أحدث المقالات

د. الشيخ عصري الباني(*)

 

مقدّمةٌ

كان للمنبر الحسينيّ وما زال دَوْرٌ فاعل ومتميِّز في إصلاح الفكر، سواء على مستوى الفرد أم المجتمع؛ لذلك نجده تارةً يؤثِّر في إيمان الأفراد وهدايتهم وإرشادهم إلى الصواب، ويُوجِد تغييراً ملموساً في حياتهم، وأخرى نجده يؤثِّر في ثقافة وقناعات مجتمعٍ، بل مجتمعاتٍ بأكملها، فقد كان المنبر الحسيني مؤثِّراً في مواقف حسّاسة مرَّتْ بها الأُمّة، ممّا جعل السلطات الظالمة وحكّام الجَوْر يقفون في وجهه، ويقتلون روّاده وحضّاره. وهذا بمجمله يبيِّن لنا السبب الذي جعل أهل البيت^ يؤكِّدون على تلك المجالس، وأنّ في حضورها الثواب الكبير والأجر الجزيل.

و نشير هنا إجمالاً إلى أهمِّية المجالس الحسينية، وأبعادها:

الأوّل: المحافظة على هذا الحَدَث المهمّ، الذي يمثِّل أطروحةً إلهيّة لتوعية الأمّة الإسلامية لحفظ الرسالة الخاتمة من الضياع أو التشويه والتحريف.

الثاني: إبقاء الحَدَث حيّاً ومؤثِّراً في عددٍ من الجوانب المهمّة في أوساط أتباع مدرسة أهل البيت^، من خلال مجموعة من الأمور:

أـ الجانب الوجداني للضمير الإنساني؛ لأنّ أحد الأهداف الرئيسة لهذه الثورة هو هزّ هذا الضمير وإحياؤه وتحريكه عندما يتعرَّض للموت أو الخدر الحضاري، أو يقع تحت تأثير الضغوط النفسيّة أو أساليب الإرهاب، بحيث ينتهي بالإنسان إلى فقدان الإرادة مع إدراكه للحقيقة.

ب ـ جانب الوَعْي السياسي للأحداث التي تمرّ بالأمّة، خصوصاً في إطار مدرسة أهل البيت^، التي تميَّزَتْ من بين جميع المذاهب الإسلامية بهذا الوَعْي العميق والأصيل للأحداث السياسية، والتزمَتْ جانب المبادئ الإسلامية والأخلاق.

ج ـ جانب رؤية مدرسة أهل البيت^ للحكم الإسلامي ومقوّماته، والقدرة على التمييز بين الصحيح والخطأ في ممارسات هذا الحكم، مع القدرة على التمييز بين التي يصحّ السكوت عنها؛ رعايةً للمصلحة الإسلامية، أو التي تشكِّل تهديداً للإسلام؛ بحيث تفرض التصدّي بحَسَب قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الثالث: المحافظة على العلاقات الإنسانيّة والاجتماعيّة بين أتباع مدرسة أهل البيت^ ومَنْ يتفاعل معها من المسلمين، ضمن الإطار الصحيح لهذه العلاقات، المتمثِّل بالأهداف والأخلاق الحسينيّة.

الرابع: نشر الثقافة الصحيحة لمدرسة أهل البيت^، التي كانت تواجه في بعض الأدوار التأريخيّة محاولات الحظر والإرهاب الفكري والجسدي، أو تواجه مشكلات عدم توافر الوسائل والإمكانات البشرية أو المادية لنشر هذه الثقافة، وهو ما جاء متواتراً في روايات أهل البيت، ونذكر منها: موثَّقة([1]) ميسر، عن أبي جعفر×، قال: قال لي: «أَتَخْلُون وتتحدَّثون وتقولون ما شئتم؟»، فقلتُ: إي والله، إنا لنخلو ونتحدَّث ونقول ما شئنا، فقال: «أما والله لوَدَدْتُ أني معكم في بعض تلك المواطن، أما والله إني لأحبّ ريحكم وأرواحكم، وإنكم على دين الله ودين ملائكته، فأعينوا بوَرَعٍ واجتهاد»([2])([3]).

ضرورة تطوير المنبر الحسينيّ، وأهمِّيّة نَقْده

من هنا برزَتْ الحاجة إلى التطوير الدائم للمنبر؛ ليواكب تغيُّرات العصر، وتقدُّم مستوى الوَعْي والحياة، أما الركود والجمود على الأساليب التقليدية التي أنتجتها ظروف سابقة فإنها تضعف دَوْر المنبر الحسيني وتأثيره، وتجعله عاجزاً عن منافسة وسائل الإعلام والمعلومات المتقدّمة في هذا العصر.

ومن هنا تأتي أهمِّية النَّقْد لهذا المنبر؛ لتجنيبه الأخطاء الماضية؛ وللارتقاء به ليواكب الأحداث الخطيرة التي تواجه الإسلام والمسلمين بشكلٍ عامّ، ومدرسة أهل البيت^ وأتباعها بشكلٍ خاصّ. فالجيل الجديد من الخطباء مطالَبٌ اليوم بتطوير التجربة، وعدم الوقوف بها عند مستوىً معين، فمسيرةُ التغيير سريعةٌ في عالم اليوم.

وقد اختَرْنا كنموذجٍ لهذه الحالة منبر الدكتور أحمد الوئلي&؛ لما يتمتع به هذا المنبر من جمهورٍ عريض، وباعتباره عميد المنبر الحسينيّ، فاذا كانت هذه الأمور تعتري منبره فمن باب أَوْلى هي تواجه الآخرين. وبما أن الموضوع واسعٌ فقد اختَرْنا جانباً من هذا المنبر، والذي يتناول فيه الدكتور الوائلي سيرة أئمّة أهل البيت^، واخترنا من بين الأئمّة الإمام الكاظم×. وقد اعتمَدْنا على تسجيلٍ صوتيّ على الإنترنت على هذا الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=MddX1KWhoRc

وسنتناول هذا الموضوع من خلال الإشارة إلى مجموعة من الأمور:

هفوات الشيخ الوائلي (رحمه الله) في عرض سيرة الإمام الكاظم (عليه السلام)

1ـ عدم ذكر مصادر المعلومات

لم يذكر& أيّ مصدر للمعلومات في التسجيل الصوتي، وهذا ما يجعل المعلومات غير ذات قيمةٍ. ومن هنا لا بُدَّ لأصحاب المنبر؛ من أجل إضفاء المصداقية على كلامهم، أن يقوموا بذكر مصادر المعلومات التي يستندون إليها في موضوع بحثهم. قال تعالى: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (البقرة: 111)، «أي حجّتكم على دعواكم، كما أتى محمّدٌ ببراهينه»([4]).

2ـ عدم الدقّة في نقل الحوادث

وهو ما نراه في عدّة مواضع:

أـ مولد الإمام الكاظم (عليه السلام)

ذكر& أحداث مولد الأمام الكاظم× ابتداءً، وقد تحدَّث عنها بشكلٍ غير دقيق في موردين:

أـ في الدقيقة 1 قال&: «إنه وُلد في الأبواء؛ لأن أباه كان يباشر ضيعته بنفسه».

مع أن رواية مولد الإمام تشير إلى أن الإمام الصادق× كان في طريقه إلى الحجّ؛ فعن أبي بصير قال: «حَججْنا مع أبي عبد الله× في السنة التي وُلد فيها ولده موسى×، فلما نزلنا الأبواء وضع لنا الغداء، وكان إذا وضع الطعام لأصحابه أكثره وأطابه، قال: فبينا نحن نأكل إذا أتاه رسولُ حميدة، فقال: إن حميدة تقول لك: إني قد أنكَرْتُ نفسي وقد وَجَدْتُ ما كنت أجد إذا حضرَتْني ولادتي…، الخبر»([5]).

ب ـ في الدقيقة 3 و11 ثانية نقل& عن الإمام الصادق× أنه قال لأصحابه عند ولادة الإمام الكاظم×: «لقد ولد في هذا اليوم شبيه موسى فالق البحار، قُدِّسَتْ أمٌّ ولدَتْه، فلقد ولدَتْ راضية مرضية».

مع أن هذه الرواية منقولةٌ عن الإمام الرضا× في مولد الإمام الجواد×؛ فعن كلثم بن عمران قال: «قلتُ للرضا×: ادْعُ الله أن يرزقك ولداً، فقال×: «إنما أُرزق ولداً واحداً، وهو يرثني»، فلما ولد أبو جعفر× قال الرضا× لأصحابه: «قد وُلد لي شبيه موسى بن عمران× فالق البحار، وشبيه عيسى ابن مريم×، قدِّست أمٌّ ولدَتْه، فلما ولدته طاهرة مطهرة»([6]).

ب ـ قصّة الجارية التي شجَّتْ رأسه

في الدقيقة 7 و37 ثانية روى& قصّةً يبين فيها السبب في تلقيبه بالكاظم، قال: «إن جارية وقفَتْ تصب الماء على رأسه، فأخذتها هيبة الإمام، فسقط الإبريق من يدها على رأسه، فشجَّه، فقالت: والكاظمين الغيظ، قال: كظمت غيظي، قالت: والعافين عن الناس، قال: عفوتُ عنك، قالت: والله يحبّ المحسنين، قال: اذهبي فأنتِ حُرّةٌ لوجه الله».

والقصّة بهذا المضمون لم تَرِدْ في أيّ مصدرٍ من المصادر الشيعية وغيرها. وما رُوي في هذه الحادثة رواه ابن أبي الحديد قال: «ورُوي أن عبداً لموسى بن جعفر× قدَّم إليه صحفةً فيها طعامٌ حارّ، فعجل، فصبَّها على رأسه ووجهه، فغضب، فقال له: والكاظمين الغيظ، قال: قد كظمْتُ، قال: والعافين عن الناس، قال: قد عفَوْتُ، قال: والله يحبّ المحسنين، قال: أنتَ حُرٌّ لوجه الله، وقد نحلتك ضيعتي الفلانية»([7]).

وأما قصّة الجارية فقد رُويت عن الإمام السجاد×؛ فعن شيخٍ من أهل اليمن يقال له: عبد الله بن محمد، قال: سمعْتُ عبد الرزّاق يقول: جعلَتْ جاريةٌ لعليّ بن الحسين’ تسكب الماء عليه، وهو يتوضَّأ للصلاة، فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه، فشجَّه، فرفع عليّ بن الحسين’ رأسه إليها، فقالت الجارية: إن الله (عزَّ وجلَّ) يقول: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾، فقال لها: قد كظمت غيظي، قالت: ﴿وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ﴾، قال: قد عفا الله عنك، قالت: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، قال: «اذهبي فأنتِ حُرّةٌ»([8]).

ج ـ عبادة الإمام الكاظم (عليه السلام)

روى& أشياء عن عبادة الإمام الكاظم× تفتقد إلى الدقّة:

أـ روى في الدقيقة 12 عن غلام الإمام× أنه قال: «كان إذا صلّى لا تميل الرِّيح منه إلاّ ما مال، كالخشبة اليابسة، وإنه كان يطيل في السجود وهو يقول: عظم الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك. يا محسن، قد أتاك المسيء، تجاوز عن قبيح ما عندنا بجميل ما عندك».

وعند المراجعة وَجَدْنا ان هذه الحادثة والدعاء منقولان بغير الشكل الذي نقله؛ قال الطبري: «وقيل: إنه دخل مسجد رسول الله|، فسجد سجدةً في أوّل الليل، وسُمع وهو يقول في سجوده: «عظم الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك، يا أهل التقوى، ويا أهل المغفرة»، وجعل يردِّدها حتّى أصبح»([9]).

وقال ابن أبي الحديد: «وكان موسى بن جعفر× يقول في سجوده آخر الليل: (إلهي، عظم الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك»([10]).

وقال الزمخشري: «سُمع موسى بن جعفر يقول في سجوده آخر الميل [هكذا]: «يا ربّ، عظم الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك»»([11]).

ب ـ قال في الدقيقة 12 و37 ثانية: «يتفقّدوه في السجن فكان يقول: إلهي، كثيراً ما كنتُ أسألك أن تفرِّغ لي مكاناً لعبادتك وقد فعلْتَ، فلك اللهمّ الحمد على آلائك ونعمائك».

وعند المراجعة وجَدْنا أن الخبر رواه الشيخ المفيد& بهذا المضمون: «ورُوي أن بعض عيون عيسى بن جعفر رفع إليه أنه يسمعه كثيراً يقول في دعائه، وهو محبوس عنده: (اللهم، إنك تعلم أني كنتُ أسألك أن تفرِّغني لعبادتك، اللهمّ، وقد فعلْتَ، فلك الحمد»([12]).

د ـ اطلاق سراح الربيع للإمام (عليه السلام)

في الدقيقة 37 و30 ثانية نقل& روايةً عن الربيع أنه قال: «أنا نصف الليل واقفٌ بباب بيتي، وطرقت عليّ الباب ليلاً، خرجْتُ وإذا مسرور الكبير بباب البيت، قال: أجِبْ، قلتُ: مَنْ؟ قال: المهدي، فجئتُ، فلما وصلتُ إلى قصره سمعتُه يقرأ هذه الآية: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ (محمد: 22)، فدخلتُ فوجدتُ فراشاً خالياً، قال: أرعَبْناك؟ قلتُ: بلى، نصف الليل، ومسرور الكبير، فلماذا لا أخاف؟! حسبْتُ أنه الموت، فقال: لا، أنتَ آمنٌ، ثم قال: اذهب إلى هذا الحجازيّ أطلق سراحه، قلتُ: مَنْ؟ قال: موسى بن جعفر، فكرَّرْتُ عليه: أطلق موسى 3 مرّات، خفتُ أن يكون سكران وعندما يصحو يهدم بيتي، [ثمّ قال:] وخيِّرْه بين المقام عندنا والرحيل لأهله، فجئتُ إلى الإمام في السجن، وفتحت الأقفال، فقال: مَنْ؟ الربيع، ما الذي أتى بكَ في نصف الليل، قلتُ: سيدي، واللهِ قد أُمِرْتُ بإطلاق سراحك، فقال: لعلّك أُمرْتَ بغير هذا، فأنا جاهزٌ وموكِّلٌ أمري إلى الله، فقلتُ: لا، سيدي، أُمِرتُ بإطلاق سراحك، وتخييرك بين المقام والذهاب إلى أهلك، قال: لا، يا ربيع، دَعْني أذهب إلى أهلي؛ فقد استوحشوا لفراقي».

وبعد المراجعة وجَدْنا أن هذه الحادثة نقلت عن الربيع، ولكنْ ليس كما ذكر الدكتور الوائلي&؛ فالحادثة رواها الخطيب البغدادي، عن إسحاق الموصلي ـ أنه قال غير مرّةٍ ـ: حدَّثني الفضل بن الربيع، عن أبيه، أنه لما حبس المهديّ موسى بن جعفر رأى المهديّ في النوم عليّ بن أبي طالب، وهو يقول: يا محمد، ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ (محمد: 22)، قال الربيع: فأرسل لي ليلاً، فراعَني ذلك، فجئتُه فإذا هو يقرأ هذه الآية ـ وكان أحسن الناس صوتاً ـ، وقال: عليَّ بموسى بن جعفر، فجئتُه به، فعانقه، وأجلسه إلى جانبه، وقال: أبا الحسن، إني رأيت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب في النوم يقرأ عليَّ كذا، فتؤمنني أن تخرج عليّ أو على أحدٍ من ولدي؟ فقال: «آلله، لا فعلت ذاك، ولا هو من شأني»، قال: صدقْتَ، يا ربيع، أَعْطِه ثلاثة آلاف دينار وردَّه إلى أهله، إلى المدينة، قال الربيع: فأحكَمْتُ أمره ليلاً، فما أصبح إلاّ وهو في الطريق؛ خوف العوائق([13]).

وروى الطبري عن الربيع أنه قال: «رأيت المهدي يصلّي في بَهْوٍ له في ليلةٍ مقمرة، فما أدري أهو أحسن أم البهو أم القمر أم ثيابه؟ قال: فقرأ هذه الآية: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ (محمد: 22)، قال: فتمّ صلاته، والتفت إليَّ، فقال: يا ربيع، قلتُ: لبَّيْك يا أمير المؤمنين، قال: عليَّ بموسى، وقام إلى صلاته، قال: فقلتُ: مَنْ موسى؟ ابنه موسى أو موسى بن جعفر، وكان محبوساً عندي؟ قال: فجعلتُ أفكِّر، قال: فقلتُ: ما هو إلاّ موسى بن جعفر، قال: فأحضرتُه، قال: فقطع صلاته، وقال: يا موسى، إني قرَأْتُ هذه الآية: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ (محمد: 22)، فخفْتُ أن أكون قد قطعْتُ رحمك، فوثِّقْ لي أنك لا تخرج عليَّ، قال: فقال: نعم، فوثق له، وخلاّه»([14]).

ورُويت عن غير الربيع؛ قال ابن شهرآشوب: «لما بويع محمد المهديّ دعا حميد بن قحطبة نصف الليل، وقال: إن إخلاص أبيك وأخيك فينا أظهر من الشمس، وحالك عندي موقوفٌ، فقال: أفديك بالمال والنفس، فقال: هذا لسائر الناس، قال: أفديك بالروح والمال والأهل والولد، فلم يجِبْه المهدي، فقال: أفديك بالمال والنفس والأهل والولد والدِّين، فقال: لله درّك، فعاهده على ذلك، وأمره بقتل الكاظم× في السَّحَر بغتةً، فنام فرأى في منامه عليّاً× يشير إليه ويقرأ: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ (محمد: 22)، فانتبه مذعوراً، ونهى حميداً عمّا أمره، وأكرم الكاظم، ووصله»([15]).

وجميع النقول لا تتوافق مع ما رواه&.

هـ ـ استدعاء هارون الرشيد للإمام (عليه السلام)

في الدقيقة 39 قال&: «إن الرشيد أرسل إلى الإمام مراراً متعدّدة؛ مرّة للاستهانة؛ ومرّة للاحتجاز… كان آخرها أمر به فأُلقي عليه القبض، فأرسل مخفوراً إلى البصرة».

ومن خلال التتبُّع وجَدْنا أن هارون لم يرسل على الإمام× مراراً متعدّدة، بل حمله معه عند قدومه للعمرة، وهو ما رواه الشيخ الكلينيّ، قال: «وكان هارون حمله من المدينة، لعشر ليال بقين من شوّال، سنة تسع وسبعين ومائة، وقد قدم هارون المدينة منصرفه من عمرة شهر رمضان، ثمّ شخص هارون إلى الحجّ، وحمله معه، ثم انصرف على طريق البصرة، فحبسه عند عيسى بن جعفر، ثمّ أشخصه إلى بغداد، فحبسه عند السنديّ بن شاهك، فتوفي× في حبسه، ودفن ببغداد، في مقبرة قريش»([16]).

وروى الشيخ الصدوق عن عليّ بن محمد بن سليمان النوفلي قال: «سمعتُ أبي يقول: لما قبض الرشيد على موسى جعفر’ قبض عليه وهو عند رأس النبيّ| قائماً يصلّي، فقطع عليه صلاته، وحمل وهو يبكي، ويقول: أشكو إليك يا رسول الله ما ألقى، وأقبل الناس من كلّ جانبٍ يبكون ويصيحون، فلما حمل إلى يدي الرشيد شتمه وجفاه، فلمّا جنّ عليه الليل أمر ببيتين فهُيِّئا له، فحمل موسى بن جعفر^ إلى أحدهما في خفاءٍ، ودفعه إلى حسّان السروي، وأمره بأن يسير به في قبّةٍ إلى البصرة، فيسلِّمه إلى عيسى بن جعفر بن أبي جعفر، وهو أميرها، ووجَّه قبّةً أخرى علانيةً نهاراً إلى الكوفة، معها جماعةٌ؛ ليعمى على الناس أمر موسى بن جعفر’، فقدم حسان البصرة قبل التروية بيومٍ، فدفعه إلى عيسى بن جعفر بن أبي جعفر نهاراً علانيةً، حتى عرف ذلك وشاع»([17]).

و ـ حوادث واقعة فَخٍّ

في الدقيقة 26 و27 ثانية، في معرض حديثه عن واقعة فخّ وأسبابها، قال&: «والي من أعداء أهل البيت في المدينة كان يعرض العلويين الصبح والعصر، وفي يوم أمسك بالحسن الأفطس وجلده 200 سوط، وشيع أنه وجده يشرب الخمر، فجاءه الحسين وقال: أوّلاً: إن هذا الرجل أعرفه، وهو من العبّاد. ولو فرضنا أنه شرب الخمر فحدّه حدّ المفتري 80 سوطاً، وأنتَ أركَبْتَه حماراً، وشهَّرْتَ به بالمدينة، فحلف الوالي لئن وقعَتْ عينه على الحسن ليقتلنَّه، فخرج الحسين منه متأثِّراً وجمع العلويين ومجموعة من الحجّاج، وجاء الحسن الأفطس للمؤذِّن فأمره بتهديد السلاح أن يؤذِّن بحيّ على خير العمل، فأحسَّ الوالي فهرب، فصعد الحسين بن عليّ الخير المنبر، وقال: أيُّها الناس، إنكم تتبرَّكون بالعود والخرقة، وأنا لحم رسول الله ودمه، وأنا أدعوكم لكتاب الله وسنّة رسوله، فجهَّز له الهادي جيشاً بقيادة عيسى بن موسى، وحاصرهم، ونزل الهاشميّون وقاتلوا، وجاء الحسين لأخته وقال: إذا وصل الدم إلى خبائك فأحرقي دفتر المبايعين، فلما قتل الحسين أمطرت السماء، ووصلت الدماء، فأحرقت الدفتر بالتنور».

أقول: إن ما رواه& لا يمتّ إلى حقيقة ما جرى بأيّ صلةٍ. وسأنقل لك ما ذكره الإصفهاني حول الواقعة، قال: «إن موسى الهادي ولى المدينة إسحاق بن عيسى بن علي، فاستخلف عليها رجلاً من ولد عمر بن الخطّاب، يُعْرَف بعبد العزيز بن عبد الله، فحمل على الطالبيّين، وأساء إليهم، وأفرط في التحامل عليهم، وطالبهم بالعرض كلّ يومٍ، وكانوا يعرضون في المقصورة، وأخذ كلّ واحدٍ منهم بكفالة قرينه ونسيبه، فضمن الحسينُ بن عليّ ويحيى بن عبد الله بن الحسن الحسنَ بن محمد بن عبد الله بن الحسن، ووفّى أوائل الحاجّ، وقدم من الشيعة نحو من سبعين رجلاً، فنزلوا دار ابن أفلح بالبقيع، وأقاموا بها، ولقوا حسيناً وغيره، فبلغ ذلك العمري، فأنكره، وكان قد أخذ قبل ذلك الحسن بن محمد بن عبد الله، وابن جندب الهذلي الشاعر، ومولى لعمر بن الخطاب، وهم مجتمعون، فأشاع أنه وجدهم على شرابٍ، فضرب الحسن ثمانين سوطاً، وضرب ابن جندب خمسة عشر سوطاً، وضرب مولى عمر سبعة أسواط، وأمر بأن يُدار بهم في المدينة مكشَّفي الظهور؛ ليفضحهم، فبعثَتْ إليه الهاشمية صاحبة الراية السوداء في أيّام محمد بن عبد الله، فقالت له: لا، ولا كرامة، لا تشهِّر أحداً من بني هاشم وتشنِّع عليهم وأنتَ ظالمٌ، فكفَّ عن ذلك، وخلَّى سبيلهم… قالوا: فلما اجتمع النفر من الشيعة في دار ابن أفلح أغلظ العمري أمر العرض، وولّى على الطالبيين رجلاً يعرف بأبي بكر بن عيسى الحائك، مولى الأنصار، فعرضهم يوم جمعةٍ، فلم يأذن لهم بالانصراف حتّى بدأ أوائل الناس يجيئون إلى المسجد، ثمّ أذن لهم، فكان قصارى أحدهم أن يغدو ويتوضأ للصلاة ويروح إلى المسجد، فلما صلُّوا حبسهم في المقصورة إلى العصر، ثم عرضهم، فدعا باسم الحسن بن محمد فلم يحضر، فقال ليحيى والحسين بن عليّ: لتأتياني به أو لأحبسنَّكما؛ فإن له ثلاثة أيام لم يحضر العرض، ولقد خرج أو تغيَّب، فرادّه بعض المرادّة، وشتمه يحيى، وخرج، فمضى ابن الحائك هذا فدخل على العمري، فأخبره، فدعا بهما، فوبَّخهما وتهدَّدهما، فتضاحك الحسين في وجهه، وقال: أنت مغضَبٌ يا أبا حفص، فقال له العمري: أتهزأ بي وتخاطبني بكنيتي؟ فقال له: قد كان أبو بكر وعمر، وهما خيرٌ منك، يخاطبان بالكِنَى فلا ينكران ذلك، وأنت تكره الكنية، وتريد المخاطبة بالولاية، فقال له: آخر قولك شرٌّ من أوَّله، فقال: معاذ الله، يأبى الله لي ذلك، ومَنْ أنا منه؟! فقال له: أفإنما أدخلتك إليَّ لتفاخرني وتؤذيني؟ فغضب يحيى بن عبد الله، فقال له: فما تريد منا؟ فقال: أريد أن تأتياني بالحسن بن محمد، فقال: لا نقدر عليه، هو في بعض ما يكون فيه الناس، فابعث إلى آل عمر بن الخطّاب، فاجمعهم كما جمعتنا، ثمّ اعرضهم رجلاً رجلاً، فإنْ لم تجد فيهم مَنْ قد غاب أكثر من غيبة الحسن عنك فقد أنصفتنا، فحلف على الحسين بطلاق امرأته وحرّية مماليكه أنه لا يخلّي عنه أو يجيئه به في باقي يومه وليلته، وأنه إنْ لم يجئ به ليركبنّ إلى سويقةٍ فيخربها ويحرقها، وليضربنّ الحسين ألف سوط، وحلف بهذه اليمين إنْ وقعَتْ عينه على الحسن بن محمد ليقتلنَّه من ساعته، فوثب يحيى مغضباً، فقال له: أنا أعطي الله عهداً، وكلّ مملوك لي حرّ إنْ ذقْتُ الليلة نوماً حتى آتيك بالحسن بن محمد أو لا أجده، فاضْرِبْ عليك بابك حتّى تعلم أني قد جئتُك. وخرجا من عنده، وهما مغضبان، وهو مغضبٌ، فقال الحسين ليحيى بن عبد الله: بئس لعمر الله ما صنعْتَ حين تحلف لتأتينه به، وأين تجد حسناً؟ قال: لم أُرِدْ أن آتيه بالحسن، والله، وإلاّ فأنا نَفْيٌ من رسول الله|، ومن عليٍّ×، بل أرَدْتُ إنْ دخل عيني نومٌ حتى أضرب عليه بابه ومعي السيف، إنْ قدرْتُ عليه قتلتُه، فقال له الحسين: بئسما تصنع، تكسر علينا أمرنا، قال له يحيى: وكيف أكسر عليك أمرك، وإنما بيني وبين ذلك عشرة أيّام حتّى تسير إلى مكّة، فوجَّه الحسين إلى الحسن بن محمد فقال: يا بن عمّي، قد بلغك ما كان بيني وبين هذا الفاسق، فامْضِ حيث أحبَبْتَ، فقال الحسن: لا والله، يا بن عمّي، بل أجيء معك الساعة حتّى أضع يدي في يده، فقال له الحسين: ما كان الله ليطلع عليّ وأنا جاءٍ إلى محمد| وهو خصمي وحجيجي في دمك، ولكنْ أقيك بنفسي؛ لعل الله أن يقيني من النار، قال: ثمّ وجّه، فجاءه يحيى وسليمان وإدريس، بنو عبد الله بن الحسن وعبد الله بن الحسن الأفطس، وإبراهيم بن إسماعيل طباطبا وعمر بن الحسن بن عليّ بن الحسن بن الحسين بن الحسن، وعبد الله بن إسحاق بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي، وعبد الله بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، ووجهوا إلى فتيان من فتيانهم ومواليهم، فاجتمعوا ستّة وعشرين رجلاً من ولد عليّ، وعشرة من الحاجّ، ونفر من الموالي، فلمّا أذَّن المؤذِّن للصبح دخلوا المسجد، ثم نادوا: «أحد، أحد»، وصعد عبد الله بن الحسن الأفطس المنارة التي عند رأس النبيّ|، عند موضع الجنائز، فقال للمؤذِّن: أذِّن بحيّ على خير العمل، فلمّا نظر إلى السيف في يده أذَّن بها، وسمعه العمريّ، فأحسّ بالشرّ ودهش، وصاح: أغلقوا البغلة الباب، وأطعموني حبّتي ماء، قال عليّ بن إبراهيم في حديثه: فولده إلى الآن بالمدينة يعرفون ببني حبتي ماء، قالوا: ثمّ اقتحم إلى دار عمر بن الخطّاب، وخرج في الزقاق المعروف بزقاق عاصم بن عمر، ثمّ مضى هارباً على وجهه يسعى ويضرط حتّى نجا، فصلّى الحسين بالناس الصبح، ودعا بالشهود العدول الذين كان العمري أشهدهم عليه أن يأتي بالحسن إليه، ودعا بالحسن، وقال للشهود: هذا الحسن قد جئتُ به، فهاتوا العمريّ، وإلاّ والله خرجْتُ من يميني ومما عليَّ، ولم يتخلَّف عنه أحدٌ من الطالبيين إلاّ الحسن بن جعفر بن الحسن بن الحسن، فإنه استعفاه، فلم يكرهه؛ وموسى بن جعفر بن محمد… وخطب الحسين بن عليّ، بعد فراغه من الصلاة، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أنا ابن رسول الله، على منبر رسول الله، وفي حَرَم رسول الله، أدعوكم إلى سُنَّة رسول الله|. أيها الناس، أتطلبون آثار رسول الله في الحجر والعود، وتتمسَّحون بذلك، وتضيِّعون بضعةً منه؟! وحجّ في تلك السنة العباس بن محمد، وسليمان بن أبي جعفر، وموسى بن عيسى، فصار مبارك معهم، واعتلّ عليهم بالبيات. وخرج الحسين بن عليّ قاصداً إلى مكّة، ومعه مَنْ تبعه من أهله ومواليه وأصحابه، وهم زهاء ثلاثمائة، واستخلف على المدينة دينار الخزاعي، فلمّا قربوا من مكّة فصاروا بفخٍّ وبلدح تلقَّتهم الجيوش، فعرض العبّاس على الحسين الأمان والعفو والصلة، فأبى ذلك أشد الإباء… ولقيته الجيوش بفخٍّ، وقادها: العباس بن محمد، وموسى بن عيسى، وجعفر ومحمد ابنا سليمان، ومبارك التركي، ومنارة، والحسن الحاجب والحسين بن يقطين، فالتقوا في يوم التروية وقت صلاة الصبح، فأمر موسى بن عيسى بالتعبئة، فصار محمد بن سليمان في الميمنة، وموسى في الميسرة، وسليمان بن أبي جعفر والعبّاس بن محمد في القلب. فكان أوّل مَنْ بدأهم موسى، فحملوا عليه، فاستطرد لهم شيئاً حتى انحدروا في الوادي، وحمل عليهم محمد بن سليمان من خلفهم، فطحنهم طحنةً واحدة، حتّى قتل أكثر أصحاب الحسين. وجعلت المسوّدة تصيح للحسين: يا حسين، لك الأمان، فيقول: ما أريد الأمان، ويحمل عليهم حتى قُتل…، الخبر»([18]).

وفي معرض التعليق على ما ذكره& وما نقله الإصفهاني أقول:

أـ إن المعاقَب لم يكن الحسن الأفطس وحده.

ب ـ إن الوالي جلد الحسن 80 سوطاً، وليس 200، كما قال&

ج ـ مضمون المحادثة بين الحسين والوالي كان مغايراً لما رواه&.

د ـ عددُ مَنْ قُتل من العلويين الذي ذكره& لم يكن صحيحاً.

هـ ـ قصّة الحسين مع أخته لم يكن لها أيّ أساسٍ.

و ـ ادِّعاؤه بأن النساء أُخِذْنَ سبايا مع الأطفال، وقتل الهادي لهم، لم يكن صحيحاً.

ز ـ الأبيات التي تمثَّل بها الهادي عندما رأى الرؤوس جاءت بصورةٍ أخرى، غير ما ذكره&، فقد قال:

قد أنصف القارة مَنْ راماها *** إنّا إذا ما فئةٌ نلقاها

نردّ أولاها على أخراها([19])

ز ـ قصّة دعاء الجوشن الصغير

قال& في الدقيقة 31 و30 ثانية: «إن الإمام× قام فصلّى ركعتين، ثم دعا بدعاء الجوشن الصغير، وقال لهم: غداً سيأتيكم الناعي بوفاة الهادي».

مع أن حوار الإمام× جرى بهذا المضمون: «فتبسَّم موسى×، ثم تمثَّل ببيت كعب بن مالك، أخي بني سلمة، وهو:

زعمَتْ سخينة أن ستغلب ربَّها *** فليغلبنَّ مغالبَ الغُلاَّب

ثمّ أقبل على مَنْ حضره من مواليه وأهل بيته، فقال: «ليفرح روعكم أنه لا يَرِدُ أول كتابٍ من العراق إلاّ بموت موسى بن مهديّ وهلاكه»، فقالوا: وما ذاك، أصلحك الله؟ فقال: «قد وحرمة هذا القبر مات في يومه هذا. واللهِ، ﴿إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾ (الذاريات: 23). سأخبركم بذلك. بينما أنا جالسٌ في مصلاي بعد فراغي من وردي، وقد تنوَّمَتْ عيناي؛ إذ سنح لي جدّي رسول الله| في منامي، فشكَوْتُ إليه موسى بن المهديّ، وذكرتُ ما جرى منه في أهل بيته، وأنا مشفقٌ من غوائله، فقال لي: لتطِبْ نفسك، يا موسى، فما جعل الله لموسى عليك سبيلاً، فبينما هو يحدِّثني إذ أخذ بيدي، وقال لي: قد أهلك الله آنفاً عدوَّك، فلتحسن لله شكرك»، قال: ثمّ استقبل أبو الحسن القبلة، ورفع يدَيْه إلى السماء يدعو…، الخبر»([20]).

ح ـ سجن السِّنْديّ بن شاهِك

في الدقيقة 40 و50 ثانية قال&: «ونُقل من سجن الفضل بن يحيى إلى سجن السندي بن شاهك، وكان طامورةً، لا يُعْرَف فيها الليل من النهار».

وهذا أمرٌ لم يُذْكَر في أي من المصادر، بل رُوي ما يخالف هذا المعنى في مصادر عديدة، نشير إلى بعضها:

روى الشيخ الكليني، بسنده عن الحسن بن محمد بن بشّار قال: «حدَّثني شيخٌ من أهل قطيعة الربيع من العامة ببغداد، ممَّن كان ينقل عنه، قال: قال لي: قد رأيتُ بعض مَنْ يقولون بفضله من أهل هذا البيت، فما رأيتُ مثله قطّ في فضله ونسكه، فقلت له: مَنْ؟ وكيف رأيته؟ قال: جمعنا أيام السندي بن شاهك ثمانين رجلاً من الوجوه المنسوبين إلى الخير، فأدخلنا على موسى بن جعفر’، فقال لنا السندي: يا هؤلاء، انظروا إلى هذا الرجل، هل حدث به حَدَثٌ؟ فإن الناس يزعمون أنه قد فعل به، ويكثرون في ذلك، وهذا منزله وفراشه موسَّع عليه غير مضيَّق، ولم يُرِدَ به أمير المؤمنين سوءاً، وإنما ينتظر به أن يقدم فيناظر أمير المؤمنين، وهذا هو صحيحٌ موسَّع عليه في جميع أموره، فَسَلُوه، قال: ونحن ليس لنا همٌّ إلاّ النظر إلى الرجل وإلى فضله وسَمْته، فقال موسى بن جعفر’: «أما ما ذكر من التوسعة وما أشبهها فهو على ما ذكر، غير أني أخبركم، أيها النفر، أني قد سُقيتُ السمَّ في سبع تمراتٍ، وأنا غداً أخضرّ، وبعد غدٍ أموت»، قال: فنظرْتُ إلى السنديّ بن شاهك يضطرب ويرتعد مثل السعفة»([21]).

وروى الخطيب البغدادي، بسنده عن عمّار بن أبان قال: «حبس أبو الحسن موسى بن جعفر عند السندي بن شاهك، فسألَتْه أختُه أن تتولَّى حبسه ـ وكانت تتديَّن ـ ففعل، فكانت تلي خدمته، فحكى لنا أنها قالت: كان إذا صلّى العتمة حمد الله ومجَّده ودعاه، فلم يزَلْ كذلك حتّى يزول الليل، فإذا زال الليل قام يصلّي حتّى يصلي الصبح، ثمّ يذكر قليلاً حتّى تطلع الشمس، ثمّ يقعد إلى ارتفاع الضحى، ثمّ يتهيَّأ ويستاك ويأكل، ثمّ يرقد إلى قبل الزوال، ثمّ يتوضّأ ويصلّي حتّى يصلّي العصر، ثمّ يذكر في القبلة حتّى يصلّي المغرب، ثمّ يصلّي ما بين المغرب والعتمة، فكان هذا دأبه. فكانت أخت السنديّ إذا نظرَتْ إليه قالت: خاب قومٌ تعرَّضوا لهذا الرجل، وكان عبدا صالحاً»([22]).

ط ـ قصّة الطبيب النصرانيّ

نقل&، في الدقيقة 48 و50 ثانية، عن عليّ بن سويد أنه قال: «كانت لي صحبةٌ مع طبيبٍ نصرانيّ صادف أن مرّ بي، فقلتُ له: بالمسيح عيسى عليك إلاّ ما نظرْتَ في يد هذا المسجّى. أقبل، أماط العباءة عنه، وأخذ يده، تطلَّع فيها طويلاً، ثم قام، ولم يتكلَّم، تبعتُه، قلتُ: ما لي أراك ساكتاً؟! قال: يا بن سويد، أخبرني هل لهذا الرجل من عشيرةٍ؟ قلتُ: ما الخبر؟ قال: فليطالبوا بدمه؛ إن الرجل مسمومٌ».

ويَرِدُ على ما ذكره أمران:

أـ إن هذه الحادثة لم تنقل في أيٍّ من المصادر التاريخية أو الحديثية. وأما قصة الطبيب فقد رواها الشيخ الصدوق، بسنده، قال: «حوِّل إلى الفضل بن يحيى البرمكي، فحبس عنده أياماً، وكان الفضل بن الربيع يبعث إليه في كلّ ليلةٍ مائدة، ومنع أن يدخل إليه من عند غيره، فكان لا يأكل ولا يفطر إلاّ على المائدة التي يؤتى بها، حتّى مضى على تلك الحال ثلاثة أيّام ولياليها، فلما كانت الليلة الرابعة قدِّمت إليه مائدة للفضل بن يحيى، قال: فرفع× يده إلى السماء، فقال: يا ربّ، إنك تعلم أني لو أكَلْتُ قبل اليوم كنْتُ قد أعَنْتُ على نفسي، قال: فأكل، فمرض، فلما كان من غدٍ بعث إليه بالطبيب؛ ليسأله عن العلّة، فقال له الطبيب: ما حالك؟ فتغافل عنه، فلما أكثر عليه أخرج إليه راحته، فأراها الطبيب، ثمّ قال: هذه علَّتي، وكانت خضرة في وسط راحته، تدلّ على أنه سُمَّ، فاجتمع في ذلك الموضع، قال: فانصرف الطبيب إليهم، وقال: واللهِ، لهو أعلمُ بما فعلتم به منكم، ثمّ توفي×» ([23]).

ب ـ لم يَرِدْ في الرواية أنه كان نصرانيّاً.

ي ـ قصة عليّ بن سويد

نقل& في الدقيقة 42 و55 ثانية عن عليّ بن سويد أنه قال: «دخلْتُ عليه بعد أن أرضَيْتُ السجّانين، قلتُ: سيِّدي، واللهِ، لقد ضاقَتْ صدورنا، متى الفرج؟ قال: يا بن سويد، إن الفرج قريب، قلتُ: متى؟ قال: الموعد ضحىً، على الجسر ببغداد، فخرجْتُ أطرق أبواب أصحابنا باباً باباً، وأنا أقول: إن الإمام سيخرج، والموعد ضحىً، على الجسر ببغداد».

أقول: هذه الحادثة رواها الشيخ الكليني، بسنده عن عليّ بن سويد قال: كتبْتُ إلى أبي الحسن موسى×، وهو في الحبس، كتاباً، أسأله عن حاله، وعن مسائل كثيرة، فاحتبس الجواب عليَّ أشهراً، ثمّ أجابني بجوابٍ هذه نسخته: «بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله العليّ العظيم، الذي بعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين… كتبتَ تسألني عن أمور كنتَ منها في تقيّةٍ ومن كتمانها في سَعَةٍ، فلما انقضى سلطانُ الجبابرة، وجاء سلطانُ ذي السلطان العظيم بفراق الدنيا المذمومة إلى أهلها العُتاة على خالقهم، رأَيْتُ أن أفسِّر لك ما سألتني عنه؛ مخافة أن يدخل الحيرة على ضعفاء شيعتنا من قِبَل جهالتهم… إن أوّل ما أنهي إليك أني أنعى إليك نفسي في لياليّ هذه، غير جازعٍ، ولا نادمٍ، ولا شاكٍّ فيما هو كائنٌ ممّا قد قضى الله عزَّ وجلَّ وحتم…، الخبر»([24]).

وهنا نشير إلى عدّة أمور بيَّنَتْها هذه الرواية:

1ـ إن حادثة دخول عليّ بن سويد على الإمام لم تنقل في أيّ مصدرٍ، بل بعث إليه بكتابٍ.

2ـ إن ابن سويد لم يقُمْ بإعطاء شيءٍ للسجّانين من أجل إدخاله على الإمام×.

3ـ إن الإمام× نعى نفسه إليه، ولكنْ لم يَرِدْ في كلام الإمام× أيّ ذكرٍ للجمعة، ولا ضحى، ولا على الجسر.

 

ك ـ قصّة سليمان بن أبي جعفر الجعفريّ

قال&، في الدقيقة 44، في كيفية إخراج نعش الإمام×: «أقبلوا بالجنازة، ووضعوها على الجسر ببغداد، ونودي عليها: هذا إمام الرافضة».

وكلامُه& غيرُ دقيقٍ من جهتين:

1ـ إن الجسر في ذلك الزمان ليس كما نتصوَّره في زماننا، بحيث تتجمَّع عليه الجماهير، بل كان عبارةً عن قوارب مربوطةٍ ببعضها، وقد وُضعت عليها ألواح خشبٍ تعبر الناس عليها.

2ـ ما رواه الشيخ الصدوق في تفاصيل الحادثة يتنافى تماماً مع ما ذكره&؛ فقد روى، بسنده عن الحسن بن عبد الله الصيرفي، عن أبيه قال: «توفي موسى بن جعفر’ في يد السندي بن شاهك، فحمل على نعشٍ، ونودي عليه: هذا إمام الرافضة، فاعرفوه. فلما أتى به مجلس الشرطة أقام أربعة نفرٍ فنادَوْا: ألا مَنْ أراد أن يرى الخبيث ابن الخبيث فليخرج، وخرج سليمان بن أبي جعفر الجعفري عن قصره إلى الشطّ، فسمع الصياح والضوضاء، فقال لغلمانه ولولده: ما هذا؟ قالوا: السندي بن شاهك ينادي على موسى بن جعفر’ على نعشه، فقال لولده وغلمانه: يوشك أن يفعل هذا به في الجانب الغربيّ، فإذا عبر به فانزلوا مع غلمانكم فخذوه من أيديهم؛ فإنْ مانعوكم فاضربوهم وخرِّقوا ما عليهم من السواد، فلما عبروا به نزلوا إليهم، فأخذوه من أيديهم، وضربوهم، وخرَّقوا عليهم من سوادهم، ووضعوه في مفرق أربعة طرقٍ، وأقام المنادي ينادي: ألا ومَنْ أراد أن يرى الطيِّب ابن الطيِّب موسى بن جعفر’ فليخرج، وحضر الخلق، وغُسِّل، وحُنِّط بحنوطٍ فاخر، وكفَّنه بكفن فيه حبرة استعملت بألفين وخمسمائة دينار، عليها القرآن كلّه، واحتفى، ومشى في جنازته، متسلِّباً، مشقوق الجيب، إلى مقابر قريش، فدفنه× هناك، وكتب بخبره إلى الرشيد، فكتب الرشيد إلى سليمان بن أبي جعفر: وصَلَتْكَ رحمٌ، يا عمّ، وأحسَنَ الله جزاك. واللهِ، ما فعل السندي بن شاهك لعنه الله تعالى ما فعله عن أمرنا»([25]).

3ـ الاستطراد([26]) وعدم صحّة المعلومات

فقد نقل& في الدقيقة 1 و19 ثانية روايةً عن المفضَّل بن عمر، مستدلاًّ على إيلاء الأئمّة^ أهميةً للعمل، فقال: «إنه دخل على الإمام الصادق× في تموز، والإمام الصادق بيده مسحاة، وسأله عن الموالي، وإن الإمام أجابه بأن الله يحب أن يرى عبده حيث يحبّ».

وعند المراجعة وجَدْنا أن هذه الحادثة رُويت عن أبي عمرو الشيباني قال: «رأيتُ أبا عبد الله× وبيده مسحاةٌ، وعليه إزارٌ غليظ، يعمل في حائطٍ له، والعرق يتصابّ عن ظهره، فقلتُ: جُعلتُ فداك، أعطني أكفك، فقال لي: إني أحبّ أن يتأذّى الرجل بحرّ الشمس في طلب المعيشة»([27]).

ورُوي عن إسماعيل بن جابر قال: «أتيتُ أبا عبد الله×، وإذا هو في حائطٍ له، بيده مسحاةٌ، وهو يفتح بها الماء، وعليه قميصٌ شبه الكرابيس، كأنه مخيطٌ عليه من ضيقه»([28]).

وأما الإمام الذي سُئل عن الموالي فهو الإمام الكاظم×؛ فعن الحسن بن عليّ بن أبي حمزة، عن أبيه قال: رأيتُ أبا الحسن× يعمل في أرضٍ له، قد استنقعَتْ قدماه في العَرَق، فقلتُ له: جُعلتُ فداك، أين الرجال؟ فقال: «يا عليّ، قد عمل باليد مَنْ هو خيرٌ منّي في أرضه ومن أبي»، فقلتُ له: ومَنْ هو؟ فقال: «رسول الله|، وأمير المؤمنين وآبائي^، كلّهم كانوا قد عملوا بأيديهم، وهو من عمل النبيّين والمرسلين والأوصياء والصالحين»([29]).

ولم تَرِدْ أيّ روايةٍ عن المفضَّل بن عمر بهذه الألفاظ أو المضمون.

4ـ عدم استقصاء الآراء في المسائل

ففي الدقيقة 3 و28 ثانية قال&: «إن أمّ الإمام حميدة من عرب الأندلس».

مع أنه ذُكِر في المسألة رأيان:

ـ قال البغدادي: «أمّ موسى بن جعفر’ حميدة البربرية، ويقال: الأندلسية»([30]).

ـ قال الخصيبي: «وأمّه حميدة البربرية، ويقال: الأندلسية، والبربرية أصحّ»([31]).

ـ قال الإربلي: «وأمّه أمّ ولد، تسمّى: حميدة البربرية، وقيل غير ذلك»([32]).

ـ قال محمد بن طلحة الشافعي: «وأما أمّه أمّ ولد، تسمّى: حميدة البربرية، وقيل غير ذلك»([33]).

ومنهم مَنْ ذكر أن أمَّه بربريّةٌ، دون ذكر الرأي الآخر:

ـ قال الطبري: «وأمّه: حميدة بنت صاعد البربري»([34]).

ـ قال المفيد: «وأمّه أمّ ولد، يُقال لها: حميدة البربرية»([35]).

ـ قال الطوسي: «وجاريته أمّ ولده حميدة البربرية»([36]).

ـ قال المجلسي: «وأمّه أمّ ولد، يُقال لها: حميدة البربرية، ويُقال لها: حميدة المصفّاة»([37]).

ـ قال ابن الصبّاغ المالكي: «وأمّا أُمّه فتسمَّى حميدة البربرية»([38]).

5ـ  التهافت([39]) في نقل الأحداث

فقد ذكر& أن الإمام بقي في السجن 15 سنة، لا يرى أحداً، ثم يناقض نفسه في موضعين:

1ـ قصّة الخَرِبة وقطع اللحم المَيْت

ينقل في الدقيقة 12 و52 ثانية أنه كان في خربةٍ، وليس في سجن. قال ما نصُّه: «إن أحد الأشخاص قال: سمعتُ بأن الإمام أتَوْا به إلى بغداد، فجئتُ أبحث عن بيته؛ لحاجةٍ لي عنده، فقيل لي: إنه في جانب الكرخ، فأقبلتُ، وأنا أتوقَّع أن يوضع الإمام في مكانٍ يليق به؛ لأنه ابن رسول الله، فوجَدْتُه في خربةٍ، وداخل الخربة كوخٌ، وغلامٌ واقف، فسألته: أين الإمام؟ فقال: لِجْ، لا حاجب، ولا بوّاب، فدخَلْتُ، فوجَدْتُه وقد افترش الحصباء، واستقبل القبلة، ودموعه جاريةٌ على خدَّيْه يقرأ القرآن الكريم، وإذا مرَّتْ به آيةٌ فيها وعدٌ أو وعيدٌ ردَّدها بانتحابٍ وحنين، وإلى جانبه جلم (مقصّ) ياخذ اللحم الميت من مواضع سجوده، يعني من كثرة السجود عنده الركبتان والإبهامان والكفّان والجبهة يكون فيهما مجل، يعني لحم ميت، فيجمعه إلى جانبه».

وعند المراجعة وجَدْنا أن الرواية رواها الشيخ الصدوق، بسنده عن أبي عبد الله بن الفضل، عن أبيه الفضل قال: «كنتُ أحجب الرشيد، فأقبل عليَّ يوماً غضباناً، وبيده سيف يقلِّبه، فقال لي: يا فضل، بقرابتي من رسول الله| لئن لم تأتني بابن عمّي الآن لآخذنّ الذي فيه عيناك، فقلتُ: بمَنْ أجيئك؟ فقال: بهذا الحجازيّ، فقلتُ: وأيّ حجازيّ؟ قال: موسى جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب^، قال الفضل: فخِفْتُ من الله (عزَّ وجلَّ) أن أجيء به إليه، ثمّ فكَّرْتُ في النقمة، فقلْتُ له: أفعل، فقال: ائتِني بسوطين وهسارين وجلاّدين، قال: فأتيته بذلك، ومضيت إلى منزل أبي إبراهيم موسى بن جعفر’، فأتَيْتُ إلى خربةٍ فيها كوخٌ من جرايد النخل، فإذا أنا بغلامٍ أسود، فقلتُ له: استأذِنْ لي على مولاك، يرحمك الله، فقال لي: لِجْ، فليس له حاجب، ولا بوّاب، فولَجْتُ إليه، فإذا أنا بغلامٍ أسود، بيده مقصّ، يأخذ اللحم من جبينه وعرنين أنفه من كثره سجوده…، الخبر»([40]).

وهنا نشير إلى عدة أمور، عدا موضوع التهافت:

أـ إن هذا الشخص معروفٌ، وبعثه الرشيد للإتيان بالإمام×.

ب ـ إنه لم يسأل عن مكان الإمام×، ولم يخبر بأنه في جانب الكَرْخ.

ج ـ لم يأت لفظ الجلم في الرواية، بل عبَّرَتْ أنه مقصّ.

د ـ إن اخذ اللحم الميت كان من «جبينه وعرنين أنفه»، لا من «الركبتين والإبهامين والكفّين والجبهة»، كما ذكر&.

هـ ـ إن الغلامين كانا أسودين، والكوخ كان من جريد النخل.

و ـ ما هي الفائدة من جمع الإمام للجلد الميت إلى جانبه؟!

2ـ قصّة بِشْر الحافي

فقد ذكر& في الدقيقة 21 حادثةَ لقاء الإمام× مع بشر الحافي، في معرض حديثه عن صفات الإمام الجسدية، فقال: «إن الإمام كان مارّاً ببغداد، وسمع أجواء الطَّرَب من أحد البيوت، وخرجَتْ جاريةٌ تلقي بفضلات المائدة، فسأل الجارية: لمَنْ الدار؟ قالت: لسيدي، قال: سيدك حُرٌّ أم عبدٌ؟ قالت: بل حُرٌّ، قال: صدقْتِ، لو كان عبداً لله لاستحى من الله، فلما رجعَتْ الجارية سألها بشر عن سبب تأخُّرها، فأخبرَتْه بما جرى، فسألها عن صفته، قالت: رجلٌ تميله الريح إذا مرَّتْ به…، قال: هذا موسى بن جعفر».

وعند المراجعة وجَدْنا أن الحادثة رواها العلاّمة الحلّي قال: «وعلى يده× تاب بشر الحافي؛ لأنه× اجتاز على داره ببغداد، فسمع الملاهي وأصوات الغناء والقصب تخرج من تلك الدار، فخرجت جاريةٌ وبيدها قمامة البقل، فرمَتْ بها في الدرب، فقال لها: يا جارية، صاحب هذه الدار حُرٌّ أم عبدٌ؟ فقالت: بل حُرٌّ، فقال: صدقْتِ، لو كان عبداً خاف من مولاه. فلما دخلَتْ قال مولاها، وهو على مائدة السُّكْر: ما أبطأكِ علينا؟ فقالت: حدَّثني رجلٌ بكذا وكذا، فخرج حافياً، حتّى لقي مولانا الكاظم×، فتاب على يده»([41]).

وهنا نشير إلى عدّة أمور:

أـ إن الجارية لم تتحدَّث عن صفات الإمام الجسدية، كما روى&.

ب ـ إن بشر لم يتعرَّف على الإمام× من خلال ما رَوَتْه الجارية من صفاته الجسدية، بل عرفه عندما لقيه.

ج ـ يتبين أن الإمام الكاظم× لم يكن طيلة مدّة إقامته في بغداد في السجن، بل كان في بعض الأحيان حرّاً في التنقُّل، ولكنْ تحت المراقبة، خلافاً لما ادَّعاه&.

6ـ التقديم والتأخير في الحوادث التاريخيّة

وهذا حَدَث في الدقيقة 25 و17 ثانية، حيث قال&: «بعد المنصور جاء الهادي، ثمّ المهديّ».

وكرَّر هذا الأمر في الدقيقة 73 و22 ثانية.

مع أن موسى (الهادي) المتوفّى سنة 170هـ هو ابن محمد (المهديّ) المتوفّى سنة 169هـ([42]). قال اليعقوبي: «وبُويع لموسى الهادي بن محمد المهديّ، وأمّه أمّ ولد، يقال لها: الخيزرانة»([43]).

7ـ الخلط بين مضمون الروايات

فيخلط مضمون روايةٍ مع روايةٍ أخرى، فيخرج بروايةٍ ثالثة. ففي الدقيقة 39 و30 ثانية قال&: «يقول أحمد بن عبد الله القزويني: دخلتُ صيفاً إلى بيت الربيع، قال لي: يا أحمد، انظر إلى ساحة الدار، ماذا ترى؟ قلتُ: أرى ثوباً مطروحاً، قال: حقِّق النظر، قال قلتُ: أرى رجلاً ساجداً، قال لي: أتعرف مَنْ هذا؟ قلتُ: لا، قال: هذا من رهبان بني هاشم، هذا الإمام موسى بن جعفر، قال: إنه يصلّي صلاة الليل بصلاة الصبح، ثمّ يصلّي صلاة الصبح، ثمّ يسجد سجدةً لا يقوم إلاّ لصلاة الظهر والعصر، ثم يسجد سجدةً لا يرفع رأسه حتّى تغرب الشمس، يصلي المغرب والعشاء، ثمّ يتناول قطعةً من اللحم، ثمّ يعاود صلاته. بأيّ ذنبٍ يُحْبَس مثل هذا؟!».

وعند المراجعة وجَدْنا عدة أمور:

أـ إن الراوي هو أحمد بن عبد الله الفروي، وليس القزويني، كما قال&.

ب ـ إن الرواية رواها الشيخ الصدوق في أماليه، وهذا لفظها: «عن أحمد بن عبد الله الفروي، عن أبيه قال: دخلتُ على الفضل بن الربيع، وهو جالسٌ على سطح، فقال لي: ادْنُ مني، فدنَوْتُ حتّى حاذيتُه، ثمّ قال لي: أشرف إلى البيت في الدار، فأشرفْتُ فقال: ما ترى في البيت؟ قلت: ثوباً مطروحاً، فقال: انظر حَسَناً، فتأملْتُ ونظرْتُ فتيقَّنْتُ، فقلتُ: رجلٌ ساجد، فقال لي: تعرفه؟ قلتُ: لا، قال: هذا مولاك، قلتُ: ومَنْ مولاي؟ فقال: تتجاهل عليَّ؟ فقلتُ: ما أتجاهل، ولكنْ لا أعرف لي مولى، فقال: هذا أبو الحسن موسى بن جعفر×، إني أتفقَّده الليل والنهار، فلم أجِدْه في وقتٍ من الأوقات إلاّ على الحال التي أخبرك بها، إنه يصلي الفجر فيعقِّب ساعةً في دبر صلاته إلى أن تطلع الشمس، ثمّ يسجد سجدةً فلا يزال ساجداً حتى تزول الشمس، وقد وكّل مَنْ يترصَّد له الزوال، فلستُ أدري متى يقول الغلام: قد زالت الشمس، إذ يثب فيبتدئ بالصلاة من غير أن يجدِّد وضوءاً، فأعلم أنه لم ينَمْ في سجوده، ولا أغفى، فلا يزال كذلك إلى أن يفرغ من صلاة العصر، فإذا صلّى العصر سجد سجدةً، فلا يزال ساجداً إلى أن تغيب الشمس، فإذا غابَتْ الشمس وثب من سجدته فصلّى المغرب من غير أن يحدث حدثاً، فلا يزال في صلاته وتعقيبه إلى أن يصلّي العتمة، فإذا صلى العتمة أفطر على شَوِيّ يؤتى به، ثمّ يجدِّد الوضوء، ثمّ يسجد، ثمّ يرفع رأسه، فينام نومةً خفيفة، ثمّ يقوم فيجدِّد الوضوء، ثمّ يقوم، فلا يزال يصلي في جوف الليل حتى يطلع الفجر، فلستُ أدري متى يقول الغلام: إن الفجر قد طلع، إذ قد وثب هو لصلاة الفجر، فهذا دأبه منذ حُوِّل إليَّ، فقلتُ: اتَّقِ الله، ولا تُحدثَنَّ في أمره حَدَثاً يكون منه زوال النعمة، فقد تعلم أنه لم يفعل أحدٌ بأحدٍ منهم سوءاً إلاّ كانت نعمتُه زائلةً، فقال: قد أرسلوا إليَّ في غير مرّةٍ يأمرونني بقتله فلم أُجِبْهُم إلى ذلك، وأعلمتهم أني لا أفعل ذلك، ولو قتلوني ما أجَبْتُهم إلى ما سألوني»([44]).

ج ـ إن عبارة: «هذا من رهبان بني هاشم» لم يقُلْها الفضل بن الربيع، بل قالها هارون الرشيد؛ وهو ما رواه الشيخ الصدوق، بسنده عن الثوباني قال: «كانت لأبي الحسن موسى بن جعفر’ بضع عشرة سنة كلّ يوم سجدة انقضاض الشمس إلى وقت الزوال، فكان هارون رُبَما صعد سطحاً يشرف منه على الحبس الذي حبس أبو الحسن×، فكان يرى أبا الحسن× ساجداً، فقال للربيع: يا ربيع، ما ذاك الثوب الذي أراه كلّ يوم في ذلك الموضع؟! فقال: يا أمير المؤمنين، ما ذاك بثوبٍ، وإنما هو موسى بن جعفر’، له كل يوم سجدةٌ بعد طلوع الشمس إلى وقت الزوال، قال الربيع: فقال لي هارون: أما إن هذا من رهبان بني هاشم، قلتُ: فما لك قد ضيَّقْتَ عليه الحبس، قال: هيهات، لا بُدَّ من ذلك»([45]).

فخلط& بين الحادثتين.

8ـ التحليل الخاطئ للأحداث

قال& في الدقيقة 42: «إن الإمام في السجون التي سبقَتْ سجن السندي كان يرى نور النهار، ولكنْ في سجن السندي ما كان يعرف الليل من النهار، وإن السجّانين هم الذين كانوا يخبرونه بأوقات الصلاة».

أقول: وهذا التحليل ليس بصحيحٍ من جهاتٍ:

1ـ إن الحادثة كانت في سجن الفضل بن الربيع، وليس في سجن السندي بن شاهك.

2ـ إن الذي كان ينبِّهه إلى وقت الصلاة غلامٌ أوكله هو بهذه المهمّة، وليس السجّان.

3ـ إن تنبيهه لوقت الصلاة لم يكن لأنه لا يعرف الليل من النهار، بل لأنه كان في حالة السجود، وعليه لم يكن يعرف بوقت الزوال؛ وهو ما رواه الشيخ الصدوق في أماليه، قال: «وقد وكَّل مَنْ يترصَّد له الزوال، فلستُ أدري متى يقول الغلام: قد زالت الشمس، إذ يثب فيبتدئ بالصلاة من غير أن يجدِّد وضوءاً…، الخبر»([46]).

النتيجة

رأَيْنا بكلّ وضوحٍ مدى التحريف للوقائع والشخصيات والتواريخ في ما يعتبر أشهر منبرٍ عربيّ، فما بالك في غيره من المنابر؟! ومع الأسف فإننا نجد مَنْ يقلد الدكتور الوائلي& في طريقته، فيسردون سيرة أهل البيت^ بشكلٍ مشوَّهٍ، دون المراجعة والتحقيق والتدقيق في الحوادث والشخصيات، مما يؤدّي إلى تشويه صورة الأئمّة، وتضليل الناس من خلال المعلومات الكاذبة. ومن هنا ندعو جميع الخطباء إلى اعادة النظر في طريقتهم ومنهجهم، واللجوء إلى المنهج العلمي في ما يطرحونه على المنبر.

الهوامش

(*) أستاذُ التاريخ في مجمع الإمام الخمينيّ للدراسات العليا في قم. من العراق.

([1]) محمد بن يحيى (إمامي ثقة)، عن أحمد بن محمد (إمامي ثقة)، عن ابن فضّال (فطحيّ ثقة)، عن ابن مُسْكان (إمامي ثقة)، عن ميسر (إمامي ثقة).

([2]) الشيخ الكليني، الكافي 2: 187، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، ط4، 1365هـ.ش، دار الكتب الإسلامية، طهران.

([3]) انظر: محمد باقر الحكيم، دور أهل البيت^ في بناء الجماعة الصالحة 1: 159، ط2، 1425هـ، مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت^.

([4]) تفسير الإمام العسكري×: 543، تحقيق ونشر: مدرسة الإمام المهدي×، قم، ط1 (محقّقة)، ربيع الأول 1409هـ.

([5]) أحمد بن محمد بن خالد البرقي، المحاسن 2: 314، تحقيق: السيد جلال الدين الحسيني المشتهر بالمحدث، ط1، 1370 ـ 1330هـ.ش، دار الكتب الإسلامية، طهران.

([6]) حسين بن عبد الوهّاب، عيون المعجزات: 108، 1369، المطبعة الحيدرية، النجف، محمد كاظم الشيخ صادق الكتبي.

([7]) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 18: 46، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع.

([8]) الشيخ الصدوق، الأمالي: 269، تحقيق ونشر: مؤسسة البعثة، قم، ط1، 1417هـ.

([9]) محمد بن جرير الطبري (الشيعي)، دلائل الإمامة: 310، تحقيق ونشر: مؤسسة البعثة، قم، ط1، 1413هـ.

([10]) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 6: 191.

([11]) الزمخشري، ربيع الأبرار ونصوص الأخبار 2: 354، تحقيق: عبد الأمير مهنا، ط1، 1412هـ ـ 1992م، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت.

([12]) الشيخ المفيد، الإرشاد 2: 240، تحقيق: مؤسسة آل البيت^ لإحياء التراث، ط2، 1414هـ ـ 1993م، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان.

([13]) الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد 13: 32، دراسة وتحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، ط1، 1417هـ ـ 1997م، دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان.

([14]) الطبري، تاريخ الطبري 6: 310، مراجعة وتصحيح وضبط: نخبة من العلماء الأجلاّء، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت ـ لبنان.

([15]) ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب 3: 418، تحقيق: لجنة من أساتذة النجف الأشرف، 1376هـ ـ 1956م، المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف.

([16]) الكليني، الكافي 1: 476.

([17]) الصدوق، عيون أخبار الرضا× 1: 82، تحقيق وتصحيح وتعليق وتقديم: الشيخ حسين الأعلمي، 1404هـ ـ 1984م، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت ـ لبنان.

([18]) أبو الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبيين: 297، تقديم وإشراف: كاظم المظفَّر، ط2، 1385هـ ـ 1965م، منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها، النجف الأشرف.

([19]) الطبري، تاريخ الطبري 6: 420.

([20]) السيد ابن طاووس، مهج الدعوات ومنهج العبادات: 219، مكتبة سنائي.

([21]) الكليني، الكافي 2: 259.

([22]) البغدادي، تاريخ بغداد 13: 33.

([23]) الشيخ الصدوق، الأمالي: 212.

([24]) الكليني، الكافي 8: 124.

([25]) الصدوق، عيون أخبار الرضا× 1: 93.

([26]) الاستطراد: هو الانتقال من معنىً إلى معنىً آخر متَّصل به لم يقصد بذكر الأوّل التوصل إلى ذكر الثاني. الخطيب القزويني، الإيضاح في علوم البلاغة المعاني والبيان والبديع: 361، ط1، ربيع الأوّل 1411هـ، دار الكتاب الإسلامي.

([27]) الكليني، الكافي 5: 76.

([28]) المصدر نفسه.

([29]) المصدر نفسه.

([30]) الكاتب البغدادي، تاريخ الأئمّة (المجموعة): 25، 1406هـ، مكتبة المرعشي النجفي، قم.

([31]) الحسين بن حمدان الخصيبي، الهداية الكبرى: 263، ط4، 1411هـ ـ 1991م، مؤسسة البلاغ للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان.

([32]) عليّ بن أبي الفتح الإربلي، كشف الغمّة في معرفة الأئمّة 3: 2، دار الأضواء، بيروت ـ لبنان.

([33]) محمد بن طلحة الشافعي، مطالب السؤول في مناقب آل الرسول×: 447، تحقيق: ماجد بن أحمد العطية، بلا تاريخ.

([34]) محمد بن جرير الطبري (الشيعي)، دلائل الإمامة: 307.

([35]) المفيد، الإرشاد 2: 215.

([36]) الشيخ الطوسي، الغيبة: 108، تحقيق: الشيخ عباد الله الطهراني والشيخ علي أحمد ناصح، ط1، شعبان 1411هـ، مؤسسة المعارف الإسلامية، قم ـ إيران.

([37]) العلاّمة المجلسي، بحار الأنوار 48: 1، تحقيق: محمد مهدي السيد حسن الخرسان ومحمد الباقر البهبودي والسيد إبراهيم الميانجي، ط3 (المصححة)، 1403هـ ـ 1983م، دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان.

([38]) عليّ بن محمد أحمد المالكي (ابن الصبّاغ)، الفصول المهمة في معرفة الأئمّة 2: 935، تحقيق: سامي الغريري، ط1، 1422هـ، دار الحديث للطباعة والنشر.

([39]) تَهَافَتَتِ الآراءُ: نَقَضَ بَعْضُهَا بَعْضاً؛ لِتِبْيَانِ ضَعْفِهَا.

([40]) الصدوق، عيون أخبار الرضا× 1: 76.

([41]) العلاّمة الحلّي، منهاج الكرامة: 59، تحقيق: عبد الرحيم مبارك، ط1، 1379هـ.ش، انتشارات تاسوعاء، مشهد.

([42]) خير الدين الزركلي، الأعلام 7: 327، ط5، أيار ـ مايو 1980م، دار العلم للملايين، بيروت.

([43]) اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي 2: 404، دار صادر، بيروت ـ لبنان.

([44]) الصدوق، الأمالي: 211.

([45]) الصدوق، عيون أخبار الرضا× 1: 89.

([46]) الصدوق، الأمالي: 211.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً