أحدث المقالات

تحديد النسل في الشريعة الإسلامية

قراءة فقهيّة وحقوقيّة

د. حبيب الله طاهري(*)

تمهيد:

بات تحديد النّسل أو تنظيم الأسرة موضوع العصر مع ما له من ماضٍ قديم، وتحوّل إلى مسرح للبحث والنقاش في المحافل العلمية والاجتماعية المعاصرة، وانقسم فيه المفكّرون والعلماء المسلمون وغيرهم إلى طائفتين: مخالفة وموافقة.

ولا تخفى أهمية هذا الموضوع من جوانب مختلفة وأبعاد متنوعة كالبُعد الطبي، والاقتصادي، وقد كتبت فيها دراسات عديدة وشهدت مساهمات مختلفة.

ليست هذه الأبعاد محطّ نظرنا في هذا المقال، وإن أتينا على ذكرها فبالتبع ومن باب معرفة موضوع الحكم الشرعي؛ فمقصودنا الأوّلي والرئيس دراسة هذه المسألة في بُعديها: الديني والمذهبي، أي أن ندرس ما إذا كان الحَدّ من الإنجاب من زاوية الفقه والحقوق الإسلامية مجازاً أو محظوراً؟ وإذا كان مجازاً فبأيّ أسلوب؟

وبما أن علماء الإسلام قد انقسموا في هذا الشأن إلى فئتين: موافقة ومخالفة، قُمنا، بعد تناول مطالب عِدّة في المقدمة؛ بذكر أدلّة المخالفين ودراساتهم أولاً، ومن ثم دَرَسْنا أدلّة الموافقين وطرق منع الحَمْل، وفي الختام قُمنا أيضاً بذكر خلاصة الأفكار عارضين لرأينا النهائي.

ويلزمنا – بدايةً – قبل الدخول في صُلب الموضوع، الإشارة إلى نقاط هامّة:

 

نافذة تاريخية على مسألة تحديد النسل

موضوع تحديد النّسل، أو تنظيم الأسرة، ورغم عمقه التاريخي الممتد لبضع آلاف من السنين، من اليونان القديمة وحتى عرب الجاهلية، إلى عصر العلم، والتقنية، والصناعة، لا يزال مثيراً للجدل اجتماعياً، ومحلاً للبحث في المحافل العلمية والاجتماعية المعاصرة، إذ مع وجود عشرات الكتب المطبوعة ومئات المقالات، وعقد عشرات المؤتمرات والندوات فيه، لاتزال كثير من جوانبه مجهولةً إلى يومنا هذا، كما أن الموافقين والمخالفين كلّ منهم قد اتخذ موقفاً من الآخر مصرّاً على إبطال رأي الطرف المقابل.

يُنبِّه أرسطو في كتاب «السياسة» على أنّه لا شكّ في لزوم وضع قانونٍ للمنع عن إنجاب أطفال ذوي إعاقة، وينبغي إقرار نظام اجتماعي يؤدّي إلى الحؤول دون التزايد السكاني المُفرط، والسبيل الأنجع لذلك هو ذاك الذي يضع لكلّ أسرةٍ حَدّاً معيّناً([1]).

كما أن عرب الجاهلية أيضاً كانوا – لفقرهم وضيق ذات يدهم – يقتلون أولادهم، فتصدّى القرآن بشدّة لهذه الظاهرة ونهى عنها: >ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق< (الإسراء: 31)، وقال: >قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم< (الأنعام: 140).

وفي العصر الحديث، تعود فكرة الحدّ السكاني إلى نظرية «مالتوس» القِسّ الإنجليزي، فقد قرأ الموضوع من زاوية العلاقة ما بين السكّان والغذاء في معالجة جديدة، مثيراً إيّاها من بُعدٍ اجتماعي.

وقد ألّف «مالتوس» عام 1798م كتاباً أسماه «رسالة في الأصل السكاني»، وفي ذلك الكتاب رسم مستقبل البشرية بنظرةٍ تشاؤمية، وقال: ينبغي الحدّ من النموّ السكّاني، وإلا فإنّ الجوع والانفجار السكّاني سوف يهدّدان العالم.

وقد سَرَت هذه النظرية بسرعةٍ في العالم بشكلٍ متزامنٍ تقريباً، ففي بريطانيا طُرِح موضوع تنظيم الأسرة وتحديد النسل، كما أثير في أمريكا الشمالية أيضاً، وفي عام 1878م افتُِتح أوّل مستوصف لتنظيم الأسرة في أمستردام.

وكذلك عُقِد عام 1900م أوّل مؤتمر دولي للمالتوسيّين الجدد، وفي عام 1901م تولّت سيدة تدعى «مارغرت سانجر» قيادة هذه النهضة، وعام 1916م وتطويراً للعمل، افتتحت مستوصفاً وكتبت في هذا الشأن كتباً متعدّدة، كما أسّست مجلّةً وقامت بالترويج لهذه النظرية.

شرعت فرنسا منذ عام 1850م بحركة إعلامية على هذا الصعيد، واستمرّت حتى ذروة الحرب العالمية الأولى، وبعد الحرب أعلنت الحكومة – طبقاً لقانون 1920م – أنّ الاتحادات التي تنشط في هذا الاتجاه غير قانونية، حاظرةً بيع وشراء وسائل منع الحمل.

في ألمانيا، وقبل اعتلاء هتلر مقعد الزعامة، لم يمنع أيّ قانون تنظيم الأسرة، ولكن حينما ظهرت السياسة السكّانية الرسمية لألمانيا النازية لم يتفوّه أحدٌ بهذا الموضوع إطلاقاً.

وفي إيطاليا، حظر قانون عام 1926م أيّاً من الأنشطة المتعلّقة بتحديد النسل، ومنذ ذلك التاريخ إلى الآن أدانت السياسة الرسمية لذلك البلد الكاثوليكي هذه الأنشطة على الدوام.

عقيدة تنظيم الأسرة وجدت طريقها إلى قارّة آسيا مع بدايات القرن العشرين، وتعرّفت الطبقات المرفّهة في المجتمع الهندي عهد الاستعمار على أساليب «تنظيم الأسرة»، بل أسِّس اتحادٌ حمل اسم «اتحاد تنظيم الأسرة الهندي».

وشرعت الثورة في اليابان منذ عام 1922م، لكن الحكومة وإن لم تمانع من التحقيقات العلمية على هذا الصعيد، إلا أنها لم تكن تسمح للإعلام بأن يلعب دوره، ومع ظهور السياسة التوسّعية في اليابان عام 1935م حُظِر بشدّة هذا النوع من الأنشطة المنتجة للانخفاض السكاني([2]).

ومع التزايد السكّاني وانخفاض الوفيات، سرت مسألة تنظيم الأسرة أيضاً إلى العالم الإسلامي والبلاد الإسلامية، فنهضت فئةٌ لتأييد تنظيم الأسرة واعتبرته ضرورةً اجتماعية، مصنّفةً في هذا المجال الكتب وناشرةً المقالات.

ولعلّ من أوائل الذين كتبوا موضوعات في هذا الشأن ودرسوا الموضوع من الزاوية الفقهية والدينية علماء مصر، وبالخصوص علماء الأزهر، أمثال الشيخ أحمد إبراهيم، وذلك في الأعوام من 1936 وحتى 1953م.

في المقابل، اعتبرت فئةٌ أخرى هذه الحركةَ من التبعات المشؤومة للاستعمار، فرفضتها وكتبت في ردّها على الفئة الأولى الكتبَ والمقالات، كما رفضت ضرورة أو جواز تحديد النّسل([3]).

في إيران، ظهر برنامج تحديد النسل وتنظيم الأسرة بدايةً في عام 1959م عبر مؤسسة غير حكومية (اتحاد الإرشاد الصحّي للأسرة)، المؤلّف من جمع من المتطوّعين والراغبين، وأوّل فرع له في حقل التوليد شرع في العمل كان «جمعية حماية الأمّهات والأطفال».

كان ينشط هذا الاتحاد في مدينة طهران خاصّةً وفي دائرة ضيقة، وكان يضع في خدمة مريديه بعض الوسائل البدائية والقديمة نسبياً للمنع من الحمل مع رعاية ضوابط – كامتلاك أربع أولاد كحدّ أدنى وتقديم إذن كتبي من الزوج – ولم تكن للدولة سياسة خاصّة في هذا المجال.

وقد أشار المخطّط الثالث (1963 إلى 1967م) باختصار إلى تبعات الزيادة السكّانية، لكن في المخطط الرابع (1968 حتى 1972م) أعلن عن العزم على إجراء مخطّط نشط على صعيد تنظيم الأسرة.

على كل حال، استمرّت هذا النشاط حتى انتصار الثورة الإسلامية عام 1979م، ثم توقفت عقِب ذلك، لكن بعد انتهاء الحرب العراقية المفروضة على إيران وشروع عهد إعادة البناء، وبعد إعلان الإحصاءات الرسمية عن زيادة سكّانية بنسبة %9/3 والقلق من نموّ سكّاني كبير وزيادة معدّل النمو السكّاني في إيران حتى بلغت حدّ الدولة الثالثة في العالم، أعيد مجدّداً تداول هذا الموضوع، فطرحه بعض مسؤولي الجمهورية الإسلامية ممّا أعطاه رونقاً، وقُيِّم بنظرة أخرى هذه المرّة.

طرح المسألة هذه المرّة لا يمكن أن يتصوّر كطرحه زمن النظام الشاهنشاهي، ليس فقط لأنه لا مكان هنا لسوء الظن ذاك واللااكتراث الواسع، بل لأن تقييم النظرية أيضاً، والبحث عن جوانبها المختلفة الفقهية والأخلاقية بدا ضرورياً؛ لهذا عُقِد في أواخر عام 1989م مؤتمر حول الرؤى الإسلامية الطبية في جامعة العلوم الطبية بمدينة مشهد، وقد أدرجت على جدول أعمال المؤتمر مسألة تنظيم الأسرة في بُعده القيمي والحقوقي، واستمراراً لهذه الجهود، أقيم عام 1990م مؤتمرٌ آخر تحت عنوان «الإسلام والسياسة السكّانية»، وقام في إصفهان ثمانية من الباحثين والمفكّرين بدراسة الأبعاد المختلفة لهذا الموضوع، وقد كتبت مقالات مختلفة في مجالات واسعة الانتشار في إيران مؤيّدةً أو مخالفة.

لقد قُوبل هذا الموضوع في إيران – كما في سائر بلدان العالم – بتأييد بعض ورفض آخرين، وقد استند كلّ فريق إلى أدلّة لاثبات وجهة نظره، وردّ نظرية الفريق الآخر، وقد نُشرت دراسات الفريقين لاحقاً في الصحف والمجلات([4]).

 

تراجع في التناول الديني لمسألة تنظيم الأسرة

إلا أنّ الموضوع – رغم ذلك كلّه – ظلّ مفتقراً إلى حلّ، وبدا مُعقّداً، فأحد طرفي الموضوع متصلٌ بالحياة الفردية والأسرية للناس، فيما الطرف الآخر بالمجتمع والدولة، إنّ أمراً كهذا ينبغي درسه استناداً إلى القيم الإسلامية والوقائع الثقافية الحاضرة، وبالرجوع إلى الكتابات المتوفّرة في هذا المجال يُلاحظ أنّ الموضوع قد دُرس – بدرجة أساسيّة – من الزاوية العلميّة، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، أمّا مختصّو العلوم الدينية فلم يقرؤوه على أساس القرآن والسنّة ومدرسة أهل البيت (.

إنّ مسألةً على هذه الدرجة من الأهمية تتطلّب من الفقهاء والشخصيات الكبيرة العلمية – الدينية ورود الميدان، لكن – مع الأسف – اكتفى معظمهم بالإجابة على بعض الاستفتاءات على هذا الصعيد، دون الولوج في البحث الفقهي المفصّل والعميق وفقاً للسائد في الحوزات العلمية، اللهمّ غير عدّةٍ من الذين بحثوا الموضوع باختصار تحت عنوان «المسائل المستحدثة» أمثال آية الله مكارم الشيرازي، والسيد محمد صادق الروحاني، والسيد يوسف المدني التبريزي، وإلا فلم يبحثه أحدٌ بحثاً فقهياً عميقاً، فهو بحث بِكرٌ لم تسبُره عقول العلماء بعدُ.

منذ المرّة الأولى التي طُرحت فيها هذه المسألة في أوروبا، كان لزاماً على الكنيسة أن تتصدّى لقضية «الحدّ السكاني»، وتحدّد للناس تكليفهم الديني فيما يتعلّق بهذا الموضوع، وتقدّم إجابات للمسيحيين حول جواز الحدّ من الإنجاب أو حظره في الدين.

قاومت الكنيسة الكاثوليكية حركة الحدّ السكاني باستمرار، وظلّت تخالف كلّ حركة تؤدّي إلى تقييد الأسرة من حيث الإنجاب، وكانت تعتقد أن الهدف الأول من الزواج هو إنجاب الأبناء وتربيتهم، وعليه لا ينبغي الإطاحة بهذا الهدف.

هذا المبدأ أكّده البابا الحادي عشر في نداء عام 1931م، وتسبّب في رفض الكنيسة الكاثوليكية استعمال أيّ نوع من وسائل منع الحمل.

وفي مقابل موقف الكاثوليك، أعلنت الكنيسة البريطانية للبروتستانت عام 1930م، عن طريق نداء «لامبت»، السماح بمنع الحمل ضمن قيود معيّنة، من هنا ظلّ الخلاف قائماً على الدوام بين الكاثوليك والبروتستانت على جواز أو عدم جواز منع الحمل([5]).

 

تحديد النسل في ضوء نظام الأحكام الأولية والثانوية

يُقسِّم الفقهاء في كتبهم الفقهية والأصولية الأحكامَ الواقعية الإلهية إلى طائفتين: واقعية أوّلية وواقعية ثانوية، ويعرّفونهما بأن الأحكام الواقعية الأولية هي تلك التي تترتب على موضوعاتها بقطع النظر عن أيّ قيد وبعنوان أولي مثل وجوب الصلاة والوضوء، وحرمة أكل الميتة، وطهارة الماء، ونجاسة البول و..

أمّا الأحكام الواقعية الثانوية فهي تلك التي تترتب على موضوعاتها بعناوين ثانوية، فمثلاً أكل الميتة حرام طبق الآية الشريفة: >حُرّمت عليكم الميتة والدم و..<، لكنه جائز في الحالات الاضطرارية، طبقاً لقوله تعالى: >فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم< (البقرة: 173)، أو وجوب الوضوء للصلاة ووجوب الصيام في شهر رمضان هما – بالدرجة الأولى – حكم واقعي إلهي أوّلي، أما إذا أدّيا إلى الضرر أو الحرج فلن يكونا واجبين؛ طبقاً للحكم الثانوي الإلهي، بل يلزم استبدال الوضوء بالتيمّم، واستبدال الصيام بالإفطار وقضاء الصوم في غير شهر رمضان المبارك.

وعليه، فالأحكام الإلهية تابعة لموضوعاتها، ومع تغيّر الموضوع يتغيّر الحكم([6]).

وهنا يُسأل: هل البحث عن تحديد النسل والحدّ السكاني يقع في مدار العناوين والأحكام الإلهية الواقعية الأوّلية التي يؤيّدها بعض ويخالفها آخرون أم في مدار الأحكام الثانوية؛ لأن حكم الشرع يختلف باختلاف أيّ من هذه العناوين؟

يبدو لنا أنه ليس بالإمكان طرح تحديد النسل أو زيادته على أساس العنوان والحكم الأوّلي، والحكم بحلّيته أو حرمته، فلا زيادة النسل واجبةً بحيث إذا لم ينجب الكثير من الأولاد كان مُذنباً، ولا تحديده وعدم امتلاك أولاد كُثر حرام، وإن كان يُستفاد من الآيات والروايات المتعلّقة بالزواج والأولاد رُجحان زيادة النسل.

وعليه، يطرح هذا البحث من الناحية الفقهية والإسلامية على أساس العنوان الثانوي فقط، كما أنّ الحكم المُفاد سيغدو – طبقاً لذلك – حكماً واقعيّاً ثانوياً، لهذا يمكن أن يكون تحديد النسل في موردٍ ما واجباً وفي مورد آخر حراماً، وتحديد هذا الأمر موكولٌ عادةً إلى المختصّين؛ لأن الأحكام الثانوية دائرةٌ مدار موضوعاتها، فإذا استدعت الضرورة حكماً ثانوياً جرى هذا الحكم مادامت هناك ضرورة.

وإنّما ذكرنا هذه الملاحظة؛ لأنّ عدم تحديد مركز الخلاف والدرس سيؤدّي إلى ارتباك، فلا تتمركز الدراسات المؤيّدة والمعارضة ولا الأدلّة والمناقشات على موضوع موحّد؛ فيحكم بعض الفقهاء بوجوب الحدّ من النسل على أساس العنوان الثانوي، فيما يرفضه آخرون ويحرّمونه على أساس أدلّة ترتبط بالعنوان الأولي.

 

تحديد النسل بين البُعد الفردي والاجتماعي

مسألة تحديد النسل أو تنظيم الأسرة ذات طرفين: أحدهما يرتبط بالأسرة والوالدين من جهة الحمل، والوضع، والحضانة، واللباس، والتربية والإطعام وأمثال ذلك، فيما يرتبط الآخر بالمجتمع، والحكومة والدولة؛ لأن إدارة أفراد المجتمع من جهات مختلفة مثل الأمن، والعمل، وتوفير فرص عمل، والصحة والعلاج، والتربية والتعليم، والاقتصاد، والسياسة، والمسكن وأمثال ذلك على عهدة الدولة.

وعلى أيّ حال، فإذا وُلد الوَلد فلا يتعلّق شأنه بالأسرة فحسب، بل يستدعي التزامات من جانب الدولة أيضاً؛ وهنا هل يحقّ للحاكم الحكم بتحديد النسل أم أنّ هذا الأمر من شؤون الحياة الفردية للناس؟ لهذا السبب ينبغي أن تلقى المسألة اهتماماً في كلا بُعديها؛ إذ من الممكن أن لا تُعاني أسرةٌ ما من إعالة أولاد كثُر، لكن الدولة تعاني بسبب ذلك، أو بالعكس كأن تتعرّض امرأةٌ مثلاً للخطر بسبب الحمل والإنجاب فيكون تحديد النسل بالنسبة لها أمراً واجباً في مثل هذه الحالة، إلا أن هذا العمل لا يكون مجازاً في بُعده الحكومي.

 

تعيين دائرة الدراسة

موضوع تحديد النسل وتنظيم الأسرة جدير بالبحث والدراسة من ناحيتين:

الناحية الأولى: الناحية العلمية والتجريبية، وتحديد ما إذا كان هذا العمل مُفيداً أم مضرّاً بالمجتمع، وتقديم وسائل لتنظيم الأسرة ومنع الحمل والخصوبة ونسبة نجاح الأساليب المقترحة، وأضرار أو عدم توفّر العلاج المقترح للأم، والأبحاث السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. وهذا النحو من الدراسات يخصّ أصحاب الاختصاصات والأطباء خاصّة.

ولقرنين من الزمن، كتب العلماء الغربيون والشرقيون في هذا المحور، كما صنّفوا الكتب والمقالات في الدعم أو الرفض وفي الإثبات والجواز أو الحظر والتحريم؛ ولكثرة ما كتب في هذا المضمار لا تتعرّض دراستنا هذه لهذه الجوانب.

الناحية الثانية: وهي الناحية الدينية، أي قراءة تحديد النسل من الزاوية الفقهية والحقوقية؛ فهل هو مُجاز أم محظور؟ وإذا كان مُجازاً فما هي أساليب المنع والتنظيم من الناحية الشرعية؟

وحيث وقع اختلاف كبير بين علماء الإسلام والفقهاء العظام هنا أيضاً؛ فاعتبرها بعضهم حراماً وعلى خلاف القرآن والسنّة، فيما أجازها آخرون ضمن قيود، بل عدّوها من الضروريّات.. كان لزاماً علينا أن نقيّم أدلّة الطرفين أولاً، ثم دراسة السُبل المجازة وغير المجازة لمنع الحمل والحدّ السكاني من الناحية الشرعية، على تقدير الخروج بنتيجة إيجابيّة لصالح ترخيص الحدّ من النسل.

وعليه، فما نركّز عليه هنا تحديد الحكم الشرعي من وجهة نظر الكتاب والسنّة، وفي ضوء الفقه والحقوق، دون البُعد العلمي في القضية، وإن وقعت منّا إشارةٌ إلى بعض المباحث الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية فذاك في سياق الحديث عن الحكم الفقهي، ليس إلاّ.

 

نظرية تحريم تحديد النسل، الأسس والمستندات الشرعيّة

استدلّ المعارضون لتنظيم الأسرة بآيات قرآنية وروايات عن أهل البيت (، وبقاعدة نفي الضرر و.. وهنا أبرز أدلّتهم:

المنطلق القرآني

تُقسّم الآيات القرآنية في هذا الخصوص إلى عدّة فئات، استدلّ بعض المخالفين بأجمعها وآخرون ببعضها:

الفئة الأولى: الآيات التي يٍُستفاد منها أن كثرة الأولاد نعمةٌ ومدد إلهي للأب والأم، مثل: >ويُمدِدْكم بأموال وبنين و.. < (نوح: 12)، و>أمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً< (الإسراء: 6) و>أمدّكم بأنعام وبنين< (الشعراء: 133).

وهذا يعني أنّ كثرة الأولاد أمرٌ مرغوب، وهو – إلى جانب الأموال – مددٌ إلهيّ باعث على عزة الإنسان وشوكته واقتداره.

الفئة الثانية: الآيات التي يُستفاد منها أن الهدف الرئيس من الزواج هو التكاثر وبقاء النسل البشري، مثل: >والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة< (النحل: 72)، وفي آية أخرى: >فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفُسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً يذرؤكم فيه<([7]) (الشورى: 11)، ومن الواضح أنّ تحديد النسل ينافي هذا الهدف الرئيس.

الفئة الثالثة: الآيات التي تفيد أن الله رازق جميع ذوات الأرواح وليس من ذي روح يدبّ على الأرض إلا وقد تكفّل الله برزقه، حتى الذي لا يقدر على حمل رزقه؛ وعليه فتحديد النسل خوفاً من الفقر وضيق ذات اليد تشكيكٌ في رازقية الله، قال تعالى: >وما من دابّة في الأرض إلا على الله رزقُها..< (هود: 6)، >وكأيّن من دابّة لا تحمل رزقَها اللهُ يرزقُُها وإيّاكم..< (العنكبوت: 60).

فهذه الآيات تدلّ على أنّه لا ينبغي للناس أن يرتابوا في رزق الله ورازقيته، ويحدّوا من نسلهم على أثر ذلك.

الفئة الرابعة: الآيات التي نهت بشدّة عن قتل الأولاد خوفاً من الفقر، معتبرةً ذلك من الذنوب الكبيرة والخطايا الجسيمة: >ولا تقتُلوا أولادَكم من إملاقٍ نحنُ نرزقُكم وإيّاهُم< (الأنعام: 151)، >ولا تقتلوا أولادكم خشيةَ إملاقٍ نحنُ نرزقُهم وإيّاكم إنّ قَتلهم كان خِطَئاً كبيراً< (الإسراء: 31).

وفي آية أخرى عَدَّ قتل الأولاد سفاهةً وجهالة وخسارة كبرى: >قد خسِر الذين قتلوا أولادَهم سَفَهَاً بغير علمٍ وحرّموا ما رزقَهم اللهُ افتراءً على الله قد ضلّوا وما كانوا مُهتدين< (الأنعام: 140).

وفي مُطلق الأحوال، فإنّ تحديد النسل نوعُ قتلٍ للولد، وهو منهيٌّ عنه في هذه الآيات.

الفئة الخامسة: الآيات المرتبطة بحرمة قتل النفس؛ إذ اعتُبر فيها قتل نفسٍ –
ولو واحدةٍ – بمنزلة قتل الناس جميعاً:
>من قتلَ نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل الناسَ جميعاً..< (المائدة: 32)، >.. ولا تقتلوا النفسَ التي حرّم الله إلاّ بالحقّ..< (الأنعام: 151)، >.. ولا تقتلوا أنفسَكم..< (النساء: 29)، وأمثال هذه الآيات التي
نهت بأجمعها عن قتل النفس، واعتبرت تحديدَ النسل نوعاً من قتل النفس، خاصّة
إذا كان يحدُث بصورة إسقاط الجنين الذي يُقدَم عليه في كثيرٍ من البلدان على وجه قانوني.

وبالرجوع إلى مساهمات معارضي تحديد النسل نرى في مجمل ما شادوه من أدلّة قرآنية هذه الفئات من الآيات، وما يبدو لنا – ظاهراً – أنّ الكثير منها خارجٌ عن محلّ البحث.

 

المنطلق الروائي

بالرجوع إلى روايات أبواب أحكام الأولاد([8])، يتضح من مجملها أنّها على مجموعتين:

المجموعة الأولى: وهي أجنبيّة عن محلّ بحثنا، أي لا ربط لها بالتكاثر أو تحديد النسل؛ لأن الشيء الوحيد الذي يٍُستفاد منها، أن الولد من العطايا الإلهية، ونعمة كبرى، وزينة الوالدين ومبعث فخرهم، وأنّ من يملك ولداً وثمرة ونَسلاً كأنه لا يموت أبداً؛ وعليه فأصل التوالد والتناسل مطلوبٌ وراجح شرعاً وعقلاً.

المجموعة الثانية: وهي روايات لها دخلٌ مباشر بالتكاثر ومذمّة تحديد النسل، ويُستفاد من مجموعها محبوبيّة التكاثر ورجحانه.

فمنها: قال رسول الله: «..واطلبوا الولد؛ فإنّي مُكاثر بكم الأمم غداً..» ([9])، «أكثروا الولد أكاثر بكم الأمم غداً»([10])، و «خير نسائكم الولود الودود»([11])، «تزوّجوا بكراً ولوداً، ولا تزوّجوا حسناء جميلة عاقراً؛ فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة»([12])، وكذلك روايات ذمّ عزوبية الرجل والمرأة حتى اعتُبر العزّاب أراذل الناس: «رذال موتاكم العزاب»([13])، وجاء في موضعٍ آخر: «أكثر أهل النار العزّاب».

وعلى العموم، يُستفاد من روايات باب النكاح والأولاد أن الزواج عمل مقدّس وضروري بُغية التكاثر ومحاربة دواعي الفساد، وأنّ العزوبية على خلاف سنة النبي(ص)، وكلّ من يُعرض عن سنّة النبي فليس منه «من رغب عن سنتي فليس مني»([14]).

 

المنطلق القواعدي: قاعدة لا ضرر

اقترح أخصائيّو الفنّ أساليب كثيرة لمنع الحمل وانعقاد النطفة من قبيل: تناول أقراص منع الحمل، سدّ أنبوب الرحم، سَدّ أنابيب انتقال نطفة الرجل وعقمه بصورة دائمة أو مؤقتة، الاستفادة من وسيلة آ – يو – دى داخل رحم المرأة، الاستفادة من الواقي الذكري للرجال، زرق الأبر و.. واعتبر بعض مخالفي تحديد النسل، هذه الطرق جميعها مُضرّةً بحال المرأة والرجل، وقالو: إن معظمها يبعث على العقم الدائم لكليهما، وفي الإسلام العقل والشرع حاكمان أن كلّ ما يضرّ بالإنسان ضرراً معتداً به عقلائياً فهو حرام، والنتيجة أن تحديد النسل ومنع الحمل عبر هذه الطرق حرامٌ أيضاً([15]).

 

اعتبار تنظيم النسل مؤامرة استعمارية

يعتقد بعض المخالفين أن تحديد النسل عملٌ استعماري وحملة استكبارية عالمية لإنزال ضربةٍ بالمسلمين([16]).

ودليل هذا البعض أن الدعوة إلى هذه المسألة إنما صدرت من قِبل الدول الغربية، وهم الذين روّجوا لها منذ البداية، ابتداءً من «مالتوس» القِسّ المسيحي حتى اليوم، حيث يُشجّع الغربيون الدولَ الإسلامية على تنظيم الأسرة، ومرماهم في ذلك إيقاف عجلة النموّ السكّاني في البلاد الإسلامية، وضبط تفوّق المسلمين على الدول الغربية، من ناحية الزيادة السكّانية والطاقات والذخائر البشرية.

ولهذا ألّفوا كتباً في ما يخصّ القلق من الزيادة السكّانية للمسلمين؛ فألّف «باول شمتز» كتاب «الإسلام قوة الغدّ العالمية»، أبدى فيه قلقه من التنامي السكّاني للمسلمين([17]).

 

قراءة تقويميّة لأدلّة المنع عن تنظيم الأسرة

ما يُستفاد من الأدلّة المذكورة بنحوٍ قطعيّ رجحان التكاثر ومطلوبيته واستحبابه، أما وجوب أو حرمة تحديد النسل فلا.

نعم، الولد زينةٌ لأبويه، ومبعث فخرهم وشوكتهم واقتدارهم، وهو بالتأكيد مطلوبٌ للشرع الأقدس، لكن الكلام في أن محبوبيّة تحديد النسل ليست مطلقةً وقاعدةً عامة ودائمية في تمام الظروف، بل من الممكن أن يُقيّد هذا الحكم في بعض الظروف، فيقع تحديد النسل ممدوحاً ومطلوباً للشارع بدلاً من التكاثر.

على أيّ حال، ما يمكن قوله – تعليقاً على الأدلّة المتقدمة – ما يلي:

أولاً: هذه الأدلّة لا تُثبت رجحان التكاثر على نحو القضيّة الحقيقية، وبصفته قانوناً عامّاً، جارياً في الأزمنة والأمكنة والظروف كافّة، بل هي من قبيل القضايا الخارجية الناظرة إلى زمانٍ خاصّ، كزمان صدر الإسلام، حيث كان المسلمون أقليّةً وكانت كثرة الوُلد عندهم مصدر فخرهم واقتدارهم.

وقد تحدّثت آيات عديدة عن أفراد كانوا يتفاخرون بكثرة أولادهم: >وقالوا نحنُ أكثرُ أموالاً وأولاداً وما نحنُ بمعذّبين< (سبأ: 35)، >.. كالّذين من قبلكُم كانوا أشدّ منكُم قوّةً وأكثر أموالاً وأولاداً.. < (التوبة: 69).

والمفهوم من هذا النوع من الآيات أن كثرة الأولاد في ذلك الزمان – ككثرة الأموال – وسيلةٌ للفخر والمباهاة([18])، إلا أنه لا أحد يتفاخر بكثرة الأولاد في عصرنا، لأن زماننا يختلف عن زمان النبي(ص) من عدّة جهات:

1ـ في عصر النبي(ص) كان النموّ السكّاني في العالم أجمع، وفي البقاع الإسلامية خاصّة، في غاية الضعف، ولم تكن مشقّات المعيشة واحتياجاتها على ما هي عليه اليوم؛ ولهذا السبب كان الترغيب بالزيادة السكّانية إلى أقصى الدرجات للمسلمين والتزوّد بالقدرة إزاء القدرات الأخرى أمراً طبيعياً.

كان النموّ السكّاني آنذاك وحتى القرن السابع عشر ضعيفاً جدّاً؛ إذ – طبقاً للإحصاءات المعلنة – بلغ عدد سكّان العالم حتى عام 1650م 15 مليون نسمة، فيما يبلغ اليوم قرابة ستة مليارات نسمة.

2ـ في عصر النبي(ص) كانت نسبة الموت والوفيّات مرتفعة جداً؛ لهذا كانت العوائل مضطرّةً لأن تُنجب أولاداً كثيرين، حتى يبقى قلّةٌ منهم أحياءً، بينما في العصر الراهن، وبسبب تقدّم العلم وحؤوله دون وقوع الكثير من الأمراض، قلّت نسبة الوفيات الواسعة النطاق.

3ـ المائز الآخر متعلّق بالفارق ما بين الظروف الاقتصادية والمتطلّبات العائلية والاجتماعية في عصر النبي(ص) وعصرنا، وهو يشمل: المأكل، والملبس، والمسكن، والقدرات التعليمية، والترفيه والتسلية، ووسائل النقل العام، والصحّة والعلاج، والضمان، ومياه الشفة، والكهرباء وأموراً أخرى كثيرة متعلّقة بالرفاهية، ونحن اليوم – شئنا أم أبينا – نقف أمام هذا الواقع، ولزامٌ علينا أن نسعى في تأمين مستلزماته.

تأسيساً على ما مضى؛ فالفارق ما بين عصرنا وصدر الإسلام بل والمجتمعات الإسلامية قريبة العهد مِنّا أمرٌ واضح ومشهود تماماً، ولازم التكاثر في النسل تأمين هذه الاحتياجات والمتطلّبات ورؤوس الأموال جميعها لتوفير ضروريات الحياة([19]).

وحينما يتغيّر الموضوع ويعرض عليه عنوانٌ ثانوي يتغير حتماً حكمه أيضاً، وحينها لن يكون التكاثر غير راجحٍ ومطلوب وحسب، بل سيكون مرجوحاً ومذموماً أيضاً.

ثانياً: بعض الأدلّة أعلاه، المرتبطة بحرمة قتل النفس والأولاد خوفاً من الفقر، خارجةٌ عن محلّ البحث من رأس؛ إذ في سائر وسائل منع الحمل غير إسقاط الجنين بعد ولوج الروح فيه، لا نفس هناك حتى تكون هذه الوسائل مشمولةَ لآيات قتل النفس، كما لا ولد حتى تكون مشمولةً لآيات النهي عن قتل الأولاد خوفاً من الفقر، نعم إسقاط الجنين بعد ولوج الروح فيه مشمولٌ لهذه الآيات، ولهذا حرُم الإجهاض في الإسلام حتى قبل ولوج الروح.

ثالثاً: ليس تحديد النسل تشكيكاً في رازقية الله تعالى؛ إذ ليس معنى رازقيته أن لا يَقدِّر البشرُ معيشتهم بإعمال العقل وحسبان النفقات والمداخيل؛ ففي البلاد الفقيرة والرجعية يُعاني كثيرٌ من الناس – والأطفال على وجه الخصوص – من سوء التغذية، أو يموتون جوعاً، بيد أن الله رازقَهم موجود أيضاً؛ وذلك لأن رازقيته ليست جبريّةً وعلى خلاف إرادة البشر واختيارهم.

وعليه، فحتى مع تحديد النسل يظلّ الله رازقاً أيضاً، فالله نفسه قد أمر بالسعي والجهد لجلب الرزق ونهي بشدّة عن الكسل، لقد أمر بالاعتدال في الإنفاق ونهي عن الإفراط والتفريط فيه: >ولا تجعَل يدَك مغلولةً إلى عُنُقك ولا تَبسُطها كلّ البَسط فتقعُد ملوماً محسوراً< (الإسراء: 29)، وإن قال في آية: >فامشُوا في مناكِبها وكُلوا من رزقه< (الملك: 15) فقد قال في أخرى: >فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله< (الجمعة: 10).

وعليه، فالعقل يعني التطلّع إلى الآتي والحساب الدقيق للأمور، وتوقّع المشاكل ومعرفة نظام الأسباب وهو لا يتنافى مع رازقية الله؛ لأن العالم عالم الأسباب والعلل،
والله لا يريد بإبراز رازقيّته والأمر بالتوكّل عليه أن يهدم نظام الأسباب والعلل في هذا العالم.

يقول الإمام الصادق % في هذا الخصوص: «إنّ الله أبى أن يُجري الأشياء إلا بأسباب؛ فجعل لكلّ شيء سبباً»([20]).

طبق هذه الرواية، لا يمكن طلب الرزق إلا بالسعي وبذل الجهد، ورغم أن الله رازق فسنّته لا تتخلّف عن نظام العلّة والمعلول، إذاً ليس معنى رازقية الله أنه يرزق كلّ أحد مهما رُزق من أولاد، دون أن يهتمّ الأخير بقدراته وظروفه العائلية والاجتماعية.

رابعاً: أن ننسب طرح مسألة تحديد السكّان في البلاد الإسلامية إلى الاستعمار الأجنبي، وعملائه في الداخل عملٌ سهل، ويمكن الاستشهاد عليه بالقلق الذي أبدوه في كتبهم ومجلاتهم من الازدياد السكّاني للمسلمين، ونحن أيضاً لسنا ننكر أنه متى ما تسنّى للمستعمرين إيقاع الأذى لفعلوه، إلاّ أنّ المطلوب دراسة تحديد النسل وتحليله من خلال سابقته التاريخية في العالم عامّة وفي دنيا الغرب خاصة، الذي سرى منه إلى العالم الإسلامي، لا أن نعتبره مجرّد مسألة استعمارية.

هل تحديد النسل في الغرب والذي ظلّ لثلاثة قرون موضع جدل ونقاش في محافلهم العلمية والدينية دون أن يرتبط بالعالم الثالث والنامي موضوعٌ ذو بُعد استعماري؟ لقد طُرِحت هذه المسألة في الدول الإسلامية منذ قرابة خمسين عاماً، والملفت هنا أنه في عهد النظام الشاهنشاهي كان يلصق بسهولة بالمستعمر، تحت شعار «الشاه خادم الغرب». أمّا اليوم فيُقال: بما أنّ العدو يخشى من مستقبل الجمهورية الإسلامية وجيل الثورة لذا صار بصدد تحديد جيل الثورة!

لكنّ الحق أن هذه المسألة حقيقة لا يمكن تجاوزها، ويلزم أن يقدّم لها حلّ مناسب، وإلا ففي بلد يفتقد القدرة على حلّ مشكلات العمالة، والزواج، والأمور التربوية والأخلاقية، وأوقات الفراغ، والتغذية، والصحّة والعلاج وأمثال ذلك لن يبقى هناك جيل ثورةٍ يهدّد المصالح الاستكبارية، بل سيكون شاهداً على الأزمات الاجتماعية، والسياسية والأخلاقية.

صحيحٌ أنه كلّما كان المسلمون أكثر سوف يشتدّ الخطر على الاستكبار، لكن ليس كلّ كثرةٍ كمّية وكلّ زيادة سكانية، بل الكمّية المصحوبة بالكيفية، وفي معظم الأحيان لا تتوفر الكيفية مع الكثرة المفرطة، بل ما أكثر ما تكون الكثرة المفطرة والفاقدة للقدرات المطلوبة سبباً لتبعية المجتمع للاستعمار، كما يشاهد في بعض الدول.

 

نظرية تحديد النسل، الأسس والمنطلقات الشرعيّة

ومقابل حركة معارضة تنظيم الأسرة، أعلنت فئةٌ عن تأييدها له بل ضرورته، متمسّكين بأدلّة لإثبات وجهة نظرهم، وبعض هذه الأدلة – بالتأكيد – له بُعد علمي وعملي من الناحية الاقتصادية، والطبية، والسكّانية، ونحن لا نتعرّض لهذا النوع من البحوث بل نذره لأخصائيّي الفنّ، أمّا بعضها الآخر فله بُعْد ديني (فقهي وحقوقي)، نشير إليه؛ لأن هدفنا في هذا المقال بيان حكم تحديد النسل والسكان من منظور الدين والفقه الإسلامي.

وهذه الأدلّة هي:

1 – نصوص مدح قلّة العيال

لئن مُدحَت كثرة الأولاد في رواياتٍ، ففي روايات أخرى – وضمن الإشارة إلى تبعات كثرة العيال والمشقّات التي تتعرّض لها الأسر الكبيرة – مُدحت قلّة العيال، إلى حدّ أنّ العلامة المجلسي في «بحار الأنوار» خصّص لهذا الموضوع باباً تحت عنوان «باب فضل التوسعة على العيال ومدح قلّة العيال»، فنقل روايات تتعلّق بالترغيب في إنجاب عددٍ أقلّ من العيال، نُشير إلى بعضٍ منها:

أ – قال أمير المؤمنين(ع): «الفقر الموت الأكبر، وقلّة العيال أحد اليسارين، التقدير نصف العيش، ما عال امرؤ اقتصد»([21]).

ب – عن الإمام الرضا(ع) عن أبيه عن جدّه الإمام الصادق(ع): «مَرَّ جعفر(ع) بصيادٍ فقال: يا صيّاد أيّ شيء أكثر ما يقع في شبكتك؟ قال: الطير الاق، (أي الذكاء لأجل حفظ صفاره يبحث عن الطعام والحبّ ويقع في فخ الصياد)([22])، قال: فمرَّ وهو يقول: هلك صاحب العيال، هلك صاحب العيال» ([23]).

وإضافةً إلى هاتين الروايتين، ثمّة روايات أخرى أيضاً تبيّن – بعبارات مختلفة – الأمر نفسه، وهو أنّ التدبير والاقتصاد في المعيشة، والتفكير في العاقبة، والتعقل، وحساب النفقات والمداخيل، والنظرة المستقبلية للحياة أمرٌ ممدوح وحَسَن، ومن المعلوم أن من ليس في استطاعته تدبير أمور العائلة الكبيرة فقلّة العيال بالنسبة إليه حَسَنة، وتنظيم الأسرة فرضٌ عليه؛ حتى لا يقع في شباك الفقر، الذي يسمّيه أمير المؤمنين(ع): «الموت الأكبر»، ولا يصبح مصداق «هلك صاحب العيال».

ونتيجة القول: إن التكاثر وإن كان بالعنوان الأولي ممدوحاً إسلاميّاً، بيد أنّه باعث على الهلكة بالعنوان الثانوي، وفي هذه الحال ستكون قلّة العيال ممدوحة.

 

2 – إبطال مبدأ التعميم في ذمّ القلّة ومدح الكثرة

هل يمكن القول: كلّ زيادةٍ سكانية مفيدة وفق الرؤية الإسلامية؟ وهل تبعث على النمو؟ وهل كلّ قلّةٍ سكّانية وكلّ أمّةٍ صغيرة ناقصة ومذمومة؟ إذا تضاعفت الزيادة السكّانية في بلد وازدادت باستمرار، ولم تتناسب القدرات التعليمية، والعلاج، والعمالة، والانتاج، والتغذية، والمسكن وسائر الحاجات مع الازدياد السكّاني المتواصل يوماً تلوَ آخر، هل الكثرة مطلوبة أيضاً أم ستغدو عاملاً على التبعية للاستعمار وعدم التمسّك بالعدالة الاجتماعية؟ الجواب – بالتأكيد – هو النفي.

في المقابل، إذا كان السكّان منظمين، يديرون أمورهم جيداً، عاقلين ومقتدرين سيكونون مفيدين في العمل، والصناعة، والزراعة وغيرها من الأمور، ومسبّبين لرفعة بلدهم وشموخه حتى وإن لم يتمتعوا بزيادة سكّانية مُفرِطة.

ومن المؤكّد أنّ النوعية في الإسلام مقدّمة على الكمية، فالقوى النوعية الصغيرة العدد والتي تعمل وفق مخطّط مدروس، وتتمتّع بمهارة وتدبير أفضل بدرجات من مجتمع كبير سكّانياً بيد أنّه رجعيّ.

إنّ الانتصار اليوم في الحروب، وفي النزاعات والصدامات، سواء كانت حروباً باردة أو دافئة، وسواء كانت حروباً اقتصادية وثقافية أو غيرها.. من نصيب الذين يملكون المهارات والقدرات الإدارية المطلوبة ويتمتّعون بأرقى مستوى من النوعية، لا من نصيب البيئة المتخلّفة الكثيفة السكّان.

نعم في العهد القديم وصدر الإسلام حيث كانت تسير الحياة ببساطة القبلية كان ينتصر في الحروب – واحدةً تلو الأخرى – أولئك الذين يتمتعون بعدد أكبر من النفوس، ولهذا كانت الفئة العددية للمسلمين سبباً لضعفهم، وللسبب عينه كان النبي(ص) يأمر بالتكاثر.

والملفت هنا أن الأفضليّة في ذلك الزمان كانت للقلّة من المؤمنين على الكثرة عديمة الإيمان فاقدة المهارات، قال تعالى: >كم من فِئةِ قليلةِ غلَبت فئةً كثيرةً بإذن الله< (البقرة: 249).

وفي السياق عينه، يقول المفضل بن قيس: قدمت من الكوفة لزيارة الإمام الصادق% في المدينة، وفي جوابي على سؤاله(ع) عن تعداد أنصاره في الكوفة، أبلغته أنّ عددهم خمسة آلاف شخص، فقال الإمام(ع) بتعجّب وعدم تصديق: ألنا في الكوفة خمسة آلاف ناصر وتابع؟! «والله لوددتُ أن يكون بالكوفة خمسة وعشرون رجلاً يعرفون أمرنا الذي نحن عليه ولا يقولون لنا إلا الحق»([24]).

وفي حديث آخر قال(ع) في جوابه على سؤال سدير الصيرفي، لمَ لا تقومون وتأخذون بحقكم؟: «والله يا سُدير، لو كان لي شيعة بعدد هذا الجداء ما وسعني القعود»([25]).

وعليه، ففي ذلك الزمان أيضاً كانت الكيفية حاكمةً على الكمية، أي كان الأتباع الظاهريون للإمام كُثُراً، لكنهم لم يكونوا نوعيين.

على أي حال، فإذا كانت الكثرة السكّانية في العهد القديم باعثةً على الافتخار، وكانت كل قبيلة أكثر عدداً أقوى قدرةً تعتلي كرسيّ الحكم، إلا أنّ العصر الحاضر لا يحكمه سوى المدراء الجديرون وأصحاب المهارات لهذا يقدّمون على الأكثرية العددية الفاقدة للإمكانات، وكما قلنا سابقاً، حينما يتغيّر الموضوع يتغيّر الحكم حتماً، فإذا كانت كثرة الأولاد مبعث فخرٍ فيما مضى، فقد انعكست القضية اليوم؛ فقد غدت القلّة النوعية مبعث اعتزاز، لا الكثرة الفارغة.

 

3 – المشكلات الاجتماعية للتضخّم السكّاني

إزاء كلّ مولود مسؤوليات من جانب الأسرة ومن جانب الدولة والمجتمع لا بدّ أن تقضى، فكما لابدّ من قضاء حاجاته الشخصية كذا حاجاته الاجتماعية، وإلا فسوف يتسبّب ذلك في مشاكل كثيرة.

فعلى سبيل المثال، يقول علماء الاقتصاد: ينبغي أن يتناسب النموّ السكّاني مع القدرة الاستثماريّة، وفي النهاية مع الدخل القومي؛ لأن الدولة من جهة ينبغي أن تضع مخطّطاً في دائرة النموّ الاقتصادي والتنمية الوطنية وأن ترفع باستثماراتها الرئيسة احتياجات المجتمع على صعيد الإنتاج وتوفير المواد الأولية، ومن جهة أخرى أن تهيّئ – بما يتناسب مع حجم السكّان – المدارس، والجامعات، والماء، والكهرباء، ومراكز الصحّة والطبابة، والمسكن، والعمران، ومراكز التسلية والترفيه، و.. وأمرٌ من هذا القبيل لا يتناسب مع كثافة النمو السكّاني ومحدودية الإمكانات؛ لأن الدولة التي يزداد سنوياً عدد سكانها 3% ودخلها القومي 2% ينبغي أن تستثمر ما يزيد على 20% من دخلها القومي، في حين اتفق الاقتصاديون تقريباً على أن غالبية البلاد النامية نادراً ما تستثمر أكثر من 5 إلى 6% من دخلها القومي كحدّ وسط، فيما الاستثمار في أوروبا وأمريكا يتراوح ما بين 10 إلى 15%، وفي هكذا حال لا يمكن تلافي النتائج المترتبة على الزيادة السكّانية السنوية وإيجاد تناسب بين وضع المخطّطات والنموّ السكاني([26]).

على هذا، فالدولة متأخرة دوماً من ناحية طرح المشاريع لحلّ المشكلات الاجتماعية والاستجابة للاحتياجات، وليس ثمة تناسب بين النمو الاقتصادي والنمو السكّاني، وهنا تتواتر المشكلات واحدة تلو الأخرى.

كما أنّ الزيادة السكّانية المصحوبة بالفقر ملازمة دوماً للجريمة؛ إذ في كلّ مجتمع يحلّ فيه الفقر، والبطالة، والجهل، والتضخم السكّاني وعدم توفير الفرصة الكافية لتعليم الأبناء وتربيتهم.. سوف يولد مناخ الجريمة، وتتضرّر من ذلك الأسر والمجتمعات.

وعلى سبيل المثال، يشار إلى إحصاء في هذا الحقل، فخلال الإحصاءات التي أجريت على جمعٍ من المجرمين تمّ التوصّل إلى هذه النتيجة: إنّ نسبة الإجرام لدى الأشخاص الذين يعيلون ولدين أو ثلاثة أولاد 15%، وأما الذين يُعيلون أكثر من خمسة أولاد فقد بلغت 66/43([27]).

وعلى هذا، يمكن للدولة حتى لا تتحمّل هذه النفقات والخسائر أن تضع قانوناً لتحديد النسل وتنظيم الأسرة، وتجريه على نطاق البلد وإلاّ فستواجه كثيراً من المشكلات.

 

4 – المشكلات العائلية للتضخم السكّاني

بالرجوع إلى التعاليم الدينية وروايات أهل البيت(ع) يتضح أن للآباء والأمهات إزاء أولادهم واجبات، ومعرفتها شرطٌ أساس في تكوين الأسرة([28])، وتشمل هذه الواجبات أبعاداً مختلفة، من جملتها الواجبات الاقتصادية والمعيشية، والتربوية والأخلاقية والطبابية والعلاجية، والروحية والنفسية، فمن البعد الاقتصادي تدبير أمور العائلة من ناحية المأكل، والملبس، والمسكن، وتهيئة وسائل التعليم المناسبة، وإرسالهم إلى المدرسة، وتعليم الحرفة والفن، ذلك كلّه من واجبات الوالدين.

وتظلّ واجباتُ الوالدين على الصعيد التربوي والأخلاقي هي الأهمّ مقارنةً بالبُعد الاقتصادي؛ لأن فلسفة بعثة الأنبياء تقوم على ذلك، حتى أنّ النبي(ص) قال: عليكم بمكارم الأخلاق فإن ربي بعثني بها([29])، بل إنّ الاهتمام بحاجات الأولاد المادية مقدّمةٌ لاكتسابهم القِيَم الأخلاقية، فمن دون تربيةٍ سليمة ودون التحلّي بمكارم الأخلاق لا يتحقّق الهدف من إنجاب الولد وإعالته، وهذا ما حظي باهتمام مضاعف في التعاليم الإسلامية، فمن مسؤوليات الوالدين الرئيسة أن يُحسنوا تربية أولادهم.

أمّا على الصعيد الصحّي والطبابي، فمن وظائفهما حفظ سلامة الأولاد وصحّتهم، والاطلاع على الأمور الصحّية، والاهتمام بأمراضهم، والتغذية الصحيحة، والنظام الغذائي المناسب، ورعاية نظافة اللباس، والبدن، والمسكن، والاهتمام بالجوانب المختلفة العاطفية والسلوكية.

وهكذا على المستوى الروحي والنفسي، فعلى الوالدين وظائف أشد ثقلاً؛ لأن الأولاد في سنينهم الأولى يتعلّمون الرحمة، والشفقة، والإحسان، والوفاء، وصفاء السريرة، والخلوص، والطهارة، والصدق والصراحة، والرشاد، والشهامة، والشجاعة، والعفو، والأدب، والتواضع، وعزّة النفس، والتعاون، والسخاء، وعشق الكمال وسائر السجايا الإنسانية، يتعلّمون ذلك كلّه من حضن والديهم الدافئ والعطوف؛ فعطف الوالدين وراحة البال الأسريّ هو ما يبني شخصية الأبناء، ولهذا يتراءى المجرمون بالنسبة إلى أمثالهم باردين بلا عطفٍ ولا رحمة.

إنّ منطلق انعدام العطف الاكتسابي هذا ينبغي البحث عنه في الكيان الأسريّ الخالي من العطف، والتمزق العائلي.

نعم، فالوالدان من جهة يواجهان هذه الواجبات إزاء أولادهما، ومن جهة أخرى أداء التكليف فرع القدرة؛ إذ: >لا يكلف الله نفساً إلاّ وسعها< (البقرة: 286).

إذا رأى الوالدان أنفسهما عاجزيْن عن القيام بواجباتهما إزاء الأولاد، ولم يروا في أنفسهم القدرة على إدارة أكثر من اثنين أو ثلاثة أولاد، فليسا مكلفين بزيادة النسل وإنجاب أولاد كُثُر، وبمقدورهما الإقدام على تحديد النسل عبر الطرق الشرعية لمنع التكاثر.

طرق منع الحمل وتحديد النسل، موقف شرعي

المقصود من تنظيم الأسرة والحمل أن يسعى الزوجان – طبق ميلهما وتبعاً لظروفهما الاقتصادية والاجتماعية وأخذاً بعين الاعتبار القدرة الجسدية والنفسية للأم – عن طريق استخدام إحدى وسائل منع الحمل للتأثير مباشرةً على تحديد عدد الأولاد.

الحملُ هو حاصل لقاح بويضة المرأة مع مني الرجل، ولمنعه يجب منع هذا اللقاح، وقد طرحت – إلى الآن – طرق عديدة لذلك، ومجموع هذه الطرق أو وضع الفواصل الزمنية لتنظيم الأسرة وتحديد النسل التي يُستفاد منها إلى الآن في جميع المجتمعات بحسب القيود الدينية، الجغرافية، والاجتماعية هي عبارة عن: 1ـ تأخير سنّ الزواج. 2ـ الإجهاض. 3ـ الامتناع عن الزواج وعدم إقامة علاقات جنسية بين المرأة والرجل. 4ـ القيام بعمل جنسي مع الجنس المماثل كإجراء غير طبيعي. 5ـ سدّ أنابيب رحم المرأة بصورة عقم مؤقت أو دائم. 6ـ سدّ أنابيب انتقال نطفة الرجل، وعقمه بصورة دائمة أو مؤقّتة. 7ـ الاستفادة من وسيلة (I.U.D)([30]) داخل رحم المرأة لمنع بويضة الرجل من الاستقرار في الرحم. 8ـ الاستفادة من أقراص منع الحمل للنساء. 9ـ الاستفادة من الواقي الذكري للرجال. 10ـ تنظيم الحمل بالتنسيق مع الدورة الشهرية للنساء. 11ـ عزل النطفة ومنع انتقالها إلى رحم المرأة. 12ـ زرق الأبر للرجال بهدف عقمهم. 13ـ الاستفادة من المواد الطبيعية للعاقرات؛ لأن أبدان النساء بشكل طبيعي تنتج خلايا مضادّة لبويضات الرجل وتهاجمها وتعدمها كعنصر خارجي.

ومؤخّراً، اكتشف الأطباء من هذه المادة الطبيعية أسلوباً جديداً في منع الحمل، وتمّ تصنيعه ووضعه في حلقات بلاستيكية وجعلوها في متناول أيدي المرأة([31]).

 

وسائل منع الحمل، دراسة شرعية

بالتدقيق في الوسائل المعروضة يتضح أن بعض هذه الأساليب على خلاف الثوابت الإنسانية والأخلاقية، ولا يمكن أن يكون مقبولاً في الإسلام، وبعضها الآخر موضع قبول لكن بصورة مشروطة؛ فمثلاً تأخير سنّ الزواج، علاوة على أن تأثيره في تنظيم الأسرة غير كبير، ما أكثر ما يستلزمه من انحرافات جنسية ومفاسد أخلاقية واجتماعية! وكم يسوق المجتمع إلى مراتع الانحراف! إذاً لا يمكن أن يكون هو الأسلوب المطلوب.

أمّا إسقاط الجنين فهو ممنوع في الإسلام، سواء قبل ولوج الروح أم بعده، فهذه الوسيلة الخطرة يُعمل بها اليوم في كثير من المجتمعات المتقدّمة، ويقع سنوياً ما بين 40 إلى 60 مليون حالة إجهاض في العالم، أكثر من نصفها قانوني والباقي غير قانوني([32])، وعليه فهذا الأسلوب لا يُعَدّ قتلاً للنفس – بعد نفخ الروح – فحسب، بل يفتح باب المفاسد الأخلاقية على مصراعيه أيضاً.

أمّا العزوبة وتمرير الحياة على صورة الرهبانية، فقد اعتبرت الثقافة الإسلامية ذلك أمراً مذموماً ومرفوضاً؛ فهذه الوسيلة – إضافة إلى مخالفتها سنن الأنبياء وفطرة البشر – لا يمكن تصوّرها بوصفها وسيلةً عامة ومعقولة، كما أنّها تستتبع عوارض ماديّة، ونفسية وأخلاقية كبيرة؛ لهذا لم تكن مسموحة شرعاً.

أمّا المثلية الجنسية وإطفاء الغريزة الجنسية بالتواصل مع الجنس المماثل، فهو عمل غير لائق، بل مُضِرّ بما لا يمكن جبرانه ، وهو على خلاف الطبع والفطرة البشرية، وللأسف فقد قنّن ذلك في بعض الدول الغربية مثل بريطانيا والسويد ([33])، مع أنّه – باعتراف المجامع العلمية الغربية – أحد عوامل الظهور المتزايد والمريع لمرض «الأيذر» عند الرجال والنساء معاً([34])، وعليه؛ فهذه الطريقة ممنوعةٌ في الإسلام، بل تُعدّ جُرماً يستتبع عقوبات في غاية الشدّة.

أمّا الاستفادة من سائر الطرق – وبصورةٍ مشروطة – فمجاز، كأن لا يستلزم العقم الدائمي للمرأة والرجل، ولا يُلحق ضرراً جسدياً بهما، ولا يُؤدي إلى اللمس أو النظر المحرّمين، اللهم إلا إذا اقتضت الضرورة ذلك، فلا مانع منهما، وتحديد الضرورة يتمّ باستشارة أهل الاختصاص الموثوق بهم.

 

الموقف النهائي وخلاصة البحث

1ـ بالتدقيق في آيات وروايات باب الزواج وأحكام الأولاد، لا شكّ في رجحان ومحبوبية الزواج وزيادة النسل في الإسلام، طبقاً للعناوين والأحكام الأوّلية، بل يُعد ذلك مستحبّاً ومطلوباً، وإن كان ثمة شك فيتعلّق بعروض العناوين الثانوية وتغيّر الموضوع.

وهنا يُطرح هذا السؤال: إن اقتضت الضرورة شيئاً هل تبقى زيادة النسل مستحبةً وتحديد النسل جائزاً؟ لأن ما يُستفاد من أدلّة مخالفي تحديد النسل رجحان الزيادة لا وجوبها أو حرمة تحديد النسل وصِرف رجحان ومطلوبية عمل ما في فترةٍ من الزمن ليس دليلاً على إطلاق محبوبيّته في الظروف جميعها وفي كل زمان ومكان.

وتأسيساً على ذلك، فحينما يتغيّر الموضوع يتغيّر حكمه أيضاً، أي يمكن أن تكون زيادة النسل المحبوبة مبغوضةً وغير مطلوبة في ظروف خاصّة.

2ـ يمكن قراءة مسألة تحديد النسل في بُعديها الشخصي والنوعي؛ ففي بُعدها الشخصي والعائلي، ومع ملاحظة الظروف الجسدية والمعيشية وأمثال ذلك سيكون تحديد النسل مُجازاً، فمثلاً إذا استلزم الحمل المتواصل وإنجاب الأولاد المتعدّد ضرراً جسدياً أو نفسياً على المرأة صار منع الحمل جائزاً حتماً.

وكذلك نظراً للتكاليف الثقيلة على الأبوين إزاء الأولاد، والتي ذكرنا بعضاً منها ضمن أدلّة جواز تحديد النسل، إذا وجد الوالدان أنفسهما عاجزين من الناحية المعيشية والتربوية عن إدارة أمور أولادهما المتعدّدين؛ فيمكنهم – بالتأكيد – الحدّ من عدد أولادهم فيمنعوا ذلك عبر وسائل منع الحمل المجازة.

إلاّ أنّ الكلام كلَّ الكلام في البُعد النوعي والاجتماعي والحكومي، أي لو فرض عدم وجود مشكلة على الصعيد الشخصي والعائلي وأنّ كلّ أسرةٍ بمقدورها إنجاب ما يزيد عن عشرة أولاد، لكنّ هذا الأمر كان يستلزم نموّاً سكانياً مُفرِطاً، نظير ما حدث في إيران منذ عام 1980م حتى نهاية عام 1988م؛ إذ بلغ معدّل النمو السكّاني في عام 1988م – طبقاً للإحصاء الرسمي لمنظمة الأحوال الشخصية – حوالي 7/3%، بل بلغت عدد الولادات في هذا العام مليوناً وستمائة وسبعة وستين ألفاً ومائتين وأربعة وسبعين حالة([35])، وأنه قد حصلت زيادة على عدد السكان في الفترة ما بين عام 1980م ونهايات عام 1988م مليونان وخمسمائة وخمسة وأربعين([36])، أي بإضافة مليوني نسمة في كلّ عام إلى عدد سكّان البلد.

ونظراً لما تقدّم من المستلزمات التي يفرضها الولد على الدولة والمجتمع، يُطرح هذا السؤال: إذا وجدت الدولة نفسها إزاء الزيادة السكّانية المُفرِطة عاجزةً عن القيام بالمتطلّبات، هل بمقدورها وضع قانون يفرض تحديداً في مواليد كل عائلة بما يتناسب مع إمكاناتها؟ كأن نقول – مثلاً – لكلّ أب وأم حقّ رعاية ولدين إلى ثلاثة أولاد، فإن حصلت زيادة فيُحرمان من الحقوق والمزايا الاجتماعية والحكومية كافّة؟

الذي يبدو أن الدولة بمقدورها فعل ذلك؛ لأن كلّ تكليف يستلزم حقاً، فالحاكم وإن كان مكلّفاً إزاء الرعية بتكاليف لكنّ له – بالتأكيد – الحق في ضبط أمورها.

وفي النتيجة، لا مانع من تحديد النسل بشكل عام وشامل.

إن قيل: العجز من سوء تدبير الدولة، وإلا فإنّ الله قد جعل في الأرض إمكانات بالقوّة تكفي لتمام النسل البشريّ، والدولة هي من عليه إخراج تلك الإمكانات التي بالقوّة إلى الفعل بالدراية والكفاءة والإدارة السليمة، فإذا لم تملك الكفاءة اللازمة فلِم تُحمِّل البشرية أعْباء سوء إدارتها؟!

وجوابه: إن شُكِّلت المدينة الفاضلة وخرجت الإمكانات بالقوّة إلى الفعل وقُسِّمت الثروات بعدالة، فالحقّ معكم حتماً، ولهذا لا معنى لتحديد النسل في عصر ظهور الإمام الحجةً(ع)، لكن هذا بحث نظري كلّي عام، وما نواجهه على أرض الواقع إنّما هو الإحصائيات والأرقام الحاكية عن وجود مشكلات حقيقيّة.

وعليه ماذا تفعل الدولة في وضعها الحالي ومشكلاتها الراهنة في ظلّ عنوان الضرورة الثانوي؟

والجواب: يمكنها أن تضع قانوناً لتحديد النسل؛ فتحدّ من عدد السكّان.

3ـ حيث كان موضوع تنظيم الأسرة قائماً على أساس العنوان الثانوي، كان تحديد الضرورة والعنوان الثانوي وتبدّل الموضوع في عُهدة أهل الخبرة والاختصاص من الذين يحظون بالثقة والكفاءة، فكلّما أحرزوا هذه الضرورة صدر حكم بجواز تحديد النسل، وإلاّ ظلّ الحكم الأوّلي بمحبوبية زيادة النسل باقٍياً على حاله.

وعلى هذا؛ يمكن في زمان واحد أن يكون تحديد النسل مُجازاً في بلد، ممنوعاً في بلدٍ آخر، أو مسموحاً به في ظرفٍ محظوراً في ظروف أخرى.

4ـ إذا كانت كثرة الأولاد في العائلة مبعث فخر واعتزاز، وكثرة السكّان في المجتمع سبب عزّته وشوكته وقدرته وعظمته، فإنّ زيادة النسل تغدو أمراً راجحاً ومستحبّاً، وفي صدر الإسلام كانت الحال على هذا المنوال، والمسلمون لقلّة عددهم كانوا ضِعافاً وكانت كثرة نفوسهم مبعث شوكتهم واقتدارهم، أي في ذلك العهد كانت الكمية فعّالة، أمّا إذا لم تكن الكثرة كذلك بل كانت سبباً للذلّة، والحقارة، والخسّة، والفقر، والجهل، والبطالة، والمرض، والجريمة، وفي آخر المطاف التبعية للاستكبار العالمي.. فلن تكون زيادة النسل مطلوبةً ولا مستحبة.

وللعلّة هذه، جوّز كثير من فقهائنا العظام كالإمام الخميني، وآية الله الخامنئي، وآية الله فاضل اللنكراني، وآية الله مكارم الشيرازي و.. تحديد النسل بشكل مشروط، فأيّدوا منع الحمل وفق الشرائط المذكورة، ولم يعتبروه مخالفاً للشرع، كما يظهر ذلك بمراجعة كتب استفتاءاتهم المطبوعة مثل جامع المسائل، ومجمع المسائل، والاستفتاءات الجديدة وغير ذلك.

من مجلة الاجتهاد والتجديد – العدد الأول

الهوامش



([1]) أرسطو، السياسة: 224 ـ 227.

([2]) بهنام، جمعيّت شناسي عمومي: 324 ـ 325.

([3]) أيازي، إسلام وتنظيم خانواده: 18.

([4]) للإطلاع على هذه المقالات راجع: صحيفة إطلاعات من عدد: 19017 حتى 19036؛ وصحيفة كيهان عدد: 13600 حتى 13879، وصحيفة جمهورى إسلامى، عدد: 3281 حتى 3312.

([5]) پرسا، جمعيّت شناسي اجتماعي: 57.

([6]) المشكيني، اصطلاحات الأصول: 121.

([7]) يذرؤكم فيه: أي لتتكاثروا في الأرض.

([8]) والتي صنّفها الشيخ الحرّ العاملي على ثلاث عشرة باباً، في المجلّد الخامس عشر، من كتاب وسائل الشيعة، ص 94 فما بعد، بعناوين مختلفة.

([9]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 14: 4.

([10]) المصدر نفسه 15: 96.

([11]) النوري، مستدرك الوسائل: 5379.

([12]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 14: 33.

([13]) المصدر نفسه 14: 7.

([14]) المصدر نفسه: 9.

([15]) راجع: محمد حسين الطهراني، الحدّ من عدد السكّان.

([16]) راجع: المصدر نفسه: 129؛ وأحمد صادقي، أخلاق زن وشوهر وتنظيم خانواده: 220.

([17]) محمد علي أيازي، إسلام وتنظيم خانواده: 158، نقلاً عن كتاب «الإسلام قوّة الغد العالمية».

([18]) ناصر مكارم الشيرازي، بحوث فقهية هامّة: 227.

([19]) أيازي، إسلام وتنظيم خانواده: 118.

([20]) الكليني، الكافي 3: 183، ح 7.

([21]) المجلسي، بحار الأنوار 104: 71.

([22]) ما بين الهلالين من الكاتب.

([23]) المجلسي، بحار الأنوار 104: 72.

([24]) المصدر نفسه 94: 195.

([25]) الكليني، الكافي 2، مصدر سابق، ح 4.

([26]) أيازي، إسلام وتنظيم خانواده: 101، نقلاً عن «العالم الثالث وظاهرة ضعف التنمية».

([27]) كي نيا، مباني جرم شناسي: 691.

([28]) انظر: الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 15: 94 وما بعد، الباب 14.

([29]) عبّاس القمي، سفينة البحار 1: 411.

([30]) ويُعبّر عنه بـ (اللولَبْ).

([31]) أحمد صادقي، أخلاق زن وشوهر وتنظيم خانواده: 247.

([32]) صحيفة كيهان 23/5/1369، (1990م) العدد: 13872.

([33]) صحيفة كيهان هواي، 10/3/1368، (1989م).

([34]) صحيفة قدس 26/9/1368، (1989م) عدد: 5760.

([35]) صحيفة اطلاعات، 23/7/1369، (1990م).

([36]) صحيفة جمهورى إسلامى، 14/3/1368، (1989م).

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً