرمة الزِّنى بتضييع الأنساب والمواريث

حيث يُتمسَّك بعموم هذا التعليل.

ولكنْ يمكن المناقشة فيه بما مرَّ، من أن المتفاهَم العُرْفي منها هو صدق عنوان الزِّنى أو ما يناسبه من الممارسات الجنسية، وأن التعليل منصرفٌ إلى ما عُلِم من الشارع إلغاء سببيّته للتوارث والأنساب، لا مطلق التسبيب، ولو كان بالتلقيح. كما أن عموم التعليلات لو شملَتْ حالة التلقيح بماء الأجنبي الحاوي على الحيامن مستقلاًّ، بحيث يتولَّد الولد منه، فلن تكون شاملةً حَتْماً لحالة التلقيح بمائه منزوع الحيامن، ممزوجاً بماء الزوج، بحيث يتولَّد الطفل من ماء الزوج، ويكون دَوْر ماء الأجنبي منزوع الحيامن مجرَّد التنشيط عند ضعف ماء الزوج على التلقيح.

د ـ الارتكاز المتشرِّعيّ في حرمة الحمل من الأجنبيّ

بدعوى أن الارتكاز المتشرِّعي قائمٌ على حرمة تسبيب المرأة إلى الحمل من الأجنبي الذي لا تربطه بها صلةٌ مصحِّحة لانتساب الولد إليها. وهذا الارتكاز شاملٌ لحالات التسبيب الى الحمل بواسطة الممارسة الجنسية وغيرها، كالتلقيح الصناعي. ولا إشكال في ثبوت هذا الارتكاز في زمان المعصوم× ومعاصرته له.

ولكنْ ذكَرْنا سابقاً أنه من المحتمل جدّاً نشوء هذا الارتكاز في طول الأدلة الأخرى زماناً، ومن جهة توهُّم عموم الإطلاقات للآيات والرويات الدالّة على حرمة إقرار النطفة أو وضعها في رحمٍ لا يحلّ، أو من جهة عموم التعليلات الواردة في حرمة الزِّنى، فإذا نوقش في هذه الإطلاقات والعمومات للآيات أو الروايات أو التعليلات الواردة في حرمة الزِّنى لا يبقى مجالٌ للتمسُّك بالارتكاز المذكور.

هـ ـ أصالة الاحتياط في الدماء والفروج

وذلك من خلال القاعدة الميرزائية السابقة، الدالّة على لزوم الاحتياط في الدماء والفروج؛ أو من جهة الروايات الكثيرة الدالّة على مضمون القاعدة، وحيث إن التلقيح من موارد الفروج فلا بُدَّ من الاحتياط فيه.

الأدلّة الخاصّة على حرمة تلقيح الزوجة بنطفة أقاربها

ويقع الاستدلال عليها بعدّة وجوه:

الوجه الأوّل: الآيات الدالة على تحريم الأنساب، كقوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُم وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّنْ نِّسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَّمْ تَكُونُوا دَخَلتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾ (النساء: 23)، فإنها وإنْ كانت خطاباً للرجال في ظاهر الآيات، ولكنْ بمقتضى قاعدة الاشتراك في الأحكام بين الرجال والنساء ـ إلاّ ما دلّ عليه الدليل، أو كان بطبعه مختصّاً بأحدهما، كأحكام الحَيْض المختصّة بالنساء ـ تثبت الحرمة على النساء أيضاً، وبإطلاق الحرمة يشمل مورد التلقيح بماء أقارب الزوجة، كالأب أو الأخ وغيرهما.

ولكنّ الآية ـ كما هو ظاهرها ـ ناظرةٌ إلى تحريم النكاح بالممارسة الجنسية، وليست ناظرةً إلى مطلق الإقرار للنطفة، ولو بواسطة التلقيح الصناعي.

الوجه الثاني: الروايات الدالّة على تحريم النساء بالنَّسَب، كالأمّ وإنْ علَتْ والبنت والأخت وغيرهما([1])؛ فإنها تدلّ بإطلاقها على حرمة التلقيح بماء أقارب الزوجة.

ولكنْ فيها ما مرَّ من التشكيك بالإطلاق. ولو سُلِّم فلا يشمل إلاّ صورة انفراد ماء الأقارب بالتلقيح وتكوين الطفل، دون ما لو كان مجرّد عاملٍ مساعدٍ للتلقيح.

الوجه الثالث: الارتكاز المتشرِّعي القائم على حرمة التسبيب إلى الحمل من أقاربها، وذلك بدعوى القطع بعدم رضا الشارع بالتسبيب إلى أن تحمل المرأة من أقاربها، كالأب والجدّ والأخ وغيرهم. ولا فَرْق في هذا الارتكاز بين المباشرة الجنسية بينهما وعدمها، كما في حالة التلقيح.

الوجه الرابع: الارتكاز المتشرِّعي القائم على عدم رضا الشارع باختلاط الأنساب مع أقاربها؛ إذ من الأمور الواضحة لدى المرتكز المتشرِّعي أن الشارع الأقدس حتّى لو جوَّز التلقيح بماء الأجنبي، وجوَّز التسبيب إلى الحمل من خلاله، وإلى حدوث النَّسَب، ولكنه لا يسمح بذلك بين الأقارب، كأخ الزوجة وغيره؛ لما فيه من مفسدةٍ في اختلاط الأنساب وضياعها، ممّا يقطع بعدم رضا الشارع بحدوثه بين الأقارب؛ إذ لا نحتمل أصلاً أن يرضى الشارع بأن تكون بنت الشخص أو أخته أمّاً لولده. وحيث إن المصحِّح للانتساب هو النطفة، كما مرَّ في ما رواه الشيخ الطوسي بإسناده المعتبر عن المعلّى بن خنيس قال: «سألتُ أبا عبد الله× عن رجلٍ وطأ امرأتَه، فنقلَتْ ماءَه إلى جاريةٍ بِكْرٍ، فحبلَتْ، فقال×: الولد للرجل، وعلى المرأة الرَّجْم، وعلى الجارية الحدّ»([2])، يلزم من ذلك انتسابُ الولد إلى صاحب النطفة، أي الأب أو الأخ.

نعم، يمكن المنع من شمول هذا الارتكاز، وسابقه، لصورة التلقيح بمائه الخالي من الحيامن، مع خلطه بماء الزوج، بحيث يكون التلقيح ناشئاً من ماء الزوج، لا من ماء أقارب الزوجة.

ولكنّ الإنصاف أن الإفتاءَ بجوازه، حتّى في مثل هذه الصورة، خلافُ الاحتياط، بل المطمأنّ به من قِبَل الشارع أنه لا يرضى بحدوث أيّ صلةٍ من جهة أقارب الزوجة معها، ولو بما يشبه النكاح.

4ـ تلقيح الزوجة بنطفة الأخ الرضاعيّ وشبهه

وذلك بأن تلقَّح الزوجة بماء الأخ من الرضاع الموجب للتحريم، لا مطلقاً. فقد يُقال بالحرمة من جهة عدم الفَرْق بينه وبين الأخ النسبي. ولكنّ الصحيح أن الأدلة الدالة على حرمة الأخ الرضاعي، كالآيات والروايات، قاصرةٌ عن شمول مثل التلقيح، وخصوصاً لمورد كون الماء مجرّد عاملٍ مساعد لتقوية ماء الزوج على عملية التلقيح. كما أن الارتكاز على حرمة التسبيب إلى الحمل أو الانتساب ممنوعٌ.

نعم، قد يُقال في المقام بشمول قاعدة الاحتياط في الدماء والفروج لصورة كون الموجب لتكوُّن الولد هو ماء الأخ الرضاعي، فليتفطَّنْ.

5ـ تلقيح الزوجة بنطفة الزوج وبويضة البِكْر الأجنبيّة

وحيث إن الكلام في التلقيح الداخلي، أي في داخل رحم الأجنبيّة صاحبة البويضة، فيأتي فيه الكلام الجاري في الصور السابقة تفصيلاً، من الأدلة العامّة الدالّة على حرمة إقرار النطفة في امرأةٍ حرام؛ كما يأتي فيها الاستدلال بحرمة التسبيب إلى حمل الأجنبية وحصول التوارث معها بلا سببٍ. فإنْ قلنا بإطلاق تلك الأدلّة قلنا بالحرمة، وإلاّ فإننا نقول بالجواز.

نعم، قد يُضاف في المقام أن لازم تلقيح الأجنبية البِكْر التسبُّب إلى حملها، وهو مستَهْجَنٌ بحَسَب المرتكز المتشرِّعي الثابت في زمان الأئمّة^، بل يدلّ عليه عموم التعليل الوارد في حرمة الزِّنى، من تضييع الأنساب والمواريث؛ لعدم تحقُّق الانتساب إلى الرجل، إلا عُرْفاً، بما لا يوجب التوريث.

وقد يستدلّ على حرمة التلقيح للبِكْر الأجنبية بأن الحمل يوجب إزالة بكارتها، وهو حرامٌ على الفاعل، بل عليه الدِّيَة والتعزير.

ولكنّ هذا الكلام الأخير يمكن المناقشة فيه؛ إذ الكلام في المقام مع رضا الأجنبية، فلا تصدق الجناية عليه حتى يستوجب الدِّيَة والتعزير. كما أن الأدلة الدالّة على ثبوت الحدّ والتعزير منصرفةٌ إلى صورة المباشرة في إزالته، وليست شاملةً لمثل التسبُّب فيه بواسطة الحمل.

6ـ تلقيح الزوجة بنطفة الزوج وبويضة إحدى قريباتها

كما لو قام بتلقيح أخت الزوجة أو أمها بمائه تلقيحاً داخليّاً. ويمكن الاستدلال على حرمة هذه الصورة أيضاً بالأدلة العامة الدالة على حرمة إقرار مائه في رحمٍ لا يحلّ له، من الآيات السابقة؛ والروايات؛ وعموم التعليل؛ والارتكاز المتشرِّعي القائم على حرمة التسبّيب إلى إحداث الحمل للأجنبيّة؛ باعتبار أن الجميع لو شمل التلقيح، ولم يختصّ بصورة الممارسة الجنسية المباشرة، فلا بُدَّ من شموله لمثل هذه الصورة. كما يمكن الاستدلال عليها بأدلة حرمة النكاح بالمصاهرة؛ فإن أخت الزوجة تكون محرّمةً على الزوج؛ لحرمة الجمع بين الأختين، بل تكون الحرمة مشدَّدة لو كانت أقارب الزوجة ذات بعلٍ أيضاً؛ فمن الواضح أنه سيكون ذلك تسبيباً إلى حمل الزوجة من ماء الأجنبي، كما مرَّ في الصور السابقة.

ثمّ إنه لو وضعت بويضة أخت الزوجة في رحم الزوجة، ثم لقِّحَتْ بماء الزوج، فهل يحكم بالجواز أم لا؟

 حكم السيد الخوئي& بعدم البأس في هذه الصورة، لو كان الإخراج محلَّلاً([3]). ولعلّ الوجه فيه ما ذكَرْناه من انصراف أدلة التحريم عن التلقيح الصناعي، واختصاصها بحرمة الممارسات الجنسية، لا غير، مع عدم المحذور من جهة النَّسَب؛ إذ ستكون الأم هي الزوجة، لا صاحبة البويضة؛ لقوله تعالى ﴿إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ﴾ (المجادلة: 2).

7ـ تلقيح الزوجة بنطفة الزوج وبويضة إحدى قريباته

كما لو لُقِّح بماء الزوج بويضة أخته أو أمه أو جدّته أو خالته أو عمّته، ممَّنْ يحرم عليه بالنسب. وهذه الصورة يمكن القول بحرمتها بالأدلة العامّة؛ وأيضاً بالأدلة الخاصّة الدالّة على حرمة نكاح النَّسَبيّات؛ بمقتضى شمول إطلاقها لمثل التلقيح. بل يمكن الاستدلال بما مرَّ من الارتكاز القائم على حرمة التسبيب إلى الحمل أو النَّسَب مع الأم والأخت والعمّة والخالة وما شابهها من النَّسَبيّات.

ولو مُنع من إطلاق الأدلة العامّة والخاصّة التي سبقَتْ وشمولها لمثل حالات التلقيح فلا بُدَّ من المنع من جهة قاعدة الاحتياط في الدماء والفروج، بل من جهة الارتكاز القائم على حرمة التسبيب إلى أيّ صلةٍ مع الأقارب النَّسَبيِّين مطلقاً.

8ـ تلقيح الزوجة بنطفة الزوج وبويضة الأجنبيّة غير النَّسَبيّة وغير البِكْر

كما لو كانَتْ هناك امرأةٌ مشهورة بالزِّنى، فقام بالتلقيح معها. وهذا المورد لا إشكال في حرمته، بل دخوله في أدلة حرمة الزِّنى؛ لأن الغرض من التحريم هو حفظ الأنساب وعدم ضياعها، كما أن الغرض منه تصحيح التوارث بين الطرفين، مع أنه غير حاصلٍ إلاّ بعقدٍ أو ملك يمينٍ، وهو منتفٍ بحَسَب الفَرْض. بل قاعدة الاحتياط في الدماء والفروج شاملةٌ لها أيضاً؛ لأنه تصرُّف في فَرْج الأجنبية بلا إشكال.

نعم، لو حصل الوطء لشبهةٍ، عن جهلٍ قصوريّ، كما لو تصوَّر جريان البراءة في المقام، فقام بالتلقيح، فحينئذٍ يمكن القول بالجواز، والإلحاق من جهة وطء الشبهة المصحِّح للإلحاق.

9ـ تلقيح الزوجة بنطفة الزوج وبويضة أنثى الحيوان

كما لو تمّ التلقيح بين ماء الزوج وبويضة قردةٍ مثلاً تلقيحاً داخلياً.

وقد تقرب الحرمة في المقام؛ لعدّة وجوه:

الوجه الأوّل: التمسُّك بإطلاق قوله تعالى ﴿فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ﴾ (المؤمنون: 7؛ المعارج: 31)، بدعوى شمول إطلاقه لهذه الصورة؛ إذ كان من الممكن للحقّ تبارك وتعالى أن يختم الآية بقوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾ (المؤمنون: 5 ـ 6؛   المعارج: 29 ـ 30)، إلاّ أنه فرَّع على ذلك أنه مَنْ ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون([4]). ويؤيِّده ما ورد في تفسيرها من أنه «مَنْ جاوز ذلك فأولئك هم العادون»([5])، فإن مقتضى إطلاقها أيضاً شموله لمثل المقام.

ولكنْ لا يمكن المساعدة على هذا الاستدلال؛ لأن سياق الآية ليس في مقام التشريع لوجوب حفظ الفروج وحرمة التعدّي عن المحلّل منها، بل في مقام بيانه كصفةٍ من صفات المؤمنين الكاملين، فلا إطلاق لها من هذه الجهة. ولو سُلِّم أنها في مقام البيان فمقتضى مناسبات الحكم للموضوع انصرافها إلى الممارسات الجنسية التي يصدق عليها الزِّنى، ولو بضميمة ما ورد في معتبرة أبي بصير، عن أبي عبد الله×، أنه قال «كلّ آيةٍ في القرآن في ذكر الفروج فهي من الزِّنى…»([6]). بل لو سُلِّم عمومها لغير الممارسات الجنسيّة، كالتلقيح، فلا بُدَّ من تخصيصها بالصورة التي تكون بين نطفة الأجنبي والأجنبية؛ إذ إن اسم الإشارة في قوله تعالى: ﴿وَرَاءَ ذَلِكَ﴾ يعود إلى المحلَّل من النساء، فلا يمكن شموله لغيره من الحيوانات؛ إذ من البعيد جدّاً أن يكون الملاك في مدح المؤمنين الكاملين هو ابتعادهم عن الممارسات الجنسيّة وغيرها مع البهائم، مما تنفر الطباع منه، وتمجّه الأسماع أصلاً، وخصوصاً للكامل فيهم.

الوجه الثاني: التمسُّك بعموم الرواية الواردة في ثبوت الفَرْق بين الحدّ على الزاني وشرب الخمر؛ حيث علَّلت الفَرْق بأنه «زيد هذا لتضييعه النطفة، ولوضعه إياها في غير موضعه الذي أمره الله عزَّ وجلَّ به»([7])؛ فإن التعليل شاملٌ للصورة محلّ الكلام.

ولكنّ هذه الرواية ـ مضافاً إلى ضعف سندها، كما مرَّ ـ ليست في مقام بيان العلّة، بل مجرّد الحكمة. كما أنه لو سُلِّمت دلالتها على العلّة فمن الواضح جدّاً انصرافها إلى الممارسات الجنسية، دون غيرها، كالتلقيح. بل لو سُلِّم التعميم فلا بُدَّ من الالتزام باختصاصه بالتلقيح بين ماء الرجل والمرأة، دون أنثى الحيوان؛ لأجل انصرافها إلى المحرَّم من النساء.

الوجه الثالث: ما ورد في بعض الروايات من التعبير الشامل لهذه الصورة، كقوله× «إن أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة رجلٌ أقرَّ نطفته في رحمٍ يحرم عليه»([8])، وقول النبيّ| «ما من ذنبٍ أعظم عند الله تبارك وتعالى، بعد الشرك، من نطفةٍ حرام وضعها امرؤٌ في رحمٍ لا تحلّ له»([9])؛ بدعوى عموم الرحم الحرام، أو التي لا تحلّ، لرحم أنثى الحيوان؛ لما ورد من إطلاقه عليها، فيقال «ناقةٌ رَحُوم: أصابها داءٌ في رحمها فلا تلقح»([10])، وبإطلاقها تشمل التلقيح الصناعي.

ولكنّ الاستدلال المذكور واضحُ الضعف؛ إذ إن المنصرف من الرحم الحرام أو التي لا تحلّ في الروايات هو رحم المرأة الأجنبية؛ فإن التحريم وعدم التحليل إذا ورد في الروايات ينصرف إليها، دون غيرها. ولو سُلِّم التعميم فلا يمكن التعميم لغير الممارسات الجنسية أيضاً؛ لانصراف الرويات إليها، مضافاً إلى المناقشة السندية في أسنادها، كما مرَّ الحديث عنه.

الوجه الرابع: التمسُّك بعموم التعليل الوارد في بيان علّة تحريم الزِّنى، فعن الرضا× «وحرَّم الله الزِّنى لما فيه من الفساد، من قتل النفس، وذهاب الأنساب، وترك التربية للأطفال، وفساد المواريث، وما أشبه ذلك من وجوه الفساد»([11]). وهذه الأمور حاصلةٌ في صورة تلقيح ماء الرجل ببويضة أنثى الحيوان، كالقرد.

ولكنّ الوجه المذكور غريبٌ جدّاً،إذ من الواضح جدّاً أن الأنساب والمواريث إنما تثبت أو تنفى شرعاً باعتبار الإنسان، وأما ضياعُها بواسطة التلقيح مع الحيوان فممّا لا ينبغي تبادره من الأدلة الشرعية المحرِّمة للزِّنى. كما أن المعلَّل ـ وهو الزِّنى ـ ينصرف إلى وَطْء المرأة، دون مطلق الأنثى، ولو من الحيوان. ودعوى التعبير بالزِّنى عن وَطْء البهيمة في بعض الروايات، كقول أبي عبد الله×: «كلّ ما أنزل به الرجل ماءه، من هذا وشبهه، فهو زِنَى»([12])، محمولٌ على التنزيل الحكمي، لا الإطلاق الحقيقي والصدق الموضوعي.

نعم، لو استدلّ لحرمته بحرمة التسبيب إلى الحمل، الموجب لتولُّد الولد من غير أمٍّ، لكان له وجهٌ. ولا يصحّ المناقشة فيه من جهة ما قد يُدَّعى من كون «النسب علقة تكوينية، وهي بحَسَب تكوُّن الجنين من ماء الرجل وبويضة الأمّ، وهذا بحَسَب مادة (ولد يلد) المستعملة في جميع الموجودات العنصرية والنباتية والحيوانية، فضلاً عن الإنسانية… وإن ما ورد من النصوص في ابن الزِّنى بحَسَب الأحكام في الأبواب المختلفة ليس مفاده قطع النَّسَب، كما يتوهَّم من عبارات مشهور الأصحاب، بل المراد تصنيف النَّسَب إلى قسمين: أحدهما: النَّسَب المتولِّد من الحلال؛ والآخر: المتولِّد من الحرام، وقد سلب عن الثاني عدّةً من الأحكام»([13])؛ فان هذا الكلام، فضلاً عن عدم الشاهد عليه، لا يمكن المساعدة عليه، من جهة أن الظاهر من موضوع الأحكام، كالتوريث وغيرها، النَّسَب الشرعيّ، ولا معنى لتقسيم النَّسَب إلى قسمين، بل هو مجرّد تمحُّلٍ لا دليل عليه. ومجرد صدق المادّة العرفية لا يكفي لحمل الروايات المصرِّحة بنَفْي العلقة النسبية، كما في موارد المتولِّد من الزِّنى؛ فإن ظاهر تلك الأدلّة النَّفْي الموضوعي، وليست في مقام النَّفْي التنزيلي الحكمي، الناظر إلى نَفْي الأحكام.

الوجه الخامس: التمسُّك بإطلاق أدلة تحريم وَطْء الدابّة، كقوله×: «ملعون مَنْ نكح بهيمةً»([14])، أو عموم العلّة الواردة في ذَيْل بعضها، من أنه «لو أباح الله ذلك لربط كلّ رجلٍ أتاناً يركب ظهرها، ويغشى فَرْجها، وكان يكون في ذلك فسادٌ كثير، فأباح الله ظهورها، وحرَّم عليهم فروجها، وخلق للرجال النساء؛ ليأنسوا ويسكنوا إليهنَّ، ويكنّ موضع شهواتهم وأمَّهات أولادهم»([15]). ومن الواضح أن تحليل الصورة المذكورة يوجب المفاسد الكثيرة أيضاً.

هذا، ولكنّ الوجه المذكور في غاية الغموض؛ فإن الروايات الأولى لا شمول لها لمثل التلقيح؛ لوضوح أن المتفاهَم العُرْفي من نكاح البهيمة هو الإيلاج والممارسة الجنسية، لا مجرّد التلقيح بدونها، بل ورد السؤال في بعضها عن ثبوت الحدّ على مَنْ يأتي البهيمة فيولج([16])، وهذا صريحٌ في الممارسة الجنسية، ومقتضى التطابق بين السؤال والجواب هو النظر إليها أيضاً.

10ـ تلقيح الزوجة بنطفة الرجل وبويضةٍ صناعيّة

وحيث إن البويضة الصناعيّة قد تكون من خلايا الرجل أو المرأة أو الحيوان أو النبات، والرجل قد يكون الزوج أو غيره، وصاحبة الرحم قد تكون الزوجة أو غيرها، فلا بُدَّ من البحث في جميع هذه الحالات:

1ـ التلقيح في رحم الزوجة بين نطفة الزوج وبويضةٍ صناعيّة من خلاياه

وذلك بأن تأخذ الخلية مثلاً من نخاعه الشوكي، باعتباره موضع تولُّد النُّطَف، ثم تحفَّز على الانقسام إلى خلية أحادية، ثم توضع في رحم زوجته، قبل تلقيحها بحيامنه، ثمّ يتمّ التلقيح بحيامن الزوج داخليّاً.

وهذه الصورة لا يُتصوَّر وجهٌ في تحريمها من الوجوه السابقة؛ فإن الآيات الدالّة على حرمة الفروج على غير النِّساء والإماء لا تشمل هذه الصورة، بعد كون التلقيح في رحم الزوجة، حتّى لو قلنا بإطلاقها لمثل التلقيح الصناعي، وعدم اختصاصها بالممارسات الجنسية. كما أن الآية الدالة على وجوب حفظ النساء فروجهنّ لا تشمل المقام كذلك. وهكذا الآية التي تدلّ على أن النساء حَرْثٌ للرجل؛ فإنها على الحلِّية أدلّ.

وأما الرويات فإنه لو سُلِّم شمولها للتلقيح الصناعي فلا يُعَدّ هذا التلقيح إفراغاً للمني أو الماء في غير ما أحلّ الله تعالى، ولا إقراراً لها في ما حرَّم الله، أو في رحمٍ حرامٍ، أو لا تحلّ. كما لا يصدق على هذه الصورة من التلقيح أنها تضييعٌ للنطفة في غير محلّها؛ إذ كلّ تلك الألسنة منصرفةٌ إلى التلقيح ـ لو شملَتْه ـ مع المرأة الأجنبيّة، بكلّ صوره.

وأما ما ورد بمثابة التعليل لحرمة الزِّنى في الروايات، من أنه «ذهاب الأنساب وتربية الأولاد» فالرواية على العكس أدلّ؛ لأن الأب النسبي هو صاحب النطفة، كما أن الأمّ هي التي ولدته، كما دلَّ عليه قوله تعالى: ﴿إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ﴾ (المجادلة: 2)، فلا تضييع للأنساب لو جاز هذا التلقيح. كما أن تربية الأولاد حاصلةٌ في المقام، وخصوصاً في صورة العقم الموجب لعدم التناسل. مع أن الوارد في الرواية       ـ كما ذكَرْنا سابقاً ـ ليس تعليلاً للحكم، بل بيانٌ لحكمةٍ من حكمه.

والحاصل أن الآيات والروايات إنْ لم تكن دالّةً على حلِّية هذه الصورة فلا أقلّ من عدم شمول الحرمة فيها لها.

وأما الارتكاز المتشرِّعي أو عموم التعليل الوارد في حرمة الزِّنى فمن الواضح جدّاً عدم شموله للمقام. كما أن قاعدة الاحتياط لا تشمل المقام جَزْماً؛ لانصراف أدلّتها إلى موارد الشبهة الحاصلة من عقد الزواج أو الطلاق أو ما يرتبط بها من العدد، كما أنه منصرفٌ إلى موارد الممارسات الجنسيّة، لا غير.

2ـ التلقيح في رحم الزوجة بين نطفة الزوج وبويضةٍ صناعيّة من خلاياها

وهنا لا ينبغي التشكيك في الحلِّية، بناءً على شمول أدلة تحليل الزوجة لزوجها حتّى لمثل التلقيح الصناعي، مع انصراف جميع الأدلة المحرِّمة إلى غيرها، من جهة الإقرار في الرحم، ومن جهة النطفة أيضاً.

3ـ التلقيح في رحم الزوجة بين نطفة الزوج وبويضةٍ صناعيّة من خلايا رجلٍ أو امرأةٍ آخرَيْن

وهذه الصورة ـ على فرض إمكانها ـ لا يمكن القول بحرمتها من جهة آيات حفظ الفرج؛ لعدم منافاة التلقيح المذكور مع الحفظ الواجب. كما لا يمكن القول بالحرمة من جهة روايات إقرار النطفة في رحمٍ لا يحلّ؛ إذ المفروض أن الرحمَ التي يتمّ فيها نموّ الجنين رحمُ الزوجة. كما لا يقال بأن هذا موجبٌ لاختلاط الأنساب؛ لكون الأمّ النسبية هي الأمّ الولادية، لا صاحبة الخليّة. ولو تمّ التعميم إليها فمن المستَبْعَد شموله للبويضة الصناعية من خليّة المرأة الأجنبية؛ إذ الأدلة الدالة على حرمة الزِّنى من جهة اختلاط الأنساب لو كانت شاملةً لمثل التلقيح الصناعي، وغير مختصّةٍ بالممارسات الجنسية، فلن تكون شاملةً لمثل المقام من كون البويضة مصنَّعةً من الخلايا، وليست طبيعيّةً؛ لوضوح أن الاختلاط في الروايات ناظرٌ إلى التلقيح المتعارف مع نطفة المرأة، بحيث يصحّ الانتساب إليها كأمٍّ، ومن البعيد صحّة الانتساب المذكور بمجرّد استخراج وتصنيع البويضة منها؛ لأن التحوُّل الحاصل في تلك الخلية يمنع من الانتساب المذكور، وإنْ كان العقل يجوِّز ذلك.

والحاصل أن الأدلة المذكور منصرفةٌ عنها. وكذلك الارتكاز المتشرِّعي لو قيل بشموله لمثل التلقيح.

نعم، يمكن القول بالتفصيل بين كون البويضة مصنَّعةً من أقارب الزوجة أو الزوج ـ كالأمّ أو الأخت وما يشبههما ـ وغير الأقارب، بتحريم الأولى، دون الثانية؛ للقطع بعدم رضا الشارع بحصول أيّ صلةٍ مع المحارم النسبيِّين من جهة الولادة. ولكنّنا ناقَشْنا سابقاً في ذلك، وقلنا: إنه لا يشمل مثل التلقيح، ممّا لا يوجب الممارسة المباشرة، فتأمَّلْ.

4ـ التلقيح في رحم الزوجة بين نطفة الزوج وبويضةٍ صناعيّة من خلايا الحيوان

وهنا نرجع إلى الأدلة التي ذكَرْناها في التلقيح بين نطفة الرجل وبويضة الحيوان. فلو أمكن شمولها للتلقيح الصناعي، وتعميمها لمثل الحالة المذكورة، أمكن القول بالحرمة؛ وإلاّ فلا يصحّ القول بها. وحيث إننا شكَّكْنا بدلالتها وشمولها لأصل التلقيح، فضلاً عن التلقيح مع بويضة الحيوان الطبيعية، فمن الأَوْلى عدم شمولها لمثل المقام.

5ـ التلقيح في رحم الزوجة بين نطفة الزوج وبويضةٍ صناعيّة من خليّةٍ نباتيّة

ومن الواضح حلِّية هذه الصورة، وعدم الدليل على حرمتها؛ لانصراف الأدلة جميعاً إلى بويضة الأنثى الإنسانية، وعدم شمولها للحيوانية، فضلاً عن النباتيّة وغيرها.

ومن العجيب ما تمسَّك به بعض الأساتذة، من القول بحرمة هذه الصورة؛ من جهة شمول قوله تعالى: ﴿فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ﴾ (المؤمنون: 7؛ المعارج: 31)؛ بدعوى شمول إطلاقها لمثل هذا التلقيح([17]).

وهذا الكلام لا يمكن المساعدة عليه؛ إذ من الواضح جدّاً أن الآية ناظرةٌ إلى التجاوز إلى غير النساء الحليلات في المقام؛ وأما شموله لمثل التلقيح ببويضةٍ صناعيّة من خلايا نباتيّةٍ أو غيرها فهذا ممّا لا يمكن القول به أصلاً، وخصوصاً مع سياق الآية الدالّ على عَوْد اسم الاشارة ﴿ذَلِكَ﴾ إلى النساء المحلَّلات، لا إلى العمليّة التي يحصل فيها التعدّي والتجاوز.

6…10ـ التلقيح في رحم الأجنبيّة بين نطفة الزوج وبويضةٍ صناعيّة من خلاياه؛ أو من خلايا الزوجة؛ أو من خلايا أجنبيّةٍ أو أجنبيّ؛ أو من خلايا حيوانيّةٍ أو نباتيّةٍ

وحكمها حكم الصورة السابقة (أي الصورة الثانية في القسم الأوّل من هذه المقالة [تلقيح الزوجة بنطفة أقارب الزوج])؛ لنفس الملاك والنكتة.

وعليه، هذه الحالاتُ جميعها قد يُقال بحرمتها؛ من جهة شمول الأدلّة السابقة لها، بناءً على شمولها للتلقيح.

وقد يُناقَش في الشمول؛ من جهة انصراف الأدلة السابقة جميعاً ـ لو تمّ إطلاقها لمثل التلقيح ـ إلى التلقيح الحاصل بين ماء الرجل وبويضة الأجنبية، وعدم شمولها لمثل المقام، الذي تكون فيه النطفة مصنَّعةً من خلايا.

ولكنّ الإنصاف أن ما دلّ على حرمة الزِّنى، وتعليله بضياع الأنساب، وكذلك الروايات الدالّة على حرمة إقرار النطفة في رحمٍ لا تحلّ، وحرمة إفراغ الماء في امرأةٍ حرام، أو حرمة وضع النطفة في غير محلّها، جميعها شاملةٌ لجميع هذه الحالات، بلا فَرْقٍ بين نوع البويضة ومنشئها. كما أن الآيات القرآنية الدالة على حفظ الفرج عن غير الزوجة والأَمَة شاملةٌ أيضاً؛ بإطلاقها، لمثل هذه الحالات.

نعم، المناقشة الأساسية هي ما ذكَرْناه سابقاً من التشكيك في شمول تلك الأدلّة لمثل التلقيح، بشتّى صوره، لا غير.

11…15ـ التلقيح في رحم أنثى حيوانٍ بين نطفة الزوج وبويضةٍ صناعيّة من خلاياه؛ أو من خلايا زوجته؛ أو من خلايا أجنبيّةٍ أو أجنبيّ؛ أو من خلايا حيوانيّةٍ من هذه الأنثى نفسها أو من حيوانٍ غيرها؛ أو من خلايا نباتيّةٍ

وهذه الحالات جميعها يرجع حكمها إلى أدلة حرمة إقرار النطفة في رحم البهائم. وقد مرَّ الكلام عنها، واتَّضح أن الأدلة قاصرةٌ عن الشمول لمثل التلقيح الصناعي. ولو شملَتْ فهي منصرفةٌ إلى التلقيح مع الأنثى الآدمية مطلقاً، ولا شمول لها لمثل الحالات المذكورة.

16ـ التلقيح في رحم الزوجة بين بويضتها ونطفةٍ صناعيّة من خلايا الزوج

وهذه الحالة يمكن القول بحلِّيتها؛ لعدم لزوم محذورٍ من المحاذير الموجبة للحرمة، كمنافاته لحفظ الفرج، أو صدق إقرار النطفة في رحمٍ لا تحلّ، أو عموم التعليل الوارد في تحريم الزِّنى، من ضياع الأنساب والمواريث؛ فإن جميع هذه المحاذير غير شاملةٍ للمقام. كما أن هذه الأدلة مختصّةٌ بالمرأة الأجنبية، لا غير. على أننا ناقَشْنا سابقاً في أصل شمولها لمثل التلقيح الصناعيّ مطلقاً.

17ـ التلقيح في رحم الزوجة بين بويضتها ونطفةٍ صناعيّة من خلاياها

وقد يُقال بتحريم هذه الحالة؛ من جهة عموم التعليل الوارد في حرمة الزِّنى، من ضياع الأنساب؛ إذ المفروض أن الأب النسبيّ سيكون صاحب الماء، ولا فَرْق بين الماء الطبيعيّ وغيره من هذه الجهة. وأدلة الحلِّية منصرفةٌ عن مثل المقام. فالقول بالتحريم، ولو من جهة الاحتياط في الفروج، قويٌّ.

18ـ التلقيح في رحم الزوجة بين بويضتها ونطفةٍ صناعيّة من خلايا أجنبيٍّ أو أجنبيّةٍ

وهنا قد يُقال بالحرمة؛ لشمول الآيات الدالة على حفظ الفروج عن غير المحلَّل من الرجال لمثل المقام، بناءً على شموله للتلقيح الصناعي. وكذلك الروايات الدالّة على حرمة إقرار النطفة في رحمٍ لا تحلّ دالّةٌ أيضاً على ذلك، بناءً على الشمول للتلقيح الصناعي؛ إذ لا فَرْق في الحرمة المذكورة بين الرجل والمرأة. كما أن التعليلات الواردة في ذَيْل تحريم الزِّنى، من ضياع الأنساب، لو شملَتْ التلقيح الصناعي فهي شاملةٌ للمقام أيضاً؛ إذ لا فَرْق في ضياع النَّسَب بين إقرار ماء الأجنبي في الرحم التي لا تحلّ وبين إقرار الماء المصنَّع من خلاياه، ما دام الأب النَّسَبيّ هو صاحب الماء.

19ـ التلقيح في رحم الزوجة بين بويضتها ونطفةٍ صناعيّة من خلايا الحيوان

وهذه الحالة قد يُتوهَّم القول بحرمتها؛ من أجل الأدلة الدالة على لزوم حفظ الفروج عمّا لا يحلّ، ولو بدعوى عموم الذَّيْل في قوله تعالى ﴿فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ﴾ (المؤمنون: 7؛ المعارج: 31).

ولكنّ هذا التوهُّم محلُّ نظرٍ؛ لانصرافها ـ كما ذكَرْنا ـ إلى المحلَّل والمحرَّم من النساء، لا غير. ومنه يتَّضح عدم شمول الروايات الدالّة على حرمة إقرار النطفة في رحمٍ لا تحلّ لمثل المقام، ولو قلنا بعمومها للرجل والمرأة، وللممارسات الجنسية وغيرها، كالتلقيح الصناعي؛ لأن مقتضى مناسبات الحكم للموضوع انصرافها إلى الرحم المحرَّمة من النساء على الرجال، لا غير.

نعم، يمكن القول بالحرمة من جهة التسبيب إلى إيجاد ولدٍ بلا والدٍ؛ لعدم صلاحيّة منشأ الماء للانتساب، كما هو واضحٌ. فإنْ ثبتَتْ حرمة التسبيب المذكور فبها، وإلاّ فلا يبعد القول بالحلِّية.

20ـ التلقيح في رحم الزوجة بين بويضتها ونطفةٍ صناعيّة من خلايا نباتيّةٍ

وهذه الحالة كسابقتها في عدم شمول أدلّة الحرمة لها، والمنع من عموم قوله تعالى: ﴿فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ﴾ (المؤمنون: 7؛ المعارج: 31) لمثلها. وانما الوجه في القول بالحرمة ما ذُكر من حرمة التسبيب إلى تولُّد ولدٍ بلا نَسَبٍ من جهة الأب، وإلاّ فلا يبعد القول بالحلِّية أيضاً.

21ـ التلقيح في رحم الأجنبية بين بويضة الزوجة ونطفةٍ صناعيّة من خلايا الزوج

وهذه الحالة يتوقّف القول بالحرمة فيها على شمول الأدلة السابقة للتلقيح الصناعي؛ إذ مقتضى لزوم حفظ الفرج عن غير المحلَّل، وحرمة إقرار النطفة في رحمٍ لا يحلّ، هو حرمة هذه الصورة. كما أن التعليل الوارد في ذَيْل أدلّة تحريم الزِّنى، وهو ضياع الأنساب، شاملٌ أيضاً للمقام.

نعم، لو شُكِّك في شمول تلك الأدلة لمثل التلقيح يمكن الذهاب إلى الحلِّية، وإنْ كان مقتضى قاعدة الاحتياط هو الحرمة أيضاً.

22ـ التلقيح في رحم الأجنبيّة بين بويضة الزوجة ونطفةٍ صناعيّة من خلاياها

وهذه الحالة لا يمكن القول بحرمتها من جهة الأدلة السابقة؛ لعدم منافاة الحفظ للفروج للتلقيح المذكور. كما أن إقرار النطفة في رحمٍ لا يحلّ لا يلزم في المقام؛ إذ المفروض أن الماء المذكور مصنَّعٌ من خلية الزوجة، والأدلة المذكورة منصرفةٌ إلى نطفة الأجنبيّ من الرجال، إلاّ أن يُقال: إن الانصراف المذكور منشأه غلبة الأفراد المتعارفة، وانعدام الحالة المنظورة، وهو لا يمنع من التمسُّك بالإطلاق.

ولكنْ مع ذلك يمكن القول بالحرمة؛ من جهة التسبيب إلى حصول ولدٍ لا نَسَب له من جهة الأب؛ لضعف منشأ الماء عن تصحيح الانتساب المذكور.

23ـ التلقيح في رحم الأجنبيّة بين بويضة الزوجة ونطفةٍ صناعيّة من خلايا الأجنبيّة

وهذه الصورة كالصورة السابقة، لا يمكن القول بتحريمها أيضاً، إلاّ من جهة التسبيب إلى إيجاد ولدٍ بلا أبٍ، وإلاّ فإن الأدلة السابقة لو شملَتْ التلقيح الصناعي فلن تشمل المقام؛ لانصرافها إلى التلقيح الجاري بين ماء الرجل والمرأة، لا ما يكون من هذا القبيل.

24ـ التلقيح في رحم الأجنبيّة بين بويضة الزوجة ونطفةٍ صناعيّة من خلايا حيوانيّةٍ

وقد يُتوهَّم تحريم التلقيح المذكور؛ من جهة عموم قوله تعالى: ﴿فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ﴾ (المؤمنون: 7؛ المعارج: 31) لمثل المقام، أو من جهة عموم التعليل الوارد في زيادة الحدّ في الزِّنى على حدّ شرب الخمر بأنه «لوضعه إيّاها في غير موضعها الذي أمره الله عزَّ وجلَّ به»([18]).

ولكنّ هذا الاستدلال محلُّ نظرٍ؛ من جهة انصراف تلك الأدلة إلى المحرَّم من النساء، لا إلى مثل المقام.

كما أن البيان المذكور في ذَيْل الحدّ مجرّد حكمةٍ، لا غير. ولو سُلِّم أنه علّةٌ فلا يمكن التعميم فيه إلى المحرَّم من مياه الرجال.

كما لا ينبغي توهُّم شمول أدلة حرمة وَطْء البهيمة؛ بدعوى عدم الفَرْق بين الواطئ والموطوء؛ فإنها صريحةٌ في التحريم للممارسة الجنسيّة المباشرة، لا غير.

نعم، ما يمكن التمسُّك به هو ارتكازيّة حرمة التسبيب إلى تولُّد الولد بلا أبٍ؛ بسبب ضعف صاحب الماء عن الانتساب في المقام.

25ـ التلقيح في رحم الأجنبيّة بين بويضة الزوجة ونطفةٍ صناعيّة من خلايا نباتيّةٍ

وهذه الحالة كالحالة السابقة، قد يُتوهَّم حرمتها؛ من جهة عموم قوله تعالى: ﴿فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ﴾ (المؤمنون: 7؛ المعارج: 31)  لمثل المقام، أو من جهة التعليل المذكور في بيان الوجه في زيادة حدّ الزِّنى عن حدّ شرب الخمر بأنه «لوضعه إيّاها في غير موضعها الذي أمره الله عزَّ وجلَّ به»([19])؛ بدعوى عموم التعليل المذكور لمثل المقام، بناءً على شموله لعملية التلقيح الصناعي.

ولكنّ هذا التوهُّم واضحُ الدفع؛ لما ذكَرْناه مكرَّراً، من كون الآية خاصّةً بالمحرَّم من النساء، دون غيرها من الحيوان.

وكذلك هو التعليل المذكور؛ لوروده في مورد التعليل لزيادة حدّ الزِّنى، والمنصَرَف العُرْفي منه هو الوَطْء للنساء المحرَّمات، لا غير. ولو سُلِّم شمولهما لغير النساء المحرَّمات فلا إشكال في عدم الشمول لمثل المقام، ممّا كان الماء مصنَّعاً من خلايا نباتيّةٍ.

نعم، يمكن التمسُّك بارتكاز حرمة أو قُبْح التسبيب إلى إيجاد ولدٍ بلا نَسَبٍ من جهة الأب.

 

26ـ التلقيح في رحم أنثى حيوانٍ بين بويضة الزوجة ونطفةٍ صناعيّة من خلايا الزوج

وقد يُقال بحرمة هذه الحالة؛ من جهة عموم قوله تعالى: ﴿فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ﴾ (المؤمنون: 7؛ المعارج: 31)؛ وكذلك من جهة عموم التعليل الوارد في بيان زيادة حدّ الزِّنى، وأنه تضييع لمائه في غير موضعه.

وقد اتَّضح الجواب عنهما من الصور السابقة؛ فيبقى دعوى حرمة التسبيب إلى تولُّد ولدٍ بلا أمٍّ من جهة عدم صحّة الانتساب إلى أنثى الحيوان صاحبة الرحم.

ولكنْ يمكن الجواب عنه بأن قولَه تعالى: ﴿إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ﴾ (المجادلة: 2) غيرُ شاملٍ للمقام جَزْماً. ومع ضعف الرحم الحيواني عن تصحيح الانتساب لا بُدَّ من الرجوع إلى صاحبة البويضة، وهي الزوجة، فيندفع الإشكال من هذه الجهة أيضاً.

27ـ التلقيح في رحم أنثى حيوانٍ بين بويضة الزوجة ونطفةٍ صناعيّة من خلاياها

والإشكال في الاستدلال على الحرمة بعموم الآية، أو التعليل الوارد في زيادة الحدّ، كالإشكال على سابقتها؛ فيبقى الاستدلال على الحرمة بالمرتَكَز القائم على حرمة التسبيب إلى إيجاد ولدٍ بلا نَسَبٍ، وهو في المقام واردٌ من جهة الأم والأب، فإذا دُفع من جهة الأمّ بما سبق من تصحيحه بلحاظ صاحبة النطفة فلا يمكن ذلك من جهة الأب؛ لفقد المصحِّح في المقام؛ إذ لا يتصوَّر كون الزوجة أمّاً من جهة نطفتها وأباً من جهة خليَّتها التي يصنع منها الحيمن، بل هو خلاف الارتكاز المتشرِّعي القائم على كون الانتساب من جهة الأب خاصّاً بالذكور، دون غيرهم.

28ـ التلقيح في رحم أنثى حيوانٍ بين بويضة الزوجة ونطفةٍ صناعيّة من خلايا امرأةٍ اجنبيّة

ولا يمكن الاستدلال على حرمتها بعموم الآية السابقة، أو عموم التعليل الوارد في زيادة الحدّ؛ لما ذكرناه سابقاً. كما لا يُتوهَّم أن يستدلّ لها بما دلَّتْ عليه الآيات من وجوب حفظ الفروج على الرجل والمرأة؛ لعدم شموله لمثل التلقيح. ولو شمل فلا إشكال في خروج الحالة المنظورة عنه؛ لوضوح عدم منافاة التلقيح في المقام للحفظ المذكور عُرْفاً. كما لا يمكن الاستدلال على تحريمها بما دلَّ على حرمة إقرار الماء في غير ما يحلّ؛ لما ذكرناه من الانصراف إلى رحم الأنثى الآدمية. فيبقى عندنا ارتكازيّة حرمة التسبيب إلى الحمل الموجب لعدم الانتساب؛ فإنْ شملت المقام من جهة عدم العلقة المصحِّحة، لا من جهة صاحبة الرحم، كما هو واضحٌ، ولا من جهة صاحبة الحيمن؛ لما ذكرناه من انصراف الأبوّة إلى الذكر، دون غيره، ولو صحِّح من جهة الأمّ بواسطة انتسابه إلى الزوجة صاحبة النطفة، وأن رحم الحيوان كالرحم المصنَّعة لا تضرّ في الانتساب، فيبقى الإشكال من جهة الأب.

29ـ التلقيح في رحم أنثى حيوانٍ بين بويضة الزوجة ونطفةٍ صناعيّة من خلايا أنثى الحيوان

وهذه الحالة لا ينبغي الإشكال في حلِّيتها، وعدم دخولها تحت أيٍّ من الأدلة السابقة، إلاّ ارتكازية حرمة التسبيب إلى حملٍ يمنع من تصحيح الانتساب؛ لأنه لو صُحِّح من طرف الأمّ بواسطة بويضة الزوجة؛ لضعف صاحبة الرحم عن تصحيحه، فيبقى الإشكال من جهة صاحبة الماء؛ لانصراف الأبوّة إلى الذَّكَر من الرجال، دون غيره.

30ـ التلقيح في رحم أنثى حيوانٍ بين بويضة الزوجة ونطفةٍ صناعيّة من خلايا نباتيّةٍ

وهذه الصورة كسابقتها أيضاً، في الإشكال من جهة التسبيب إلى الحمل الموجب لعدم الانتساب من جهة الأب.

العناوين الثانوية الموجبة للتحريم

قد ننتهي إلى حلِّية بعض الصور السابقة للتلقيح الصناعي الداخلي. ولكنْ تلزم حرمتها من جهة عروض بعض المحاذير الأخرى الموجبة للحرمة.

وفي المقام نتعرَّض لأهمّ تلك المحاذير؛ لبيان الوجه في تحريمها:

1ـ الاستمناء

ففي حالات التلقيح الطبيعيّ بواسطة الجماع يصل السائل المنويّ للزوج إلى رحم زوجته بلا حاجةٍ إلى الإنزال خارجاً؛ بينما في عملية التلقيح الصناعيّ لا بُدَّ من الإنزال من غير جماعٍ، مثلاً: بواسطة الاستمناء أو ما يسمّى بالعادة السرِّية. فهل يُقال بالحرمة في المقام؛ من باب حرمة المقدِّمة الواجبة؟

قد يُقال بحرمته، مع عدم انحصار الطريق إلى الإنزال به، كما لو تمكَّن من التهييج الجنسي مع الزوجة، والإنزال خارجاً؛ ومع تعذُّر ذلك وانحصار الطريق بالإنزال المحرَّم يُقال بجوازه؛ بدعوى أن غاية ما دلّ عليه تحريم العادة السرِّية هو ما كان لغير الغرض العقلائي؛ إذ الإجماع قائمٌ على ذلك، وحيث إن الاجماع دليلٌ لُبِّيّ يُقتَصَر فيه على القدر المتيقَّن، فيخرج منه الاستمناء لغرضٍ عقلائيّ، كالإنجاب([20]).

ولكنّ هذا الكلام غير تامٍّ إطلاقاً؛ لأن الإنزال المحرَّم ليس مقدّمةً للتلقيح، بل لتحصيل السائل المنوي، لا غير. كما أن النسبة بينه وبين التحصيل هو الموردية؛ لأن بينهما عموماً وخصوصاً من وجهٍ، فيكون من قبيل: النظر المحرَّم إلى الأجنبية في أثناء الصلاة، فلا تضرّ حرمته بجواز التلقيح، كما هو موضَّحٌ في علم الأصول.

ثمّ إن ما أُفيد من أنه «مع الانحصار يُقال بالجواز؛ لأن دليل حرمة الاستمناء ـ وهو الإجماع ـ دليلٌ لُبِّي يُقتَصَر فيه على القدر المتيقَّن، وهو ماكان لغرض غير عقلائيّ، والتلقيحُ بهدف الإنجاب غرضٌ عقلائيّ» ممنوعٌ؛ من جهة أن الدليل على حرمة الاستمناء في نفسه ليس هو الإجماع، بل الروايات الدالّة على ذلك([21])، ويمكن التمسُّك بإطلاقها لمثل المقام.

والصحيح حرمة الاستمناء حتّى في مثل المقام، مع التزاحم؛ لأن المفروض أن غاية ما دلَّتْ عليه أدلة التلقيح هو جوازه، لا لزومه، حتّى يُقال بأنه من قبيل: الضرورات التي تبيح المحظورات، إلاّ أن يكون تركه موجباً للضَّرَر أو الحَرَج على الزوج، فترتفع حرمة الاستمناء؛ من جهة قاعدَتيْ: لا حَرَج؛ ولا ضَرَر.

نعم، يمكن المناقشة في المقام من جهة اختصاص حرمة الاستمناء بما يثير الشهوة، دون غيره؛ فإن الأدلة منصرفةٌ عمّا لا يثيرها، كاستعمال الوسائل الطبِّية لإخراج السائل المنوي، فلا يُعَدّ المقام من المحاذير اللازمة للتلقيح، حتّى يحرم بحرمته.

2ـ النظر إلى العَوْرة

من المحاذير التي ذكرها الفقهاء في كلماتهم لحرمة التلقيح هو استلزامه النظر إلى العَوْرة من قِبَل الأجنبي أو الأجنبية، إما في حالة إخراج الماء من الرجل؛ أو في حالة إدخاله إلى رحم الزوجة، ومن المعلوم حرمة نظر الرجل الأجنبي إلى عَوْرة الأجنبية، وإنْ كان طبيباً؛ كما يحرم نظر الأجنبية إلى عَوْرة الرجل، وإنْ كانت طبيبةً([22])؛ لشمول أدلّة حرمة النظر.

وفي صورة انحصار تولُّد الولد بواسطة التلقيح، وعدم وجود غير الطبيب الأجنبي ممَّنْ يستطيع إجراء عملية التلقيح، فهل يُقال بالجواز؛ لأجل الضرورة أو العُسْر والحَرَج المترتِّب على عدم التلقيح؟

حَكَمَ الفقهاء بعدم جواز ذلك؛ لعدم صدق الضرورة في المقام، وعدم الاعتداد بالعُسْر والحَرَج المترتِّب من عدم الإنجاب([23]). ولكنْ ينبغي البحث في مقامين:

أـ أدلّة شمول التحريم للمقام

فقد يُعدّى شمول الأدلة إلى مثل المقام، ولو كان هناك غرضٌ عقلائيّ للنظر، وهو التلقيح، أو كانت هناك ضرورةٌ له، كما في حالة انحصار التلقيح به.

ولا بُدَّ من استعراض الأدلة الدالّة على حرمة النظر إلى العَوْرة؛ لمعرفة مدى شمولها:

وقد استُدلّ للحرمة بعدّة أدلة:

الدليل الأوّل: الإجماع المحصَّل والمنقول على حرمة النظر، بل ادُّعي الضرورة عليه([24]). ومنشأُ الإجماع المذكور، وكذلك الضرورة، الأدلّةُ التالية، فلننظر هل لها إطلاق لمحلّ كلامنا.

الدليل الثاني: قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ… * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ (النور: 30 ـ 31)، وذلك من خلال مقدّمتين:

المقدّمة الأولى: إن الغضّ بمعناه الحقيقي ـ وهو غمض العين وإطباق الجفنين عليها ـ غير مرادٍ جَزْماً؛ لجواز رفع الرأس إلى الأعلى، أو إنزاله إلى الأسفل؛ حتّى لا يقع على الأجنبية. فلا بُدَّ من حمله على الكناية عن صرف النظر عن النظر إلى غير المحلَّل من الطرفين.

المقدّمة الثانية: إن متعلَّق غضّ البصر لم يذكر في الكلام، ولا يمكن القول بإطلاقه لكلّ شيءٍ، بل مقتضى مناسبات الحكم للموضوع كون متعلَّق الغضّ هو كلّ ما لا ينبغي النظر إليه عند العقلاء، والقدر المتيقَّن منه هو العَوْرة، وهذه مطلقةٌ من جهة النظر، سواء كان طبيباً أو غير ذلك.

وقد نُوقشت دلالة الآية:

أوّلاً: من جهة أن «الآية غير ظاهرةٍ في تحريم النظر؛ لعدم ظهور الغضّ في الغمض، بل لا يبعد أن يكون المراد التجاوز عن المرأة، وعدم القرب منها، والإعراض عنها، المعبَّر عنه بالفارسية بـ (چشم پوشي)، وهذا استعمالٌ دارجٌ في العربية وغيرها، فيكون كنايةً عن الكفّ عن الزِّنى، المساوق لقوله تعالى: ﴿وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾»([25]).

ولكنّ هذه المناقشة محلُّ نظرٍ، بعد ما نقله القمّي، «عن أبيه، عن محمد بن أبي عمير، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله×، أنه قال: كُلُّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ فِي ذِكْرِ الْفُرُوجِ فَهِيَ مِنَ الزِّنَى، إِلاَّ هَذِهِ الآيَةَ، فَإِنَّهَا مِنَ النَّظَرِ، فَلاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ مُؤْمِنٍ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى فَرْجِ أَخِيهِ، وَلاَ يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى فَرْجِ أُخْتِهَا»([26]).

ثانياً: إن الآية لو سُلِّم أنها ظاهرةٌ في المنع عن النظر لا يمكن الأخذ بإطلاقها؛ لجواز النظر إلى كثيرٍ من الموجودات، كالشجر والسماء والأرض وغيرها، فلا بُدَّ من صرف مرادها الى غضّ البصر عمّا حرَّمه الله تعالى، فيتوقَّف ذلك على إثبات الحرمة من الخارج»([27]).

ولكنّ الجواب عنه بما ذكَرْناه من أن الآية ناظرةٌ إلى وجوب كفّ النظر عما لا ينبغي النظر إليه لدى العقلاء، ولا يتوقَّف على إثبات الحرمة من خارج الآية.

ثالثاً: لو سُلِّم تمامية دلالة الآية على الحرمة فلا يمكن التمسُّك بإطلاقها لمثل المقام؛ لانصرافها إلى النظر الموجب للتلذُّذ، لا مطلقاً، ولو من جهة مورد نزولها([28]). ولو سُلِّم شمولها لغيره فلا بُدَّ من تخصيصه بالنظر لغرض التلذُّذ، ولو لم يحصل تلذُّذٌ بالفعل، لا لأجل غرضٍ عقلائي آخر، كالمعالجة. ودعوى اختصاص الجواز بما كانت المعالجة لمرضٍ في الفرج، دون غيره([29])، ممنوعةٌ؛ لصدق كون التكشُّف لمثل التلقيح غرضٌ عقلائي، تنصرف الآية عن شموله.

الدليل الثالث: قوله تعالى: ﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ (النور: 31)؛ بدعوى الملازمة بين حرمة إظهار الزينة للناظر غير المحلَّل وحرمة النظر من جهته، وبإطلاق حرمة النظر يشمل المقام.

وهذه الآية كسابقتها من جهة انصرافها إلى النظر لغير الغرض العقلائيّ، كالمعالجة. على أن الملازمة المذكورة غير واضحةٍ؛ إذ يمكن أن يكون الستر واجباً ولا يكون النظر محرَّماً، كما في النساء المتبذِّلات، اللاتي لا ينتهينَ إذا نُهينَ؛ فإن الستر واجبٌ عليهنّ، ولكنّ النظرَ ليس بحرامٍ.

الدليل الرابع: قوله تعالى: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (النور: 60)؛ فإن التخصيص بالقواعد من النساء يدلّ على ثبوت البأس لغير القواعد، فيجب عليهنّ التستُّر، وبمقتضى الملازمة بين وجوب الستر وحرمة النظر تثبت الحرمة، وبإطلاقها تشمل مثل المقام.

وفي هذه الآية ما في سابقتها من الإشكال.

الدليل الخامس: مادلّ على وجوب التستُّر عند الاغتسال، وفي الحمّام([30]). فهي دالّةٌ على وجوب لبس الإزار، وحفظ العَوْرة من الناظر المحترم، ومقتضى الملازمة بين وجوب الستر وحرمة النظر ثبوتها، ومقتضى إطلاق الحرمة شمولها للمقام.

والمناقشة فيها كالمناقشة في ما سبق من الآيات.

الدليل السادس: ما ورد في الروايات من حرمة نظر الرجل إلى عَوْرة أخيه، وحرمة نظر المرأة إلى فرج أختها([31])، وأن «عَوْرة المؤمن على المؤمن حرامٌ»([32])؛ فهو بإطلاقه شاملٌ للمقام.

ولكنْ فيه ما سبق من انصرافها إلى النظر لغير غرضٍ عقلائيّ، وأما معه، كالمعالجة، فلا يشمله الإطلاق. كما فُسِّر الأخير في بعض الروايات بإذاعة سرّ المؤمن([33])، فيكون معارضاً لما ورد في باب حرمة النظر إلى عَوْرته. ولا يصحّ الجَمْع بينهما؛ بدعوى إرادة الجامع بين الإزراء بالمؤمن وكشف عَيْبه وبين النظر إلى العَوْرة بالمعنى بالمتعارف([34])؛ لتصريح الإمام× بعدم إرادة المعنى الظاهر، لقوله× في جواب السائل: «قلتُ: تعني سفلَيْه؟ فقال×: ليس حيث تذهب، إنما هي إذاعةُ سرِّه»([35]).

الدليل السابع: معتبرة الحلبيّ، عن أبي عبد الله×، الواردة في كيفيّة الغسل، وفيها: «ثمّ أدخِلْ يدك من تحت الثوب الذي على فَرْج الميت، فاغْسِلْه، من غير أن ترى عَوْرته»([36]). ومقتضاها وحدة الحكم في حرمة النظر بين الميت والحيّ. وإطلاق المعتبرة يشمل موارد النظر جميعها، ولو لضرورةٍ وغرضٍ عقلائيّ.

ولكنّ هذا الكلام ممنوعٌ؛ من جهة دعوى وحدة المناط في الحكم بين الحيّ والميت. كما أنه لو تمَّتْ دعوى وحدة المناط فلا يمكن التمسُّك بإطلاقها لمثل المقام؛ لأن وحدة المناط بيان لأصل النكتة في الحرمة، وليس له لسانٌ حتّى يتمسَّك بإطلاقه.

بل لو سُلِّم التمسُّك بعموم المناط فلا إشكال في عدم شموله لمثل المقام أيضاً؛ من جهة انصراف الحرمة في الميت، فضلاً عن الحيّ، إلى خصوص النظر لغير غرضٍ عقلائيّ، كالمعالجة وغيرها.

ودعوى أن النظر إلى عَوْرة الميت؛ لغرض التطهير، غرضٌ عقلائيّ، ومع ذلك منعَتْ المعتبرة عنه، أوّلُ الكلام؛ إذ يمكن التطهير بغير نظرٍ، ولا لمسٍ، كما هو واضحٌ.

 والحاصل أن هذه الأدلّة بتمامها ناظرةٌ إلى النظر لغير غرضٍ عقلائيّ، كالمعالجة. ثمّ لو سُلِّم شمولها للنظر كذلك فلا دليل على شمولها للنظر بواسطة الجهاز أو المرآة، لا مباشرةً. ولا يُعْتَرَض بعدم الفَرْق بين الصورتين في إيجاب التلذُّذ المحرَّم؛ إذ الكلام ليس في حرمة النظر من جهة مايستلزمه من التلذُّذ المحرَّم، بل من جهة حرمته في نفسه، وعدمُ الفَرْق بين النظر المباشر ـ الذي هو مورد الروايات ـ وبين غيره محلُّ تأمُّلٍ.

فالمتحصِّل من جميع الكلام هو جواز النظر إلى عَوْرة المريض عند التلقيح؛ لأجل إخراج حيامنه، وكذلك جواز النظر إلى عَوْرة المريضة عند تلقيحها بماء الرجل، أو إخراج البويضة منها.

 

ب ـ حكم موارد العُسْر والحَرَج الشديدين

على فرض شمول أدلّة حرمة النظر لمورد التلقيح فهل تشمل مورد الضرورة والعُسْر والحَرَج أم لا؟

قد يُقال بشمول الحرمة لمثل المقام، وعدم الاعتداد بالحَرَج النفسيّ المتولِّد من عدم الحمل للزوجة، وأن الحَرَج الناشئ من نظر المجتمع، الناشئ من الجهالة بأحكام الدين والشريعة، لا اعتبارَ به([37]).

وقد يُفصَّل بين موارد الضرورة وعدمها، فيجوز في الأوّل، دون الثاني.

والعمدة في المقام هو النظر إلى أدلّة العُسْر والحَرَج، وهل هي شاملةٌ لمثل الحَرَج المذكور أم لا؟

والظاهر أن منشأ الإشكال في الشمول لموردنا أحد الوجوه التالية:

الوجه الأوّل: إن سياق أدلة نَفْي الحَرَج سياق الامتنان على العباد، وإيقاع المكلَّف في المفسدة العظيمة للحرمة خلاف الامتنان.

وهذا الوجه قابلٌ للجواب عنه بأن مفاد أدلّة نَفْي الحَرَج هو الحكومة الواقعية، بمعنى بيان الضِّيق الواقعي للحرمة، جَعْلاً وملاكاً، فلا يكون هناك مفسدةٌ حتى يقع فيها المكلَّف في موارد العُسْر والحَرَج.

الوجه الثاني: إن موضع أدلة نَفْي الحَرَج هو نَفْي التسبيب إلى وجود حكمٍ في الشريعة يستدعي وقوع المكلَّف في الحَرَج، وفي المقام وقوع المكلَّف في الحَرَج لم يكن بسبب الحكم بالحرمة، بل بسبب العارض التكويني المانع للزوجين عن التسبيب إلى الإنجاب.

وهذا الكلام لا معنى له أصلاً؛ لأن مفاد القاعدة نَفْي الحكم بلسان نَفْي الموضوع في وعاء الجَعْل، بمعنى أن الحَرَج الواقع خارجاً لم يُجْعَل في وعاء جَعْل الأحكام موضوعاً لحكمٍ من الأحكام الإلزامية، وهذا معناه فرض تحقُّق الحَرَج خارجاً؛ ليخبر عن أنه لم يقع موضوعاً لحكمٍ من الأحكام، ولا فَرْق في ذلك بين العُسْر والحَرَج الدائم أو الطارئ.

الوجه الثالث: أن يكون منشأ الإشكال من جهة أن الحَرَج المعتبر في القاعدة ما كان ناشئاً من نفس الفعل المحرَّم، لا من جهة ما يتوقَّف عليه من المحرَّمات، والمفروض في المقام أن الفعل الحَرَجيّ المراد رفع حرمته هو نفس النظر إلى العَوْرة، لا ترك التلقيح.

وهذا الكلام أيضاً قابلٌ للجواب من جهة الصدق العُرْفي الواضح للحَرَج النفسي على ترك التلقيح، الموجب للإنجاب، فيكون من موارد القاعدة.

الوجه الرابع: أن يكون منشأ الإشكال من جهة أن القاعدة لا تجري في موارد ترتُّب المفسدة العظيمة ممّا لا يرضى الشارع في الوقوع فيها، كمفسدة الزِّنى وغيرها، ومفسدة حرمة النظر من المفاسد العظيمة، الموجبة لكثيرٍ من المفاسد.

ولكنْ لا يمكن القطع بكون مفسدة النظر أهمّ في نظر المولى من مفسدة ترك الإنجاب، والوقوع في الحَرَج الشديد للمكلَّف.

الوجه الخامس: أن يكون الإشكال من جهة أن مورد القاعدة الحَرَج العقلائي الناشئ من قِبَل الفعل في نفسه، كالحَرَج الشديد من تحمُّل البرد وغيره، وأما الحَرَج في المقام فهو ناشئ من جهالة المجتمع بأحكام الدين والشريعة، ولا اعتبار لمثل هذا الحَرَج في القاعدة([38]).

وهذا الكلام لم يتَّضح وجهه؛ إذ من الواضح أن عدم إنجاب الزوجة من العيوب لدى المرتكز العقلائيّ؛ فالحَرَج الحاصل منها ليس من جهالة الناس، بل قد ورد في الروايات أن شؤم المرأة في عقم رحمها، وأن المرأة التي لا تحبل تردّ على أهلها صاغرة ما لم يقَعْ عليها زوجها([39])، وأن الحصير في ناحية الدار خيرٌ من امرأةٍ لا تلد([40])، وهذا كلُّه كاشفٌ عن وجود ارتكازٍ عقلائي بأن عدم الإنجاب من العيوب، فإذا كان من العيوب فاستلزامه الحَرَج الشديد مجرىً للقاعدة، بل بمقتضى مفاد القاعدة، التي تفيد أن الله تعالى لم يجعل حكماً يكون سبباً لترتُّب الحَرَج على المكلَّف، يكون منشأ الحَرَج المرفوع في المقام هو الحكم الشرعيّ، ومن الواضح جدّاً أن الحكم بالحرمة في المقام يوجب وقوع المكلَّف في الحَرَج الشديد أيضاً. فالحاصلُ أن الحرمة غير شاملةٍ لموارد الحَرَج الناشئ من المنع من النظر.

وأما التفصيل الثاني بين الضرورة وعدمها فالظاهر عدم كون التلقيح لأجل الولد ضرورةً تسوِّغ النظر إلى عَوْرة المرأة أو الرجل من قبل الأجنبيّ، بل الضرورة تصدق فيما لو كان هناك مَرَضٌ معين في العَوْرة يُراد علاجُه.

3ـ لمس العَوْرة

قد يُقال بحرمة التلقيح الصناعي لأجل حرمة لمس العَوْرة من قِبَل الطبيب الحاذق، وخصوصاً مع نُدْرة التلقيح مباشرةً بواسطة الزوجين، أو كون الزوج طبيباً حاذقاً في التلقيح، بحيث يغني عن الطبيب الأجنبيّ.

وبالجملة لو توقَّف التلقيح على اللمس المحرَّم من الطبيب فهل تكون أدلّة حرمة اللمس شاملةً للمقام أم لا؟

وعلى فرض الشمول هل ترتفع الحرمة عند العُسْر والحَرَج الشديد أم لا؟

فالكلام أيضاً في مقامين:

أـ أدلة حرمة اللمس، ومَدَياتها

إذ قد يُقال بانصراف أدلّة حرمة اللمس إلى موراد اللمس المستَلْزِم للتلذُّذ، أو إلى غير موارد وجود غرضٍ عقلائي، كما في اللمس لأجل المعالجة.

ولهذا لا بُدَّ من عرض أدلّة حرمة اللمس لمعرفة مدى شمولها لمثل المقام:

الدليل الأوّل: الملازمة القطعية بين حرمة النظر وحرمة اللمس، كما أفاده الشيخ الأعظم الانصاري&([41])، بل ذكر السيد الخوئي& أنها مقتضى الأولوية القطعيّة التي يفهمها العُرْف([42]).

وقد اعترض بعض المدقِّقين على هذا الوجه؛ من جهة عدم ثبوت الأولوية المذكورة، ولو من جهة عدم القطع بكون حرمة اللمس بدون تلذُّذٍ أشدّ من حرمة النظر.

ولكنّ هذا الكلام محلُّ نظرٍ، ولو من جهة ما ورد في بعض الروايات في تغسيل النساء الأجنبيات للرجال، من أنه «يحلّ لهنّ أن يمسَسْنَ منه ما كان يحلّ لهنّ أن ينظرْنَ منه إليه وهو حيٌّ»([43])؛ إذ إنه كاشفٌ عن وجود أصل الملازمة المذكورة. وهذا كافٍ في المقام. ولكنْ لو سُلِّمَتْ الأولوية فهي خاصّةٌ بغير اللمس لغرضٍ عقلائيّ، كما كانت حرمة النظر كذلك. كما أنها لا تشمل اللمس من وراء الحجاب، ولهذا جوَّز الفقهاء لمس الأجنبية من وراء القفّاز؛ لأجل المداواة.

الدليل الثاني: الروايات الواردة في كيفية تغسيل الميت، وأنه من وراء حجاب([44])، ممّا يدلّ على حرمة اللمس. ولا فَرْق بين الحيّ والميت في هذا الحكم، إنْ لم يكن في الحيّ أَوْلى.

والجواب عنه ما مرَّ في الدليل الأول، من اختصاصه بما لم يكن لغرضٍ عقلائيّ. كما أنه لا يضرّ بالمطلوب؛ إذ يكفي جواز اللمس مع القفّاز الواقي الذي يستعمله الأطبّاء أثناء العمليات.

الدليل الثالث: الأدلة الدالّة على حرمة مصافحة الأجنبية إلاّ من وراء حائلٍ([45])، فإنها تدلّ على حرمة اللمس مطلقاً؛ إذ لا خصوصية للمصافحة، وإنما ذُكرَتْ في الرويات لأجل أنها الفرد المتعارف في ذلك الزمان، ومحلّ الابتلاء.

وهذا الدليل كسابقه في اختصاص الحرمة بغير ما كان لغرضٍ عقلائيّ. كما أنها لا تضرّ بالمطلوب؛ إذ يكفي اللمس من وراء القفّاز.

وغيرها من الأدلة تنصرف جميعها إلى حرمة اللمس؛ لأجل التلذُّذ، أو لا لأجل غرضٍ عقلائيّ.

ب ـ الحكم في موارد العُسْر والحَرَج الشديدين

كما لو كان ترك التلقيح موجباً للحَرَج الشديد.

والكلام في المقام كالكلام السابق، في حرمة النظر وشمولها لموارد الحَرَج، فلا نعيد.

4ـ التمكين من اللمس المحرَّم

من المحاذير التي تترتَّب في المقام تمكين الأجنبيّ أو الأجنبيّة من لمس الموارد المحرَّمة من الرجل والمرأة، كلمس العَوْرة فيهما. فقد يُقال بحرمة التمكين من اللمس أيضاً، ولو لأجل التلقيح، فيحرم التلقيح؛ لحرمة مقدّمته.

وهنا أيضاً لا بُدَّ من استعراض الأدلة الدالّة على حرمة التمكين؛ لنرى مدى شمولها لمثل المقام:

الدليل الأوّل: قوله تعالى ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ… * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ (النور: 30 ـ 31)، بناءً على أن المراد من الحفظ للفروج هو صَوْنها عما يترقَّب من التلذُّذات، ومنها: اللمس؛ إذ التلذُّذ به قد يكون بلمسه، وقد يكون بالنظر إليه، و قد يكون بغير ذلك من الوجوه، على ما تقتضيه القوة الشَّهَوية والطبع البشري؛ لأن حفظ الفرج في الآية الكريمة غير مقيَّدٍ بجهةٍ دون جهةٍ([46]).

وهذا الوجهُ غيرُ تامٍّ؛ لما ذكَرْناه سابقاً من تفسير الحفظ في الروايات في هذه الآية عن النظر، دون غيره. ولو سُلِّم التعميم فهذا الوجه يدلّ على حرمة اللمس عند التلذُّذ، فلا يشمل موارد اللمس بدونه، كما في المعالجة لوجود غرضٍ عقلائيّ له.

الدليل الثاني: حرمة التمكين من باب الإعانة على الاثم؛ إذ إنه تمكينٌ للطبيب على اللمس المحرَّم، فيكون إعانةً على الإثم، فيحرم.

والكلام في كونه إعانةً على الإثم؛ لما ذكَرْناه من عدم حرمة اللمس؛ لأجل غرضٍ عقلائيّ، مع عدم التلذُّذ.

الدليل الثالث: إن التمكين المذكور وإنْ لم يحرم من جهة نفس اللمس، ولكنه يحرم من جهة الإغراء بالحرام من التلذُّذ باللمس.

وفيه ما في سابقه من الإشكال.

والحاصل أنه لا دليل على حرمة التمكين المذكور في مورد المعالجة، وإنما يختصّ بموارد استلزام اللمس للتلذُّذ المحرَّم.

ثمّ إن التمكين من اللمس مع الحاجب، كالقفّاز، لا يُعَدّ محرَّماً أيضاً؛ لاختصاص حرم اللمس ـ لو تمَّتْ ـ بالمباشرة، دون اللمس من وراء الحائل.

ثمّ إنه لو سُلِّم ثبوت حرمة التمكين مطلقاً فيأتي الحديث عن ارتفاعها عند استلزامها للحَرَج الذي لا يُتحَمَّل عادةً.

خلاصاتٌ ونتائج

وقد انتهَيْنا إلى عدّة نتائج مهمّة:

1ـ لا بأس بتلقيح الزوجة بحيامن الزوج، سواء كان حيّاً أو ميتاً، قبل العدة. كما لا فَرْق في الجواز بين حالة رضا الزوج بذلك وعدمه، بعد إلقائه السائل المنوي في الواقي الذكريّ وإعراضه عنه. وكذلك لا فَرْق بين رضا الزوجة بالتزريق المذكور وعدم رضاها، ما لم يستلزم ضَرَر المرأة ضَرَراً محرَّماً.

2ـ إن حقّ الاستيلاد لا يعتبر شرطاً ارتكازيّاً في العقد، يجب الوفاء به، ما لم يصِلْ إلى حدّ الظهور الممضى في الدليل.

3ـ لا يجوز حقن المرأة بالسائل الممزوج من ماء زوجها ورجلٍ آخر، ما لم يكن ماء الرجل الآخر منزوع الحيامن، ودَوْرُه فقط تحفيزُ حيامن الزوج على التلقيح.

4ـ يجوز حقن المطلَّقة الرجعية بسائل زوجها؛ لاعتبارها زوجةً في لسان الأدلّة.

5ـ يجوز حقن الزوجة بماء زوجها المتوفّى عنها، ما دامت في العدّة؛ لعدم ارتفاع العُلْقة الزوجية عنها مطلقاً.

6ـ الأحوط عدم جواز تزريق الزوجة بماء أقارب الزوج أو أقاربها، ما لم يكن ماؤهم مجرّد عاملٍ مساعدٍ على تحفيز ماء الزوج على التلقيح. ويلحق بهما الأخ الرضاعيّ للزوجة.

7ـ لا يجوز تلقيح البِكْر أو الأجنبية غير البِكْر بماء الأجنبيّ؛ للزوم التسبيب إلى حمل البِكْر بلا صلةٍ شرعيّة.

8ـ لا مانع من التلقيح بين حيامن الإنسان وبويضة أنثى حيوانٍ؛ لانصراف أدلّة التحريم عنها، وعدم الدليل الخاصّ على تحريمها.

9ـ لا مانع من التلقيح بين حيامن الرجل وبويضةٍ صناعيّة من خلايا إنسانيّة أو حيوانيّة أو نباتيّة؛ لعدم شمول أدلّة التحريم لها. نعم، الأحوط اجتناب التلقيح المذكور لو كانت البويضة مصنَّعةً من خلايا إنسانيّة، مع صحّة انتساب الولد إلى صاحب النطفة؛ إذ يوجب اختلاط الأنساب أو ضياعها، كالتلقيح بالبويضة المصنَّعة من خلايا الأجنبيّ أو أقارب الزوج، كالأخت أو الأمّ.

10ـ قد يحرم التلقيح؛ للزوم بعض المحاذير المحرَّمة، كالنظر أو اللمس المحرَّمين أو إنزال المني بالعادة السرِّية. ولكنْ اتَّضح عدم شمول أدلّة التحريم لمثل ما لو كان التلقيح لغرضٍ عقلائيّ، أو مع الحَرَج الشديد على الزوجة.

الهوامش

(*) باحثٌ وأستاذٌ في الحوزة العلميّة في قم، متخصِّصٌ في الفلسفة الإسلاميّة. من العراق.

([1]) محمد بن الحسن الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 20: 361 ـ 369، أبواب ما يحرم بالنسب.

([2]) محمد بن الحسن الطوسي، تهذيب الاحكام 10: 49.

([3]) انظر: أبو القاسم الخوئي، صراط النجاة في أجوبة الاستفتاءات 7: 224.

([4]) محمد جواد اللنكراني، دروس البحث الخارج في المكاسب المحرمة (التلقيح الصناعي)، الدرس 17.

([5]) عليّ بن إبراهيم القمّي، تفسير القمّي 2: 89.

([6]) تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي 2: 101.

([7]) محمد بن يعقوب الكليني، الكافي 14: 249.

([8]) الكليني، الكافي 11: 242 ـ 243.

([9]) محمد بن محمد الأشعثي الكوفي، الجعفريّات (الأشعثيّات): 99.

([10]) الخليل بن أحمد الفراهيدي، كتاب العين 3: 225.

([11]) محمد بن عليّ الصدوق، مَن لا يحضره الفقيه 3: 565.

([12]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 20: 349، باب 26من أبواب النكاح المحرَّم وما يناسبه، ح1.

([13]) محمد السند، فقه الطبّ والتضخم النقدي: 84.

([14]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 20: 349 ـ 350.

([15]) المصدر السابق 20: 350 ـ 351.

([16]) المصدر السابق 20: 350.

([17]) اللنكراني، دروس البحث الخارج في المكاسب المحرمة (التلقيح الصناعي)، الدرس 17.

([18]) الكليني، الكافي 14: 249.

([19]) الكليني، الكافي 14: 249.

([20]) محمد محمد صادق الصدر، ما وراء الفقه 6: 9 ـ 10.

([21]) انظر: عبد الكريم الموسوي الأردبيلي، فقه الحدود والتعزيرات 2: 228؛ محمد فاضل الموحدي اللنكراني، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة (كتاب الحدود): 728.

([22]) انظر: أبو القاسم الخوئي، منهاج الصالحين 1: 428؛ محمد أمين زين الدين، كلمة التقوى 4: 454؛ روح الله الخميني، تحرير الوسيلة 2: 621.

([23]) انظر: الميرزا جواد التبريزي، صراط النجاة في أجوبة الاستفتاءات 7: 230 ـ 232، سؤال 579، وسؤال 585.

([24]) محمد حسن النجفي، جواهر الكلام في ثوبه الجديد 1: 359.

([25]) مرتضى البروجردي، المستند في شرح العروة الوثقى (تقريراً لأبحاث السيد الخوئي) 12 : 68 ـ 69.

([26]) تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي 2: 101.

([27]) البروجردي، المستند في شرح العروة الوثقى 12: 69.

([28]) انظر: الكليني، الكافي 11: 197، باب ما يحلّ النظر إليه من المرأة، ح5.

([29]) انظر: التبريزي، صراط النجاة في أجوبة الاستفتاءات 7: 228، سؤال 574.

([30]) انظر: الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج 1، الأبواب 1 و2 و5 من أبواب أحكام الخلوة، والأبواب 2 و3 و4 و5 و7 و9 من أبواب آداب الحمّام.

([31]) انظر: تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي 2: 101؛ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 1: 299، باب 1 من أبواب أحكام الخلوة، ح1 و4.

([32]) الكليني، الكافي 13: 157.

([33]) المصدر السابق 4: 86.

([34]) محمد رضا السيستاني، وسائل الإنجاب الصناعية: 203.

([35]) الكليني، الكافي 4: 86.

([36]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 2: 680، ح2.

([37]) التبريزي، صراط النجاة في أجوبة الاستفتاءات 7: 230، سؤال 579؛ 232، سؤال 585.

([38]) المصدر السابق 7: 232، سؤال 585 / ب.

([39]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 20: 53؛ 21: 208.

([40]) الصدوق، مَنْ لا يحضره الفقيه 3: 552.

([41]) مرتضى الأنصاري، كتاب النكاح: 68.

([42]) محمد تقي الخوئي، المباني في شرح العروة الوثقى (كتاب النكاح) 1: 84.

([43]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 2: 712، ح8.

([44]) المصدر السابق 2: 680، 706، 707، 712، وغيرها.

([45]) المصدر السابق 20: 207 ـ 209، باب 115 من أبواب مقدّمات النكاح.

([46]) محمد تقي الخوئي، المباني في شرح العروة الوثقى (كتاب النكاح) 1: 83.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً